04‏/10‏/2008

ذاكرة - محمد عزيز



رحلة مع عبد الجرو

أحد رفاق حسن مطلك في سجنه


محمد عزيز


ولد "عبد محمد جرو" سنة (1950) في قرية "سديرة وسطى الأولى" وأكمل فيها دراسته الابتدائية عام (1963) ثم واصل تعليمه لمرحلتي المتوسطة والثانوية في مدرسة "الشرقاط" حيث أنهاهما عام (1968). بعدها التحق بكلية الآداب/قسم الآثار/جامعة الموصل، وأثناء دراسته الجامعية دخل السجن لانتمائه إلى (حركة القوميين العرب) بزعامة عبد الإله النصراوي سنة (1972). أمضى عدة أشهر داخل السجن. وبعدها لم ينتم إلى أي تنظيم أو حزب سياسي، بحكم أن الطريق السياسي والعمل داخل التنظيم الحزبي هو طريق شائك تحفه المخاطر في العراق. بعدها التحق بالخدمة العسكرية وقضى أكثر من (13 شهراً) برتبة جندي، صنف "مشاة"، ثم دخل إلى الميدان المدني، ليعمل موظفاً في (المديرية العامة للآثار) في بغداد، وواصل العمل في مجال الآثار بتميز، منضماً إلى العديد من هيئات "التنقيب عن الآثار"، شملت (حمرين وآشور ومن ثم أصبح مسؤولاً عن أثار الحضر، على مدى عام)، بعدها عاد إلى مركز أشور الواقعة في مدينة الشرقاط سنة (1979)، ثم انتقل إلى (حديثة) التي قضى فيها أياماً طويلة من العمل والتنقيب، ثم تم إلحاقه ثانية بالخدمة العسكرية، أثناء الحرب "العراقية ـ الإيرانية" ليقضي أكثر من (5 سنوات) في خدمة الاحتياط آنذاك.. وبعدما تسرح من الجيش وشغل منصب "مدير دائرة أثار محافظة صلاح الدين" منذ عام (1985) وحتى عام (1990)، لتبدأ المعاناة ويبدأ الصراع الحقيقي عند مواجهة السلطة، مواجهة أعنف طغمة عرفها التاريخ، بدأت "رحلة عبد الجرو" بعيداً عن أبنائه (منهل ومهند وأطياف)، حيث تغير كل شيء في قاموس هذا الإنسان الذي عشق مهنته وانصهر قلبه في "التنقيب" و"الحفريات" والبحث عن آثار العراق وتدوين تاريخ حضارة تمتد إلى أكثر من (4000 سنة)، ففي يوم "السادس من كانون الثاني" عام(1990) تم إلقاء القبض عليه، ليعود إلى السجن الذي فارقه لعدة أعوام، وذلك لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم في العراق والقضاء على راس السلطة. وكانت الفكرة قد ولدت منذ عام (1985) حين جمع "حسين كامل" مئات من الضباط بعد احتلال مدينة (الفاو) من قبل الجيش الإيراني، فشتم الضباط وكاد أن يصدر أمراً بإحراقهم وهم أحياء بعد أن يرش عليهم النفط، فولد هذا الأمر اندفاعاً للضباط الذين تحمسوا لإنقاذ العراق من الخراب على يد هؤلاء… وحين قال الأديب "حسن مطلك" بأنه "لا يمكننا أن نكتب حرفاً واحداً في ظل هذا النظام"، وأن النقيب "صالح جاسم محمد جرو" والأديب "حسن مطلك روضان" كانا منظري ومهندسي لهذه الحركة بزعامة النقيب "سطم غنام مجذاب الجبوري" ومجموعة من أبطال الحركة، منهم النقيب "غانم عبد طلب"، والمعاون الطبي "أحمد غربي حسن" والنقيب" مضحي" و"النقيب جمال شعلان". تم طرح هذه الفكرة وتباحثوا في دار "عبد الجرو" في تكريت آنذاك، فقد اخبروه أن هناك أكثر من (30 ضابط ركن)" وحوالي (300 ضابط) من الضباط الأقل رتبة مؤيدين ويعلمون بالعملية، واصفين له أن قوات "الحرس الجمهوري" مهيأة تماماً لتوجيه ضرباتها بالانقلاب العسكري في يوم استعراض الجيش العراقي، ولينهوا معاناة البلاد من حكم الطاغية وأتباعه، بحيث أن (آواة الكردي) الذي كان صديقاً لحسن مطلك وهو مثقف ويتكلم أربع لغات (الإنكليزية والعربية والكردية والفارسية) كان ينوي الهرب إلى خارج البلاد من النظام، فأخبره حسن مطلك بأن نهاية النظام قد حلت وباتت شبه محسومة، فكان رأي عبد الجرو في العملية هو التأييد ومساندتهم، "لكن الأمر ليس بالسهولة التي تظنونها لأن "صدام" قد جند من بين كل اثنين من العراقيين ثالثاً يعمل للتجسس لصالحه، وسيتم كشفكم هذا إن لم تكونوا مكشوفين قبل تنفيذ العملية التي تحمستم لها وأصررتم على أن لغة الرصاص هي الحل الوحيد". وفعلاً هذا ما حدث، فشاءت الأقدار أن تكون أحلامهم كابوساً يسلب منهم رحيق العمر، وينزع منهم ما تبقى من أيامهم دون رحمة أو عطف. كانت اللحظات مرة وقاسية وصعبة حين سيقت (كوكبة من الشباب) إلى سجون (الحارثية) باعتقالهم جميعاً لتبدأ الرحلة القاسية مع التحقيق، الذي أرهق نفوسهم وأبدانهم جراء التعذيب المستمر وبشتى أنواعه (الجسدي ـ النفسي) وكل على انفراد، فمن الأسئلة التي وجهت إلى "عبد الجرو" أثناء التحقيق عن رأيه بكتاب "ليونس السبعاوي" والذي يتحدث عن عشائر العراق وبضمنها عشيرة "الجبور" والأسئلة الأخرى عن تعداد سكان عشيرة "الجبور" في العراق لأنهم يظنون أن هذا "الانقلاب" على النظام هو ليتسلم أبناء "عشيرة الجبور" الحكم في العراق.. "بعدها مضت الأيام ببطء على تلك القلوب الطيبة، المؤمنة بزوال النظام السابق، لأنه يقود العراق إلى الهاوية. مرت الأيام على هذا الحال لنعرف من خلال شخص كان يدعى "أبو الياس" من منطقة "المدينة" في ناحية "الدجيل" قبل المحاكمة بستة أيام بأن سبعة عشر منا سيحكم عليهم بالإعدام لتجاوزهم ما سمي بـ"الخط الأحمر"، كما أخبرنا "أبو الياس"، وأن محاكمتنا ستكون في يوم (18/6/1990)، جاء هذا اليوم، ليقدموننا إلى المحكمة الصورية، التي تخلو من كل شيء إلا من عواد البندر "رئيس محكمة الثورة" وضابط يمثل جهة (الدفاع)!! عن المتهمين، والبقية من الحرس الذين وجهوا فوهات بنادقهم صوب المتهمين بالتآمر على النظام. اقتصرت المحاكمة على توجيه نفس الأسئلة لكل المعتقلين: "ما اسمك؟ بريء أم مذنب؟ اصمت". بعدها تلا نص المحكمة علينا "حكمت المحكمة بالإعدام شنقاً حتى الموت إلى حد تسلسل (سبعة عشر)، ( والعشرة) الباقين بالسجن مدى الحياة، فكانت أسماء الشهداء على النحو التالي: (سطم غانم مجذاب الجبوري) نقيب في الجيش، (جمال شعلان الجبوري) نقيب في الجيش العراقي، (صالح جاسم محمد جرو الجبوري) نقيب في الجيش، (حسن مطلك روضان) أديب ويعمل مدرساً في مدرسة إعدادية، (أحمد غربي حسن العبيدي) معاون طبي، صحة مجتمع، المركز الصحي في الزاب، (حسن نايف الجبوري) موظف في جهاز الأمن الخاص، (خيرالله حميدي الجبوري) ضابط برتبة ملازم أول قوات خاصة، (مضحي الجبوري) نقيب في الجيش، (محمود عبد الله محجوب) نقيب في الجيش، (ناصر محمود العبيدي)، (فندي طلب سلامة)، (جاسم اللهيبي)، (حسين عسكر محمد الجبوري) منتسب لجهاز الأمن الخاص، (هيجل الدورة)، (صبحي الجبوري) وآخرون، وأما الذين حكم عليهم بالسجن المؤبد (عبد محمد جرو الجبوري)، (غانم عبد طلب الجبوري) نقيب في الجيش، (محمد صالح خلف الجبوري)، (محمود جنداري الجميلي) أديب وموظف، (محمود مظهور الجبوري) ضابط في الجيش، (حميدي محمد سعيد الجبوري) موظف في جهاز الأمن الخاص، (إبراهيم حسين جاسم)، (عواد محمد أمين)، (جمال محمود البدراني). وهكذا قد حل الوداع الأخير وحكم الظالمون على إشراق النور وقتل وتمزيق الورود لتبقى الفراشات من دون رحيق، جلسوا "ثوار حركة السادس من كانون"، جلستهم الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام بهم، وارتجل "عبد محمد جرو" عمهم وأكبرهم سناً الذي طالما تمت استشارته، قائلاً: إنكم أبطال ومعظمكم عسكريين وضباط محنكين وخضتم المعارك مراراً بسوح الوغى وتجرعتم الموت مراراً، فكما قال الشاعر "أما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيض العدا"، فكلنا ميتون مادام هذا النظام قائماً وسنموت بكتاب من الله، لقد رفعتم رؤوس أهلكم وأعمامكم ومواطنيكم والأحرار في كل مكان وأنتم خصم شريف ومنازل حر، وبلغتم ذروة المجد وستكتب الأجيال ويكتب التاريخ عنكم وعن بطولاتكم. وتم الوداع الذين اختلطت فيه الدموع بالقبل وحل التباعد بين الأحبة. تم إعدام السبعة عشر في يوم (18/7/1990) الساعة السابعة مساء، حيث سمع "عبد الجرو" ومن أعلى بناية لقسم الأحكام الطويلة "الخاص بالسياسيين" صوت إطلاق الرصاص الذي تم به إعدام الشباب الضباط، أما المدنين فقد تم شنقهم "بالحبل" حتى الموت. حينها ذرفت العيون دمعاً واعتصر القلب وتمزق الكبد واصفرت الحياة وغابت لحظة الفرح، وحل السكون محل الصخب السيمفوني، ورحل أبنائي الذين أحببتهم، ولم يبق سوى الذكريات وصدى كلماتهم.." بعدها أمضى "عبد محمد جرو" ما بين سجني (أبي غريب) و(بادوش) عامين من الألم والحسرة داخل جدران السجون، وتمت مصادرة أمواله وبيته وأرضه في "تكريت". وقد كتب العديد من المقالات السياسية والأدبية داخل السجن، كما ألف كتابه (حساب ابن جرو) وكتابه الآثاري (الجبار) إضافة إلى دراسات أخرى في اختصاصه (علوم الآثار) منها: "رقصات ساحرة على ضوء القمر"، "طقوس الزواج المقدس في وادي الرافدين".. وانتهى مؤخراً من كتابه (كركوك القضية والحل).
تم الإفراج عنه مساء (21/12/1991)، ليعود متجردا من قيده من سجن "أبي غريب".. هكذا رمت الأيام والسنين على "عبد الجرو" ليعيش ما تبقى من عمر تقاسمته العناءات والأحزان والمواجع في بيت متواضع ضمه هو وزوجته الأخيرة وابنتها "عفاف" في قرية (سديرة). وليمسي مشرفاً على (منتدى سديرة الثقافي) يحتضن المثقفين من الشباب ويوجههم، حيث جعل من بيته ملتقى لهم وللأدباء والمثقفين...

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

لا نقول الا ما يرضي الله انا لله و انا اليه راجعون