04‏/10‏/2008

شهادة - فارس الطويل



الروائي الشهيد حسن مطلك

بين الحلم الكبير .. ورأس الطاغية


فارس الطويل


أتساءل ماذا لو لم يسلك الروائي الشهيد حسن مطلك (1961- 1990)، ذلك الدرب اللعين، الذي اغتال مبدعاً جميلاً، ورقراقاً، في عمر الورد، كان ما يزال في قمة عطائه، مترعاً بالأحلام، والمشاريع الكثيرة، التي لم ينجز منها سوى روايتين عظيمتين، هما: (دابادا) و(قوة الضحك في أورا)، فضلاً عن مجموعة من القصص القصيرة، والقصائد، واللوحات الفنية، التي تمثل نمطاً جديداً، وفريداً، وغير مألوف للعمل الإبداعي، الذي حاول حسن أن يحرره من قيوده، ورتابته، وأسماله، وينطلق به نحو عوالم وفضاءات جديدة، وغريبة، مستخدماً صوراً وأشكالاً متغيرة، وسائلة، ومفخخة، تتحرّك بيسر، ورشاقة، في أروقة الزمان والمكان، ولا تجد صعوبة في أن تتوحد، وتنصهر، في جسد واحد، تنتمي أشلاؤه إلى أزمان مختلفة، ثم تتجزّأ مرة أخرى، لتولد من جديد، محلّقةً على جناحي لغة حارة، منفلتة، ملغّمة بالسحر، والأسرار، والهذيان، والحكمة. لغة نادرة لا تنتمي سوى إلى حسن مطلك، الذي يعرف كيف يروّض حروفها، ومعانيها، وينفث فيها من روحه، وجنونه، ليخلق منها عالماً قائماً بذاته، تتدرّج طبقاته كعالم المثل، الذي أشاده الفيلسوف أفلاطون، وجعله أساساً لبناء جمهوريته الفاضلة، ولكنه يختلف عنه، بحركته الدائمة، وتجددّه، وغرائبيته، ونزوعه إلى الحرية والتغيير.
لا أعرف شيئاً عن الظروف والوقائع، التي دفعت الشهيد حسن مطلك، وهو الكاتب والفنان المرهف الشعور، للعمل مع مجموعة من الضباط والجنود، الذين كانوا يخططون للقيام بمغامرة انقلابية، ضد أخطر دكتاتور في العالم.
لم يكن يبدو على حسن، أنـّه سيلجأ، يوماً، إلى مثل هذا الخيار، ويقرّر أن يقتل الطاغية الذي يكره، بطريقة العسكر المحترفين، الذين كان يمقتهم أيضاً، ويسخر منهم، بل لم يكن يجرؤ أحد من أصدقائه، على التفكير، بأنّ حسن مطلك، سيشترك، في يوم ما، في انقلاب عسكري، ثم تنتهي حياته، هكذا، بجرّة قلم، على يد حفنة من القتلة الأغبياء، الذين لم يدركوا، بالتأكيد، أنهم يشنقون روائياً عظيماً، وشخصية موهوبة، ورائعة، ليس لها مثيل.
كان خبر إعدامه على يد جلاوزة الطاغية، صدمة كبيرة لجميع من عرفه، وعاشره، خصوصاً أولئك البعض من أصدقائه، الذين وضعه القدر في طريقهم، مثل كوكب درّي، ينبض بالحياة، والفرح، والنبوغ، والشموخ.
كيف يمكن للمرء، أن ينسى ملامح ذلك الوجه الطفولي المحبب، وهو يضحك ويكتب ويرسم ويتكلم عن مشاريعه الكثيرة، بثقة، في زمـنٍ أهوج، كنا نحن فيه، ننتظر، عاجزين، ويائسين، دورنا في الذبح، بعد أن تم حشرنا، كالخرفان، في (جملون) بارد، لعين، في معسكر التاجي، حيث تمَّ ترحيل مئات الجنود (أغلبهم من خريجي الكليات) إليه، من الموصل، بعد أن أمضينا شهوراً طويلة، وقاسية في التدريب، في مدرسة المشاة هناك.
كنتُ أنا أنزفُ خوفاً، وقرفاً، وأخطـّط للهروب من الجحيم، بينما كان حسن يداري حزنه، وتعبه، ويشغل نفسه بالرسم، والكتابة، والتأمّل. لن أنسى، أبداً، ذلك المساء، الذي وقف فيه، حسن، أمامي، وهو يرتعش، وبين يديه رزمة من الورق، طلب مني أن أقرأها بهدوء.. يا الله! كم أربكتني كلماته، وزلزلت كياني، حتى أنني لم أستطع النوم تلك الليلة.. اكتشفت بعد سنوات، أنّ تلك الأوراق كانت صفحات من روايته المثيرة والغامضة (دابادا).
لم نبقَ في تلك الزريبة الكريهة، سوى أسابيع قليلة، قرّروا ذبحنا، بعدها، من غير سكيـن، فقذفوا بنا إلى محرقة الحرب القذرة. أرسلوا حسن إلى لواء مشاة، وأرسلوني أنا إلى لواء مغاوير في العمارة، وودعنا بعضنا بالأحضان والعويل. كنا نبكي كطفلين صغيرين. كنت يائساً من رؤيته مرة أخرى، فقد كانت الحرب مع إيران، تزدادُ شراسـة، وكان الآلاف من الضحايا، يسقطون كل يوم، كقرابين للقائد المقبور، الذي حوَّل العراق، إلى مقابر وسجون وخرائب ومآتم.
أتذكـّرُ، أنني في يوم ما، عدتُ إلى البيت في إجازة من الموت. ناولتني أمي رسالة، وصلتني بالبريد، منذ فترة. خفق قلبي من الفرح، واغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أُبصـِر اسم حسن مطلك على الغلاف الأزرق. كانت رسالة حزينة، وموجعة، بدأها حسن بأبيات من قصيدة (الأرض الخراب) لأليـوت. وقتها لم أستطع أن أمنع نفسي من البكـاء.
قلتُ: الحمد لله.. المهم أنّ حسـن مازال حيـّاً!.
كان حسن مطلك، إنساناً استثنائياً، يحمل حلمه الكبير معه، في أن يكون روائياً عالمياً مشهوراً، كوليم فوكنر، وكافكا، ووليم جيمس، ومارسيل بروست، وغابريل غارسيا ماركيز، وغيرهم، ويعمل على تشييد ذلك الحلم، بصبر، ومثابرة، وذكاء، ووعي نادر، لـ (يحقق ما يحققه كاتب عظيم لوطنه)، (الذي كلما قارنت أدبه بآداب الشعوب، اكتأبت، ودفعني ذلك للقراءة والكتابة)، كما كان يقول.
لماذا فرّط حسن مطلك بذلك الحلم الكبير، بعد أن صارت له أقدام راسخة على الأرض، بعد أن نشر روايته المرعبة (دابادا)؟
ولماذا وضع روحه العظيمة، وموهبته الأدبية والفنية الخارقة، التي أنجزت في عمر قصير، وظروف قاسية جداً، عدداً مهماً من الأعمال الإبداعية المتميزة، تحت سيف جلاد حقير، بالرغم من أنّ هذا السيف، لم ينم في غمده، يوماً، وأراقَ دماء كثيرة لكتاب وفنانين، في السجون، وأرصفة الشوارع، وخنادق الحرب.. لكنّه مع كل ذلك، لم يستطع أن يطفئ أسماءهم المتوهجة، وصورهم المشرقة، وإبداعاتهم الندية، المحفورة في قلب العراق، ووجدان الأحرار والشرفاء؟
ولكن تظلُّ الحقيقة المرة، التي ينبغي أن نتجرّع علقمها، وصديدها، وهي أنّ خسارة الوطن كبيرة جداً، بفقدان هؤلاء المبدعين، وأنّ الزمن لن يجود علينا، دائماً، وبسهولة، بأمثال الشهيد حسن مطلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (عراق الكلمة) بتاريخ 6/6/2007م.
*فارس الطويل: كاتب عراقي يقيم في ألمانيا. faris-altaweel@hotmail.com

