23‏/09‏/2009

قصة / حسن مطلك

قصة


حــكـايــة الــسـقوط

حسن مطلك
تخطيط خاص مستوحى من قصة (حكاية السقوط) بريشة الفنان ستار كاووش

ـ لماذا تضحكين يا نعيمة؟.
قال (حازم) وهو يعرف حماقات هذه المرأة ومفارقاتها، إلا أنها كانت تتلوى في الأرض، يصعد بياض عينيها، الدم ممتزجاً بدمع شفيف يزيد في وسامة وجهها الموشوم. كانت تتلوى مثل أفعى ويزيدها تلويها إغراءً.. إنها جميلة فعلاً رغم أنها جاوزت الأربعين.. فالمرء في قريتنا يشيب في وقت مبكر. أشارت بسبابتها صوب الطريق، فوجه حازم بصره بشكل آلي إلى حيث تشير: كان سلمان الأسوق ماراً، تبدو عليه علائم الاهتمام بموضوع معين، وهو في مثل هذه الحالة ينسى نفسه ويمشي كاللقلق مباعداً ساقيه. كان في هيئة مضحكة فعلاً، كما بدا لحازم الذي قهقه بأكثر مما يُطلب منه، ذلك أنه كان يجاري نعيمة ويتفاعل معها بخبث. كبحت ضحكتها وصاحت:ـ اللقالق لا تصطاد في الطرقات.. إذهب إلى المستنقع يا طويل.
جفل سلمان وارتبك إذ عرف صوت نعيمة:ـ أصمتي يا بنت الــ...
اعتدل في مشيته وأسرع ليتسنى له التواري خلف كدس الحطب عن عيني هذه الشريرة، بينما اشتد بها الضحك حتى انبطحت على بطنها ومرغت وجهها في التراب.. انقلبت على جنبها فدلق ثديها من فتحة الثوب، فتوقف حازم عن الضحك فجأة وغزا الدم عروق وجهه.
ـ هل رأيت كيف عدل مشيته اللعين؟.
هز حازم رأسه وضحك ببرود بينما اعتدلت في جلستها وأعادت ثديها إلى مكمنه ومسحت دموعها:ـ ضحكة خير يا ربي.. إيــه دنيا.
دلفت في الدار الطينية ذات الغرفتين، وجاء صوتها معصوراً كأنه قادم من عمق سحيق:ـ حازم...
لعق الرجل شفتيه وفرك كفيه، ودخل خفيض الرأس لئلا يصطدم بالباب:ـ لبيك... يا حلوة.
ـ أحمل كيس الدقيق هذا إلى الغرفة المجاورة.
قالت ذلك وانزلقت نحو فناء الدار، فيما تسمر حازم مغلوباً. صوتها الآن يخرج من أعماق البئر كفقاعة رقيقة تنفجر عند الفوهة.
ـ ما الذي أسقط هذه الشيطانة في البئر؟.
فكر حازم وهو يستعيد ذلك الحدث قبل أيام. فلاحو القرية يحيطون بالبئر إحاطة السوار بالمعصم بعد يومين متتاليين من المطر الشديد الذي حفر حدوراً ضيقة وتجمع في غدران وانسرب إلى آبار فاغرة أفواهها للعراء.. عنيفاً مزبداً.
الوقت ظهراً، والسماء أقلعت عن الهزيم، بيد أنها مازالت عبوسة تسوق السحب الرمادية الكسلى وتدفع بالشمس خلالها بين غيمة وغيمة.
في انبلاجة آخر فجر، خرجت نعيمة تتشوف ليونة الجدران الطينية التي دغرها المطر كثيراً، وتملأ عينيها ببركة البرق الخاطف.. يمس شغاف قلبها ويعيد إلى ذهنها أغنيات الصبا في كل يوم مطير. كانت تردد في سرها أدعية للاستسقاء، حفظتها عن أمها وأبيها وتبتهل لله العظيم.
كل الذين يقتعدون الأرض الموحلة حول البئر فرحوا بالمطر وما منعوا أنفسهم من الرقص جذلاً. إن لكل منهم حكاية يسعد بقصها على الآخرين في مجلس القهوة أو في حلقات شاي الربيع. إن منهم من يذود عن الأكواخ بسدوده، يمنع السيول التي ما تزال جارية، مهددة وهن الجدران، مخربشة أفـنـية الـدور.
صوت نعيمة من داخل البئر، صوتها المتأوه المخنوق يبدد حكايات اليوم المطير ويخنق الفلاحين ويلقي غمة اكتئاب على عيونهم وينتقص فرحتهم. لقد فكروا جميعاً، من سنين، بأن نعيمة مصدر شرور: هذه المأفونة اللعوب.
لقد حكت لنفسها حكاية السقوط وآثرت أن تكبح أنينها في جوف الأرض وتغفو على ختام قصة طويلة متعبة، بينما يتناهى إلى مسمعها لغط القرية.. ينسكب من فوهة البئر ويصدى بين الجدران المتشبعة بالماء. كانت الأرض رخوة كالعجين حين مرت نعيمة حذاء البئر فانثلم إلى الجوف من تحت قدميها، وأصابتها خدوش وكدمات ونز الدم من بين أسنانها.. فتأوهت واستسلمت للموت.
فكر الذين يحيطون بالبئر بوسيلة لإخراجها، إذ ما من خيار أمامهم إلا أن ينزل أحدهم ويرفعها بذراعيه، ويستحسن أن يكون النازل قوياً لأن لنعيمة جسداً ثقيلاً ممتلئاً. تبادلوا بينهم النظرات فانتدبت أبصارهم حازماً.. الذي لم يتأخر في شد حزامه وإدلاء ساقيه في البئر، ثم يثبت مشط اليمنى في الحفرة المقابلة... كان يفكر في الصورة التي يمسك بها نعيمة فيضمها إلى صدره وهو خارج بها من القعر. لقد حلم كثيراً بعناقها واحتضانها، فوجد حلمه يستجاب. غير أن نعيمة استشعرت عتمة البئر فرفعت بصرها وصرخت إذ رأت النازل إليها مثل عنكبوت كبير أسود، معلق في وسط البئر. تسمر حازم مكانه واضطربت ساقاه فأسند ظهره على الجدار في حين كانت الرؤوس تتدلى في الفوهة مثل قلادة، وترقب بفضول وشماتة. قال نازل البئر بتوسل:ـ أنا حازم يا نعيمة.
ـ أخرج يا كلب.. مثلك لا يمسني حتى لو مت مكاني.
ـ سأنزل.. لا يمكن أن تموتي هكذا.
ـ قلت أخرج وإلا...
خرج مغلوباً على أمره وسهام التشفي مرسلة إليه من كل عين.
تـنـبـيـه:
ذات ليلة تحلق بعض الشباب حول نعيمة يداعبونها بكلمات نافذة كسكين طعن. تحدتهم أن يستطيعوا إغراءها:" شباب هذا الزمن بارد مثل النساء..".
علي: يتكلم عن مغامرات وقصص بحكم ما يملك من خيال ولباقة.
عطية: يحاول مغازلة العجوز الجميلة.
محمود: يمتلك مجلة مصورة، عن أوضاع جنسية مختلفة. لحظة عجز الجميع عن إسقاطها استطاعت المجلة أن تزعزع ثقتها بنفسها:" يــوه.. سأذهب إلى رَجلي للتطبيق". لملمت ذلاذل ثوبها حتى أخرجت ركبتيها وهربت راكضة.. وضحك الثلاثة بانتصار.
تقدم محمود من فوهة البئر بعد أن أزاح طفلاً عن طريقه:ــ نعّـومة.. هل أنزل إليكِ؟.
ـ من.. محمود؟.
ـ أم أنني سأضطر لاستعمال المجلة؟.
ـ يا ابن القحبة.
ألقت رأسها على حائط الأرض الرطبة.
تــعـاريــف:
الـقَـدر: لحظة من لحظات السقوط يُكتب هكذا بطريقة فجائية: تجنب أن الأرض التي تحتك قوية فإذا هي رخاء كالعجين.
البئر: سُرة الأرض الجائعة لابتلاع إنسان بعد حياة مرحة نقية كأنها فقاعة صابون.. إنه لفخ كان يُطمَأن إلى وجوده.
الحبل: آصرة السَحب من قرار عميقة.. لكنه حبل واهن لا يحمل جسداً عب من خبز الحياة وشقائها الكثير.
الناس: منهم مُنقذ فعلاً، ومنهم من يعتقد أن السقوط يتم إلى أعلى.
ألقت رأسها على حائط البئر: هناك ثقب واحد، ذلك يعني خياراً واحداً، وان المرء لا يملك أسنان جرذ لكي يحفر طريقاً آخر.. يكفي أن ترفض هذا الطريق فتبقى مطموسة في دياجير الأرض. كانت الحياة خلف ثقب الضوء النافذ إلى السماء مباشرة؛ حياة رائعة صافية.. إنها تبدو من البئر قريبة من السماء، بل ملتصقة بها، تلك الغيمة التي تشبه القطن المندوف، لا يمكن إلا أن تكون عند فوهة البئر مباشرة... هؤلاء الذين تتدلى رؤوسهم متلهفون لإخراجها أم شامتون ومتسلون بسقوطها؟.
حين توغل الذاكرة في التاريخ كأنها بئر حُفر في أرض الله.. لا يمكن أن تتذكر غير تلك الأشياء التي مرت أمام معول الحفار: هناك ملايين الأحجار والمعادن وكتل الطين خلف هذا الجدار الرطب، هناك عظام البشر وحيوانات أخذت شكل مسحوق أصفر.
سمعت ضحكاً ولغطاً فشخصت ببصرها إلى الفوهة البعيدة، جاءها الصوت:ـ هذا شايع المجنون جاء لإخراجك.. هـا هـا..
مـد شايع رأسه:ـ هـه هـه.. عمّة نعيمة.
ـ هـا..
ـ أخرجي العصفور.
ـ أي عصفور؟.
ـ العصفور.. رأيته دخل قبل أسبوع إلى البئر.
وفكرت نعيمة: إن التعلق بأذيال مجنون قد يكون الطريقة المثلى للخروج، ولكن هل تتعهد بأنه إذا وصل قرب الفوهة لن يدعها تسقط ولو على حساب التسلية؟.. ذلك سؤال صعب الإجابة. نادت:ـ أين شايع؟.
ـ هنا.. قريب يلاعب دودة بيضاء.. هل ننزله إليكِ؟.
ـ ليس بعد.. ولكن لا تدعوه يذهب، قد أحتاجه.
قهقه المحيطون بالبئر.
ـ لم يبق إلا شايع!.
قال ذلك حازم.
ماء البئر كالصقيع، إذا لم يكن آسناً.. والجدران رطبة لها رائحة العفن، يسكنها دود يحب الظلام والعفونة. ولا يمكن لامرأة نقية كزهرة برية تتغذى بضوء الشمس أن تعيش لأكثر من ساعات قليلة في ذلك المكان.. لا بد أن تكون الحياة رائعة خارج البئر رغم كل التفاصيل، رغم بلاهة وسخف الذين ينتظرون فوق. أن تتحاور مع بقراتها يكفي لأن يجعلها ذلك سعيدة، أن تطبخ الطعام لأبنائها وزوجها.. أن تطبخ طوال عمرها، أن تلد ولو لمرة واحدة وتعاني عذاب المخاض، أن تنقل الشوك لدفء الشتاء والحشيش للبقرة التي تهب الحليب.. كل ذلك، ألا يجعلها سعيدة؟. ـ وغير ذلك كثير طبعاً ـ ألا يستخرجونها بطريقة تليق بامرأة تعاملت معهم ببراءة: امرأة ذاهبة للاطمئنان على حيواناتها بعد مطر ثقيل.. هل ترضى بأي شخص ينزل لاستخراجها؟.
لقد خطر لها أنهم ينتظرون رؤية تفاصيل جسدها من خلال ثوبها الملتصق المبلل… على سطح الأرض تكون مجلس كبير من الرجال كما جاءت كلاب مع البعض تتشمم رائحة لحم آدمي قادمة من جوف الأرض فتدور وتعوي حول البئر. قال واعظ الجامع:
ـ حرام أن يلمسها أحد بحجة إخراجها إلا إذا كان قريبها.
ـ لا أحد هنا قريب.. الابن والزوج غائبان.
أطرق الجميع برهة وفكر كل منهم في طريقة معينة تصلح لإمكاناته وقابلياته. قال سلمان:ـ حُـرمة خبيثة.. نتركها تموت أحسن.
ـ تموت؟!.
ضحك البعض للفكرة واستحسنها، بينما استغربها بعضهم. قال الواعظ:
ـ ما الذي أسقطها.. لماذا اقتربت من البئر لتسقط؟.
ـ حقاً.. لماذا؟.
بدأ زهر البرقوق ينفض نداه ويتملص من ثقل وابل لحقه، ودبت الحركة في كل دروب القرية، حين انقشعت الغيوم من أمام الشمس؛ شعر البعض أنه يضيع وقته في أمر لا يعنيه: لتبق تلك المرأة غائصة في الآسن والرائحة العفنة، لتمت في مسقطها.
صاحت نعيمة، وجاء صوتها معصوراً كأنه قادم من عالم آخر. تجمعوا حول البئر:ـ ماذا يا نعيمة؟.
ـ أنزلوا إلي الدلو.
ـ ماذا تصنع بالدلو؟!.. لعلها وجدت طريقة تخرج بها.
فتح حازم ساقيه حتى سيطر على نصف البئر فأدلى الدلو، انتظر برهة، فجاءه الصوت:ـ إسحب.
كان الدلو خفيفاً حين سحبه، نادى:ـ ماذا في الدلو؟.
ـ قلت لك اسحب.
انتظر الحاضرون بفارغ الصبر ظهور الدلو إلى السطح وسيطرت فترة صمت.
ـ ثوب نعيمة وحليها؟؟!!.. لماذا تعريتِ يا مجنونة؟.
ـ سأحاول حتى أتمكن من الخروج لوحدي.. فإذا كنتم من النزاهة بحيث لا تتحملون رؤية امرأة عارية فالأفضل أن تغادروا المكان.
ـ هل سمعتم ما قالته؟.
انصرف الحاضرون، بينما خرجت صيحة من البئر:ـ ليبق شايع فقط.
قال حازم:ـ أُف.. لقد تمنيت طول عمري أن أصير مجنوناً.
لم يبق إلا شايع الذي بدأ يقفز ويضحك… مد رأسه في فوهة البئر:
ـ عمة نعيمة.
ــ هــا..
ــ هل أمسكتِ بالعصفور؟.
ــ أ.. نعم نعم... ولكن انتبه إلى نفسك ستسقط.
ـ لن أتألم إذا سقطت فوقك.
ـ حتى أنت يا شايع؟.
جمعت عزمها حتى الحثالة واستنفرت حواسها. ثبتت قدمها في الجدار ثم دفعت الجدار الآخر ورفعت القدم الأخرى... قطعت طريق الصعود بطريقة دموية بالغة الصعوبة.. استعانت بكل عضو فيها حتى المخالب.
حين أصبحت قريبة من فوهة البئر شاهدها شايع بوضوح. كان ينظر إلى يديها، فمها، رأسها.. لم ير أي عصفور فصرخ بكل قوة:
ـ أين العصفووور؟.
اختضت نعيمة من تلك الصرخة فتراخت أقدامها وانزلقت.
ناداها شايع:ـ عمة نعيمة.. عمة نعيمة.. أخرجي لا أريد عصفوراً.
نظر في الجوف فلم يبصر أي حركة.
----------------------------------------------
*نشرت في مجلة (الطليعة الأدبية)العدد 7 سنة 1983م بغداد. وفي مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.
وضمن مجلد (الأعمال القصصية) لحسن مطلك، بيروت 2009م.

ليست هناك تعليقات: