13‏/10‏/2009

حوار مع حسن مطلك / خاص عن روايته (دابادا)

حسن مطلك في أطول وأهم حوار معه

إن حرب الأديب ضد السلطة بكل أشكالها حرب دائمة

إن الحلم بالشهرة هي نقطة السقوط عند الفنان

إن نقطة خوف الظالم هي خوفه من الذين ظلمهم


حاوروه:

نـجم ذيـاب
محسن الرملي
ياسين سلطان

ننشر هنا ولأول مرة نص حوار نادر وخاص حول رواية (دابادا) أجريناه بعد صدورها بفترة قليلة مع مؤلفها حسن مطلك في بيته في قرية (سديرة وسطى) بتاريخ 9/12/1988م. وتم تسجيله على شريط (كاسيت) نحتفظ به حتى الآن. وفي هذا الحوار يجيب حسن مطلك عن مجمل التساؤلات التي دارت ضمن ردود الفعل على روايته حال صدورها مما يجعل من هذا الحوار باباً واسعاً وأساسياً في فهم (دابادا) لأنه يتدفق من المنبع نفسه الذي جاء منه هذا النص المدهش ألا وهو عقل وقلب ولسان المؤلف.
ونشير هنا بأن فضل مبادرة إجراء هذا الحوار وتسجيله يعود بالدرجة الأساس للصحفي نجم ذياب الذي افتتح التقديم للمحاورة بالقول:
" دابادا شاهد من عصر طوى في جنباته أحداث لجيل مشحون بالفرح المتوهج والحزن الشديد.. كانت دابادا في ذلك العصر تجوب البيوت بحثاً عن المجهول وترحل مع الراحلين تحت لمح النظر في الظلام والضوء لتنقل لنا بأمانة ما يعانيه العابرون إلى المحطات البعيدة من الآلام والطموحات.. دابادا ابنة لجيل من الأحداث احتضنها جبل مكحول تحت أشجار الصفصاف على ضفاف دجلة... التقينا بكاتبها في مكان أحداثها، في مكان كتابتها، في مكان مبدعها؛ في بيت حسن مطلك ودار بيننا هذا الحوار:

* في البداية نرجو منك أن تعطينا فكرة موجزة وعامة في آن واحد عن الرواية أو أن تقصها لنا كحكاية وتصف لنا زمانها ومكانها العامين.. إذا كان ذلك ممكناً؟.
** زمن الرواية الأصلي، زمن الحدث الروائي، هو ثلاثة أيام، أي ثلاثة نهارات وأربع ليال، أما الزمن الذي تتحدث عنه الرواية فهو زمن طويل، زمن نفسي طويل حيث يوجد تاريخ يمتد إلى الشخصيات الموجودة في الرواية. بينما المكان فيمكن أن يكون رمزاً؛ أي ليس شرطاً أن يكون مكاناً حقيقياً، يعني المكان الموجود في الرواية. والمكان يجوز له أن يخلق الشخصيات لأنه يمثل طبيعة المنطقة التي يعيشون فيها، والتي كانت طبيعة تلال ونهر ومزارع وجبل، أي يوجد تنوع في التضاريس داخل المنطقة، هذا ومن الممكن أن نجمع عدة مناطق في منطقة واحدة أثناء الكتابة، مثلما يمكن أن نجمع عدة شخصيات في شخصية واحدة، أو نجمع عدة شخصيات في الرواية، فالروائي لا يقوم بالكتابة عن شخصية موجودة في الواقع وينقلها بحذافيرها وإنما يقوم بجمع عدة شخصيات..
يعني (يلصق) هذه الشخصية صفاتها كذا، فيما أن صفات معينة أخرى في شخص آخر تضاف إلى هذه الشخصية التي صفاتها كذا ليصبح عنده شخصية موحدة من عدة شخصيات. وهذا ما يفعله أي روائي طبعاً لأن الحدث بمفرده لا يمكن أن يقدم لك فكرة كاملة وإن كان حدثاً واقعياً.
* هناك من يقول بأنه قد عجز عن الإمساك بما يسمى "بخيط السرد" في روايتك.. فما هو الحدث الرئيسي؟.
** الحدث؟!.. لا أستطيع أن أحدده بالضبط، أي الحدث المركزي في الرواية، لأن الشكل يأخذ شكل حدث والحدث يأخذ شكل الشكل. أي أن الشكل يكون حدثاً وبالعكس، هناك انسجام كلي بين الشكل والحدث بحيث أن اللغة تعتبر عامل حضاري في الرواية وعامل في الكشف عن الشخصيات أيضاً. وبالنسبة للحدث في (دابادا) فهو واضح: يبدأ من شخصية شاهين؛ شخصية معزولة عشرين سنة وعمره 27 سنة، ولد ناقصاً في الوزن، أي ما يسمى (سبيعي) ابن سبعة أشهر. والتجربة الحياتية الفعلية له هي سبع سنوات، أي تلك التي كان قد عاشها مع والده الصياد محمود، ولكن عندما اختفى الصياد عزل شاهين نفسه عشرين عاماً خرج بعدها فبدأت الرواية لمدة ثلاثة أيام منذ بداية خروجه.. لقد خرج شاهين بسبب النافذة التي أمامه، هناك أمام نافذته عبر الزقاق حيث كان ثمة غرف مغلقة طوال أيام السنوات التي عاشها معزولاً، وصدفة أستؤجرت هذه الغرف من قبل تجار القطن فبدأ يرى فيها مظاهر الضحك والحالات الاجتماعية الموجودة فقال: أنه لا بد من وجود شئ مهم في العالم يمكن أن يخرج له، وعندما خرج لاقته عدة حالات وهي التي فصلتها الرواية.
*وخروجه هذا هو مجمل زمن الرواية: ثلاثة أيام؟.
** خروج شاهين إلى العالم. لكن خروجه كان يبدو غبياً لأن شاهين شخصية تبدو غبية بينما الحقيقة هي أنه يتفاعل مع الحس.. يتفاعل بطريقة الحس مع العالم ولا يتفاعل بطريقة الفكر. ويرى كل شئ كما هو ولذلك هناك دهشة دائماً، ولهذا أيضاً تنتاب الدهشة القارئ، من خلال الجُمل ومن خلال اكتشافات شاهين، لأن الأشياء التي يراها.. يراها بحس طفولي على الرغم من أنه كبير في العمر.
* أي أنه يصف الأشياء بشكل بدائي.. يعني إذا أردنا التصنيف حسب المدارس أو الفلسفات أو المناهج، فهل هي (الظاهراتية)؟ أن تصف الأشياء حسب ماتراها؟ وشاهين كان مثلاً يصف؛ الأفواه بأنها فتحات للضحك، وعندما أطل عليه رأس الحمار قندس من وراء جدار قال: ظهرت المقلاة، وعندما يُقبل رجل امرأة، يقول: انه يعضها أو "كانوا يتناقرون مثل الطيور".. أي أن الحالة تنتج بوصف أو بكتابة ما هو ظاهر له وكيفية فهمه لهذا الظاهر؟.