نص - فارس السردار



لـوح:
في الطّريق إلى شرقاط


فارس سعد الدين السّردار


مشهد التقاء الزاب الأعلى بدجلة، لا يمكن أن يكون عابراً أو عادياً. ما يكتنف الزاب القادم من هناك حيث تشمخ الجبال، من صخب وعنف، دفعني إلى التنقيب عن تأويل لما بدا لي فعلا ثأرياً، قد يبرر لي مرأى الانقضاض الذي لا يخلو من وعورة وبدائية،مدمِّراً السدَّ الآشوري، وناثراً أحجاره أسفل المجرى ليستلقي ما أمكن على اكبر مساحة ممكنة في الوادي، مخلِّفاً نتوءات عدّة تبقر سطحه المزبد، كأنه ثأر أبدي لفعل هدم ما. إنّ ضحالة الزاب تعطي انطباعاً فائقاً بالاتّساع والقدرة على الاكتساح، وقد يعمّق هذه القناعة لونه الرماديّ الذي تشرّبه من لون التربة التي مر بها في رحلته الطويلة، وكأنه يحرثها حرثاً دون أن يمارس أيّ بذار من ينابيع راوندوز وبيخال ورايات وشلاّل علي بيك وجنديان وسد بخمة، هذا المسار المتعرّج المستظلّ بمصدّات الجبال الفارعة حيث الشمال. بينما كان دجلة منساحا من نينوى، مكتنزاً غارقاً بالخضرة والعتمة اللتين أضفيتا عليه وقاراً وإحساساً مخيفاً، لما قد يكون عليه من عمق، فكأنّه صوت ناي يتشرّب الحانه من زمن موغل بالثقة والقِدَم على خلاف ضجيج الطبول المتحدرة من أعالي الجبال التي هي الآن على موعد مع لفظ أنفاسها الأخيرة لحظة التقائها الأبدي بدجلة، هنا في(المخلط) أو قرية(السّفينة).
لحظة الاصطدام يتراجع دجلة بقسوة متّكأ على جرفه الغربي، أمام اندفاع الزاب، فكأنّ النّهرين هنا يرفضان الامتزاج، من ناحية أنّ المياه تظلّ تتماحك بقوة، وسط فوران عجيب وصراع ينتهيان بضمّ دجلة لهدير تلك الطبول الجارفة في ظلّ تكسّر أمواج الزاب وسط أنين نايات دجلة المنبجسة ألحانها من بين حفيف أوراق اليوكالبتوس وسيقان القصب التي تنتأ من الجرف كالثآليل.
تفور المياه في نقطة الالتقاء، وتنفجر كالينابيع الباحثة عن نسمة للهواء بعد اختناقات طويلة عانتها في أعماق دجلة،وكأنّ القعر كان قد انقلب على نفسه وانكشط. تضطرب الأسماك، وتفقد اتجاهاتها المفضية إلى الجنوب فتارة تلتجئ إلى الخضرة، وأخرى إلى الرماديّ، وتارة إلى هذا اللون الذي بَدا يؤمن بحتمية التلاقي والتعايش والاندماج، ليخرج لون آخر أكثر واقعية،يزاوج ما بين الرصانة والحكمة، والفتوة.
نسق جديد تبدأ ملامحه بالانفتاح على مسار النهر المنحدر جنوبا شيئاً..فشيئا. إنه قدر لا فكاك منه تفرضه الجغرافيا والسماء.
يزداد اندفاع دجلة فيبدو أكثر فتوة، فيما ينحسر اللون الرماديّ ليصبح لون النهر الجامع أكثر ايحاءً بالحياة.
العراقيّ لم يترك هذه اللحظة تمر دونما لمسة ما وقتَ تبرز الأسماك الكبيرة وسط هذا الاحتدام، لتصبح صيدا سهلا لمن يتقن فنّ القنص عند الجروف، وفنّ حركة الدوامات العالقة وسط فوضى فوران المياه، منذ فجر التأريخ. تبدأ المياه ذاتها بعقد الفة مع بعضها البعض، لتصبح خليطا واحدا يمر من تحت بوابات آشور وأسوارها الخالدة. هناك تماماً كان يقف محمود جنداري، متأملاً هذه الحكمة التي صنعت تلك القلاع والأسوار وكتبت كل تلك الرّقم الطينية بأزاميل نقشت هذه الحكاية وحكايات أُخر على المرمر والصخر والعاج، وعلى الطين.
هذه النظرات التي لم تكن لتطويها موجة ما من تلك المويجات، بل لتحررها حكاياتٍ على صفحات "مصاطب الآلهة" هنا صرخ جنداري أكثر من مرة رافعا يديه: عراق.
في الجوار كان هنالك فتى، لا أقول عنه أكثر جرأة، بل اقل اصطباراً منه، حاول أن يقترب سريعا من هذا الوجع غامساً ريشته تارةً، وفرشاته تارة أخرى في هذا المداد الخالد المكتظ بكل تلك الحكايات والأوجاع. كان هذا الفتى حسن مطلك الذي أطلق صرخة مدوّية في فضاء المكان، تشبه اختناق ماءيّ دجلة والزّاب وانعتاقهما معاً، عبر: (دابادا) ليلفظ: جنداري/ ومطلك/ والزّابُ: أنفاسهم الأخيرة سريعاً.
هنا بالذات استمعا معاً، أو كلّ على انفراد إلى الجروف وأنصتا مليّاً/ كان الماء يروي شيئا ما، مغرقاً في القِدم والحداثة، شيئاً أشبه ما يكونُ برحلة الحياة والموت، وبفصول من أناشيد حاولا بكل جهديهما أن يفكّا رموز لغتها الآشورية حتى كلاّ. لكنهما كانا قارئين مجيدين، استطاعا أن يتعرّفا إلى كمّ كبير من الحكمة التي نقلتها إليهما المياه والضفاف والكثبان والصبايا الجميلات ذوات العيون الواسعة السود، والشعر الفاحم المسافر مع ريح شرقاط.
لابد أن يكون الشيخ محمود جنداري قد أشار بإصبعه أكثر من مرة لمكتبة طمرها كثيب رملي هناك وراء الأسوار، ربما اكتشفتها قدماه اللتان جابتا المكان مرارا، قبل يديه. إلا أن حسن مطلك ما كان ليوحي إليه أبداً بأنه سيبحث عنها يوما ما، أو انه كان قد عثر عليها مثله. كان يريده أن يخرج من صمته ويتحدث إلا أن الشيخ محمود ما كان ليكتفي إلاّ بالايماءة والاشارة. لكن متى ما مال قرص الشمس الدامي مختبئاً وراء التلال، كان حسن كمثل حفّار قبور يدفع كلّ مساء أنامله بين رفوف الرُّقم المطمورة، أو في السّلال الطينية المُنضّدة حول جدران غرفة خازن الألواح/ كان دائماً يهتدي إلى المواضيع التي تحكيها تلك الألواح من علامات وضعها الخازن كنظام فهرسة فوق كل سلة من السلال المصنوعة من القصب المغلف بالطين، وتماماً حيث أشار الشيخ محمود ليستخرج نصوص الحكمة المغيّبة في دهاليز الزمان، مستذكرا غسان كنفاني وقصته (يد في قبر) التي ما كانت لتفارق بداياته، بينما الشيخ محمود يجلس أمام دنّه مبتسما.
هنا قرأ حسن الرّقم كلّها وما تحويه من رسائل/ قرأ الملاحم، والتعاويذ وتبصرات الكهنة الآشوريين بالنجوم/ قرأ فروض التلاميذ، وعقود البيع والشراء/ وتعرّف إلى الشهود الذين حضروا مراسيم المصادقة على بيع العقارات وشرائها التي هي الآن تراب مندرس/ قرأ أغاني العشاق، وقصائد الحرب وأسماء الأسرى، والكتّاب/ كان يقرأ.. ويقرأ.. ويقرأ حتى تغشاه العتمة وتسدل السماء آخر أستارها على الضوء، حتى بات يعرف رصعات القصب هذه أتعود لهذا الكاتب أو ذاك. كان يشم رائحة الوشاية وكركرات الصغار، وهسيس الغبار الذي يطارد العسس وهم يجوبون الطرقات داخل أسوار المدينة أو خارجها حيث قرى الأعداء والملوك الطامعين. قرأ تعاويذ الكهّان وتراتيلهم، قرأ الوصفات السحرية للكيميائيين، وخلطات الأعشاب الطبية، وطرائق سبك السيوف، وفنّ ترويض الخيول ورياضة صيد الأسود والغزلان.
لم يتوقّف حسن عن القراءة، ذلك أنّ الكاتب الآشوريّ لم يصبه على ما يبدو الكلل بعد. ظلّ يكتب عن عشبة الخلود، وفي الرياضيات، والمساحة والقانون والخصومات والشعر/ وحسن يقرأ والشيخ هناك في الحانة ما زال يجلس أمام دنّه: يشرب ويشرب: مبتسماً وهادئا.
كلّ صباح كان يُشاهد حسن مستلقياً، وقد تناثرت من حوله الألواح،فيما كان الشيخ يشير إلى مكان كثيب آخر/ وحسن كعادته لا يبدي اهتماماً، إلا انه ومع مجيء المساء يتسلل لينبش في رفوف ذلك الكثيب وسلاله و كوّاته المحفورة في الجداران من جديد.
في آخر ليلة من تموز أحسّ حسن بأنّ كاتبه الآشوريّ قد بدأ يظهر له. لم ترتجف فيه شعرة واحدة،كان يعرف جيداً (نابو- زُكُب- كينّ ) كاتب الملك الذي رافق حكم الملكين سرجون الآشوري(721 -705 ق.م) وسنحاريب(704 – 681 ق.م) كان قد ورث مهنة الكتابة عن أبيه الكاتب(مردُك- شُم – اقيش) الذي كان يحمل لقب كاتب الملك وهو حفيد الكاتب (كّبُ – إلانٍ – ايرش) الكاتب في بلاط الملك(توكلتي ننورتا الثاني) (890 – 884 ق.م) وابنه الملك (آشور ناصر بال الثاني) (883 – 859 ق.م) فضلا عن أن الكاتب (نابو- زكب – كينا) هو والد (عشتار-شم – إيرس) رئيس كتبة الملك (اسرحدون 680 – 669 ق.م) واستمر كاتباً في القصر في عهد الملك آشور بانيبال (668 -627 ق.م) تحدث كثيراً وباسهاب عن أنهم في آشور لا يمنحون حقّ الكتابة لكائن من كان، فهذه المهنة لأهميتها لا يمكن إلا أن تورث إضافة إلى إن الكاتب لا يمكن أن يُعترف به إلا إذا كان مجيدا صبورا حسن الخط. الكتابة لها منزلة مقدسة وهي " فن بهيج لا تشبع منه النفس".." وليس من السهل تعلم الكتابة، لكن من تعلم الكتابة لا يقلق أبدا ".اخبره أيضاً أن الكاتب لا بد أن: " يعمل دون توقف في الكتابة، وسيُكشَف له عن الأسرار، إذا أهملت الكتابة سيشار إليك بالسخرية "..." المدرسة هي البيت الذي يدخل فيه مَن عيناه مسدودتان ويخرج منها مَن عيناه مفتوحتان".
جال حسن معه في قاعة الملك وشاهد موقف الكاتب من الملك وكذلك موقف الكهان.على جدران القاعات ذوات السقوف العالية كانت هذه الجداريات تشعره بالمهابة، وكان يلحظ ارتسامة الابتسامة على شفتي صديقه (نابو). كانت الجداريات ترسم مشهد كاتبين يدونان أعداد الأسرى في إحدى الحملات على فلسطين في عصر الملك سنحاريب، ومنحوتة أخرى تظهر كاتبين في عصر الملك سرجون الآشوري يسجلان الغنائم قرب مخيم لأحد قادة الملك سرجون. مرر أصابعه على النقوش البارزة، تحسّس قطرات العرق التي تصببت من جبهتيهما وهما يخدشان الصخر بهذه الروعة، تأمل الأعمدة والأقواس، ثم نزع عنه ملابسه واستحم في حوض من الماء المعطر الصافي الشفاف. قاده إلى الأسوار فتجول بين الحراس، مسّد بأصابعه على الخيول واستمع إلى حمحمتها. اخبره أن النساء الآشوريّات كثيرا ما يبرعن في فنون الكتابة، وهن غالباً ما يكنّ من أبناء القادة والأميرات، إذ يرافقن الملكة في تجوالها ويسجّلن مشترايتها وعطاياها. كنّ أيضا شهود عقود يوقعن بأسمائهن على ما يكتبنه من رقم وألواح. هكذا منذ بدأنا الكتابة في آشور أدركنا أنها ذاكرة للإنسانية جمعاء. لذلك كنا نبحث عن ما يمكن أن يكون وسيلتنا لإيصالها. فشلت أوراق البردي معنا، وكذلك جلود الحيوانات لغنى أرضنا بالمياه والرطوبة. كما فشلت ألواح الأخشاب لتغلغل الرطوبة فيها فتتفكك وتتشقق بنيتها. كان الطين المفخور حامل رسائلنا، وكذلك الصخور التي برع الكاتب في ترويضها ومدها بالقوة لتصل إليكم،كما نجح العاج أيضا بأداء المهمة. هذا البحث لم يكن يقل قسوة عن البحث وراء فكرة الخلود. نحن لم نبدأ بتعليم التلاميذ الكتابة إلا بعد أن يكونوا قد أتقنوا إعداد الألواح التي ستنقل رسائلهم، وأنت تعلم أن كاتب العقود لا يمكن أن يكون ككاتب المساحة، وكذلك كاتب التنجيم لا يمكن أن يكون ككاتب الملاحم، لذلك وجب التخصّص، والتخصص يعني إتقان المصطلحات التي تدور في رحاها كل هذه المعارف.
لم يكن حسن منتظراً من(نابو) أن يغرقه بكل هذه التفاصيل.كان حسن يبحث عن أشياء أُخر. هو يعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون.ولكن ماذا عن الوجه الآخر لآشور بعيدا عن الملوك وأمجادهم وانتصاراتهم. ودّ لو يحدثه عن الصيادين الذين يقضون النهار بطوله في المياه، أو الفلاحين الذين يتطلعون إلى أن يتسلل أبناؤهم إلى هذه القصور لنيل الحظوة من الملك والفوز بوظيفة مرموقة، أو عن أولئك المتجولين في حارة الكَتبَة تحت ظلال المعبد، علهم يُدعون إلى تعلم الأبجدية، عن الفرص الضائعة، أو الأحلام الموؤدة، وعن العدالة وتكافؤ الفرص..، فآشور تعج بآلاف الوافدين من أصقاع الدنيا. حدِّثني عن أصحابي الفقراء. حدثني عن العدالة والحياة. وماذا عن الديموقراطية؟. أحس الكاتب (نابو) أن صاحبه قد بدأ يلقي عليه بتعاويذه، فتراجعت قدماه وأخذ يبتعد شيئا فشيئا..، فيما بدأت الجدران تهتز وتتهاوى على نفسها، حتى أخذت الأسوار تختفي، وأخذ الغبار المتصاعد يغيّب الحرّاس والخيول، فيما كان نابو قد اختفى من المشهد نهائيا.
لا شيء إلا الغبار، فكل الجهات غبار كثيف. وما أن بدأ الهواء بالاندفاع حتى تكشّف الأفق عن الشيخ محمود جنداري بقامته القصيرة وخطاه الوئيدة المطمئنة القصيرة، وهو يسير متجها إلى حيث التلة التي تشرف على ذلك المشهد العجيب حيث يلتقي دجلة بالزاب ليظل يتأمل الاحتدام الأزلي للمياه.
_________________________________________________
*المادة العلمية مستلة من كتاب الأستاذ عامر عبد الله الجميلي؛ (الكاتب في بلاد الرافدين القديمة) اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2005

*فارس السردار: كاتب من العراق. farisalsardar@yahoo.com
آب/2007 نينوى

ذاكرة - محمد عزيز



رحلة مع عبد الجرو

أحد رفاق حسن مطلك في سجنه


محمد عزيز


ولد "عبد محمد جرو" سنة (1950) في قرية "سديرة وسطى الأولى" وأكمل فيها دراسته الابتدائية عام (1963) ثم واصل تعليمه لمرحلتي المتوسطة والثانوية في مدرسة "الشرقاط" حيث أنهاهما عام (1968). بعدها التحق بكلية الآداب/قسم الآثار/جامعة الموصل، وأثناء دراسته الجامعية دخل السجن لانتمائه إلى (حركة القوميين العرب) بزعامة عبد الإله النصراوي سنة (1972). أمضى عدة أشهر داخل السجن. وبعدها لم ينتم إلى أي تنظيم أو حزب سياسي، بحكم أن الطريق السياسي والعمل داخل التنظيم الحزبي هو طريق شائك تحفه المخاطر في العراق. بعدها التحق بالخدمة العسكرية وقضى أكثر من (13 شهراً) برتبة جندي، صنف "مشاة"، ثم دخل إلى الميدان المدني، ليعمل موظفاً في (المديرية العامة للآثار) في بغداد، وواصل العمل في مجال الآثار بتميز، منضماً إلى العديد من هيئات "التنقيب عن الآثار"، شملت (حمرين وآشور ومن ثم أصبح مسؤولاً عن أثار الحضر، على مدى عام)، بعدها عاد إلى مركز أشور الواقعة في مدينة الشرقاط سنة (1979)، ثم انتقل إلى (حديثة) التي قضى فيها أياماً طويلة من العمل والتنقيب، ثم تم إلحاقه ثانية بالخدمة العسكرية، أثناء الحرب "العراقية ـ الإيرانية" ليقضي أكثر من (5 سنوات) في خدمة الاحتياط آنذاك.. وبعدما تسرح من الجيش وشغل منصب "مدير دائرة أثار محافظة صلاح الدين" منذ عام (1985) وحتى عام (1990)، لتبدأ المعاناة ويبدأ الصراع الحقيقي عند مواجهة السلطة، مواجهة أعنف طغمة عرفها التاريخ، بدأت "رحلة عبد الجرو" بعيداً عن أبنائه (منهل ومهند وأطياف)، حيث تغير كل شيء في قاموس هذا الإنسان الذي عشق مهنته وانصهر قلبه في "التنقيب" و"الحفريات" والبحث عن آثار العراق وتدوين تاريخ حضارة تمتد إلى أكثر من (4000 سنة)، ففي يوم "السادس من كانون الثاني" عام(1990) تم إلقاء القبض عليه، ليعود إلى السجن الذي فارقه لعدة أعوام، وذلك لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم في العراق والقضاء على راس السلطة. وكانت الفكرة قد ولدت منذ عام (1985) حين جمع "حسين كامل" مئات من الضباط بعد احتلال مدينة (الفاو) من قبل الجيش الإيراني، فشتم الضباط وكاد أن يصدر أمراً بإحراقهم وهم أحياء بعد أن يرش عليهم النفط، فولد هذا الأمر اندفاعاً للضباط الذين تحمسوا لإنقاذ العراق من الخراب على يد هؤلاء… وحين قال الأديب "حسن مطلك" بأنه "لا يمكننا أن نكتب حرفاً واحداً في ظل هذا النظام"، وأن النقيب "صالح جاسم محمد جرو" والأديب "حسن مطلك روضان" كانا منظري ومهندسي لهذه الحركة بزعامة النقيب "سطم غنام مجذاب الجبوري" ومجموعة من أبطال الحركة، منهم النقيب "غانم عبد طلب"، والمعاون الطبي "أحمد غربي حسن" والنقيب" مضحي" و"النقيب جمال شعلان". تم طرح هذه الفكرة وتباحثوا في دار "عبد الجرو" في تكريت آنذاك، فقد اخبروه أن هناك أكثر من (30 ضابط ركن)" وحوالي (300 ضابط) من الضباط الأقل رتبة مؤيدين ويعلمون بالعملية، واصفين له أن قوات "الحرس الجمهوري" مهيأة تماماً لتوجيه ضرباتها بالانقلاب العسكري في يوم استعراض الجيش العراقي، ولينهوا معاناة البلاد من حكم الطاغية وأتباعه، بحيث أن (آواة الكردي) الذي كان صديقاً لحسن مطلك وهو مثقف ويتكلم أربع لغات (الإنكليزية والعربية والكردية والفارسية) كان ينوي الهرب إلى خارج البلاد من النظام، فأخبره حسن مطلك بأن نهاية النظام قد حلت وباتت شبه محسومة، فكان رأي عبد الجرو في العملية هو التأييد ومساندتهم، "لكن الأمر ليس بالسهولة التي تظنونها لأن "صدام" قد جند من بين كل اثنين من العراقيين ثالثاً يعمل للتجسس لصالحه، وسيتم كشفكم هذا إن لم تكونوا مكشوفين قبل تنفيذ العملية التي تحمستم لها وأصررتم على أن لغة الرصاص هي الحل الوحيد". وفعلاً هذا ما حدث، فشاءت الأقدار أن تكون أحلامهم كابوساً يسلب منهم رحيق العمر، وينزع منهم ما تبقى من أيامهم دون رحمة أو عطف. كانت اللحظات مرة وقاسية وصعبة حين سيقت (كوكبة من الشباب) إلى سجون (الحارثية) باعتقالهم جميعاً لتبدأ الرحلة القاسية مع التحقيق، الذي أرهق نفوسهم وأبدانهم جراء التعذيب المستمر وبشتى أنواعه (الجسدي ـ النفسي) وكل على انفراد، فمن الأسئلة التي وجهت إلى "عبد الجرو" أثناء التحقيق عن رأيه بكتاب "ليونس السبعاوي" والذي يتحدث عن عشائر العراق وبضمنها عشيرة "الجبور" والأسئلة الأخرى عن تعداد سكان عشيرة "الجبور" في العراق لأنهم يظنون أن هذا "الانقلاب" على النظام هو ليتسلم أبناء "عشيرة الجبور" الحكم في العراق.. "بعدها مضت الأيام ببطء على تلك القلوب الطيبة، المؤمنة بزوال النظام السابق، لأنه يقود العراق إلى الهاوية. مرت الأيام على هذا الحال لنعرف من خلال شخص كان يدعى "أبو الياس" من منطقة "المدينة" في ناحية "الدجيل" قبل المحاكمة بستة أيام بأن سبعة عشر منا سيحكم عليهم بالإعدام لتجاوزهم ما سمي بـ"الخط الأحمر"، كما أخبرنا "أبو الياس"، وأن محاكمتنا ستكون في يوم (18/6/1990)، جاء هذا اليوم، ليقدموننا إلى المحكمة الصورية، التي تخلو من كل شيء إلا من عواد البندر "رئيس محكمة الثورة" وضابط يمثل جهة (الدفاع)!! عن المتهمين، والبقية من الحرس الذين وجهوا فوهات بنادقهم صوب المتهمين بالتآمر على النظام. اقتصرت المحاكمة على توجيه نفس الأسئلة لكل المعتقلين: "ما اسمك؟ بريء أم مذنب؟ اصمت". بعدها تلا نص المحكمة علينا "حكمت المحكمة بالإعدام شنقاً حتى الموت إلى حد تسلسل (سبعة عشر)، ( والعشرة) الباقين بالسجن مدى الحياة، فكانت أسماء الشهداء على النحو التالي: (سطم غانم مجذاب الجبوري) نقيب في الجيش، (جمال شعلان الجبوري) نقيب في الجيش العراقي، (صالح جاسم محمد جرو الجبوري) نقيب في الجيش، (حسن مطلك روضان) أديب ويعمل مدرساً في مدرسة إعدادية، (أحمد غربي حسن العبيدي) معاون طبي، صحة مجتمع، المركز الصحي في الزاب، (حسن نايف الجبوري) موظف في جهاز الأمن الخاص، (خيرالله حميدي الجبوري) ضابط برتبة ملازم أول قوات خاصة، (مضحي الجبوري) نقيب في الجيش، (محمود عبد الله محجوب) نقيب في الجيش، (ناصر محمود العبيدي)، (فندي طلب سلامة)، (جاسم اللهيبي)، (حسين عسكر محمد الجبوري) منتسب لجهاز الأمن الخاص، (هيجل الدورة)، (صبحي الجبوري) وآخرون، وأما الذين حكم عليهم بالسجن المؤبد (عبد محمد جرو الجبوري)، (غانم عبد طلب الجبوري) نقيب في الجيش، (محمد صالح خلف الجبوري)، (محمود جنداري الجميلي) أديب وموظف، (محمود مظهور الجبوري) ضابط في الجيش، (حميدي محمد سعيد الجبوري) موظف في جهاز الأمن الخاص، (إبراهيم حسين جاسم)، (عواد محمد أمين)، (جمال محمود البدراني). وهكذا قد حل الوداع الأخير وحكم الظالمون على إشراق النور وقتل وتمزيق الورود لتبقى الفراشات من دون رحيق، جلسوا "ثوار حركة السادس من كانون"، جلستهم الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام بهم، وارتجل "عبد محمد جرو" عمهم وأكبرهم سناً الذي طالما تمت استشارته، قائلاً: إنكم أبطال ومعظمكم عسكريين وضباط محنكين وخضتم المعارك مراراً بسوح الوغى وتجرعتم الموت مراراً، فكما قال الشاعر "أما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيض العدا"، فكلنا ميتون مادام هذا النظام قائماً وسنموت بكتاب من الله، لقد رفعتم رؤوس أهلكم وأعمامكم ومواطنيكم والأحرار في كل مكان وأنتم خصم شريف ومنازل حر، وبلغتم ذروة المجد وستكتب الأجيال ويكتب التاريخ عنكم وعن بطولاتكم. وتم الوداع الذين اختلطت فيه الدموع بالقبل وحل التباعد بين الأحبة. تم إعدام السبعة عشر في يوم (18/7/1990) الساعة السابعة مساء، حيث سمع "عبد الجرو" ومن أعلى بناية لقسم الأحكام الطويلة "الخاص بالسياسيين" صوت إطلاق الرصاص الذي تم به إعدام الشباب الضباط، أما المدنين فقد تم شنقهم "بالحبل" حتى الموت. حينها ذرفت العيون دمعاً واعتصر القلب وتمزق الكبد واصفرت الحياة وغابت لحظة الفرح، وحل السكون محل الصخب السيمفوني، ورحل أبنائي الذين أحببتهم، ولم يبق سوى الذكريات وصدى كلماتهم.." بعدها أمضى "عبد محمد جرو" ما بين سجني (أبي غريب) و(بادوش) عامين من الألم والحسرة داخل جدران السجون، وتمت مصادرة أمواله وبيته وأرضه في "تكريت". وقد كتب العديد من المقالات السياسية والأدبية داخل السجن، كما ألف كتابه (حساب ابن جرو) وكتابه الآثاري (الجبار) إضافة إلى دراسات أخرى في اختصاصه (علوم الآثار) منها: "رقصات ساحرة على ضوء القمر"، "طقوس الزواج المقدس في وادي الرافدين".. وانتهى مؤخراً من كتابه (كركوك القضية والحل).
تم الإفراج عنه مساء (21/12/1991)، ليعود متجردا من قيده من سجن "أبي غريب".. هكذا رمت الأيام والسنين على "عبد الجرو" ليعيش ما تبقى من عمر تقاسمته العناءات والأحزان والمواجع في بيت متواضع ضمه هو وزوجته الأخيرة وابنتها "عفاف" في قرية (سديرة). وليمسي مشرفاً على (منتدى سديرة الثقافي) يحتضن المثقفين من الشباب ويوجههم، حيث جعل من بيته ملتقى لهم وللأدباء والمثقفين...

كلمة - عبده وازن



روايتاه اليتيمتان صدرتا معاً في بيروت
الكاتب العراقي
حسن مطلك
يعود إلى الذاكرة

بعدما أعدمه صدام في 1990


عبده وازن
ـ بيروت ـ


كان الكاتب العراقي حسن مطلك في التاسعة والعشرين عندما أُعدِم شنقاً ليل الثامن عشر من تموز (يوليو) 1990، بتهمة الانضمام إلى «ثلّة» من العسكريين والمدنيين حاولت الانقلاب على نظام صدام حسين في السادس من كانون الثاني (يناير) من العام ذاته. كان الكاتب أصدر رواية واحدة عنوانها «دابادا» في بيروت بعدما تعذّر عليه نشرها في بغداد. وسرعان ما لقيت روايته الصادرة قبل سنتين من إعدامه، ترحاباً كبيراً ووجد النقاد في صاحبها موهبة حقيقية. وكان الراحل جبرا إبراهيم جبرا من أوائل الذين مدحوا الرواية قائلاً عنها انها «غير عادية، رواية جديدة وكاتبها شاب جريء». وان استطاع الروائي الشاب أن يفرح بروايته الأولى وما أصابت من نجاح، فهو لم يتسن له أن ينعم بروايته الثانية «قوّة الضحك في أورا» التي يرسّخ فيها صوته الخاص، فهي صدرت بُعيد رحيله في دمشق.
منذ إعدام مطلك انحسر الكلام عنه وكاد أن يُنسى، لا سيما بعدما اجتاح الجيش العراقي الكويت في الثاني من آب (أغسطس) 1990. وساهمت الحرب التي شنت على العراق وما تلاها من مآسٍ وخراب، في طمس اسم هذا الكاتب الشاب وجعله مجهولاً أو شبه مجهول لدى القراء العراقيين والعرب. ومثلما عانى حياً الكثير من الترهيب على يد النظام السابق عانى أيضاً في غيابه الكثير من الإهمال والنسيان، ولم تسعَ أي دار في العراق إلى إعادة نشر أعماله، المعروفة والمجهولة، ولم تحاول أي جهة إحياء ذكراه والاحتفاء به.
قبل أيام صدرت روايتاه اليتيمتان معاً في بيروت. وكأن الواحدة تكمل الأخرى، لغة ومناخاً وأسلوباً، علماً أن الثانية تبدو أشدّ راهنية واقتراباً من الواقع المأسوي الذي يشهده العراق. فالرواية التي حوّر في عنوانها اسم مدينة «أور» السومرية القديمة، تدور حول سرقة الآثار العراقية، وتستوحي الصراع العراقي – الغربي من خلال شخصية الموظف الإنكليزي «أوليفر» الذي يعمل في العراق، ويسعى إلى تهريب آثاره العريقة إلى الغرب. وتحضر قرية «أور» وكأنها صورة عن العراق، فهي تضم في جوفها كنوزاً تجذب الطامعين الغرباء. ويبدو الشخص الرئيس في الرواية «ديام» قريناً للكاتب نفسه، من غير أن تكون الرواية سيرة ذاتية. وعندما يحل الطوفان جارفاً المنازل والحيوانات والأشجار، تمتد يد خفية حاملة «ديام» إلى سطح أحد المعابد القديمة ومن هناك يرى المشهد الرهيب...
يدمج حسن مطلك في نسيجه السردي بين التاريخي والمتخيّل، ساعياً إلى كتابة رواية ترتكز إلى معطيات الواقع وشطحات المخيّلة. ويبدو أثر الرواية الأميركية – اللاتينية واضحاً في روايتيه الاثنتين، خصوصاً «الواقعية السحرية» التي بلغت ذروتها في أعمال غبريال غارسيا ماركيز. أما الرواية الأولى «دابادا» التي نمّت عن موهبته، فتدور في جوّ يتراوح بين الواقعية والغرائبية أيضاً. ويجتاز بطلها «شاهين» أحداثاً كثيرة ويصادف مفارقات تجعل منه شخصية غاية في الغرابة والمأسوية. واعتمد المؤلف في هذه الرواية أسلوباً شبه شعري، جاعلاً نصّه يدفق جارفاً معه البنية الروائية التقليدية. ولا تخلو الرواية من بعض الغموض الناجم عن طبيعتها الغرائبية، وتبدو كأنها تتحدى القارئ نفسه حافزة إياه على إيجاد مفاتيحها.
يعود حسن مطلك إلى الضوء بعد ستّ عشرة سنة على رحيله المأسوي، والأمل أن تطبع أعماله غير المنشورة والمجهولة، وبينها ديوان شعر وقصص ومقالات كثيرة. فهذا الكاتب الشاب الذي ولد العام 1961 في قرية (إسديرة) في شمال العراق، كان فعلاً من المواهب الكبيرة، ولو قدّر له أن ينجو من «مشنقة» صدام لكان الآن من كبار الكتّاب العراقيين والعرب. لكن قدره العراقي المأسوي دفعه للوقوع ضحية من ضحايا نظام صدام حسين قبل أن يسقط هذا النظام سقطته الرهيبة. أما قدره ككاتب فجعله ينتمي دوماً إلى الأدب الجديد، أدب الكتّاب الشباب، لأنه أُعدم في مقتبل عمره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في جريدة (الحياة) بتاريخ 30/5/2006م.

قراءة - حميد العنكود



حسن مطلك والبديع في (دابادا)



حميد محمد العنكود


استخدم حسن مطلك البلاغة في روايته (دابادا) بأبرز علومها، ووظف المحسنات اللفظية بكثرة فجاد بها وكان بارعاً في هذا الفن الذي سنعرضه.. حيث تعتبر البلاغة من أهم العلوم اللغوية، وقد كانت السبيل المفضي إلى فهم القرآن وكلام العرب وأشعارهم. ومن أهم الأسس التي تقوم عليها البلاغة وفق ما استقرت علومها الثلاثة عليه (علم المعاني، علم البيان، علم البديع) ويعتبر حُسن الابتداء وحُسن التخلص وحُسن الانتهاء من المحسنات اللفظية التي يتضمنها علم البديع والذي هو مدار هذه القراءة.
ومن أهم ما قيل في علم البلاغة إشارة أبو هلال العسكري بقوله: "إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ، بعد المعرفة بالله جل ثناؤه، علم البلاغة ومعرفة الفصاحة الذي يعرف إعجاز كتاب الله (عز وجل) الناطق بالحق الهادي إلى سبيل الرشد. المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة التي رفعت أعلام الحق وأقامت منار الدين وأزالت شبه الكفر ببراهينها وحكت حجب الشك بيقينها. ولكي يصل الإنسان إلى أرقى المناصب وأعلى الرتب عليه أن يتقن العربية ولا يتم ذلك الإتقان إلا بمعرفة ألفاظها وتراكيبها ومعانيها وأساليبها، والبلاغة هي إحدى السبل التي توصل إلى هذه الغاية وتخدمها".
ومن أساليب الخوض في الدراسات البلاغية تمييز الكلام الحسن من الرديء والموازنة بين القصائد والخطب والرسائل.. فكان الغرض النقدي من بين الأهداف التي دفعت العرب إلى الخوض في الدراسات البلاغية. وكانت رواية الأدب بهذا الغرض لمعرفة الجيد الذي يروى والرديء الذي ينبغي أن يُطرح. وكما قلنا فإن حسن مطلك قد استخدم البلاغة في (دابادا) وخلد بيننا بهذه الرواية الطفلة التي ولدت كبيرة...


حسن مُطلك وحُسن الابتداء:
حُسن الابتداء أو كما يحلو لبعضهم أن يسميه (براعة المطلع) وهو أن يجعل الكلام رقيقاً، سهلاً، واضح المعاني، مستقلاً عما بعده، ومناسباً للمقام بحيث يجذب السامع إلى الإصغاء بكليته لكي فيؤول ما يقرع السمع وبه يعرف ما بعده. ابتدأ حسن مطلك روايته (دابادا) التي يصفها بأنها (صرخة في الفراغ) بمفردة العنوان والتي تؤلفها المقاطع الصوتية الثلاثة ((دا... با... دا.)) مقاطع ترددها ألام بحنان بغية إراحة طفلها حتى يخلد إلى النوم على إيقاع تنغيمها (دا.. با.. دا.). أما إذا أردنا أن نعتبر السطور الأولى هي البداية، فإن الكاتب قد بدأ بفصل الخريف الذي يمثل بدوره بداية للتجديد وفق ما توحي به هذه السطور؛ فالأشجار تضع أوراقها الميتة لتعلن البدء بحياة جديدة، أمر ينطوي ضمن خصائص الأحياء (… بحلول الخريف حيث تجاهد الأشجار للتخلص من أوراقها الميتة، قامت هاجر ثم اتجهت إلى لمطبخ المنفرد لكي توقد ما تبقى من أحطابها وتعد أصباغا من عروق الشوك لقربة اللبن. قامت هاجر. يقول شاهين وهي أمه.)ص5 دابادا.


حسن مطلك وحُسن التخلُّص:
أو حسن الخروج كما سماه ابن المعتز، وهو من المحسنات اللفظية أو محسنات الكلام، أي حسن الخروج من معنى إلى معنى، ويكمن في أن يستطرد الشاعر المتمكن أو الأديب من معنى إلى معنى آخر وفق انتقال سلس، أي بتخلص سهل يختلسه اختلاساً رشيقاً وثيق المعنى. بحيث لا يشعر السامع أو القارئ بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع الثاني لشدة الممازجة والالتئام والانسجام حتى وكأنهما افرغاً من قالب واحد. وهنا نضرب مثلاً على هذا الاصطلاح ببيت من شعر زهير بن أبي سلمى:
إن النخيل ملوم حيث كان............ولكن الجواد على علاته هرم
وقد استخدم حسن مطلك هذا الفن في روايته في مواطن كثيرة، نذكر منها نماذجاً ونترك البقية لتتبع القارئ واستمتاعه بهذا اللون البلاغي. في (دابادا) نجد صوراً تنقلنا من الضحك إلى البكاء وبالعكس، فسرعان ما تضحك وتنسى قسوة البكاء، تدمع وتنسى حلاوة الضحك. كما نجده ينتقل بنا مكانياً من جنوب شرق أسيا من العراق من(سديرة) مولد الكاتب إلى اليابان (ثم ينظر إليها بإنكار، ثم إلى سحب العصافير ـ في صحاري أسيا ـ تلك الهابطة نحو أشجار جزر النهر: امرأة أمام النحاس)ص 68. و(كانت هيروشيما معهما رغم الضوضاء ويبرز ارتفاع صغير فلم يتمكن من تفاديه فيضطر لصعوده ثم.."آه .. هل أنت بخير يا بُني؟ "بخير يا أبي". "لا أظننا نستطيع إخراج السيارة من هذه الحفرة")ص 133. و(بمحاذاة خط الحصى المعلَّم بدماء الطرائد توقف لكي يتألم من ثقل الحزام وهو بحاجة ماسة إلى الإغماء. يستدير نحو القرية فيبصر بشرا ملونين بألوان الحصاد والنار والباذنجان، طائرين مع انحدار التل بارتفاع إصبع، وهم يرقصون بين الصفصاف في أحد الأيام العاصفة إلى جانب غسيل البياض والحيوانات الحرة". و"في الرابعة عصراً، ساعدتهم ظلال أكفهم على رؤية شخص بحجم الإصبع، مقسوما بخط أسود، إذ تنحني التلال البعيدة ابتداء من كتفيه على شكل نخلة ترابية. تقول هاجر: إنه يسقط. وتقول زهور: إنه وضع الكمين.. عودوا إلى البيت.. نجحنا.. حقيقة؛ إنه يسقط بعدما تلمس الإبزيم هاجر التي تعرفه عندما يتلمس الإبزيم وينهار انزلاق الحزام) الذي يعتبر مشهداً مروعاً، نستذكر ما قاله الطيار الأمريكي الذي أحال هيروشيما رماداً: "كنت أحلق فوق مدينة عامرة وجميلة وبعد أن ضغطت على الزر ما هي إلا لحظات حتى رأيت أمواجاً من الدخان تكاد أن تصل إلى طائرتي وهي في عنان السماء. لم أصدق ما رأت عيناي لولا أمواج الدخان التي تشبه أمواج البحر الهائج بلونها الرمادي الممقوت تصعد إلي لتلتهمني فوليت هارباً ولم لتفت ورائي لان ما صار تحتي هو جهنم ثانية". بعد هذا المشهد عاد إلى المزارع والحقول الخضراء حيث تعشعش الأرانب وطيور الشقراق ذات الريش الملون. أزرق أخضر. أصفر. أحمر. وليس هناك لون رمادي ممقوت. يقول حسن مطلك:"رفوف طيور الشقراق ومهاوي القبرات بين الأشواك، وشيش الغروب في المنخفض؛ سرة أنثى كبيرة ممدة منصّفة بالنهر، والقمم أثداء ترضع الشمس.)ص 39.
فشتان ما بين هذا وذاك ولكن عندما تقرأ الرواية فتنتقل من هذه العذوبة في (دابادا) تدرك أكثر أهمية فن الانتقال الذي لا تكاد تميزه.. وهذه الجمالية في (دابادا) تعود إلى روعة البديع في البلاغة العربية دون أن ننكر دور الفنون المبتكرة في بناء الأسلوب الفني للأدب العربي ذلك لأن هذه الفنون أصيلة في هذا الأدب وجرت في أوصاله منذ أقدم عصوره وفي شتى موضوعاته وأغراضه ولم تكن مجرد بدعة شكلية طارئة.
إن الكاتب يأخذك معه وكأنك تجلس إلى جنبه في عربة القطار إلى مكان بعيد (سُديرة) تلك القرية الجميلة الراقدة على الضفة اليسرى لنهر دجلة مقابل عاصمة الآشوريين (آشور). سديرة التي أنجبت (دابادا) سفيرة الرواية العراقية إلى المشرق والمغرب. (سديرة) حيث الأرانب المبقعة، حيث حر الصيف اللاهب ويعدو بك القطار إلى حيث ينتهي في زحمة العاصمة وصخبها المعتاد (حَب.. سكائر.. عِلك..)، إنه يجعلك تعيش بين عالمين دون أن تبرح مكانك في عربة القطار، عالم هادئ في القرية وعالم صخب وضوضاء في المدينة (العاصمة). "حدث ذلك بين عربتين حين جاءته الألوان مثل ومضات البرق. وهزته العربة في وضع الابتسام. وأغلق باب القطار في محاولة للنوم، غير أنه تذكر مسدسه وهو ينزل ماضياً بها إلى القنطرة، وهي تقيس اتساع ابتسامتها في زجاج نظارته الأسود. شعر بحاجة إلى الأزقة، وكلها معروفة من خلال نهاياتها.)ص 140. ويصف (ثمة أجساد لائذة بظل الأكشاك. كان باعة السجائر خلف صناديقهم: روثمان يا ولد. سومر يا ولد. بغداد يا ولد. وصيحات أخرى: سندويج، عصير...الخ .)ص 143. (باب تلك السيارة الشغولة في براري الأرانب البرية آنذاك، فيطلع الأب من الحفرة متحدياً العيون الفسفورية، إلا أن الابن لم يكن يملك تفسيراً لجنون الكبار، ولن يصل إلى التفسير تقريباً.) ص 144.
نتأمل ما يتعلق بـ "حلاب" وهو إحدى الشخصيات المهمة في الرواية.. هذا الرجل الكهل الذي كان ولوعاً بالسكاكين وأصناف الآلات الحادة، وعلى ذكر السكاكين يقود الكاتب قارئه إلى ولادة "حلاب" حيث يرجع إلى خمسين سنة إلى الوراء، عندما قامت إحدى العجائز في القرية بفتح قبتي (عينيه) "حلاب" بواسطة سكين البصل المحمى فتحولتا إلى مجرد جرحين قادرين على نوع من الإبصار يتشارك فيه القارئ. هذا السكين لعب دوراً مهماً في حياة "حلاب"، فبفضله رأى النور وبواسطته أصبح يحصل على لقمة عيشة.. (وهو ولوع بالسكاكين وأصناف الآلات الحادة، كشفرات الحلاقة والمقصات، لأنها ذوات فضل كبير في رؤيته للنور، بعد تلك الصرخة التي أسمعت التائهين. حيث قامت إحدى العجائز بفتح قبتيه بواسطة سكين البصل المحمى، فتحولتا إلى مجرد جرحين قادرين على بعض الإبصار. وقد أثرت تلك الرؤية الأولى على فهمه للأشياء فيما بعد. وكتب عنه صحفي زار القرية، افتتاحية ضخمة لإحدى صحف الغرب)ص 151.
هناك شخصية أخرى هي (عالية) والتي يستحضر حديثها أو الحديث عنها الشهوة الغريزية (بصره يدور حول عالية، ولا يسقط عليها)ص63. (كانت عالية تحكي. يدري أنها تحكي، فلا يسمع سوى الكلمات المرفقة بلكزة الخاصرة. ولماذا تغيب يا بني؟ فأنت ترى أن عواداً يحتاج إلى صديق لكي يهدأ. وتقول إننا بحاجة إليك. يا وديعاً. انظري إليه يا زهرة، أليس وديعا ككبش، نحيف بفعل الفيء… ولا يهم. ويدري أنها تحكي. تقول: لو انك تزوجت.. لماذا لا تتزوج؟ ضعي بعض القرفة في الشاي. ويجيبها بآه طويلة. لماذا لا تأتي وتسلي عمتك..؟. غير أنه يبتعد وعيناه معلقتان في جروح اللبوة، فيقول: الشاي. وتقول: حالاً، الشاي يا زهرة… يوه هل رجعت إلى ورود المطاط؟.)ص 65، فينقلك الكاتب إلى المقبرة حيث دفن الأحبة، الكآبة، الحزن، أوامر العبادة والالتزام بصلاة الجمعة (ينحنون بحركة واحدة كصلاة إلى الأسفل فتنبثق عبارة واضحة بعدما يملأون الهواء بأماكنهم "ذكرى المعذب صابر يوم الأربعاء بعد المطر")ص 31… ينقلك إلى هذه الأجواء بعد أن كان القارئ يوشك أن يمد يده إلى "عالية" لكي يحك لها قرصتها فأبعده عنها بعد أن تراوده لتدليك قرصتها ويأخذه إلى المقبرة و موضوعة الموت. وهكذا فما دام في المقبرة يعود به عبر السرد إلى موت عبد المجيد قبل ثلاث سنوات ويشرع يحدثه عن أعماله وكأنه يعيش معه.. إنه حسن مطلك.. تخلّص، وأجاد حُسن التخلّص.


حسن مطلك وحُسن الانتهاء:
أو حُسن الخاتمة وهو أن يكون آخر الكلام الذي يقف عليه الخطيب أو المسترسل أو الشاعر مستعذباً حسناً واصفه ما أذن بانتهاء الكلام حيث لا يبقى للنفس تشوقا إلى ما بعده.. أن هذا المحسّن اللفظي هو آخر ما يقرع السمع ويرسم في النفس وربما حُفظ لقرب العهد. وحسن مطلك أجاد فيما أنهى به روايته لفظاً ومعنى غزير الدلالات: ضحك. ضحك. ضحك. (وتستيقظ القرية ضاحكة ذات صباح غريب. تضحك البيوت والدروب والخبازات، والذين سحبوا بقراتهم من النوم بعدما قضت الليل تحرك ذيولها لطرد البعوض. كل شيء يضحك. حتى الكلاب ونباتات الشوك، والأعشاب الميتة في الروث كلحية مراهق، والرجل الغريب الذي نام خجلاً بفضل تكرار الكرم، وسأل: ما بكم؟ ما الذي حصل؟ ما الذي يضحككم؟ ثم فرك كفه استعداداً للفطور. لكنهم غارقون في الضحك. فهز الطفلة التي تريد أن تسكت غير أنها كانت تنظر إلى أسنان أمها المصفرة بالخباز والنيكوتين. ما الذي حصل أيتها الصغيرة؟ لماذا يضحكون؟ وهكذا… أهمل رأسه ليكمل النشيد الناقص. ضحك. ضحك. ضحك….) ص 221 الصفحة الأخيرة في رواية (دابادا).. أمر مبهج يحيل دلالات أعمق. لقد كان المؤلف، رحمه الله، مثل شخوصه وأسلوبه، يعمل بحواسه الست وليس الخمسة، وكانت الحاسة المتنبئة السادسة تعمل عنده برهافة ونشاط. فمن حدسه، مثلاً، أنه عندما كان يغازل حبيبته في لحظة عشق أزلي أخبرها بأنه سوف يموت أو يتعرض لازمة وهو في الثلاثين من عمره وهذا ما حدث فعلاً للكاتب الذي قضى نحبه في 18 تموز 1990 حيث استشهد على أعواد المشانق.. لأنه يرفض البكاء ويحب الضحك.. ولو كان يعلم حسن مطلك بحالنا الراهن لرفض الضحك وأحب البكاء، وأنهى روايته به (بكاء، بكاء، بكاء).. لك الرحمة أيها المبدع الكبير حسن مطلك. وآه.. كم نحن بحاجة للمزيد من أمثالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حميد محمد العنكود: كاتب وأكاديمي عراقي، من أبناء قرية (حسن مطلك).