04‏/10‏/2009

شهادة / فارس السردار


قراءة في أوجه هرَم

فارس سعد الدين السردار

(1)
نصان قصصيان هما اللذان خلقا نص علاقتنا التي لم تنقطع لحد الآن.
(الاكتظاظ) و(البيوت الرطبة)
الاكتظاظ: فتحت باب الوصول للبيوت الرطبة، لتسكن بين يدي حسن مطلك.
التي قال عنها: رائعة بكل تفاصيلها، بشكلها ومحتواها.. لن اشك في جانب منها، قلت أنها رائعة وهذا أقصى شيء أقوله.. وابسط شيء.
فيما بعد وعلى صفحات (المربي) منح حسن (للبيوت الرطبة) تخطيطاً، كثيرا ما حاورته وربما كنت أحاور حسن نفسه، واستنطقه باتجاهات غيبها الفراق. الذي ابتدأ لحظة التخرج من الكلية. لحظة الغياب في أتون الحرب. وبقي ما بيننا يصر على التواصل من خلال رسائل مكتوبة وشفاهية يحملها أصدقاء مروا سريعاً في فسحة الإجازات.
وكم مر بي ومررت به دون لقاء، ليترك كل منا للأخر وردة شوق واسى كنا نتسلمها وقد ذبلت.
ويوم وقفت أمام الاكتظاظ قلت: انك تتسلل خلسة لتتطهر بماء النهر.. يا حسن. لم أدرك انه لم يوصد الباب بعدما ألقى بقلمه بعيداً عن نصه المكتمل. (الاكتظاظ) ولكن بعد تجربة الحرب بدا لي حسن انه بحاجة للتطهر مرة أخرى، وان الاكتظاظ بدأ يهرسه. لكن هذه المرة كان نصه مغموسا بالدم.. وقد أوصله إلى نفس البؤرة التي راوغته يوما راسمة له شكلا للأفق اقتضى منه أن يقول:" الموت شيء تعس هو الأخر.. شيء اكثر بشاعة من الحياة ". فانتصرت الحياة بهامش تفوقها المحتوي على الأمل والغد والنضال. لكن عندما بدء الغد والأصدقاء يشفطون في دوامة النهر الدموي الجارف، لم يعد الموت شيئاً تعساً. فتح حسن مطلك الباب ودخل.

(2)
لم يكن فارس سعد الدين أحد الولدين. في قصة (ولدان وبنت حلوة)، بل كان شاهداً. غرق قميصه بدموعهما.
الولدان اللذان لم يقِلا حلاوة عن تلك البنت الحلوة.. الحلوة.
الولد الأول هو حسن مطلك
والأخر لا يختلف عن حسن إلا بشيء؛ انه قابل للترويض.
كل الأشياء في عيني حسن قابلة لإعادة التشكيل، لتنبعث مرة أخرى وتتحرك وتتشابك وفق نسيج أخر، ليس مهما أنها ستقوى على تجاوز مواقعها للأمام. بل المهم أن تغادر حالة ركودها. لأنه يؤمن أن الحركة التي تندفع في كل اتجاه، سر البهاء والخلود..
في هذا الاحتدام الجميل، الذي لم يخل من عتاب ينبع من ذاك الإرث الذي انبعث منه الولدان، حيث التلقائية والبساطة والنقاء، أمام بنت حلوة انحدرت من بيئة المدن. ربما توهم أنها يمكن أن تطفئ له نارا أججتها يوما ما لارا قط البياتي التتري، أو مارتا الخارجة من بين القلاع الملتفة حول الدانوب، أو عائشة. أو أي معادل لإهماد البركان المتفجر في جنبات حسن مطلك.
كنت أتوسط المسافة بين الولدين، الجميلين وهما يحترقان بنار الحب.
يستكين أحدهما لكل اشتراطاته، ويملي الآخر تجلياته عبر الفرشاة، ضربات وألوان صاخبة لا يمكن أن يكبلها قيد..
لكن حسن لم يستطع أن يقتنع بأنه كان يقود تلك البنت الحلوة إلى مساحة من الأرض البكر غير المستكشفة طالبا منها قبول المغامرة والاقتناع بها وبه. في وقت لم تكن البنت مهيأة لاحتواء هكذا جموح.
لا اشك أنها أحبته.. وقد احبها.
والولد الآخر أيضا لم يكن يشك في حبها له. لكنها وضعت بمواجهة المستحيل، فذوى الثلاثة. ودب الهزال بينهم. وكعادته؛ حسن فجر الموقف. معيداً تشكيله، وتزوج. تاركاً للباقين دموع العاشق، فتزوجا.