** الأشياء على ما تبدو.. نعم؛ منهج ظاهراتي، ولكن الرواية ليست مبنية على منهج ظاهراتي وإن كانت رؤية شاهين ظاهراتية للعالم. لماذا؟ لأنه في المنهج الظاهراتي يجب أولاً التخلي عن الخبرة كلها، يعني أن تقوم بعزل خبرتك عنك عند دراستك للعالم.
*وهذا ما قلناه؛ أنه يعطي أسماء جديدة للأشياء.
** يسمي الأشياء كما يراها وليست كما تبدو له.. وليست كما هي موجودة ومفهومة أو كما (تتجلى) بالمفهوم الفلسفي.
*هل هذا يعني بأنك قد استخدمت اللغة بطريقة جديدة؟.
** بالنسبة للغة الرواية فقد استخدمت شاهين أيضاً كمنظار للنظر من خلاله إلى جميع الشخصيات، وأنظر من خلاله إلى الحدث، أي أن كل وصفي ودخولي في الرواية وأسلوبي قد تم من خلال شخصية شاهين، يعني أنني لم أكن أنظر من خلال شخصيتي كروائي وإنما كنت أنظر من خلال شخصية شاهين إلى العالم ولذلك فإن طريقة الروي كانت بطريقة شاهين وليست بطريقتي.. إذاً فهو أسلوب شاهين وليس أسلوبي.
* لا تنس بأنك قد ظهرت مرتين أو ثلاثة في الرواية؛ حيث يصرخ الراوي أو الروائي قائلاً: أنا لا أفهم هذه الشخصيات أو أنني لا أعرف هؤلاء؛ لا شاهين ولا عواد ولا هاجر ولا.. ومرة أخرى يظهر بالقول: هذا مجرد حشو بطريقة: املأ الفراغات التالية. ويظهر اسمك (حسن مطلك) أيضاً. إذاً فهناك راوي غير شاهين؟.
** أولاً لكي أوحي لك كقارئ، بأن الروي ليس للكاتب، مع أن الروائي هو الكاتب حتماً ما داموا كلهم بضمير الغائب. إذاً فالروي هو بطريقة شاهين ولكن حين تشعر بأن الروي ليس لي أخرج أحياناً عن المسارات لكي أرجعك للكاتب وتتذكر بأن طريقة روي الكاتب هي طريقة أخرى غير طريقة روي شاهين أو الطريقة التي أروي بها من خلال شاهين، فهذا تذكير بأن هذه الرواية قد كتبها كاتب ورواها كاتب، ولكن ليس هو الذي رأى هذه الأشياء وإنما شاهين، البطل، هو الذي رآها. أما عندما أقول عدة مرات: أنا لا أفهم هذه الشخصيات، وأنه: أنا أختلف عنهم. وأنه؛ أنا شاهد فقط.. فهذه عملية تذكير.. أي يوجد منهج جديد وهو أننا لا نريد أن نخدع القارئ أكثر من اللازم.
فأنا لا أريد أن أخدع القارئ وأقول له: أن هذه هي فعلاً قصة واقعية وحدثت حقاً.. لأنه لا يوجد شيء أسمه قصة واقعية وحدثت. وحتى أذكر القارئ بأن هذه هي لعبة روائية أيضاً.. وحتى حياة شاهين وحياة الأشخاص الموجودين كشخصيات في الرواية، بل وحتى حدث الرواية هي كلها عبارة عن لعبة، عندها اطرح أسمي أو صوتي بين فترة وأخرى أو أذكر بان هذه رواية.. فأنا أذكر نفسي أيضاً بأنها لعبة روائية.
* كيف تنظر إلى اعتبار البعض لها بأنها رواية تشكل خروجاً عن الإطار التقليدي للرواية؟ وما هي علاقتها بروايات غابريل ماركيز أو روايات أخرى تم اعتبارها خروجاً عن الإطار التقليدي للرواية؟.
** في أول الأمر تم اعتبارها خروجاً، ثم بعد ذلك شبهها قسم كبير بروايات ماركيز.. فهي إما أن تكون خروجاً أو تشبه روايات ماركيز؛ واحدة من اثنتين. ولكن بتقديري هي فعلاً خروجاً عن التراث الأدبي ولكن ليس خروجاً كاملاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لأنه ليس هناك من يكتب رواية جديدة 100% دون أن يتأثر بما قرأه وما عاشه في كل السفرات التي قضاها، فنحن بالتأكيد نتأثر بقراءاتنا وثمة تأثيرات كثيرة لكتاب عالميين. أما بالنسبة لتأثري بماركيز فطبعاً أن ماركيز من المؤثرين بي ولكنني أعتقد بوجود خلاف كبير بيني وبينه وأنني حين أكتب فأنا آخر من يقلد ماركيز، ليس لأنه روائي عادي بالنسبة لي بل بالعكس فهو روائي عظيم جداً، ولكن بالنسبة لي فإن ماركيز لا ينطبق على الأشياء التي أفكر بها أنا، لأن ماركيز كما أعتقد يكتب بدون أفكار يعني يجيد اللعبة الروائية بشكل مذهل ولكنه لا يقدم أفكاراً كبيرة، أما هذا المنهج الذي اعتمدته فقد أسميناه بـ(الواقعية المطلقة) أو (الواقعية الكلية) والذي يمكن بداخله أن تضع في الرواية كل شئ، أي أنه بالإمكان أن نضع من الكيمياء والفيزياء ومن علم الزراعة والطب وغيرها، وأيضاً بالنسبة للمدارس الأدبية تستخدمها كلها.. كل ما تعلمناه من مدارس أدبية من السريالية والواقعية والواقعية السحرية والواقعية الواقعية والواقعية النفسية وغيرها وممكن أن نأخذ بروست وكافكا وجويس ونشاركهم كلهم في عملية الكتابة الروائية، فأنا أعتقد أن الخطأ الأساسي، أو هو ليس خطأ تماماً، وهو مثلاً عندما أنظر إلى كافكا أنظر له بخصوصية وعظمة ولكن كافكا قد نظر من منظار واحد ومن زاوية واحدة إلى العالم، لقد نظر من جانب التحويل الحسي إلى موضوعي مثلاً، كافكا يقول، بأن البطل يشعر بأنه شخص وضيع أو شخص متعَب، فهو لم يقل بطل متعب وإنما حوله إلى صرصار كما في روايته (المسخ) أو عندما يشعر الشخص بوطأة السلطة عليه وبأنه مطالب دائماً ومراقب دائماً وبأنه ليس حراً.. فحول هذا الإحساس إلى (المحاكمة) أو حالة الطموح التي لا تتحقق أبداً في رواية (القصر) فهذه رؤية واحدة نظر بها كافكا إلى أعماله. وهكذا يمكنك أن تتناول أي روائي على هذا الأساس ووفق هذه الناحية. خذ رواية (زوربا) مثلاً ستجده أيضاً بأن كازانتزاكي قد نظر من زواية واحدة ألا وهي؛ الحس والفعل أي الموافقة بين الحسي والعقلاني، الحسي زوربا والعقلاني كان المعلم الشخصية المرافقة لزوربا.
وأنا أعتقد بأن الروائي الجديد أو الأدب الجديد لا بد أن يكون أدباً كلياً، أي أن نضع كل شئ إلى جانب العلم ويمكن أن نضع المسرح ونستفيد من تقنيات السينما بالتقطيع المشهدي أو في السيناريو وبالإمكان أن نضع موسيقى أيضاً وأن نضع سحراً فبالإمكان أن نضع كل شئ.. كل شئ داخل الرواية.

* لقد ظهر عندك علم النفس في الرواية، باعتباره اختصاصك، وكان بالإمكان تتبعه وتغيير بعض اللمسات فيه.
** لقد قلت بأنني أستخدم كل شئ.. كل شئ يفيدني داخل العمل الأدبي، يعني بإمكاني أن أستخدم علم النفس حسب ماتعلمته أو الفلسفة ومفاهيم أخرى ومن الممكن أن ألقي أفكاراً ـ حتى وإن كانت أفكاراً مباشرة ـ داخل العمل الأدبي، ولكن تبقى اللعبة الفنية، أي لابد أن يجيد الكاتب اللعبة الفنية في التفصيل أو توصيل فكرة معينة.
لا أقصد أن أحشر فكرة مثلاً أو حكمة أو مَثل.. أحشره حشراً داخل العمل.. لا .. وإنما أضيفه داخل العمل بحيث أن القارئ لا يحس بأنه جزء معزول عن العمل وإنما هو من ضمن جسد العمل الأدبي.
* ما هو الجديد في روايتك (دابادا)؟.
** على مستوى الشكل استخدمت الجملة الواحدة وليس الفصول، وهناك عملية مونتاج. إن الرواية كانت مكتوبة أساساً بطريقة سردية من البداية إلى النهاية ولكن العملية الفنية والبناء الفني ثم عملية المونتاج.. أنه ليس جديداً ولكن المونتاج نوعيته جديدة.
فأنا عندما باشرت بكتابة هذه الرواية نزعت أو حاولت أن أنزع من داخلي كل ما تعلمته عن الفن الروائي وبدأت أكتب بالطريقة التي أراها أنا.. وكأنني أول كاتب في العالم.. أي أن هناك الصدق، ثم نزعت الشرطة من داخلي أي نزعت كل رقابة في داخلي، يعني أن أكتب بحرية عالية جداً في الكتابة.. نزعت كل القيود المتمثلة بالبوليس الفني والبوليس الاجتماعي والبوليس الديني.. فكل هؤلاء على الكاتب أن يسـتبعدهم لكي يكتب بحرية.
وبهذه الطريقة فحتى قياس العمل الروائي سيكون قياساً آخر.. أقصد رقابة العمل الروائي أو قراءته. العمل الروائي عندما يقرأه القارئ سوف يحس بأن هناك تحرراً أو جرأة في الطرح بينما هي ليست جرأة وإنما هي مجرد أن ترجع إلى حقيقتك كإنسان.
* لقد قال لي جبرا إبراهيم جبرا هذا الكلام، أي انها ( دابادا ) رواية جديدة وأن كاتبها جـريء.
** فنحن.. لماذا نستغرب في هذا الزمن أن يوجد شخص صادق، فبمجرد أن تنزع كل الحالات المزيفة ولا تكتم غرضاً، فإنك سوف تحس بوجود حالة جديدة بالكتابة.
بالنسبة للجديد في دابادا، وعلى صعيد الشكل أيضاً، فقد استخدمت الشعر، واللغة إلى أقصاها، أي أنها ممكن أن تتحول إلى قصيدة شعرية أو (قصيدة غليضة)وفي الوقت نفسه، استخدمت العقل (عقلنة الشعر)؛ أخذت من الفلسفة وأخذت من الشعر.. وطبعاً ستجد أن ثمة تضاد قوي بين العقل والحس، ليس تضاداً بالضبط، ولكن لأنه ليس من الممكن أن نطرح حالة عقلانية بطريقة حسية أو نطرح حالة حسية بطريقة عقلانية فإما أن تصبح في النتائج عقلانية أو حسية.. أنا عملتها عقلانية حسية أو حسية عقلانية.. يعني الأثنين معاً. أعتقد أنها مسألة جديدة جداً في العمل الروائي. وقلت لكم أيضاً (الكلية) أي أن أنظر إلى الأمور بطريقة كلية، ثم أنني لا أتعاطف مع أبطالي، وهذا ليس شيئاً جديداً ولكن العبرة في عملية تنفيذه.. لأن أهم شئ هو أن ينفذ الروائي ما يفكر به فعلاً.. هناك من يتكلمون وكلامهم كبير وعندهم فكرة تامة عن الرواية.. ولكن عند التنفيذ لا ينفذون.. والجديد هو: أنني قلت الشئ ونفذته.
* وماذا بالنسبة للرموز؟ حتماً أن هناك رموز في الرواية.
** هناك رموز حتى في كلامنا العادي. واللغة محملة بالرموز والإشارات الاجتماعية محملة بالرموز والحدث محمل بالرموز.
* أقصد أن هناك رموزاً تخص الموضوع أو تخص حدثاً معين أو قضية معينة؟.
** هناك مسألة أخرى دعونا نسميها شئ آخر غير الرمزية، هناك فكرة (النص المزدوج) وهو الذي يأخذ معنى أكبر من معنى الرمزية.
الرمزية هي مثلاً، عندما نريد أن نتحدث عن شخص لديه احتجاج ضد العالم نضع على فمه لاصق، هذا الرمز مثلاً يعني أن هذا الرجل عنده احتجاج ضد العالم.. أو أن شخصاً يريد التخلص من الزمن كما في رواية (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، الزمن لا يعنيه فألقى بساعته في الصحراء. هذا يعتبر رمز بينما مسألة (النص المزدوج) مسألة أخرى فأولاً: تجد أن نفس الجملة تحمل معنيين؛ ظاهر وباطن يعني هناك حدث داخل حدث آخر وهذا ما أسماه رولان بارت بـ(النص في النص)، يعني نص داخل نص، أي أن الرواية كلها محملة بالرموز.. وهكذا عليك أن تقرأ نصين أو ربما أنك في القراءة الأولى لا تستطيع أن تسيطر على الرواية، لأن القراءة الأولى يمكن أن تكون للمتعة، والقراءة الثانية للإكتشاف. إذاً ستقرأ الرواية مرتين لتكتشف روايتين داخل رواية واحدة. أما على الصعيد الدلالي، دلالة اللغة، فليس دلالة اللغة هي دلالة الحدث، أي مثلاً عندما أريد أن أقول شيئاً وأعني شيئاً آخر. لقد تعلمت من روائيين، الروائيين كلهم، تعلمت من كل واحد منهم شيئاً أو مسألة معينة. تعلمت مثلاً من فولكنر أن أكتب حول الحدث ولا أشير أليه مباشرة، أي لا أشير إلى أن الشخصية تحس بتعب وإنما أتحدث عن شئ آخر فأشعر أن الشخصية متعبة. لا أريد أن أقول: أن شاهين تعبان ولكن يجب أن أوضح كيف هو تعبان وأن شاهين يحس بهذا الإحساس ويريد أن يقول هذا الشئ دون أن يسميه. فدائماً أدور حول الحدث إلى أن يتوضح، هذا ماتعلمته من فولكنر. تعلمت من بروست كيفية الاستفادة من الجملة الطويلة في الكشف عن أشياء كثيرة. وليس الجملة الطويلة فقط هي التي تعلمتها من بروست، فقد تعلمت منه أيضاً: النظر والتنظير بشكل شعري، فبروست ينظر بشكل شعري، أي أنه بطريقة الشعر ينظر إلى العالم. أو يفكك رموز العالم بالتدقيق. واستخدمت الذاكرة البروستية ولكن ليس بمعناها البروستي وإنما بالمعنى الذي رأيته أنا. واستفدت من كونراد (جوزيف كونراد) بأن أكتب عن اللحظات التي لا يمكن الكتابة عنها.. اللحظات التي أراها مستحيلة.. أحياناً نرى حدثاً ما في العالم، ولا يوجد تعبير عنه. ولكنني أعتقد بأن جوزيف كونراد عبر عن أشياء يمكن أن نحسها إحساساً فقط ولا يمكن أن نعبر عنها. فأنا أيضاً استفدت من كونراد من هذا الجانب.. وكل روائي استفدت منه بشكل أو بآخر. تعلمت من ماركيز اللعبة الأدبية.. أي كيف أؤخر وأقدم حدث على آخر.. أي كيفية عمل التداخل وعمل المونتاج.
*هل فكرت بالقارئ وأنت تستخدم هذا النوع من التقطيع؟.
** أكيد أن الكاتب يكتب لقارئ معين، ولكن في لحظة الكتابة بالذات، عندما تفكر بالقارئ ستكون الكتابة مفتعلة، فمثلاً: القارئ الذي أفكر به من أي مستوى سيكون. وإذا فكرت بالقارئ فهل هو قارئ مبتدئ؟.. وهل أنا أكتب للقارئ المبتدئ؟ إذاً والقارئ الذي وصل إلى درجات كبيرة في القراءة؟. كيف أكتب له؟ وإذا كتبت للنخبة فكيف بالقارئ العادي؟.. إذاً أنا أكتب على افتراض أن الكل هم نخبة. أي لا يوجد عندي شئ أسمه قارئ عادي، فالقارئ أو الإنسان إما أن يقرأ ويصبح قارئاً أو لا يقرأ. إذاً كل قارئ هو نخبوي ومثقف. ولا أعتقد بأن قارئ يقرأ رواية واحدة ونقول أنه قارئ أو يقرأ كتاباً واحداً ونقول أنه قارئ، فلابد أن يكون شخصاً هوايته القراءة ويستمر بالقراءة وتكون القراءة له عملية تثقيف، فإذاً هذا يرتقي أي أن وعيه يرتقي، وإذا لم يرتقِ اليوم فسيرتقي غداً. وأنا لا أتوجه إلى هذا القارئ الذي يبتدئ بالقراءة، فإن القارئ الذي مازال، الآن، يبتدئ.. فإن روايتي لا توجه إليه..
هناك كلام جميل لـآلان روب غرييه يقول فيه؛ إن النقاد يحاكمونني ويقولون لي: من أين جئت بهذا الكلام؟ ربما أنهم لم يقرأوا بلزاك، يفترض بهم أن يقرأوا بلزاك وستندال، فهم قد قفزوا من فلوبير إلى رواياتي ولابد أن يمروا بكل هذا التراث الأدبي والتاريخ الأدبي من أن أجل أن يفهمون إلى أين وصلت أنا بالكتابة، لأن الكتابة أيضاً عملية تراثية تطورية. فنحن إذ نبتدئ بفن الرواية فإنه قد بدأنا بقص حكايات قبل أكثر من 600 سنة تقريباً في إيطاليا وبعد ذلك تطور وأصبح على شكل يوميات مثل ما كتب غوته في (آلام فارتر) وما كتبه فيما بعد سارتر في (الغثيان) ولقد تطور الفن الروائي ليصبح انقلاباً روائياً في عهد فلوبير الذي أرسى دعائم الواقعية. واقعية تحيل إلى التحليل، فمن فلوبير بدأت أشكال كثيرة للكتابة إلى أن ظهرت عندنا الرواية الحديثة.
أنا لا أريد أن أسمي إنتاجي هو رواية حديثة، ولكنني أعتقد بأن الإنسان المعاصر لا يمكن التعبير عنه بشكل بسيط، فإن أردت الكتابة عن (ياسين) أو (محسن) مثلاً فلا يمكن أن تكتب: (محسن) جاء وذهب وفعل كذا.. بهذه البساطة فلا بد أيضاً مما بداخله: هواجسه، همومه أثناء قيامه بهذا العمل البسيط، مثلاً، أثناء رفعه للقدح بماذا كان يفكر؟ هل كان يفكر بأنه سيناول القدح باحترام؟ أم كان سيناوله وهو غير راض، وبعد ذلك أن (محسن) ربما كان يفكر بشيء آخر، فربما كان يفكر أن يسافر بالقطار، وربما يقول؛ أن القطار سوف يوصلني بمدة طويلة ويسبب لي متاعباً.. كل هذا قد يتم أثناء عملية رفعه للقدح.
ولذلك فعندما أتناول حدثاً يجب أن أضيئه من كل جوانبه، وأعتقد أن هذا هو الجانب الحديث بالكتابة،أي أن يؤخذ الإنسان ككل ولا يؤخذ كتجزيء له.
*قبل أن نبتعد عن ذكر القارئ، هناك عبارة كتبت على غلاف الرواية تقول:" كتبها كي يحمي نفسه من القراء" فكيف تحمي نفسك من القراء؟.
** إنها عملية جدلية.. لا أدري بالضبط، أحياناً، أقول، الشاعر يشعر بشئ لا يستطيع أن يشرحه. فأنا أشعر بأنني عندما أقدم عملاً سوف أحمي نفسي من القارئ بجوانب معينة، أولاً: في أن أجعل العمل أكبر من القارئ فيكون هذا العامل حاجزاً بيني وبين القارئ، حاجزاً عن الانتقاد وعن النجومية أو الجماهير وكذلك حاجزاً عن الاستسهال، لأن الاستسهال يجلب النجومية، أي أن تكتب بسهولة، تصل إلى الجمهور بسهولة وتصبح نجماً بسهولة، ولكن حين تكتب عملاً صعباً سوف يكون عملك من النوع الذي لا يكسب جمهوراً واسعاً ولكن الكسب يكون على مدى طويل وبطيء، فأول بداية لكتاب الرواية الفرنسية الحديثة كتبوا على أساس أنه لا يوجد جمهور لهم، وفعلاً لم يكن لهم جمهوراً، ولكن بمرور الأيام كل عمل سوف يخلق لنفسه جمهوراً.. بمرور الوقت.
*ما الذي تخشاه من القارئ عدا النجومية. أنت تكتب للقارئ وهذا شئ...
**(مقاطعاً) لا يمكن فالعملية فيها نوع من التضاد، أنا كتب للقارئ وأحمي نفسي منه، إذاً هناك ترابط. أنا عندي مسؤولية أن أكتب للقارئ، وهو يهددني بأنه قارئ يتحداني بمعرفته وثقافته، إذ يجب أن يكون الكاتب أكبر من القارئ لكي يحمي نفسه منه دائماً.. أي دائماً وعلى طول المرحلة على الكاتب أن يُكبر نفسه.. أن ينمي نفسه لأن القراء يقرأون له دائماً.
*هل كتبت لجيل معين أو لجنس معين، فأحياناً يطرأ على الذهن بأنك قد كتبتها ضد جنس معين أو لنقل هنا ضد النساء؟!.
** لا..لا.. غير ممكن..أبداً.
* الذي دفعني لهذا التصور هو اقتران الذباب والنساء في جملة واحدة أو أحياناً تكرار عبارة النساء تطلق الرصاص من أفواهها والبنادق تزغرد..!.
*(مداخلة) أعتقد بأنها مسألة شعرية ولغوية أكثر مما هي موقف.
**هناك مسألة أرجو أن تكون في ذهنك، وهي مسألة الإثارة بواسطة المرأة، وهذه مسألة اعتمدها كتاب عرب وقد أسست هذه المسألة في داخلي ضد، ولا أعني ضد النساء بالذات، ولكن ضد هذا التصور، أي أنني ضد الإثارة التي تقول أن الجنس هو القضية الأساسية للعربي.. أبداً.. هي ليست القضية الأساسية للعربي، وحتى لو كانت هي القضية الأساسية في يوم من الأيام أو في زمن معين أو مرحلة كالتي طرحها الطيب صالح أو نجيب محفوظ.. إلا أنها الآن قد أصبحت عملية مستهلَكة، فإن نزار قباني قد انتهى لأن هناك بدائل.. أصبحت الحرية الاجتماعية أكبر، وأنا قد تكوّن لدي ضد منذ زمن، ضد ليس ضد المرأة، وإن كان مقترناً بجانب المرأة ولكن أنا ضد هذا الاتجاه الذي يتخذ من المرأة مجرد أداة جنسية.
*نلاحظ بأن الطيب صالح وعبدالرحمن الربيعي وسهيل إدريس ويوسف إدريس.. وغيرهم قد اعتمدوا على الجنس..
**(مقاطعاً) أنا أعتقد بأن جانب استثارة عطف القراء واستثارة النقاط الغريزية الحساسة بداخلهم.. هذه عملية كريهة بالنسبة لي. إن الرواية لا تكتب لتستثير عواطف غريزية وحسب. الرواية هي عمل معرفي بالدرجة الأولى، وتوثيق تاريخي.
*ولكن لا تنس بأن للعاطفة دوراً مهماً.
** طبعاً وليست الرواية خالية من الإثارة، وروايتي مليئة بالإثارة، ولكن لم يكن قصدي هو الإثارة وإنما قصدي أن أجعل القارئ ينتظر الإثارة، وهذا هو المهم.. أي أنه جانب تربوي. أنا لا أعتقد بأن هناك كاتب في العالم يكتب لجنس معين كجنس الرجال أو جنس النساء، وإنما يكتب للقارئ سواء أكان امرأة أو رجل.
*لقد كنت منتصراً لعزيزة في روايتك فجعلتها امرأة قوية تجذب الرجال وتنتقل من واحد إلى آخر..
** كانت نحلة.. هناك عملية تضاد يا نجم.. يعني عندما تريد توضيح الشخصية بشكل أكبر. فمثلاً في الرسم؛ لكي تعطي قوة للون ما، لا بد أن تعطي لوناً ضعيفاً مقابلاً له.. تسمى (كونتراست) أو (تضاد) فلكي تبرز قيمة أو قوة لون لا بد أن تبرز لون آخر مقابل أو مضاد له إلى جانبه، وهكذا فلكي تبرز شخصية شاهين النظيفة لا بد أن تستعرض شخصيات ساقطة أمامه.. أعني كثير من الشخصيات وليست عزيزة فقط سقطت وإنما حتى الرجال داخل الرواية.. حلاب مثلاً سقط أكثر سقوطاً من عزيزة.
*وفي النهاية أعتقد بأن الكل قد سقط.
** ما عدا عارف الذي بقي نظيفاً أسوة بشاهين، والذي هو صاحب زورق (عَبارة) وهذا يوجد فيه رمز طبعاً، فالجبل هو رمز الثورة والعبّار إلى هذا الجبل هو أمين الثورة.. ولا أقصد الثورة هنا بمعناها السياسي.
*والحمار (قندس)؟.
** الحمار هو رمز الجانب السلطوي عند حلاب، وتجسيد لسلطته.. وهذا بالضبط استخدام كافكوي للرمز، بالنسبة لرمز الحمار فكما استخدم كافكا الصرصار، أنا استخدمت الحمار.. رمزاً للأيديولوجية.. وليس الأيديولوجيا بمعناها السائد.. يعني..
*(مقاطعة) أنا أريد أن لا تقطع وتضع شرطياً أثناء حديثك معنا، فمثلما قلت بأنك لا تضع شرطة في داخلك أثناء الكتابة..
** (يضحك) لا.. أبداً.. أنا لا أضع شرطياً..
*فقط لاحظت نوعاً من التردد أثناء حديثك عن رمز الحمار للأيديولوجية.
** أبداً.. فأنا لا أقصد سلطة معينة، وأنت تعرف بأن حرب الأديب ضد السلطة بكل أشكالها هي حرب دائمة، وفعلاً هذه الرواية مكتوبة ضد السلطات.. أشكال السلطات الموجودة في المجتمع؛ السلطة التاريخية والسلطة الاجتماعية والسلطة السياسية، وطبعاً هي لا تخص سلطة معينة بالتحديد ولهذا أقول الكلام بدون رقابة.
*مالتفسير لموقف حلاب ضد شاهين عندما أجبره على أن يرعى حماره قندس؟.
** حلاب يريد أن يجبر شاهين ويخضعه لتعاليمه باعتباره هو(المختار) سلطة ذلك المجتمع ولكن شاهين عبر عن رفضه بقتله أو بمحاولة قتله الرمزية للحمار، ولكن الحمار لا يُـقتل لأنه من الممكن أن يتكرر زمن بعد زمن فيمكن أن نجرب نحن قتل بائس أو قتل غير ناجح، لأننا نستخدم المدية بشكل مقلوب وإن كانت كل هذه الحالات تعتبر حالة ثورية ضد السلطات.
*إذاً فلنتناول الشخصيات وتعرفنا عليها..
**اسألوا..
*شخصية (عالية) مثلاً؟.
** عالية هي أم الرسام عواد الذي هو صديق شاهين.امرأة كانت طفولتها متفتحة، وكان همها الأساسي هو أن تحصل على رجل، ولكن عندما تزوجت مسعود كان اهتمامه ديني بحت ولم يهتم بها اهتماماً كلياً، ولذلك كان همها أن تراقب المارين في الطريق "الفلاحين" وتسقط عليهم خيالاتها، ولديها تطلعات مثل (البرنامج البدوي) في الراديو وغيرها، فلما رأت شاهين رمزاً كتوماً، لأنها أيضاً تشعر بالذنب من جراء أفعالها لأن زوجها مهتم بالدين، وعندما رأت شاهين اعتبرته أو وجدت فيه شخصاً بدون لغة ومن الممكن أن تحقق به كل حالاتها التي تريدها، فهي تظن بأنه لا يتكلم ولكنها قد خافت أيضاً لأن هذا الشخص لم تكن هذه هي همومه، وإنما همومه في أن يعرف وأن يكتشف مشكلة الضحك في العالم.
*وابنتهم (زهرة) تلك التي تصنع الزهور من نايلون الأحذية القديمة؟.
** هذا لأنها في عالم معزول مثل بقية الأسرة فلكل واحد من أفرادها اهتماماً معيناً؛ عواد؛ اهتمام بالرسم واهتمام بالكلب (شرار) كمكمل فني له. واهتمام الأب ديني بحث أما الأم فلها اهتمامها الخاص هي الأخرى، فمن الطبيعي أن لا يسأل أحد الفتاة عن حالتها، فوجدت لنفسها اهتماماً بصناعة الزهور. ولاحِظوا أن هناك سخرية، فاهتمام الفتاة هو لمجرد أن تقضي وقتاً.. وهو وقت تقضيه بمسألة لا تؤدي إلى نتيجة، ألا وهي أن تصنع الزهور من أحذية المطاط..
*ما علاقة (عزيزة) بـ(عواد) وهل كان يحبها فعلاً؟.
** عواد أراد بها اللوحة.. أي أنه كان يحبها كموضوع فني بالدرجة الأساس، وهي تحبه كرجل وتريده أن يتحول من موضوع فني إلى موضوع عادي.. أن تحوله من ملكية الفن إلى ملكيتها الخاصة، ولكن عواد كان لديه صراع دائم.. هو صراع الفنان بين أن يكون فناناً حقيقياً وأن يكون للآخرين. نحن نعرف أن تجربة كل فنان فيها نوع من العزلة لأن فنه يجذبه إلى الحالات الفنية، ولكن عزيزة أيضاً كانت تجذبه في بعض الأحيان، ولكنه ما كان يعلن هذا لأن الحالة الفنية كانت تسيطر عليه، فإذا بهم الأثنين قد خسروا بعضهم.
*وانتقلت عزيزة إلى شاهين.. ما هي علاقتها بشاهين؟.
**هي أيضاً.. وقد وجدت شاهين الرجل الوحيد الذي لا يوجد لديه اهتمام ومن الممكن أن يهتم بها فقط.. لأن المرأة في مجتمعنا تريد شخصاً على مرامها (على كدها).. شخص يهتم بها فقط ويكون زوجاً صالحاً 100% لا يوجد لديه أي اهتمام آخر، وأن تحركه وتحوله إلى ملكية، ولكنها أيضاً لم تجد هذا في شاهين، لأن شاهين ما كان بالإمكان أن يصبح ملكاً لأحد في يوم من الأيام. لأن عزلته هي رمز للفنان أيضاً،وهو كان فناناً بحسه ورقته.
*وفي النهاية تؤول عزيزة إلى صاحب النظارات السوداء.. فمن هذا الشخص؟.
** إنه شخص عادي يستخدم القوة ويحمل مسدساً بشكل دائم، وهو مسنود من جهة معينة أو يعمل في مؤسسة معينة.. وهو يحس بأن هذه المرأة هي ملكيته ومن حقه أن يأخذها من هذا الفنان الذي يأخذها منه.. ما قيمته؟ من هو شاهين وفلان.. وهـكذا أخـذها بالـقوة.
*والشريط القطني؟.
**انه، رمز العذرية، وشاهين حين رآها لأول مرة بلا شريط أبيض تحت الشجرة عرف بأنها فاقدة شيئاً وهي قد فقدت عذريتها بعد أن اختلطت عليها المواعيد. فقد كانت تعتقد بأنها على موعد مع عواد في مخزن التبن لأن عواد كان يمثل لها حلماً والفنان بالنسبة للمرأة هو حلم فقط، تريده لظرف معين، للاستعراض، للتباهي. فهي كانت بحلمها على موعد مع عواد ولكنها في الحقيقة قد واعدت الرجل صاحب النظارات السوداء والمسدس وكانت عندما تخاطبه أثناء العملية الجنسية تخاطب عواداً، فاغتصبها بالقوة بينما بينها وبين عواد لا توجد هذه الحالة.. وبـعد أن رآها شـاهين اكـتشف بأنها مـحطَمة.
*عرّفنا على (حلاب) باعتباره شخصية رئيسية وهو المختار؟.
**حلاب لم يكن هو المختار الرئيسي. كان المختار قبله عبدالمجيد، ونحن دائماً في تراثنا العربي الاجتماعي أو كمجتمع عربي ولكثرة ما عانيناه من سلطات على مر التاريخ نقول دائماً: أن السلطة الماضية هي الأفضل.. وهي بالطبع أفضل لأن العصر يتطور وأدوات السلطة تتطور فنشعر أو نقول: أن عبدالمجيد أفضل.. وكأنه فعلاً مطلق ونظيف!.. أما في داخل الرواية فنشرح كيف استولى حلاب بأساليب ثعلبية.. استولى على السلطة وكان هو السبب في قتل عبدالمجيد، وصوّر عبدالمجيد للناس بأنه شخص غير سوي وأنه مصاب برهاب القمر ومخاوف أخرى عجيبة، ولكن الناس عندما كانوا يحتفلون بذكرى موت عبدالمجيد كان حلاب يثور لأنه يشعر بالذنب ـ ولو أن هذا النوع من الرجال لا يشعر بالذنب ـ ولكن لأن الذكريات تُستَفز عنده، فهو الذي كان السبب في موته عندما أسقاه سم الفئران ثم أخذ المختارية. وحلاب كشخصية كان في الأساس تاجر قطن، وكان يحرك تجارته في المنطقة التي تشتهر بزراعة القطن والقطن هنا يعني النقاء. وحلاب كان يتاجر بالنقاء، وحوّل هذا النقاء إلى تجارة، فحتى زوجته (زكية) أخذها مقابل كيس قطن لأن والدها كان مطلوب (مدين) لحلاب بكيس قطن وما كان يـستطيع أن يـسدد، فكان حلاب يهدده يومياً، فأعطاه البنت وهي إحدى زوجاته ـ الأولى ـ والتي عاصرت تحولاته.
حكاية حلاب حكاية عجيبة فهو حين ولد لم يكن يبصر لأن أجفانه كانت مطبقة إلى أن فتحت إحدى العجائز قبتي عينيه بسكين بصل، فأول رؤياه للعالم؛ رآه أبيض وأسود، فالرؤية الأولى أو الخبرة الأولى أثرت عليه.. أي أنه يرى العالم بدون ألوان.. بلا معنى.. أي يستهين بالعالم لأنه لا يرى ألوانه الحقيقية ويراه مجرد من الألوان، إذاً فحلاب مجرد من الحس وعلى الأقل حس البصر.. والبصر دائماً يعني الإبصار. إذاً فهو لا يمتلك رؤية للعالم.. أي أنه يرى ولكنه لا يبصر.
*ومحمود؟.
** محمود كان رمزاً للحق والنقاء في المنطقة وكان ينصر الفلاحين. ففي حفلة للغجر ـ في الرواية ـ جاء إليه أحد الفلاحين وقال بأن له ديون عند حلاب ويرفض حلاب تسديده، فرفع محمود حلاباً من بين الحاضرين وقال له: أعط الرجل حقه. فلم يعطه وقال: أتركنا الآن (نتونس). فرأى محمود في صدر الغجرية خمسة دنانير كان قد وضعها حلاب فسحبها من صدرها وأعطاها للفلاح.. وطبعاً أن قضية اختفاء محمود وراءها حلاب أيضاً. محمود ذهب واختفى في إحدى رحلات الصيد ولم يرجع وكان الجميع بانتظاره لأنه من المحتمل أن يظهر، وليس شرطاً أن يظهر هو.. محمود نفسه وإنما قد يظهر بشخصية أخرى ولهذا عندما خرج شاهين إلى العالم اعتقدوا بعودة محمود وهو رمز لانتظار عودة الحق.
وهذا في الحقيقة مبدأ عند بعض الطوائف الإسلامية وليس عندها فقط وإنما هو موجود في التراث الإنساني ككل ممثل بعودة (المخلص) (المسيح) أو أنه ما ينتظره الإنسان في حياته، فاحتفلت القرية بعودته ولكن شاهين قد خيب أمل الجميع، فعندما أرسلوه في رحلة صيد نام وترك البندقية والحزام ورجع وخيب أمل أمه أيضاً لأنها كانت تعتقد بأنه بديلاً لوالده ولكن.. لا يمكن أن يكون الولد بديلاً لأبيه أبداً، وهذه أيضاً ثورة من قبل الابن على الأب.. وهذا رمز واضح أيضاً.
*وهاجر الأم؟.. ماذا وراء صبرها لمدة عشرين سنة؟.
**هاجر كانت امرأة قوية دائماً.. وهي يائسة من الولد وتعتبر هذا الولد ملغياً فعليها أن ترعاه.. أن ترعى ولداً ملغياً. وكانت معتمدة على نفسها في تدبير شؤون البيت إلى أن خرج، ولكن صار لديها شعور بأن هذا الولد يمكن أن يحل محل أبيه بعد أن أصبحت هي عجوزاً بعد عشرين سنة من التعب والمعاناة، وقالت: ربما أن شاهين سيريحني من الآن فصاعداً، وكافحت من أجل أن تركز مكانه ولكي يحل محل أبيه ولكنه خيب أملها.
*هناك شخصية جانبية أخرى وهي شخصية (شعبان) المرافق لحلاب؟.
** شعبان هو كل الشخصيات المتملقة التي ترافق الشخصيات في المجتمع وهذه شخصيات وصولية، عندها وسيلة تصل بها، وتاريخياً فهي الراقص عند السلطان والطبال والشاعر..
*والمقدمين للسلطان قائمة بأجمل النساء على حد وصف البياتي..
** هؤلاء أشخاص لا بد من وجودهم لتسلية السلطة وهم أيضاً لهم منافعهم الشخصية، فإذاً قد كان شعبان يمثل هذا الرمز، وقد كان فناناً من النوع غير المبدئي على الرغم من أنه عازف ربابة جيد وصوته جميل.
*يُلاحَظ بأن الشخصيات كلها قد انتهت إلى الحطام والهزيمة.. عواد ضاع وشاهين سقط في النهاية..
**(مقاطعاً) لا.. شاهين لم يسقط.
*ولكنه قد وقع في بقعة سقوط القطة؟.
** لا.. شاهين انزلق، ورحلة شاهين هي رحلة استكشافية للشخصيات، يبحث عن سر الضحك وهذا كل همه فعندما خرج إلى المجتمع كان لا بد أن يلتقي بهذه الشخصيات ويستكشفها، فالشخصيات وجميعها كان لها مجال..أي ساقطة في مجال اجتماعي وحياتي معين، ساقطة فيه، فعواد انتهى في محطة القطار لأن حلمه بالشهرة، وهي نقطة السقوط عند الفنان. عندما ذهب إلى العاصمة وكان يشرب (البيرة) ونزل في أول محطة ثم تحرك القطار وبقي عواد سكران.. فضاع، غادرت لوحاته إلى العاصمة بينما هو قد ضاع .. أي اشتهر ولكن شخصيته ضاعت، الإمكانيات التي بداخله كفنان ضاعت، أي أن بحثه الفني وقلقه قد ضاع.. صحيح أنه قد اشتهر ووصلت لوحاته إلى العاصمة بالقطار. والشخصيات الأخرى كل واحدة منها قد سقط في مجال حياته.. هناك نقطة ضعف، فمثلاً سقوط حلاب الذي كان جبروته مبني على الخوف من الآخرين، فلكثرة ما ظلم فهو يتوقع أن يرد عليه الآخرين على هذا الظلم فكان خائفاً من شاهين الذي هو أضعف كائن، ولذلك فإن سقوطه قد كان إزاء شاهين، لأن اختبائه في القبو هو هزيمة، فعندما نزل إلى الأسفل وأخذ يبحث عن حطام ويخاف من كل شيء ويبحث عن أفاعي وأشياء ليس لها وجود.. فنقطة خوف الظالم هي خوفه من الذين ظلمهم.
*والخاتمة.. خاتمة الرواية؟.
**خاتمة الرواية بعد مرور شاهين على كل هذه الشخصيات واكتشف نقطة السقوط فيها حتى في أمه هاجر التي كانت نقطة ضعفها هي غياب زوجها وبحثها عن بدائل مثل السحر وممارسته في المقبرة وحتى رجل الدين التجأ إلى الخرافات فكانت هي نقطة ضعفه وكان يعري النساء ويمارس معهن السحر.. إذن فهو ليس رجل دين حقيقي. وعندما عاد شاهين من المقبرة وقد شاهد جميع النساء عاريات بمن فيهن هاجر أمه، والتقاه رجل الدين متجهاً إلى المقبرة.. أكتشف بأن هناك علاقة بين هذا الرجل والعمليات السحرية التي يمارسونها وطبعاً لم يفهمها هو على أنها سحر وإنما فهمها كشيء آخر..بقي عند شاهين أمل واحد وهو هؤلاء الموجودين في النافذة والذين كان يراهم كل ليلة فيعتقد أن ضحكهم فيه السعادة.. أو موضوع آخر مهم. فتسلق على أنبوب تصريف مياه الأمطار (النزريب) ورآهم يضعون مساميراً في النار إلى أن تصبح حمراء ثم يرمونها في الماء فتصدر صوتاً: (كش.. كش) فيضحكون لهذا الموضوع (الكش) فاكتشف بأن سعادتهم مزيفة فارغة.. وهم سعداء لأنهم فارغين، فظل يضحك على ضحكهم ويضحك لهذا الاكتشاف ثم نزل من الأنبوب عندما تراخت يديه ولم يعد يستطيع أن يسيطر عليها بسبب الضحك وظل يضحك حتى الصباح، فاستيقظت القرية وأصبحت تضحك على ضحك شاهين.. يعني؛ إنها تضحك على ضحك بدون معرفة السبب، فلأنه يضحك، وهناك نوع من الإيحاء الجماعي أو العمل الجماعي فقالوا بأن هذا مخبول. ولأول مرة نراه يضحك فبدأوا يضحكون. حتى الضيف لا يعرف ما هي القضية ولا يعرف ما الموضوع الذي يضحكون عليه أخذ يضحك أيضاً على ضحك الناس.. فأعتقد بأن شاهين قد اكتشف مسألة الضحك أي الضحك الحقيقي والضحك المفلس كما ذكرت الرواية.
* هناك عبارات تتردد مثل عبارة: الزنوج والباذنجان على الجريدة وسلق البيض في نيفادا..
** يسلقون البيض في صحراء نيفادا ولا يعرفون شيئاً عن العم عارف ولا عن كوى الفخار في منحدر التل الأسود.. أليس كذلك؟.
*نعم مثل هذه الأشياء كانت تتردد عدة مرات.. ثم ما هذا العنوان (دابادا)؟.
** في الحقيقة لم يكن اسمها (دابادا) كان اسمها (أعراس الكرة الأرضية) هذا هو الاسم الأول للرواية ولكن هناك بعض المسائل، مثلاً؛ فعندما مضيت بشخصية شاهين وجدت أنني قد أردت أن أقدم شخصية أو رواية بدون كلام.. بدون لغة وهذا طبعاً غير ممكن. فإذن يوجد شئ بلا كلمات ولا بد أن أضع كلمات لا تعني شيئاً.. بعد ذلك أوصلت اللغة إلى أبعد مدى.. كانت ثمة أشياء تفوق طاقة البطل وتزدحم عليه فما كان يستطيع أن يعبر عنها إلا بلفظة فارغة ليس لها معنى وهذه اللفظة ، في الوقت نفسه، تجمع كل الكلمات.. وهي بالضبط تقابل لحظة الصمت في سمفونية بتهوفن التاسعة.. هناك لحظة صمت قصيرة في السمفونية وصل لها بتهوفن إلى حالة يكون فيها أنه لا يستطيع أن يعبر عن هذه اللحظة.. لحظة ما وراء الموسيقى. فدابادا كلمة وراء اللغة.. أو ما وراء اللغة.. ميتادابادا.
*ولكنها تستعمل أيضاً في اللهجة العامية لقريتنا والبعض يقول أنها تعني: إلخ؟.
** نعم هي موجودة ولكنها لا تعني هذا وحسب في الرواية، وهي تستخدم في المجتمع وربما يكون الاستخدام قريباً؛ فهي تأتي أيضاً عندما يحاول شخص ما أن يصف حادثة ثم لا يستطيع أن يكمل لشدة ما بهرته الحادثة ولشدة تأثره بها أو تأثيرها عليه، فيقول لك في النهاية: ودابادا.. أنا لم أطور في النهاية هذه الكلمة كثيراً وقد استخدمتها الاستخدام الاجتماعي نفسه تقريباً.
*قال لي بعض الأصدقاء الأسبان بأنها تستخدم في لهجتهم العامية في بعض قرى قطالونيا شمال إسبانيا وذلك عند تعليم الأطفال للمشي.. أي كتلك اللفظة التي نستخدمها نحن للغرض نفسه؛ تاته..تاته..تواته؟.
** لا أعرف شيئاً عن مدى وجودها في اللغات الأخرى أو الأمور العالمية ولكنني قد اكتشفت أن لها وجوداً وجذراً أيضاً. اكتشفت ـ وبعد أن استخدمتها ـ أن الدادائية أيضاً قد استخدموا لفظة (دادا) عن نفس المفهوم.. تعبيراً عن التلقائي.. صحيح أنها لفظة لا تعني شيئاً ولكنها تعبر عما هو تلقائي لأنها لفظة طفولية..

----------------------------------------
*نشر في مجلة (ألـواح) العدد 11 سنة 2001 مدريد.

ليست هناك تعليقات: