24‏/03‏/2012

قصة/ موت أحمر / حسن مطلك

قصة
مــوت أحــمَـر..
حسن مطلك
بدايـة أولى:
   غريب. لديه فكرة محددة في ظلمة جوفاء. لأول مرة يخرج للصيد في حياته. ظل يمشي بمحاذاة نهر (الزاب) وبالاتجاه المعاكس لحركة الجريان. يمشي بدون أسئلة إلا ما يتعلق بالكيفية التي يجب أن يملأ بها وقت الفراغ. واعتقد أنه قد اهتدى أخيراً إلى أكثر الألعاب إغراءً لقتل الوقت وذلك بمطاردة الطيور المائية، فليس لديه ما يفعله أصلاً.. إنها لعبة مطابقة لمتابعة حلم يتيبَّس بمرور الوقت؛ حلم قديم، حلمه في أن يصير مغنياً.. ووجد أن الفضاءات الخالية تقتل فيه الرغبة للغناء، بدلاً عن ذلك يشعر بأن ليس هناك أجمل من صوته حين يوجه غناءه إلى (آخر)، غير أنه في اللحظة التي يحاول فيها إطلاق حنجرته، يُضيّع الكلمات، وأحياناً، يُضيّع اللحن، بالإضافة إلى ذلك فهو يكتب أغانيه بنفسه معتمداً على لحظات إنسانية حرجة، يرى أن مثل هذه اللحظات لم يتحدث عنها أحد، لأنها، ببساطة، لحظات يصعب وصفها، مثل: امرأة تشتهي من الرجل ربطة عنقه، أو: رجل يخطئ في لفظ حروف اسمه، أو: إن أحداً لم يصف، أبداً، نوع الانتظار الذي تقضيه ربة البيت حتى ينضج الطعام، أو: رجل يمتلك رغبة هائلة في أن يدوس على الكتاكيت الصغيرة بعد خروجها من البيض بيوم واحد، وتزداد الرغبة كلما كان الكتكوت رقيقاً. وطبعاً هناك أسرار أخرى يزعم أن الناس لم تكتشفها بعد لحد الآن، وهذه موضوعات أغانيه.. قبل الحوار مع صياد السمك الذي جاء ليتقابل مع أخيه الأخرس في قطع النهر بشبكة، حيث اقترب الصياد للبحث عن جوربه وقال:
ـ هل أنت صياد؟.
ـ لأول مرة.. وأنت؟.
ـ أصيد السمك.
ـ الدغل مخيف لم يكن هكذا.
ـ كانت الناس تقطعه للتدفئة، أما الآن فقد انتشرت المدافئ.. بماذا تفكر؟.
ـ أفكر برجل أهانني هنا، منذ عشرين سنة. في هذا المكان أو غيره لا أدري.. ولكنه مكان مشابه.
ـ ما نوع الإهانة؟.
ـ لا أتذكر.. كنا نعمل كحطابين، وأخذ حذائي المطاطي واشترى به حلاوة وأطعمنا.
ـ ها ها ها ها ها ها..
ـ لماذا تضحك؟.
ـ لا أرى أنها إهانة.. إنها نكتة.
ـ بل إهانة، أحملها في داخلي منذ سنوات.. عزمت على قتله يوم ذاك ولكنه فرّ مني في الدغل ولم أره بعد ذلك.

بدايـة ثانية:
   ركز البندقية المستعارة في الأرض، ينظر إلى القطا الهابط على حصى الضفة الأخرى من نهر (الزاب) في مكان مُضبَّب لانهائي، والأرض مفتوحة وميتة وراء النهر مباشرة. يلمح قفزة عقرب الساعة في يده المنصوبة أمامه على أنبوب البندقية، فقد اعتاد الحساب الآلي للوقت، ثم أدرك بالتفاتة سريعة قطعتها رفرفة جورب منشور على أغصان شجيرة شوكية، أنه اجتاز مسافات شاسعة وقد نسي المهمة التي جاء من أجلها أصلاً، وتذكر أن الطيور كانت تفر من بين أقدامه دون أن يحاول توجيه البندقية، أو أن يقوم بحركة ما يمكنها أن تصلح كحديث مفاخّرَة أمام الأصحاب عن مغامرات الصيد ولذة الأخطار.
   يستخرج بعض القوانين: البندقية تحولت إلى وتد بين يديه. امرأة تشتهي من الرجل ربطة عنقه. رجل يخطئ كلما حاول أن يلفظ اسمه الشخصي بشكل واضح، خصوصاً عندما يقدم نفسه إلى الغرباء بحضور أشخاص يعرفونه منذ زمن بعيد. إن أحداً لم يصف أبداً نوع الانتظار الذي تقضيه ربة البيت حتى ينضج الطعام. رجل يملك رغبة هائلة أن يدوس على الكتاكيت الصفراء الرقيقة. وهنا: جورب منشور بانتظار الجفاف، جورب رجالي يختلط لونه مع تبدل لون الفضاء واضمحلال الضوء. يلتفت بسرعة إلى جهة القطا فلا يرى شيئاً سوى المكان المدهون بلون غروب الشمس النحاسي، ومساحة الدغل تزداد وتتقدم إليه لتحصره على الضفة.
   خلفه كان الدغل يخشخش بفعل حيوانات عابثة، وسمع أكثر من مرة شمشمة خنزير قرب ظهره، أو صوت انسحاب أفعى، ولذلك فقد ظل جامداً، يفكر في أن يستعمل النهر للنجاة حيث سيرمي جسده في اللحظة الحرجة، وكان بإمكانه أن ينهض ويواصل المسير، إلا أن شعوراً معيناً ضغطه وألصقه بالأرض، وقد بدا له المكان مألوفاً بعض الشيء. مزيج من الحاجة إلى الهرب والرغبة بالبقاء.. كأنه يجلس على نابض. وأخيراً، عادت إليه وعكته الجنونية، وشعر أن خزي تلك الإهانة مازال يلاحقه رغم أنه قام بأعمال كثيرة لملء وقت الفراغ، لأجل النسيان، نسيان ما حصل له. كان يعمل، هنا في هذا المكان، أو بالقرب منه، على الأغلب إنه مكان مشابه، وقد حدث ذلك منذ عشرين سنة، يعمل مع رجل حطاب، وبأجر بسيط، وكان ذلك الرجل يحب المزاح بشكل جنوني. وفِراقهما قد ابتدأ بإهانة وجهها إليه الرجل المازح. ظل يحمل هذه الإهانة في داخله.. فلماذا لم يرد عليها فوراً؟!.. لماذا أُصيب بالخرس؟! فقد حدث أن غادر المكان يكتم غضبه، تتبعه ضحكة الرجل الذي أهانه.. لماذا لم يرد عليه إذاً؟!. وظل يحمل هذه الإهانة في داخله ويشعر بأنه جبان.
   جفل على صوت وقع أقدام وانتبه متهيباً، ثم تهيأ ليلقي بنفسه إلى الماء.. ولكن الوقت كان غير كاف للخلاص فقد وقف الظل فوقه وعرف أنه ظل إنسان. حياه الرجل.. قائلاً:
ـ إنني أبحث عن جوربي، لقد نشتره هنا ليجف.
   فقام صاحبنا فوراً، وتناول الجورب وأعطاه للرجل، فسأله الرجل:
ـ هل أنت صياد؟.
ـ لأول مرة أخرج للصيد، أقصد أول مرة في حياتي.. وأنت؟.
ـ أصيد السمك، أنشر الشِباك يومياً في الليل وأسحبها في الصباح.
ـ الدغل مخيف.. لم يكن هكذا قبل عشرين سنة.
ـ إيــه، لقد اتسع، فلم تعد الناس تتدفأ بالأحطاب.
   وساد صمت. كان الصياد قد جلس على الأرض، وهو يحبس نَفَسه ثم يطلقه كأنه ينقل حملاً ثقيلاً، ثم قال:
ـ ربما تتساءل عن سبب ارتداء صياد سمك لجورب، وجورب واحد!، وفي الصيف!..
ـ حقاً، هذا السؤال لم يخطر على ذهني، لأنني أفكر بإهانة قديمة وبـ..
ـ انظر.
   أنار صياد السمك عود ثقاب قرب ساقه، فكانت رفيعة، وكأن كلباً قد نهش لحمها ولم يبق سوى جلد يحيط بالعظم، أسفل الساق.
ـ آه.. ما هذا؟!.
   وضحك الرجل السمّاك قائلاً:
ـ ألم تسمع؛ يموت الديك وعينه على المزبلة.. مفرقع، أصبتُ بمفرقع وكففت اليوم عن استخدام المفرقعات، الشبكة أحسن.. هل قلت أنك تفكر بـ..
ـ أفكر برجل أهانني في هذا المكان قبل عشرين سنة.
ـ أهانك؟.. ما نوع الإهانة؟.
ـ إهانة لا تُذكر. كنا نعمل هنا، أقصد أنني كنت أعمل حطاباً لديه، وكان يحب المزاح، وفي إحدى المرات، طبعاً كان هو يحضر لنا صُرّة من الطعام ويخفيها في الدغل حتى يحين وقت الغداء، وفي مرة غاب فترة طويلة، قال إنه سيحضر الطعام، وفعلاً عاد بالحلاوة والخبز،.. وبعد أن أنهينا العمل، وقررنا الذهاب، بحثت عن حذائي المطاطي، فقد كنت أنتزعه أحياناً مخافة أن يتمزق بسرعة، وظل الرجل يضحك، ثم قال لي: لقد تغديت به، لقد أكلته يا صاحبي.. اشتريت به حلاوة.. فراودتني رغبة، آنذاك، أن أقتله بالفأس ولكنني جبنتُ، وحملت الإهانة وغادرت.. حملتها طوال حياتي.
ـ ها ها ها ها..
   وظل صياد السمك يضحك..
ـ لماذا تضحك؟.
ـ أهذه إهانة!؟.. أتحسبها إهانة!؟.
  ثم اختفى بين الأدغال، ولا يزال يسمع ضحكته.
  وبعد ذلك لمَحَ صاحبنا ضوء فانوس في الضفة الأخرى، وأراد العبور، بعدما اختفى السمّاك. وظل ينادي العبّار.. ينادي وينادي.. ولكن العبّار كان مشغولاً، لم يسمعه، فمد البندقية باتجاه ضوء الفانوس وضغط على الزناد، فتأرجح الضوء ثم غطس في الماء وانطفأ. وسادت الدغل فترة سكون، وقد سمع صدى صوت الطلّقَة يتردد في المكان.. وجاء صياد السمك راكضاً:
ـ لقد قتلته.. ماذا فعلت؟!.. الويل لك..
ـ لم يرد على ندائي.
ـ وكيف يرد؟!.. إنه أخرس.
ـ أخرس!!.

بدايـة ثالثة:
   لو يعرف أن البكاء يريحه، إذاً، لبكى من ألم قدميه وقد استخدمهما لأكثر من ثلاث ساعات في طريق مُدغِل مُحفَّر، وباتجاه معاكس لجريان نهر (الزاب)، على الشاطئ، وقد أعطاه التعب اعتقاداً بأنه سيصل المصب، غير أن الضوء الأحمر هبط على المياه، والمسافة المفتوحة وراء النهر، والدغل خلفه.
   البندقية وتد بين يديه لأنه لم يستعمل بندقية في حياته، ورَفّات طيور الغروب مغرية. أدرك بالتفاتة سريعة، وهو يتكئ على أنبوب البندقية، أنه يجتاز مسافات هائلة، انقطعت التفاتته برفرفة جورب منشور على أغصان شجيرة شوكية، وتذكر أن الطيور كانت تفر من بين أقدامه دون أن يمتلك ردّ الفعل السريع مثل الصيادين، ولهذا السبب فإنه يخطئ كلما حاول أن يلفظ اسمه الشخصي بشكل واضح حين يقدم نفسه للغرباء بحضور أشخاص يعرفونه، لأن اسمه مجرد كلمة، لأنه هو، بمجموع تجاربه يمكن أن يوصف بكلمة واحدة، ولأنه لا يمكنه أن يتحدث عن نفسه أكثر من دقيقة واحدة، ليس لأنه لا يعرف كيف يتحدث، بل لأنه لا يعرف عن أي شيء يتحدث. وهنا فإن الشيء الوحيد الذي سوف يتحدث عنه هو الانتظار: إن أحداً لم يصف أبداً نوع الانتظار الذي تقضيه ربة البيت حتى ينضج الطعام، هذا النوع من الانتظار يليق به. الصياد المزيَّف الذي ينتظر طائراً يتبرع عن بقية الطيور ليقف على بعد متر واحد من فوهة البندقية، يقف بلا حركة، وعند ذاك يستطيع أن يُطلِق، وأن يحمل بحزامه طائراً قتيلاً يرميه أمام أصحابه، وأن يحكي لهم كيف تمكن من رميه وهو محلق بطيران متعرج..
   مرة أخرى: جورب منشور بانتظار الجفاف، جورب رجالي يختلط لونه مع تبدل لون الفضاء واضمحلال الضوء. يلتفت بسرعة. يتوقع أن يرى طائراً يحلق أمامه، فلا يرى سوى المكان الشاسع المدهون بلون الغروب الأحمر، ومسافة الدغل تزداد وتتقدم إليه لتحصره على الضفة، ويمتلئ المكان بخشخشة حيوانات عابثة، يسمع، أكثر من مرة، خشخشة خنزير بري خلف ظهره، أو صوت انسحاب ثعبان، لذا فقد ظل جامداً، تدور عيناه في غرفتيهما ببطء حذِر. يفكر أن يرمي نفسه في الماء. يفكر أن يواصل المسير.. ولكن إلى أين؟. يفكر أنه تورَّط. ولكنه فضل أن يتحمل الخطر على أن يعود بلا صيد فيكون سخرية لأصحابه، وينسى أن له اسم.
   انتبه على وقع أقدام تقترب منه، وقبل أن يوجه البندقية بشكل آلي، كما يفعل الصيادون، كان شبح رجل يقف بالقرب منه ويقول:" إنني أبحث عن جوربي.. نشرته هنا ليجف، هل أنت صياد؟". فقام عديم الاسم وناول الرجل جوربه: " نعم.. أقصد؛ لا.. لأول مرة أخرج للصيد.. وأنت؟". فقال الرجل: " أصيد السمك.. هل سمعت بصيد السمك؟.. ها ها ها.. أنشرُ الشِباك في الغروب وأسحبها في الصباح فأجد فيها سمَكاً.. أليس هذا عجيباً؟.. هئ هاء هئ..".
   لم يحتمل الصياد المزيف سخرية الشبح فوجه إليه البندقية، وألصقها بصدره، فسحبها صياد السمك من أنبوبتها بقوة ثم رفعها في الهواء صارخاً:" سألطمكَ بها على وجهك.. خذها ". ورماها إليه:" إذا أردتَ أن تقتل إنساناً فهذا سهل.. لأن الشيطان سيساعدك.. أما أن تتعلم كيف تُعَوّدَ أطفالك على لحم الطيور.. فهذا أمر تحتاج فيه إلى تجربة ".
   لم يعرف كيف يجب أن يعتذر له، ولكنه وجد أن جملة:" الدغل مخيف وواسع..". تكفي لأن يبدأ الحوار الهادئ مرة أخرى.
   جلس صياد السمك وهو يزفر بصوت مسموع ويقول:" إيه.. لقد اتسع فلم تعد الناس تتدفأ بالأحطاب هذه الأيام..".. " أحدثكَ عن أهمية التجربة، فلعلك تتساءل عن سبب ارتداء صياد سمك جورباً، وجورباً واحداً.. وفي الصيف" ـ " حقاً.. لماذا؟".
   أنار صياد السمك عود ثقاب قرب ساقه.. فكانت رفيعة، كأن كلباً قد نهش لحمها ولم يُبقِ منها غير جلد مشوّه يحيط بالعظم. " آه.. ما هذا؟". وضحك الرجل قائلاً:" هذه هي التجربة.. إنه مفرقع.. هل سمعت بالمفرقعات.. ها ها ها..". وظل يضحك وصوته يبتعد في الدغل.. فناداه:" كيف أعود إلى بيتي؟". فأجابه:" عندما تعرف كيف تأتي.. ولماذا تأتي.. ها ها.. اسمع هنالك قارب في الضفة الثانية.. ها ها..".
   ابتعد الضحك ثم انقطع.
   هناك ضوء في الضفة الأخرى، ناداه:" يا صاحب القارب.. أيها العَبْار..". وظل ينادي وينادي. لكن الضوء لم يتحرك عن مكانه. رفع بندقيته، وجهها إلى الضوء بدقة، قطعَ تنفسه، ثم ضغط على الزناد.. وهنالك تأرجح الضوء ثم سقط في الماء.. وانطفأ.
ـ " لقد قتلته.. قتلته ". قال صياد السمك وقد عاد يركض؛ " قتلته". " نعم قتلته لأنه لم يرد على ندائي ". " وكيف يردّ!؟.. إنه أخرس ". " أخرس!!".

بدايـة أخيرة:
..قَتَلَ الأخرس رغبةً في قتل خَرَسه هُـو.
----------------------------
*ونشرت في مجلة (المحلاج) القصصية