( 3 )

استطاع عامر علي سلطان، أن يضعنا أمام تجربة غاية في التفرد والمغامرة.
نحن أسرة تحرير مجلة (المُربي) الفصلية /1982 -56 صفحة
1ـ عامر علي سلطان قسم علوم نفسية وتربوية رئيس تحرير
2ـ فارس سعد الدين السردار قسم الفيزياء سكرتير التحرير
3ـ حسن مطلك روضان قسم علوم نفسية وتربوية محرر ومصمم للغلاف ومشرف فني
4ـ ثابت محمد خضير قسم علوم نفسية وتربوية محرر
5ـ محمد نجيب (تونسي ) قسم علوم نفسية وتربوية محرر
6ـ محمود علي محمد خطاط

ما جعل هذا العمل علامة بارزة، ما كتب عنه من شهادات، وما وصلنا من أراء مشافهة. جعلتنا نتحقق من أننا كنا صادقين وأصلاء، وأن شرف الكلمة لم يُنتهك. وعززت (المربي) باعتراف الأخريين حضورنا في الساحة الثقافية.. التي كانت قد قطعت بشخوصها شوطا أوسع في ارتقاءها. وشدت انتباه أسماء كبيرة، وربما أدهشتها، وتحولت أسرة التحرير إلى بؤرة استقطاب.
صراحة.. في ليلة وضحاها وجدنا أنفسنا في وضع آخر، ومسؤولية ضخمة، ربما حاصرت العفوية التي اكتنفت العمل برمته، فاكتشفنا حجم الإنجاز.
هذه التجربة عمقت علاقتنا مع الناقد سعيد الغانمي، والشاعر فضل خلف جبر، والشاعر بشار عبد الله، ورسام الكاريكاتير أكرم الياس بكر، والدكتور فاتح عبد السلام، والدكتور ادهام محمد حنش، والدكتور محمد جلوب فرحان، والدكتور محي الدين توفيق عميد كلية التربية.
هذه الأسماء سجلت شهادات مكتوبة وشفاهية، دفعتنا باتجاه الإبحار حيث لم يعد مجال للتراجع.
مع المربي اندفع حسن مطلك ينجز أشياءه بصمت، لا أذكر أنى سألته أمرا إلا وجدته منجزاً. هنا اقتحم النقد الأدبي والتنظير في الفن التشكيلي من خلال نصين أحدهما ((قراءة في موسم الهجرة للشمال)) للطيب صالح مع الأخ محمد نجيب والآخر ((الفنان التشكيلي بين الإقرار بالالتحام والنزوع نحو التمرد)) كان واضحا في هذا النص أن حسن قدم رؤاه في الجمال والفلسفة والفن التشكيلي، وافصح عن مرجعية تمرده.
يقول حسن:" التمرد يكمن في اللحظة التي يكتشف الفنان فيها جمال الشيء فينقله بأية أداة بصرية أم صوتية أم حركية لا بالصورة التي سبقت الاكتشاف إنما التي جاءت بعده".
ويقول أيضا:" إن الفنان ينظر غالبا إلى الأشياء كتحديات سهلة الخضوع والاستسلام وهذا يفسر شعوره الدائم بالعنفوان والقوة ".
كانت لحظة حب، تجمع في بؤرتها جهد مثمر وحثيث. وحروف هطلت من سحب بيضاء طرزتها صبوات، تطفئ أسئلة، وتعود فتشعلها.
في هذا الوقت بالذات كان حسن قد بدا يوغل بصمت في تجربته التشكيلية ويؤصلها. من خلال ملازمته للفنان المبدع ضرار القدو، كانت الساعات تنطفئ في مرسم الجامعة، لتضيء مساحات من قطع القماش المؤطَّر بالألوان التي تتركها فرشاة حسن بجرأة مذهلة. كان حسن يحاول أن يؤسس شيئا. لم يلتفت كثيرا للمتحف المعتم المرتبط بالمرسم بباب جانبي. كانت تقف على جدرانه أسماء كبيرة مرعبة مثل نجيب يونس وراكان دبدوب وضرار القدو ومبدعين آخرين.
صراحة أقول: أن تجربة (المربي) بشكلها ومضمونها وبصمتها وتفردها وجرأتها أرعبتني وجعلتني مرتبكا حتى لحظة الولادة. وربما شاركني الجميع هذا الهاجس. إلا أنها حملت أسماءنا، ألزمتنا فيما بعد الإصرار على تجاوزها، والقوة على عدم النكوص والتردي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فارس سعدالدين السردار: كاتب عراقي. farisalsardar@yahoo.com
(فارس سعدالدين) بريشة حسن مطلك /1982

ليست هناك تعليقات: