28‏/09‏/2009

شهادة - نص / بشار عبدالله

طيور الراوخ
إلى روح الراحل حسن مطلك

بشار عبدالله


(1)
كنت أخضع قبل ثلاث وعشرين سنة إلى عصف فكري ومخيلاتي يومي من صديقي الشاعر فضل خلف جبر؛ كلما اختطف من قلب المشهد العادي طبقة غرائبية من التي يتقن رؤيتها بوضوح حين يمر عليها كثيرون مرور الحمار الذي يحمل أسفارا ويحسبها محض أحمال كغيرها، أقع أنا في المصيدة ولا أتحرر منها إلا بولادة قصيدة.

(2)
في يوم شتوي مطير وقار، قادتنا رائحة بشرى سعيد إلى كافيتريا المركز الطلابي في جامعة الموصل، قادتنا إلى حيث الدفء كله يحتضن بشرى وعلب الراوخ، عصير التفاح الطبيعي، وعلب النسكافة.
بادرني فضل وعيناه إلى علب النسكافة:
ـ ما رأيك في أن تكتب قصيدة بعنوان (شجرة النسكافة)؟!.. " ويل لك أيها الجلاد الذي لا يتركني أسحب نفسا حتى يلطمني بواجب بيتي"، ثم التفت إلى حيث كانت تتسامق علب الراوخ أمام شاب لم أدرك لحظتها أنه كان يتسامق باطنيا قبالتها.
ناداه فضل:
ـ ما رأيك في أن ترسم لوحة بعنوان (طيور الراوخ)؟!.
ابتسم الشاب وأومأ بالإيجاب.
ثم غادرنا قبل أن يهدأ المطر…………

(3)
ليس من السهل على شاعر معصوف فكريا ومخيلاتيا أن يخلق شجرة نسكافة، لا شكل لها في الذاكرة المعرفية، أو الذاكرة البصرية. وها هي ذي ثلاث وعشرون سنة تمضي، ولم أكتب تلك القصيدة التي طلب مني فضل أن أسمعه إياها في اليوم التالي.

(4)
في اليوم التالي، المطير، القار، قادتنا رائحة بشرى إلى حيث تتلاطم (مواجيد الماء والظمأ والصحراء )*، كانت لحظةً امتدت من نافذتها يدا الشاب حسن مطلك وقد خلقت على هيئة الطير ما لم تخلقه يدي على هيئة الشجرة.

(5)
كانت بشرى (تضحك.. تضحك.. وينساب صوت الأنوثة من صدرها المشرئب ومن شفةٍ أنضجتها الحرائق.. إن حرائق بشرى جنونية الطبع).
وكانت تنبت من علب الراوخ على إيقاع ضحكتها على لوحة حسن رؤوس بمناقير وأجنحة وذيول.. إن جنون حسن حرائقي الطبع.
حلقت بشرى في فضاء الظمأ النابت من عيون فضل،
حلق فضل في سماوات بشرى،
وحلق في فضاء الجنون مع طيور الراوخ حسن.

(6)
بعد عشرين سنة
كتبت إلى فضل خلف جبر هذه القصيدة:
" قلت لنا: (تناولوا أحلامكم بسرعةٍ رجاءً !)
واختفيت،
وتركتني في القمرة المجاورة،
تناول حسن حلمه بسرعة
وتناولت بشرى حلمها السعيد بسرعةٍ أيضا،
لكنك نسيت أنني بقيت في القمرة المجاورة
وحيدا
اجلس إلى طاولة تحلم بنا !"

(7)
اليوم
سأشعل الشموع
واعتكف
لأعيد تشكيل المشهد القديم:
"تقودنا بشرى إلى حيث الدفء
يحتضن فضاء اللوحة التي غادرتها
طيور الراوخ مع حسن
وغادرها دفؤها مع فضل
ولكنني سأضيف إلى المشهد شجرة نسكافة
قد تحط عليها حين تتعب
طيور الراوخ
المسافرة أبدا في البشرى والفضل العامرين في ذاكرة حسن مطلك".

----------------------------------------------
*(مواجيد الماء والظمأ والصحراء): عنوان قصيدة للشاعر فضل خلف جبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الزمان) العدد 1879 بتاريخ 4 آب 2004م بغداد.
*بشار عبدالله: شاعر وناقد عراقي. basharabdulah@yahoo.com


هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

رحم الله حسن مطلك ...زميل لم ألتق به يوما لقاء صداقة وجلسة ..لكني التقيته في معرض للكتب خلف بناية المتحق- مكتبة الآثار-الموصل...
وكنت اروم شراء كتاب حضارة وادي الرافدين للعلامة طه باقر- رحمه الله ،فرأيت شاباانيقا جميل المحيا يمد يده ليستعرض الكتاب ، فسلم علي بأدب ورجولة ابن الريف ، وبعدها تقافزت الأيام والسنين وها أنا أقرأ عنه بل ناقشت- كعضو لجنة سنة 2007- اطروحة دكتوراه في كلية التربية عن البناء الروائي في أدبه ... وكان موقفي عن الأطروحة موقفا مشهودا آنذاك حيث اراد رئيس اللجنة ومناقش آخر أن ينالا من ذكراه والطالب... والحمد لله أن الحق يظهر ولو بعد عشرات السنين ...

رحمة الله عليه .. فلو سامحته الأقدار آنذاك لكان الأدب العراقي قد بنى هرما ابداعيا يشار اليه بالأيادي والرؤوس,,

.......د.محمدصالح رشيد الحافظ......