13‏/10‏/2009

حوار مع حسن مطلك / خاص عن روايته (دابادا)

حسن مطلك في أطول وأهم حوار معه

إن حرب الأديب ضد السلطة بكل أشكالها حرب دائمة

إن الحلم بالشهرة هي نقطة السقوط عند الفنان

إن نقطة خوف الظالم هي خوفه من الذين ظلمهم


حاوروه:

نـجم ذيـاب
محسن الرملي
ياسين سلطان

ننشر هنا ولأول مرة نص حوار نادر وخاص حول رواية (دابادا) أجريناه بعد صدورها بفترة قليلة مع مؤلفها حسن مطلك في بيته في قرية (سديرة وسطى) بتاريخ 9/12/1988م. وتم تسجيله على شريط (كاسيت) نحتفظ به حتى الآن. وفي هذا الحوار يجيب حسن مطلك عن مجمل التساؤلات التي دارت ضمن ردود الفعل على روايته حال صدورها مما يجعل من هذا الحوار باباً واسعاً وأساسياً في فهم (دابادا) لأنه يتدفق من المنبع نفسه الذي جاء منه هذا النص المدهش ألا وهو عقل وقلب ولسان المؤلف.
ونشير هنا بأن فضل مبادرة إجراء هذا الحوار وتسجيله يعود بالدرجة الأساس للصحفي نجم ذياب الذي افتتح التقديم للمحاورة بالقول:
" دابادا شاهد من عصر طوى في جنباته أحداث لجيل مشحون بالفرح المتوهج والحزن الشديد.. كانت دابادا في ذلك العصر تجوب البيوت بحثاً عن المجهول وترحل مع الراحلين تحت لمح النظر في الظلام والضوء لتنقل لنا بأمانة ما يعانيه العابرون إلى المحطات البعيدة من الآلام والطموحات.. دابادا ابنة لجيل من الأحداث احتضنها جبل مكحول تحت أشجار الصفصاف على ضفاف دجلة... التقينا بكاتبها في مكان أحداثها، في مكان كتابتها، في مكان مبدعها؛ في بيت حسن مطلك ودار بيننا هذا الحوار:

* في البداية نرجو منك أن تعطينا فكرة موجزة وعامة في آن واحد عن الرواية أو أن تقصها لنا كحكاية وتصف لنا زمانها ومكانها العامين.. إذا كان ذلك ممكناً؟.
** زمن الرواية الأصلي، زمن الحدث الروائي، هو ثلاثة أيام، أي ثلاثة نهارات وأربع ليال، أما الزمن الذي تتحدث عنه الرواية فهو زمن طويل، زمن نفسي طويل حيث يوجد تاريخ يمتد إلى الشخصيات الموجودة في الرواية. بينما المكان فيمكن أن يكون رمزاً؛ أي ليس شرطاً أن يكون مكاناً حقيقياً، يعني المكان الموجود في الرواية. والمكان يجوز له أن يخلق الشخصيات لأنه يمثل طبيعة المنطقة التي يعيشون فيها، والتي كانت طبيعة تلال ونهر ومزارع وجبل، أي يوجد تنوع في التضاريس داخل المنطقة، هذا ومن الممكن أن نجمع عدة مناطق في منطقة واحدة أثناء الكتابة، مثلما يمكن أن نجمع عدة شخصيات في شخصية واحدة، أو نجمع عدة شخصيات في الرواية، فالروائي لا يقوم بالكتابة عن شخصية موجودة في الواقع وينقلها بحذافيرها وإنما يقوم بجمع عدة شخصيات..
يعني (يلصق) هذه الشخصية صفاتها كذا، فيما أن صفات معينة أخرى في شخص آخر تضاف إلى هذه الشخصية التي صفاتها كذا ليصبح عنده شخصية موحدة من عدة شخصيات. وهذا ما يفعله أي روائي طبعاً لأن الحدث بمفرده لا يمكن أن يقدم لك فكرة كاملة وإن كان حدثاً واقعياً.
* هناك من يقول بأنه قد عجز عن الإمساك بما يسمى "بخيط السرد" في روايتك.. فما هو الحدث الرئيسي؟.
** الحدث؟!.. لا أستطيع أن أحدده بالضبط، أي الحدث المركزي في الرواية، لأن الشكل يأخذ شكل حدث والحدث يأخذ شكل الشكل. أي أن الشكل يكون حدثاً وبالعكس، هناك انسجام كلي بين الشكل والحدث بحيث أن اللغة تعتبر عامل حضاري في الرواية وعامل في الكشف عن الشخصيات أيضاً. وبالنسبة للحدث في (دابادا) فهو واضح: يبدأ من شخصية شاهين؛ شخصية معزولة عشرين سنة وعمره 27 سنة، ولد ناقصاً في الوزن، أي ما يسمى (سبيعي) ابن سبعة أشهر. والتجربة الحياتية الفعلية له هي سبع سنوات، أي تلك التي كان قد عاشها مع والده الصياد محمود، ولكن عندما اختفى الصياد عزل شاهين نفسه عشرين عاماً خرج بعدها فبدأت الرواية لمدة ثلاثة أيام منذ بداية خروجه.. لقد خرج شاهين بسبب النافذة التي أمامه، هناك أمام نافذته عبر الزقاق حيث كان ثمة غرف مغلقة طوال أيام السنوات التي عاشها معزولاً، وصدفة أستؤجرت هذه الغرف من قبل تجار القطن فبدأ يرى فيها مظاهر الضحك والحالات الاجتماعية الموجودة فقال: أنه لا بد من وجود شئ مهم في العالم يمكن أن يخرج له، وعندما خرج لاقته عدة حالات وهي التي فصلتها الرواية.
*وخروجه هذا هو مجمل زمن الرواية: ثلاثة أيام؟.
** خروج شاهين إلى العالم. لكن خروجه كان يبدو غبياً لأن شاهين شخصية تبدو غبية بينما الحقيقة هي أنه يتفاعل مع الحس.. يتفاعل بطريقة الحس مع العالم ولا يتفاعل بطريقة الفكر. ويرى كل شئ كما هو ولذلك هناك دهشة دائماً، ولهذا أيضاً تنتاب الدهشة القارئ، من خلال الجُمل ومن خلال اكتشافات شاهين، لأن الأشياء التي يراها.. يراها بحس طفولي على الرغم من أنه كبير في العمر.
* أي أنه يصف الأشياء بشكل بدائي.. يعني إذا أردنا التصنيف حسب المدارس أو الفلسفات أو المناهج، فهل هي (الظاهراتية)؟ أن تصف الأشياء حسب ماتراها؟ وشاهين كان مثلاً يصف؛ الأفواه بأنها فتحات للضحك، وعندما أطل عليه رأس الحمار قندس من وراء جدار قال: ظهرت المقلاة، وعندما يُقبل رجل امرأة، يقول: انه يعضها أو "كانوا يتناقرون مثل الطيور".. أي أن الحالة تنتج بوصف أو بكتابة ما هو ظاهر له وكيفية فهمه لهذا الظاهر؟.
** الأشياء على ما تبدو.. نعم؛ منهج ظاهراتي، ولكن الرواية ليست مبنية على منهج ظاهراتي وإن كانت رؤية شاهين ظاهراتية للعالم. لماذا؟ لأنه في المنهج الظاهراتي يجب أولاً التخلي عن الخبرة كلها، يعني أن تقوم بعزل خبرتك عنك عند دراستك للعالم.
*وهذا ما قلناه؛ أنه يعطي أسماء جديدة للأشياء.
** يسمي الأشياء كما يراها وليست كما تبدو له.. وليست كما هي موجودة ومفهومة أو كما (تتجلى) بالمفهوم الفلسفي.
*هل هذا يعني بأنك قد استخدمت اللغة بطريقة جديدة؟.
** بالنسبة للغة الرواية فقد استخدمت شاهين أيضاً كمنظار للنظر من خلاله إلى جميع الشخصيات، وأنظر من خلاله إلى الحدث، أي أن كل وصفي ودخولي في الرواية وأسلوبي قد تم من خلال شخصية شاهين، يعني أنني لم أكن أنظر من خلال شخصيتي كروائي وإنما كنت أنظر من خلال شخصية شاهين إلى العالم ولذلك فإن طريقة الروي كانت بطريقة شاهين وليست بطريقتي.. إذاً فهو أسلوب شاهين وليس أسلوبي.
* لا تنس بأنك قد ظهرت مرتين أو ثلاثة في الرواية؛ حيث يصرخ الراوي أو الروائي قائلاً: أنا لا أفهم هذه الشخصيات أو أنني لا أعرف هؤلاء؛ لا شاهين ولا عواد ولا هاجر ولا.. ومرة أخرى يظهر بالقول: هذا مجرد حشو بطريقة: املأ الفراغات التالية. ويظهر اسمك (حسن مطلك) أيضاً. إذاً فهناك راوي غير شاهين؟.
** أولاً لكي أوحي لك كقارئ، بأن الروي ليس للكاتب، مع أن الروائي هو الكاتب حتماً ما داموا كلهم بضمير الغائب. إذاً فالروي هو بطريقة شاهين ولكن حين تشعر بأن الروي ليس لي أخرج أحياناً عن المسارات لكي أرجعك للكاتب وتتذكر بأن طريقة روي الكاتب هي طريقة أخرى غير طريقة روي شاهين أو الطريقة التي أروي بها من خلال شاهين، فهذا تذكير بأن هذه الرواية قد كتبها كاتب ورواها كاتب، ولكن ليس هو الذي رأى هذه الأشياء وإنما شاهين، البطل، هو الذي رآها. أما عندما أقول عدة مرات: أنا لا أفهم هذه الشخصيات، وأنه: أنا أختلف عنهم. وأنه؛ أنا شاهد فقط.. فهذه عملية تذكير.. أي يوجد منهج جديد وهو أننا لا نريد أن نخدع القارئ أكثر من اللازم.
فأنا لا أريد أن أخدع القارئ وأقول له: أن هذه هي فعلاً قصة واقعية وحدثت حقاً.. لأنه لا يوجد شيء أسمه قصة واقعية وحدثت. وحتى أذكر القارئ بأن هذه هي لعبة روائية أيضاً.. وحتى حياة شاهين وحياة الأشخاص الموجودين كشخصيات في الرواية، بل وحتى حدث الرواية هي كلها عبارة عن لعبة، عندها اطرح أسمي أو صوتي بين فترة وأخرى أو أذكر بان هذه رواية.. فأنا أذكر نفسي أيضاً بأنها لعبة روائية.
* كيف تنظر إلى اعتبار البعض لها بأنها رواية تشكل خروجاً عن الإطار التقليدي للرواية؟ وما هي علاقتها بروايات غابريل ماركيز أو روايات أخرى تم اعتبارها خروجاً عن الإطار التقليدي للرواية؟.
** في أول الأمر تم اعتبارها خروجاً، ثم بعد ذلك شبهها قسم كبير بروايات ماركيز.. فهي إما أن تكون خروجاً أو تشبه روايات ماركيز؛ واحدة من اثنتين. ولكن بتقديري هي فعلاً خروجاً عن التراث الأدبي ولكن ليس خروجاً كاملاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لأنه ليس هناك من يكتب رواية جديدة 100% دون أن يتأثر بما قرأه وما عاشه في كل السفرات التي قضاها، فنحن بالتأكيد نتأثر بقراءاتنا وثمة تأثيرات كثيرة لكتاب عالميين. أما بالنسبة لتأثري بماركيز فطبعاً أن ماركيز من المؤثرين بي ولكنني أعتقد بوجود خلاف كبير بيني وبينه وأنني حين أكتب فأنا آخر من يقلد ماركيز، ليس لأنه روائي عادي بالنسبة لي بل بالعكس فهو روائي عظيم جداً، ولكن بالنسبة لي فإن ماركيز لا ينطبق على الأشياء التي أفكر بها أنا، لأن ماركيز كما أعتقد يكتب بدون أفكار يعني يجيد اللعبة الروائية بشكل مذهل ولكنه لا يقدم أفكاراً كبيرة، أما هذا المنهج الذي اعتمدته فقد أسميناه بـ(الواقعية المطلقة) أو (الواقعية الكلية) والذي يمكن بداخله أن تضع في الرواية كل شئ، أي أنه بالإمكان أن نضع من الكيمياء والفيزياء ومن علم الزراعة والطب وغيرها، وأيضاً بالنسبة للمدارس الأدبية تستخدمها كلها.. كل ما تعلمناه من مدارس أدبية من السريالية والواقعية والواقعية السحرية والواقعية الواقعية والواقعية النفسية وغيرها وممكن أن نأخذ بروست وكافكا وجويس ونشاركهم كلهم في عملية الكتابة الروائية، فأنا أعتقد أن الخطأ الأساسي، أو هو ليس خطأ تماماً، وهو مثلاً عندما أنظر إلى كافكا أنظر له بخصوصية وعظمة ولكن كافكا قد نظر من منظار واحد ومن زاوية واحدة إلى العالم، لقد نظر من جانب التحويل الحسي إلى موضوعي مثلاً، كافكا يقول، بأن البطل يشعر بأنه شخص وضيع أو شخص متعَب، فهو لم يقل بطل متعب وإنما حوله إلى صرصار كما في روايته (المسخ) أو عندما يشعر الشخص بوطأة السلطة عليه وبأنه مطالب دائماً ومراقب دائماً وبأنه ليس حراً.. فحول هذا الإحساس إلى (المحاكمة) أو حالة الطموح التي لا تتحقق أبداً في رواية (القصر) فهذه رؤية واحدة نظر بها كافكا إلى أعماله. وهكذا يمكنك أن تتناول أي روائي على هذا الأساس ووفق هذه الناحية. خذ رواية (زوربا) مثلاً ستجده أيضاً بأن كازانتزاكي قد نظر من زواية واحدة ألا وهي؛ الحس والفعل أي الموافقة بين الحسي والعقلاني، الحسي زوربا والعقلاني كان المعلم الشخصية المرافقة لزوربا.
وأنا أعتقد بأن الروائي الجديد أو الأدب الجديد لا بد أن يكون أدباً كلياً، أي أن نضع كل شئ إلى جانب العلم ويمكن أن نضع المسرح ونستفيد من تقنيات السينما بالتقطيع المشهدي أو في السيناريو وبالإمكان أن نضع موسيقى أيضاً وأن نضع سحراً فبالإمكان أن نضع كل شئ.. كل شئ داخل الرواية.

* لقد ظهر عندك علم النفس في الرواية، باعتباره اختصاصك، وكان بالإمكان تتبعه وتغيير بعض اللمسات فيه.
** لقد قلت بأنني أستخدم كل شئ.. كل شئ يفيدني داخل العمل الأدبي، يعني بإمكاني أن أستخدم علم النفس حسب ماتعلمته أو الفلسفة ومفاهيم أخرى ومن الممكن أن ألقي أفكاراً ـ حتى وإن كانت أفكاراً مباشرة ـ داخل العمل الأدبي، ولكن تبقى اللعبة الفنية، أي لابد أن يجيد الكاتب اللعبة الفنية في التفصيل أو توصيل فكرة معينة.
لا أقصد أن أحشر فكرة مثلاً أو حكمة أو مَثل.. أحشره حشراً داخل العمل.. لا .. وإنما أضيفه داخل العمل بحيث أن القارئ لا يحس بأنه جزء معزول عن العمل وإنما هو من ضمن جسد العمل الأدبي.
* ما هو الجديد في روايتك (دابادا)؟.
** على مستوى الشكل استخدمت الجملة الواحدة وليس الفصول، وهناك عملية مونتاج. إن الرواية كانت مكتوبة أساساً بطريقة سردية من البداية إلى النهاية ولكن العملية الفنية والبناء الفني ثم عملية المونتاج.. أنه ليس جديداً ولكن المونتاج نوعيته جديدة.
فأنا عندما باشرت بكتابة هذه الرواية نزعت أو حاولت أن أنزع من داخلي كل ما تعلمته عن الفن الروائي وبدأت أكتب بالطريقة التي أراها أنا.. وكأنني أول كاتب في العالم.. أي أن هناك الصدق، ثم نزعت الشرطة من داخلي أي نزعت كل رقابة في داخلي، يعني أن أكتب بحرية عالية جداً في الكتابة.. نزعت كل القيود المتمثلة بالبوليس الفني والبوليس الاجتماعي والبوليس الديني.. فكل هؤلاء على الكاتب أن يسـتبعدهم لكي يكتب بحرية.
وبهذه الطريقة فحتى قياس العمل الروائي سيكون قياساً آخر.. أقصد رقابة العمل الروائي أو قراءته. العمل الروائي عندما يقرأه القارئ سوف يحس بأن هناك تحرراً أو جرأة في الطرح بينما هي ليست جرأة وإنما هي مجرد أن ترجع إلى حقيقتك كإنسان.
* لقد قال لي جبرا إبراهيم جبرا هذا الكلام، أي انها ( دابادا ) رواية جديدة وأن كاتبها جـريء.
** فنحن.. لماذا نستغرب في هذا الزمن أن يوجد شخص صادق، فبمجرد أن تنزع كل الحالات المزيفة ولا تكتم غرضاً، فإنك سوف تحس بوجود حالة جديدة بالكتابة.
بالنسبة للجديد في دابادا، وعلى صعيد الشكل أيضاً، فقد استخدمت الشعر، واللغة إلى أقصاها، أي أنها ممكن أن تتحول إلى قصيدة شعرية أو (قصيدة غليضة)وفي الوقت نفسه، استخدمت العقل (عقلنة الشعر)؛ أخذت من الفلسفة وأخذت من الشعر.. وطبعاً ستجد أن ثمة تضاد قوي بين العقل والحس، ليس تضاداً بالضبط، ولكن لأنه ليس من الممكن أن نطرح حالة عقلانية بطريقة حسية أو نطرح حالة حسية بطريقة عقلانية فإما أن تصبح في النتائج عقلانية أو حسية.. أنا عملتها عقلانية حسية أو حسية عقلانية.. يعني الأثنين معاً. أعتقد أنها مسألة جديدة جداً في العمل الروائي. وقلت لكم أيضاً (الكلية) أي أن أنظر إلى الأمور بطريقة كلية، ثم أنني لا أتعاطف مع أبطالي، وهذا ليس شيئاً جديداً ولكن العبرة في عملية تنفيذه.. لأن أهم شئ هو أن ينفذ الروائي ما يفكر به فعلاً.. هناك من يتكلمون وكلامهم كبير وعندهم فكرة تامة عن الرواية.. ولكن عند التنفيذ لا ينفذون.. والجديد هو: أنني قلت الشئ ونفذته.
* وماذا بالنسبة للرموز؟ حتماً أن هناك رموز في الرواية.
** هناك رموز حتى في كلامنا العادي. واللغة محملة بالرموز والإشارات الاجتماعية محملة بالرموز والحدث محمل بالرموز.
* أقصد أن هناك رموزاً تخص الموضوع أو تخص حدثاً معين أو قضية معينة؟.
** هناك مسألة أخرى دعونا نسميها شئ آخر غير الرمزية، هناك فكرة (النص المزدوج) وهو الذي يأخذ معنى أكبر من معنى الرمزية.
الرمزية هي مثلاً، عندما نريد أن نتحدث عن شخص لديه احتجاج ضد العالم نضع على فمه لاصق، هذا الرمز مثلاً يعني أن هذا الرجل عنده احتجاج ضد العالم.. أو أن شخصاً يريد التخلص من الزمن كما في رواية (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، الزمن لا يعنيه فألقى بساعته في الصحراء. هذا يعتبر رمز بينما مسألة (النص المزدوج) مسألة أخرى فأولاً: تجد أن نفس الجملة تحمل معنيين؛ ظاهر وباطن يعني هناك حدث داخل حدث آخر وهذا ما أسماه رولان بارت بـ(النص في النص)، يعني نص داخل نص، أي أن الرواية كلها محملة بالرموز.. وهكذا عليك أن تقرأ نصين أو ربما أنك في القراءة الأولى لا تستطيع أن تسيطر على الرواية، لأن القراءة الأولى يمكن أن تكون للمتعة، والقراءة الثانية للإكتشاف. إذاً ستقرأ الرواية مرتين لتكتشف روايتين داخل رواية واحدة. أما على الصعيد الدلالي، دلالة اللغة، فليس دلالة اللغة هي دلالة الحدث، أي مثلاً عندما أريد أن أقول شيئاً وأعني شيئاً آخر. لقد تعلمت من روائيين، الروائيين كلهم، تعلمت من كل واحد منهم شيئاً أو مسألة معينة. تعلمت مثلاً من فولكنر أن أكتب حول الحدث ولا أشير أليه مباشرة، أي لا أشير إلى أن الشخصية تحس بتعب وإنما أتحدث عن شئ آخر فأشعر أن الشخصية متعبة. لا أريد أن أقول: أن شاهين تعبان ولكن يجب أن أوضح كيف هو تعبان وأن شاهين يحس بهذا الإحساس ويريد أن يقول هذا الشئ دون أن يسميه. فدائماً أدور حول الحدث إلى أن يتوضح، هذا ماتعلمته من فولكنر. تعلمت من بروست كيفية الاستفادة من الجملة الطويلة في الكشف عن أشياء كثيرة. وليس الجملة الطويلة فقط هي التي تعلمتها من بروست، فقد تعلمت منه أيضاً: النظر والتنظير بشكل شعري، فبروست ينظر بشكل شعري، أي أنه بطريقة الشعر ينظر إلى العالم. أو يفكك رموز العالم بالتدقيق. واستخدمت الذاكرة البروستية ولكن ليس بمعناها البروستي وإنما بالمعنى الذي رأيته أنا. واستفدت من كونراد (جوزيف كونراد) بأن أكتب عن اللحظات التي لا يمكن الكتابة عنها.. اللحظات التي أراها مستحيلة.. أحياناً نرى حدثاً ما في العالم، ولا يوجد تعبير عنه. ولكنني أعتقد بأن جوزيف كونراد عبر عن أشياء يمكن أن نحسها إحساساً فقط ولا يمكن أن نعبر عنها. فأنا أيضاً استفدت من كونراد من هذا الجانب.. وكل روائي استفدت منه بشكل أو بآخر. تعلمت من ماركيز اللعبة الأدبية.. أي كيف أؤخر وأقدم حدث على آخر.. أي كيفية عمل التداخل وعمل المونتاج.
*هل فكرت بالقارئ وأنت تستخدم هذا النوع من التقطيع؟.
** أكيد أن الكاتب يكتب لقارئ معين، ولكن في لحظة الكتابة بالذات، عندما تفكر بالقارئ ستكون الكتابة مفتعلة، فمثلاً: القارئ الذي أفكر به من أي مستوى سيكون. وإذا فكرت بالقارئ فهل هو قارئ مبتدئ؟.. وهل أنا أكتب للقارئ المبتدئ؟ إذاً والقارئ الذي وصل إلى درجات كبيرة في القراءة؟. كيف أكتب له؟ وإذا كتبت للنخبة فكيف بالقارئ العادي؟.. إذاً أنا أكتب على افتراض أن الكل هم نخبة. أي لا يوجد عندي شئ أسمه قارئ عادي، فالقارئ أو الإنسان إما أن يقرأ ويصبح قارئاً أو لا يقرأ. إذاً كل قارئ هو نخبوي ومثقف. ولا أعتقد بأن قارئ يقرأ رواية واحدة ونقول أنه قارئ أو يقرأ كتاباً واحداً ونقول أنه قارئ، فلابد أن يكون شخصاً هوايته القراءة ويستمر بالقراءة وتكون القراءة له عملية تثقيف، فإذاً هذا يرتقي أي أن وعيه يرتقي، وإذا لم يرتقِ اليوم فسيرتقي غداً. وأنا لا أتوجه إلى هذا القارئ الذي يبتدئ بالقراءة، فإن القارئ الذي مازال، الآن، يبتدئ.. فإن روايتي لا توجه إليه..
هناك كلام جميل لـآلان روب غرييه يقول فيه؛ إن النقاد يحاكمونني ويقولون لي: من أين جئت بهذا الكلام؟ ربما أنهم لم يقرأوا بلزاك، يفترض بهم أن يقرأوا بلزاك وستندال، فهم قد قفزوا من فلوبير إلى رواياتي ولابد أن يمروا بكل هذا التراث الأدبي والتاريخ الأدبي من أن أجل أن يفهمون إلى أين وصلت أنا بالكتابة، لأن الكتابة أيضاً عملية تراثية تطورية. فنحن إذ نبتدئ بفن الرواية فإنه قد بدأنا بقص حكايات قبل أكثر من 600 سنة تقريباً في إيطاليا وبعد ذلك تطور وأصبح على شكل يوميات مثل ما كتب غوته في (آلام فارتر) وما كتبه فيما بعد سارتر في (الغثيان) ولقد تطور الفن الروائي ليصبح انقلاباً روائياً في عهد فلوبير الذي أرسى دعائم الواقعية. واقعية تحيل إلى التحليل، فمن فلوبير بدأت أشكال كثيرة للكتابة إلى أن ظهرت عندنا الرواية الحديثة.
أنا لا أريد أن أسمي إنتاجي هو رواية حديثة، ولكنني أعتقد بأن الإنسان المعاصر لا يمكن التعبير عنه بشكل بسيط، فإن أردت الكتابة عن (ياسين) أو (محسن) مثلاً فلا يمكن أن تكتب: (محسن) جاء وذهب وفعل كذا.. بهذه البساطة فلا بد أيضاً مما بداخله: هواجسه، همومه أثناء قيامه بهذا العمل البسيط، مثلاً، أثناء رفعه للقدح بماذا كان يفكر؟ هل كان يفكر بأنه سيناول القدح باحترام؟ أم كان سيناوله وهو غير راض، وبعد ذلك أن (محسن) ربما كان يفكر بشيء آخر، فربما كان يفكر أن يسافر بالقطار، وربما يقول؛ أن القطار سوف يوصلني بمدة طويلة ويسبب لي متاعباً.. كل هذا قد يتم أثناء عملية رفعه للقدح.
ولذلك فعندما أتناول حدثاً يجب أن أضيئه من كل جوانبه، وأعتقد أن هذا هو الجانب الحديث بالكتابة،أي أن يؤخذ الإنسان ككل ولا يؤخذ كتجزيء له.
*قبل أن نبتعد عن ذكر القارئ، هناك عبارة كتبت على غلاف الرواية تقول:" كتبها كي يحمي نفسه من القراء" فكيف تحمي نفسك من القراء؟.
** إنها عملية جدلية.. لا أدري بالضبط، أحياناً، أقول، الشاعر يشعر بشئ لا يستطيع أن يشرحه. فأنا أشعر بأنني عندما أقدم عملاً سوف أحمي نفسي من القارئ بجوانب معينة، أولاً: في أن أجعل العمل أكبر من القارئ فيكون هذا العامل حاجزاً بيني وبين القارئ، حاجزاً عن الانتقاد وعن النجومية أو الجماهير وكذلك حاجزاً عن الاستسهال، لأن الاستسهال يجلب النجومية، أي أن تكتب بسهولة، تصل إلى الجمهور بسهولة وتصبح نجماً بسهولة، ولكن حين تكتب عملاً صعباً سوف يكون عملك من النوع الذي لا يكسب جمهوراً واسعاً ولكن الكسب يكون على مدى طويل وبطيء، فأول بداية لكتاب الرواية الفرنسية الحديثة كتبوا على أساس أنه لا يوجد جمهور لهم، وفعلاً لم يكن لهم جمهوراً، ولكن بمرور الأيام كل عمل سوف يخلق لنفسه جمهوراً.. بمرور الوقت.
*ما الذي تخشاه من القارئ عدا النجومية. أنت تكتب للقارئ وهذا شئ...
**(مقاطعاً) لا يمكن فالعملية فيها نوع من التضاد، أنا كتب للقارئ وأحمي نفسي منه، إذاً هناك ترابط. أنا عندي مسؤولية أن أكتب للقارئ، وهو يهددني بأنه قارئ يتحداني بمعرفته وثقافته، إذ يجب أن يكون الكاتب أكبر من القارئ لكي يحمي نفسه منه دائماً.. أي دائماً وعلى طول المرحلة على الكاتب أن يُكبر نفسه.. أن ينمي نفسه لأن القراء يقرأون له دائماً.
*هل كتبت لجيل معين أو لجنس معين، فأحياناً يطرأ على الذهن بأنك قد كتبتها ضد جنس معين أو لنقل هنا ضد النساء؟!.
** لا..لا.. غير ممكن..أبداً.
* الذي دفعني لهذا التصور هو اقتران الذباب والنساء في جملة واحدة أو أحياناً تكرار عبارة النساء تطلق الرصاص من أفواهها والبنادق تزغرد..!.
*(مداخلة) أعتقد بأنها مسألة شعرية ولغوية أكثر مما هي موقف.
**هناك مسألة أرجو أن تكون في ذهنك، وهي مسألة الإثارة بواسطة المرأة، وهذه مسألة اعتمدها كتاب عرب وقد أسست هذه المسألة في داخلي ضد، ولا أعني ضد النساء بالذات، ولكن ضد هذا التصور، أي أنني ضد الإثارة التي تقول أن الجنس هو القضية الأساسية للعربي.. أبداً.. هي ليست القضية الأساسية للعربي، وحتى لو كانت هي القضية الأساسية في يوم من الأيام أو في زمن معين أو مرحلة كالتي طرحها الطيب صالح أو نجيب محفوظ.. إلا أنها الآن قد أصبحت عملية مستهلَكة، فإن نزار قباني قد انتهى لأن هناك بدائل.. أصبحت الحرية الاجتماعية أكبر، وأنا قد تكوّن لدي ضد منذ زمن، ضد ليس ضد المرأة، وإن كان مقترناً بجانب المرأة ولكن أنا ضد هذا الاتجاه الذي يتخذ من المرأة مجرد أداة جنسية.
*نلاحظ بأن الطيب صالح وعبدالرحمن الربيعي وسهيل إدريس ويوسف إدريس.. وغيرهم قد اعتمدوا على الجنس..
**(مقاطعاً) أنا أعتقد بأن جانب استثارة عطف القراء واستثارة النقاط الغريزية الحساسة بداخلهم.. هذه عملية كريهة بالنسبة لي. إن الرواية لا تكتب لتستثير عواطف غريزية وحسب. الرواية هي عمل معرفي بالدرجة الأولى، وتوثيق تاريخي.
*ولكن لا تنس بأن للعاطفة دوراً مهماً.
** طبعاً وليست الرواية خالية من الإثارة، وروايتي مليئة بالإثارة، ولكن لم يكن قصدي هو الإثارة وإنما قصدي أن أجعل القارئ ينتظر الإثارة، وهذا هو المهم.. أي أنه جانب تربوي. أنا لا أعتقد بأن هناك كاتب في العالم يكتب لجنس معين كجنس الرجال أو جنس النساء، وإنما يكتب للقارئ سواء أكان امرأة أو رجل.
*لقد كنت منتصراً لعزيزة في روايتك فجعلتها امرأة قوية تجذب الرجال وتنتقل من واحد إلى آخر..
** كانت نحلة.. هناك عملية تضاد يا نجم.. يعني عندما تريد توضيح الشخصية بشكل أكبر. فمثلاً في الرسم؛ لكي تعطي قوة للون ما، لا بد أن تعطي لوناً ضعيفاً مقابلاً له.. تسمى (كونتراست) أو (تضاد) فلكي تبرز قيمة أو قوة لون لا بد أن تبرز لون آخر مقابل أو مضاد له إلى جانبه، وهكذا فلكي تبرز شخصية شاهين النظيفة لا بد أن تستعرض شخصيات ساقطة أمامه.. أعني كثير من الشخصيات وليست عزيزة فقط سقطت وإنما حتى الرجال داخل الرواية.. حلاب مثلاً سقط أكثر سقوطاً من عزيزة.
*وفي النهاية أعتقد بأن الكل قد سقط.
** ما عدا عارف الذي بقي نظيفاً أسوة بشاهين، والذي هو صاحب زورق (عَبارة) وهذا يوجد فيه رمز طبعاً، فالجبل هو رمز الثورة والعبّار إلى هذا الجبل هو أمين الثورة.. ولا أقصد الثورة هنا بمعناها السياسي.
*والحمار (قندس)؟.
** الحمار هو رمز الجانب السلطوي عند حلاب، وتجسيد لسلطته.. وهذا بالضبط استخدام كافكوي للرمز، بالنسبة لرمز الحمار فكما استخدم كافكا الصرصار، أنا استخدمت الحمار.. رمزاً للأيديولوجية.. وليس الأيديولوجيا بمعناها السائد.. يعني..
*(مقاطعة) أنا أريد أن لا تقطع وتضع شرطياً أثناء حديثك معنا، فمثلما قلت بأنك لا تضع شرطة في داخلك أثناء الكتابة..
** (يضحك) لا.. أبداً.. أنا لا أضع شرطياً..
*فقط لاحظت نوعاً من التردد أثناء حديثك عن رمز الحمار للأيديولوجية.
** أبداً.. فأنا لا أقصد سلطة معينة، وأنت تعرف بأن حرب الأديب ضد السلطة بكل أشكالها هي حرب دائمة، وفعلاً هذه الرواية مكتوبة ضد السلطات.. أشكال السلطات الموجودة في المجتمع؛ السلطة التاريخية والسلطة الاجتماعية والسلطة السياسية، وطبعاً هي لا تخص سلطة معينة بالتحديد ولهذا أقول الكلام بدون رقابة.
*مالتفسير لموقف حلاب ضد شاهين عندما أجبره على أن يرعى حماره قندس؟.
** حلاب يريد أن يجبر شاهين ويخضعه لتعاليمه باعتباره هو(المختار) سلطة ذلك المجتمع ولكن شاهين عبر عن رفضه بقتله أو بمحاولة قتله الرمزية للحمار، ولكن الحمار لا يُـقتل لأنه من الممكن أن يتكرر زمن بعد زمن فيمكن أن نجرب نحن قتل بائس أو قتل غير ناجح، لأننا نستخدم المدية بشكل مقلوب وإن كانت كل هذه الحالات تعتبر حالة ثورية ضد السلطات.
*إذاً فلنتناول الشخصيات وتعرفنا عليها..
**اسألوا..
*شخصية (عالية) مثلاً؟.
** عالية هي أم الرسام عواد الذي هو صديق شاهين.امرأة كانت طفولتها متفتحة، وكان همها الأساسي هو أن تحصل على رجل، ولكن عندما تزوجت مسعود كان اهتمامه ديني بحت ولم يهتم بها اهتماماً كلياً، ولذلك كان همها أن تراقب المارين في الطريق "الفلاحين" وتسقط عليهم خيالاتها، ولديها تطلعات مثل (البرنامج البدوي) في الراديو وغيرها، فلما رأت شاهين رمزاً كتوماً، لأنها أيضاً تشعر بالذنب من جراء أفعالها لأن زوجها مهتم بالدين، وعندما رأت شاهين اعتبرته أو وجدت فيه شخصاً بدون لغة ومن الممكن أن تحقق به كل حالاتها التي تريدها، فهي تظن بأنه لا يتكلم ولكنها قد خافت أيضاً لأن هذا الشخص لم تكن هذه هي همومه، وإنما همومه في أن يعرف وأن يكتشف مشكلة الضحك في العالم.
*وابنتهم (زهرة) تلك التي تصنع الزهور من نايلون الأحذية القديمة؟.
** هذا لأنها في عالم معزول مثل بقية الأسرة فلكل واحد من أفرادها اهتماماً معيناً؛ عواد؛ اهتمام بالرسم واهتمام بالكلب (شرار) كمكمل فني له. واهتمام الأب ديني بحث أما الأم فلها اهتمامها الخاص هي الأخرى، فمن الطبيعي أن لا يسأل أحد الفتاة عن حالتها، فوجدت لنفسها اهتماماً بصناعة الزهور. ولاحِظوا أن هناك سخرية، فاهتمام الفتاة هو لمجرد أن تقضي وقتاً.. وهو وقت تقضيه بمسألة لا تؤدي إلى نتيجة، ألا وهي أن تصنع الزهور من أحذية المطاط..
*ما علاقة (عزيزة) بـ(عواد) وهل كان يحبها فعلاً؟.
** عواد أراد بها اللوحة.. أي أنه كان يحبها كموضوع فني بالدرجة الأساس، وهي تحبه كرجل وتريده أن يتحول من موضوع فني إلى موضوع عادي.. أن تحوله من ملكية الفن إلى ملكيتها الخاصة، ولكن عواد كان لديه صراع دائم.. هو صراع الفنان بين أن يكون فناناً حقيقياً وأن يكون للآخرين. نحن نعرف أن تجربة كل فنان فيها نوع من العزلة لأن فنه يجذبه إلى الحالات الفنية، ولكن عزيزة أيضاً كانت تجذبه في بعض الأحيان، ولكنه ما كان يعلن هذا لأن الحالة الفنية كانت تسيطر عليه، فإذا بهم الأثنين قد خسروا بعضهم.
*وانتقلت عزيزة إلى شاهين.. ما هي علاقتها بشاهين؟.
**هي أيضاً.. وقد وجدت شاهين الرجل الوحيد الذي لا يوجد لديه اهتمام ومن الممكن أن يهتم بها فقط.. لأن المرأة في مجتمعنا تريد شخصاً على مرامها (على كدها).. شخص يهتم بها فقط ويكون زوجاً صالحاً 100% لا يوجد لديه أي اهتمام آخر، وأن تحركه وتحوله إلى ملكية، ولكنها أيضاً لم تجد هذا في شاهين، لأن شاهين ما كان بالإمكان أن يصبح ملكاً لأحد في يوم من الأيام. لأن عزلته هي رمز للفنان أيضاً،وهو كان فناناً بحسه ورقته.
*وفي النهاية تؤول عزيزة إلى صاحب النظارات السوداء.. فمن هذا الشخص؟.
** إنه شخص عادي يستخدم القوة ويحمل مسدساً بشكل دائم، وهو مسنود من جهة معينة أو يعمل في مؤسسة معينة.. وهو يحس بأن هذه المرأة هي ملكيته ومن حقه أن يأخذها من هذا الفنان الذي يأخذها منه.. ما قيمته؟ من هو شاهين وفلان.. وهـكذا أخـذها بالـقوة.
*والشريط القطني؟.
**انه، رمز العذرية، وشاهين حين رآها لأول مرة بلا شريط أبيض تحت الشجرة عرف بأنها فاقدة شيئاً وهي قد فقدت عذريتها بعد أن اختلطت عليها المواعيد. فقد كانت تعتقد بأنها على موعد مع عواد في مخزن التبن لأن عواد كان يمثل لها حلماً والفنان بالنسبة للمرأة هو حلم فقط، تريده لظرف معين، للاستعراض، للتباهي. فهي كانت بحلمها على موعد مع عواد ولكنها في الحقيقة قد واعدت الرجل صاحب النظارات السوداء والمسدس وكانت عندما تخاطبه أثناء العملية الجنسية تخاطب عواداً، فاغتصبها بالقوة بينما بينها وبين عواد لا توجد هذه الحالة.. وبـعد أن رآها شـاهين اكـتشف بأنها مـحطَمة.
*عرّفنا على (حلاب) باعتباره شخصية رئيسية وهو المختار؟.
**حلاب لم يكن هو المختار الرئيسي. كان المختار قبله عبدالمجيد، ونحن دائماً في تراثنا العربي الاجتماعي أو كمجتمع عربي ولكثرة ما عانيناه من سلطات على مر التاريخ نقول دائماً: أن السلطة الماضية هي الأفضل.. وهي بالطبع أفضل لأن العصر يتطور وأدوات السلطة تتطور فنشعر أو نقول: أن عبدالمجيد أفضل.. وكأنه فعلاً مطلق ونظيف!.. أما في داخل الرواية فنشرح كيف استولى حلاب بأساليب ثعلبية.. استولى على السلطة وكان هو السبب في قتل عبدالمجيد، وصوّر عبدالمجيد للناس بأنه شخص غير سوي وأنه مصاب برهاب القمر ومخاوف أخرى عجيبة، ولكن الناس عندما كانوا يحتفلون بذكرى موت عبدالمجيد كان حلاب يثور لأنه يشعر بالذنب ـ ولو أن هذا النوع من الرجال لا يشعر بالذنب ـ ولكن لأن الذكريات تُستَفز عنده، فهو الذي كان السبب في موته عندما أسقاه سم الفئران ثم أخذ المختارية. وحلاب كشخصية كان في الأساس تاجر قطن، وكان يحرك تجارته في المنطقة التي تشتهر بزراعة القطن والقطن هنا يعني النقاء. وحلاب كان يتاجر بالنقاء، وحوّل هذا النقاء إلى تجارة، فحتى زوجته (زكية) أخذها مقابل كيس قطن لأن والدها كان مطلوب (مدين) لحلاب بكيس قطن وما كان يـستطيع أن يـسدد، فكان حلاب يهدده يومياً، فأعطاه البنت وهي إحدى زوجاته ـ الأولى ـ والتي عاصرت تحولاته.
حكاية حلاب حكاية عجيبة فهو حين ولد لم يكن يبصر لأن أجفانه كانت مطبقة إلى أن فتحت إحدى العجائز قبتي عينيه بسكين بصل، فأول رؤياه للعالم؛ رآه أبيض وأسود، فالرؤية الأولى أو الخبرة الأولى أثرت عليه.. أي أنه يرى العالم بدون ألوان.. بلا معنى.. أي يستهين بالعالم لأنه لا يرى ألوانه الحقيقية ويراه مجرد من الألوان، إذاً فحلاب مجرد من الحس وعلى الأقل حس البصر.. والبصر دائماً يعني الإبصار. إذاً فهو لا يمتلك رؤية للعالم.. أي أنه يرى ولكنه لا يبصر.
*ومحمود؟.
** محمود كان رمزاً للحق والنقاء في المنطقة وكان ينصر الفلاحين. ففي حفلة للغجر ـ في الرواية ـ جاء إليه أحد الفلاحين وقال بأن له ديون عند حلاب ويرفض حلاب تسديده، فرفع محمود حلاباً من بين الحاضرين وقال له: أعط الرجل حقه. فلم يعطه وقال: أتركنا الآن (نتونس). فرأى محمود في صدر الغجرية خمسة دنانير كان قد وضعها حلاب فسحبها من صدرها وأعطاها للفلاح.. وطبعاً أن قضية اختفاء محمود وراءها حلاب أيضاً. محمود ذهب واختفى في إحدى رحلات الصيد ولم يرجع وكان الجميع بانتظاره لأنه من المحتمل أن يظهر، وليس شرطاً أن يظهر هو.. محمود نفسه وإنما قد يظهر بشخصية أخرى ولهذا عندما خرج شاهين إلى العالم اعتقدوا بعودة محمود وهو رمز لانتظار عودة الحق.
وهذا في الحقيقة مبدأ عند بعض الطوائف الإسلامية وليس عندها فقط وإنما هو موجود في التراث الإنساني ككل ممثل بعودة (المخلص) (المسيح) أو أنه ما ينتظره الإنسان في حياته، فاحتفلت القرية بعودته ولكن شاهين قد خيب أمل الجميع، فعندما أرسلوه في رحلة صيد نام وترك البندقية والحزام ورجع وخيب أمل أمه أيضاً لأنها كانت تعتقد بأنه بديلاً لوالده ولكن.. لا يمكن أن يكون الولد بديلاً لأبيه أبداً، وهذه أيضاً ثورة من قبل الابن على الأب.. وهذا رمز واضح أيضاً.
*وهاجر الأم؟.. ماذا وراء صبرها لمدة عشرين سنة؟.
**هاجر كانت امرأة قوية دائماً.. وهي يائسة من الولد وتعتبر هذا الولد ملغياً فعليها أن ترعاه.. أن ترعى ولداً ملغياً. وكانت معتمدة على نفسها في تدبير شؤون البيت إلى أن خرج، ولكن صار لديها شعور بأن هذا الولد يمكن أن يحل محل أبيه بعد أن أصبحت هي عجوزاً بعد عشرين سنة من التعب والمعاناة، وقالت: ربما أن شاهين سيريحني من الآن فصاعداً، وكافحت من أجل أن تركز مكانه ولكي يحل محل أبيه ولكنه خيب أملها.
*هناك شخصية جانبية أخرى وهي شخصية (شعبان) المرافق لحلاب؟.
** شعبان هو كل الشخصيات المتملقة التي ترافق الشخصيات في المجتمع وهذه شخصيات وصولية، عندها وسيلة تصل بها، وتاريخياً فهي الراقص عند السلطان والطبال والشاعر..
*والمقدمين للسلطان قائمة بأجمل النساء على حد وصف البياتي..
** هؤلاء أشخاص لا بد من وجودهم لتسلية السلطة وهم أيضاً لهم منافعهم الشخصية، فإذاً قد كان شعبان يمثل هذا الرمز، وقد كان فناناً من النوع غير المبدئي على الرغم من أنه عازف ربابة جيد وصوته جميل.
*يُلاحَظ بأن الشخصيات كلها قد انتهت إلى الحطام والهزيمة.. عواد ضاع وشاهين سقط في النهاية..
**(مقاطعاً) لا.. شاهين لم يسقط.
*ولكنه قد وقع في بقعة سقوط القطة؟.
** لا.. شاهين انزلق، ورحلة شاهين هي رحلة استكشافية للشخصيات، يبحث عن سر الضحك وهذا كل همه فعندما خرج إلى المجتمع كان لا بد أن يلتقي بهذه الشخصيات ويستكشفها، فالشخصيات وجميعها كان لها مجال..أي ساقطة في مجال اجتماعي وحياتي معين، ساقطة فيه، فعواد انتهى في محطة القطار لأن حلمه بالشهرة، وهي نقطة السقوط عند الفنان. عندما ذهب إلى العاصمة وكان يشرب (البيرة) ونزل في أول محطة ثم تحرك القطار وبقي عواد سكران.. فضاع، غادرت لوحاته إلى العاصمة بينما هو قد ضاع .. أي اشتهر ولكن شخصيته ضاعت، الإمكانيات التي بداخله كفنان ضاعت، أي أن بحثه الفني وقلقه قد ضاع.. صحيح أنه قد اشتهر ووصلت لوحاته إلى العاصمة بالقطار. والشخصيات الأخرى كل واحدة منها قد سقط في مجال حياته.. هناك نقطة ضعف، فمثلاً سقوط حلاب الذي كان جبروته مبني على الخوف من الآخرين، فلكثرة ما ظلم فهو يتوقع أن يرد عليه الآخرين على هذا الظلم فكان خائفاً من شاهين الذي هو أضعف كائن، ولذلك فإن سقوطه قد كان إزاء شاهين، لأن اختبائه في القبو هو هزيمة، فعندما نزل إلى الأسفل وأخذ يبحث عن حطام ويخاف من كل شيء ويبحث عن أفاعي وأشياء ليس لها وجود.. فنقطة خوف الظالم هي خوفه من الذين ظلمهم.
*والخاتمة.. خاتمة الرواية؟.
**خاتمة الرواية بعد مرور شاهين على كل هذه الشخصيات واكتشف نقطة السقوط فيها حتى في أمه هاجر التي كانت نقطة ضعفها هي غياب زوجها وبحثها عن بدائل مثل السحر وممارسته في المقبرة وحتى رجل الدين التجأ إلى الخرافات فكانت هي نقطة ضعفه وكان يعري النساء ويمارس معهن السحر.. إذن فهو ليس رجل دين حقيقي. وعندما عاد شاهين من المقبرة وقد شاهد جميع النساء عاريات بمن فيهن هاجر أمه، والتقاه رجل الدين متجهاً إلى المقبرة.. أكتشف بأن هناك علاقة بين هذا الرجل والعمليات السحرية التي يمارسونها وطبعاً لم يفهمها هو على أنها سحر وإنما فهمها كشيء آخر..بقي عند شاهين أمل واحد وهو هؤلاء الموجودين في النافذة والذين كان يراهم كل ليلة فيعتقد أن ضحكهم فيه السعادة.. أو موضوع آخر مهم. فتسلق على أنبوب تصريف مياه الأمطار (النزريب) ورآهم يضعون مساميراً في النار إلى أن تصبح حمراء ثم يرمونها في الماء فتصدر صوتاً: (كش.. كش) فيضحكون لهذا الموضوع (الكش) فاكتشف بأن سعادتهم مزيفة فارغة.. وهم سعداء لأنهم فارغين، فظل يضحك على ضحكهم ويضحك لهذا الاكتشاف ثم نزل من الأنبوب عندما تراخت يديه ولم يعد يستطيع أن يسيطر عليها بسبب الضحك وظل يضحك حتى الصباح، فاستيقظت القرية وأصبحت تضحك على ضحك شاهين.. يعني؛ إنها تضحك على ضحك بدون معرفة السبب، فلأنه يضحك، وهناك نوع من الإيحاء الجماعي أو العمل الجماعي فقالوا بأن هذا مخبول. ولأول مرة نراه يضحك فبدأوا يضحكون. حتى الضيف لا يعرف ما هي القضية ولا يعرف ما الموضوع الذي يضحكون عليه أخذ يضحك أيضاً على ضحك الناس.. فأعتقد بأن شاهين قد اكتشف مسألة الضحك أي الضحك الحقيقي والضحك المفلس كما ذكرت الرواية.
* هناك عبارات تتردد مثل عبارة: الزنوج والباذنجان على الجريدة وسلق البيض في نيفادا..
** يسلقون البيض في صحراء نيفادا ولا يعرفون شيئاً عن العم عارف ولا عن كوى الفخار في منحدر التل الأسود.. أليس كذلك؟.
*نعم مثل هذه الأشياء كانت تتردد عدة مرات.. ثم ما هذا العنوان (دابادا)؟.
** في الحقيقة لم يكن اسمها (دابادا) كان اسمها (أعراس الكرة الأرضية) هذا هو الاسم الأول للرواية ولكن هناك بعض المسائل، مثلاً؛ فعندما مضيت بشخصية شاهين وجدت أنني قد أردت أن أقدم شخصية أو رواية بدون كلام.. بدون لغة وهذا طبعاً غير ممكن. فإذن يوجد شئ بلا كلمات ولا بد أن أضع كلمات لا تعني شيئاً.. بعد ذلك أوصلت اللغة إلى أبعد مدى.. كانت ثمة أشياء تفوق طاقة البطل وتزدحم عليه فما كان يستطيع أن يعبر عنها إلا بلفظة فارغة ليس لها معنى وهذه اللفظة ، في الوقت نفسه، تجمع كل الكلمات.. وهي بالضبط تقابل لحظة الصمت في سمفونية بتهوفن التاسعة.. هناك لحظة صمت قصيرة في السمفونية وصل لها بتهوفن إلى حالة يكون فيها أنه لا يستطيع أن يعبر عن هذه اللحظة.. لحظة ما وراء الموسيقى. فدابادا كلمة وراء اللغة.. أو ما وراء اللغة.. ميتادابادا.
*ولكنها تستعمل أيضاً في اللهجة العامية لقريتنا والبعض يقول أنها تعني: إلخ؟.
** نعم هي موجودة ولكنها لا تعني هذا وحسب في الرواية، وهي تستخدم في المجتمع وربما يكون الاستخدام قريباً؛ فهي تأتي أيضاً عندما يحاول شخص ما أن يصف حادثة ثم لا يستطيع أن يكمل لشدة ما بهرته الحادثة ولشدة تأثره بها أو تأثيرها عليه، فيقول لك في النهاية: ودابادا.. أنا لم أطور في النهاية هذه الكلمة كثيراً وقد استخدمتها الاستخدام الاجتماعي نفسه تقريباً.
*قال لي بعض الأصدقاء الأسبان بأنها تستخدم في لهجتهم العامية في بعض قرى قطالونيا شمال إسبانيا وذلك عند تعليم الأطفال للمشي.. أي كتلك اللفظة التي نستخدمها نحن للغرض نفسه؛ تاته..تاته..تواته؟.
** لا أعرف شيئاً عن مدى وجودها في اللغات الأخرى أو الأمور العالمية ولكنني قد اكتشفت أن لها وجوداً وجذراً أيضاً. اكتشفت ـ وبعد أن استخدمتها ـ أن الدادائية أيضاً قد استخدموا لفظة (دادا) عن نفس المفهوم.. تعبيراً عن التلقائي.. صحيح أنها لفظة لا تعني شيئاً ولكنها تعبر عما هو تلقائي لأنها لفظة طفولية..

----------------------------------------
*نشر في مجلة (ألـواح) العدد 11 سنة 2001 مدريد.

12‏/10‏/2009

حوار مع حسن مطلك / أجراه: عيدان الصحن


القاص الشاب حسن مطلك

الكثـرة لا تـعني شـيئاً فـي الإبـداع


صورة: حسن مطلك


حاوره: عيدان محمود الصحن

حسن مطلك قاص حاز على الجائزة الأولى للمسابقة الخامسة لقصة الحرب بقصته (عرانيس). له عدة قصص منشورة في مجلات: الطليعة الأدبية، أسفار، ألف باء. وصحف: الجمهورية، الثورة. لم يصدر له حتى الآن أي مؤلف سوى روايته ( دابادا ) التي لا تزال تحت الطبع... وغيابه طال عن الحضور الثقافي، فسألته:

* ما سبب غيابك عن الحضور الثقافي؟.
** إن الغياب بالنسبة لي هو شكل من أشكال الحضور، والحضور بالنسبة لي هو أن أكتب وأستغرق في الكتابة. وتجربتي ذات أمواج تضعني دائماً في فورة المحاسبة.. أنا مزدحم وأخاف وأحذر النشر؛ مخافة أن أندم فالكثرة لا تعني شيئاً في الإبداع.

· إلى أي نوع تميل في الكتابة، القصة الطويلة أم القصيرة، ولماذا؟.
** أكتب الرواية ليس لأنها سرقت من الفلسفة والشعر قوتيهما ولا لأنها فن العصر، كما يقال، بل لأنها صعبة، وعرة، ولأنني أستمتع كثيراً بهذا الخطر.

* وهل تفضل الكتابة عن قصص واقعية أم خيالية؟.
** ليس ثمة فارزة بين الواقعي والخيالي في الأدب، أحدهما يكون ذراعاً والآخر رأساً واللغة روح لهذا الجسد الهجين.

* كيف تتعامل مع اللغة في كتاباتك؟.
** أذكر قولاً لأحد كتاب الرواية الحديثة، يقول:" لم أحاول في يوم ما أن أجبر اللغة على قول ما لا تريد أن تقوله". واللغة هي أنا، فأحاول أن لا أكذب قدر الإمكان، إنها ليست مجرد أداة للتوصيل.. فهي تشمل الصوت أحياناً. المهم أن نجرب كيف نخطيء في اللغة بعد أن نتقن الإعراب.

* كـيف تصطاد الكلمات المعبرة في لحظة الكتابة، وهل يمكنك ذلك في كـل الأوقـات؟.
** نعم يمكن.. ليس للكتابة وقت محدد، ولكن لحظة الدهشة هي ذروة الإبداع.. دهشة الاكتشاف التي تضيع الكثير من التفاصيل، غير أنها تعطي بالمقابل لغـة مـضيئة.

· ما تاثير الجو الرومانسي والحياة الفطرية في الريف على كتاباتك؟.
** بفضل الريف تعرفت على مناطق واسعة، لأن العلاقات أوسع. هناك الطبيعة والفطرة والفضول وأشياء كثيرة لا تعرفها المدينة. الريف هو ينبوع الخيال.. إنه يعطي فرصة لي لا لكي أتخـيل فـحسب بل لأتـابع هذا الخـيال حـتى يـتجـسـد.

· بمن تأثرت من الكتاب؟.
** تأثرت بجميع الكتاب بما فيهم (المنفلوطي) ولم أقلد أحداً. أنا معلم نفـسي، فلا أستطيع أن أكون فولكنر ولا ماركيز.. ربما استطعت أن أكون أنـا نفـسي.

* ما هي انطباعاتك عن القصة العراقية وكتابها؟.
** القصة العراقية في أتم العافية ولكن الجدية تنقصنا جميعاً. إذا أردنا معرفة مستقبل القصة علينا أن ننظر إلى تجارب الآخرين من الشباب. أما الرواية في العراق فلم تخرج من حجرة التقليد.. ولكنني متفائل كثيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت هذه المقابلة في جريدة (الطلبة والشباب) العدد253 الثلاثاء 28/6/1988. بغداد.

حوار مع حسن مطلك / أجراه: مجيد السامرائي

حـسـن مـطلك وحـديث عـن القريـة والقصـة

صورة: حسن مطلك

حاوره: مجيد السامرائي


".. القرية تغرق في سكون تام، نام بعض الناس ومازال البعض يشرب الشاي أو القهوة وينشر الأحاديث. بدت القرية آمنة عند أقدام جبل مكحول، تسلم نفسها لحبه دون مقاومة، والظلمة الفضية تهرول بين الأشجار وعلى حوافي نهر الزاب الأسفل. هجعت العنادل والحمائم واستفاق الدود والصراصير من سبات النهار. فَراش الحقول القريبة وبراغيث الأحراش وحشرات غدران الري ترتمي على ضياء الفوانيس الحمر الراقصة.. تهرب كل تلك الكائنات بينما يدخل هو مملكتها. على الحُصر والبسط تنام النساء والأطفال، على العتبات تترقب كلاباً. يمكنه أن يحسب كل بيت، كل حجرة حتى آثاثها المتواضع.. يمكنه ذلك فلا توجد غرفة مقفلة على محتوياتها وعصية على أي فرد في هذه القرية."

من قصة (عرانيس)
**************

بهذه اللغة البسيطة، الدقيقة، المناسبة، يتحدث حسن مطلك القاص الفائز بالجائزة الأولى للمسابقة الخامسة لقصة الحرب. بهذه اللغة يتحدث عن قريته الأسطورية التي تنام عند أقدام جبل مكحول، تتطهر بالليل والنهر والسحر.
* حسن مطلك فتى غض غرير مغمور...
** مغمور وابن مغمور وابن قرية مغمورة.. وإلا فمن يدلني على قرية (السدرة الوسطى) على الخارطة.. أنـتم تـعرفون (الشرقاط) ولا تـعرفون قـريتي...

" كنا نثرثر عند حافة النهر وكانت بعض طيور الماء تشاكس وجه النهر وقد انسحب عن بعض الصخور وترك خلفه بعض البِرك القريبة القاع التي امتلأت ببعض العلب الفارغة ونفايات المدن". من قصة(عرانيس)

قال حسن بن مطلك:ـ طيورنا أنقى من طيور المدن.. السماء عندنا دانية وناصعة ورحيمة..
* أنا أدري أنك تحتمي بالمدينة من القرية..
** لقد ملك علي حب قريتي (السدرة الوسطى) شغاف القلب، وأنا.. أهرب منها لفرط حبي لها..
* تلك مبالغة فيها بلاغة..
** اللغة عندي نحت خاص، وتعبير داخلي. لكل مفردة صوت وإيقاع.
* أنت متأثر بالأدب المترجم..
** لا أنكر ذلك، غير أن الواقعية السحرية التي تسود الأدب اليوم هزتني بعنف، فكتبت وأنا أسير في أفلاكها.
* للطيب صالح قول لا أجد بداً من ذكره هنا وهو:" أن في قريتي أبطالاً أسطوريين، يفوقون أبطال هوميروس وشكسبير الأسطورية". أتراك تريد إضفاء تلك الصفات على مواطنيك؟.
** بالفعل كل فرد عندنا حضارة قائمة بذاتها، كل فرد أسطورة.
* وكل بطل في القصة هو عبارة عن نتف متفرقة من شخصيات واقعية أو مبتكرة..
** هذا صحيح.
* وقد يدس الكاتب نفسه بين الشخوص وينسب له حكاية.
** نعم، أنا فعلت ذلك في روايتي الجديدة التي أحاذر في نشرها.
* هناك رأي يقول: أن الكتاب قليلي الأهمية هم وحدهم الذين يعرفون من أين يبدأون وإلى أين ينتهون.
** أنا أعرف النهاية ولا أعرف البداية، أضع الخاتمة للحكاية قبل أن أخطط لمصائر أبطالها..
· بمن تأثرت؟.
** هيرمان هيسه هـزني بـعنف، وغسان كنفاني وغابريل غارسيا ماركيز كـذلك.
· هل تظن أن هناك أدباء قرى وأدباء مدن؟.
** ربما.. أنا أظن أن المبدعين هم أهل القرى، أو الكتاب القرويون المتمدنون.. القرويون أعرف بقراهم من أهل المدن، وإن غطسوا في زحام المدن فهم أدق تعبيراً من غيرهم عن المدينة.
· ألا يضيرك بأنك كاتب مغمور؟.
** أبـداً، إن هذا يسعدني. أنا متأنٍ وغير متعجل، وأقـول للقراء والنقاد نـحن على مـوعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت هذه المقابلة في جريدة(الجمهورية)العدد5246 السنة17/السبت14كانون الثاني1984/بغداد.
***********************
صورة: حسن مطلك في حقول قريته

".. إن القصة القصيرة تحمل منهجها الخاص من خلالها، وما نريد أن نحصل عليه منها هو عمق الصورة الإنسانية المقدمة بلغة فاعلة جاذبة سليمة وقدرة شخصية على تلوين الحدث القصصي بالطريقة التي يراها القاص مناسبة لبلوغ الحدث أعلى درجات نضجه وتأثيره. قصة(عرانيس) لحسن مطلك نبتت في قرية تطل على الزاب، حيث يؤوب الجنود المجازون إليها ويلتقي الفتيان فيها مع الأهل والأحبة ويدور حديث الذكريات وصور الحرب خافتاً حيناً وعالياً حيناً آخر. في القرية ناي يعزف ومواسم حصاد ودروب ومقبرة ودبكات وفوانيس وحقول الذرة...(عرانيس) قصة ناجحة بحركة الشخوص ودوران الأحداث ومسرح الحركة والقدرة على التصوير والشد وإيصال القارئ إلى نهاية جميلة لقصة من قصص الحرب التي تعتمد الانتشار في مسرح آخر."

باسم عبدالحميد حمودي
جريدة( الثورة) بتاريخ 12/10/1983 بغداد

06‏/10‏/2009

كلمة / ألـواح

هذه هي الكلمة التي افتتحت بها مجلة (ألواح) عددها الخاص بحسن مطلك سنة 2001م.


" تذكرتُ تلك المرأة التي قالت لي: أحبك.
فقلت لها: لا وقت عندي لغير الكتابة، وكتابتي، كما تعلمين، ليست مطلباً ذاتياً خاصاً، فالذي يدفعني بالأساس إلى الكتابة هي الغيرة.. نعم.. الغيرة.
قالت: أتغار عليّ.
قلت: أغار على وطني، الذي كلما قارنتُ أدبه بآداب الشعوب اكتأبت، ودفعني ذلك للقراءة والكتابة.. وستبقى تلك الغيرة تنهشني حتى أحقق ما يحققه كاتب عظيم لوطنه.. أو أهلك دون هذا الأمر
".


حسن مطلك

*****************************

مفتتح

حسن مطلك .. لأنه .. لوركا العراقي!.

نود لو أننا نستطيع القيام بتكريم كل شهداؤ العراق.. من قضى نحبه منهم ومن ينتظر.. أن نكرم كل الشهداء الأموات والأحياء ممن مازالوا ينزفون في مغترب الداخل ومغتربات الخارج.. لكن ذلك فوق طاقتنا المتواضعة.. وتبقى هذه من مهمات الشعب العراقي بأكمله.. أما نحن فإننا نكرم هنا واحداً من هذه القافلة الطويلة.. ألا وهو حسن مطلك.. نكرمه لأنه رمز صارخ لمحنة الإنسان العراقي بشكل عام، ورمز لمحنة المثقف العراقي بشكل خاص.. نكرمه لأننا قد عرفناه عن قرب، ولأننا ندين له بالفضل الكبير بما علمنا إياه من فن الكتابة، ومسؤولية المثقف وموقف المواطن.. نكرمه لأنه قد هزنا في حياته عبر الإبداع، وهزنا في موته عبر التضحية.. حتى أن البعض من أصدقائه قد أطلق عليه لقب (لوركا العراقي) وآخرون قالوا إنه (كنفاني العراق) وآخرون قالوا إنه (حسن مطلك العراقي).. الذي تمر اليوم الذكرى الحادية عشر لرحيله متصادفة مع صدور العدد الحادي عشر من ألــواح فخصصناه له.. وما هذا العدد إلا خطوة أولى في العمل على إعادة جمع ونشر أعماله والأرشفة لإرثه والسعي الدائم لاستحضار نموذجه، كرمز شاهد على حال العراق والثقافة العراقية في هذه المرحلة.. ولهذا فنحن دائماً بانتظار أية مشاركة بهذا الاتجاه من نصوص له، ورسائل منه، وشهادات عنه، ودراسات عن أعماله، ونصوص مهداة إليه.. وغيرها.. كما نقدم شكرنا لكل الذين ساهموا معنا في إنجاز هذا العدد الخاص من ألــواح.

التحرير

غلاف العدد

إهداء إلى حسن مطلك / صفاء الشيخ حمد

حسن مطلك .. آخر حَبّة

صفاء الشيخ حمد

كان آخر حَبّة في قطّارةِ النبيذ..
كان ينهر ذلًّ الهزيمة فينا
والـ (انتصار!!)،
يلعن فينا عواء الكلاب ..
كان يمشي على هذه الطرقات،
ولكننا،
أضعناه في زحمة اللغو..
تركناه يجتر أحزانه وحده..
غدرنا به ،
تنكرنا لآخر أشيائه..
وحتى الكلام،
سلبناه منه،
فأضحى يلملم حروفه،
كقبًّرة أفرغت من حنين
كناي يحنُّ إلى شفتين...

كان آخر طلقات أمي
وهي تعضُّ بأسنانها
على جذع نخلةٍ ،
كان اسمها رافدين،
طلعها.. كان رافدين،
قوتها،
سعفها،
كربها،
كلُّه كان رافدين...

هكذا كان
وهكذا...
لم يكن مثله..
آخر حبة في قطّارة النبيذ،
آخر طلقات أمي
في بلادٍ يسمونها،
جنةُ بين رافدين !!
جنةُ الرافدين !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــتـــــــــــ
*صفاء الشيخ حمد: كاتب ومترجم عراقي يقيم في الهند.

05‏/10‏/2009

دراسة / هلال حمود هايس


المكونات الحية في النظام البيئي لرواية(دابادا)

دراسة لتبيان الهوية الحيوية لمؤلفها (حسن مطلك)


هلال حمود هايس

بعد عملية المسح الحيوي (نسبة إلى علم الأحياء) لرواية(دابادا) لمؤلفها الشهيد المبدع حسن مطلك، تم تقسيم المكونات الحية على أساس النظام البيئي إلى كائنات ذاتية التغذية تسمى بـ المنتوج ونسبتها 49،6% من مجموع الكائنات التي مرّ ذكرها في الرواية، وكانت ذاتية التغذية في البيئة اليابسة 90% أما ما تبقى 10% فهي المائية في بيئتها، فكانت الواطئة 46،2%، والتي تتواجد في البيئة اليابسة الراقية هي 10%، والمائية الراقية 90%، وكانت 53،8% النباتات الراقية في البيئة المائية، فيما وجدنا الواطئة 46،2%. ووجدنا بأن مجموع ذاتية التغذية قد بلغ 72 والمعتمدة 66 والمحللة 5 كائن حي.
أما بخصوص الكائنات معتمدة التغذية (التي لا يمكنها صنع غذائها بنفسها) (المُسْتَهْلِكَة) فتمّ تقسيمها على أساس الشكل، فكانت الفقريات 64،2%، واللافقريات 35% . أما على أساس طبيعة التغذية فقد تمّ تقسيمها إلى: آكلات نبات، وهي التي شكلت النسبة الأكبر 71،4% والتي تسمى (المستهلكون الأوليون)، فيما آكلات اللحوم (الثانويون) فبلغت نسبتها32،8%، أما آكلات اللحوم والنبات ما عدا الشخصيات في الرواية فكانت نسبتها 2،8%، ولتوضيح تقسيمها على أساس البيئة اليابسة والمائية ومنها برمائية، فكانت 89% التي تعيش في البيئة اليابسة، فيما 9% فهي تعيش في البيئة المائية، أما البرمائيات فكانت 2% من مجمل الكائنات التي مر ذكرها في رواية (دابادا).
أما اهتمام كاتبنا حسن مطلك بالكائنات المحللة فقد حظيت بأقل اهتمام في البناء الروائي فكانت نسبتها 3،5% من مجموع الكائنات، فكانت الفطريات 80%.
وبالنسبة لتكرار ذكر شخصيات روايته فجاء على الشكل التالي: شخصية شاهين 101 مرة تحديدا، وشخصية عواد بحدود 38 مرة، وشخصية هاجر 36 مرة، وشخصية حلاب 32 مرة، وشخصية عزيزة 31 مرة، وشخصية شعبان 19 مرة، وشخصية صابر 18 وشخصية محمود 18 مرة، وشخصية عالية 10 مرات، وعبد المجيد 7 مرات، وشخصية فاتن مرتان، ومسعود 3 مرات، وشخصية فاطمة مرة، وأيضا سعدية ومريم بنت عمران، وشخصية الكاتب هيرمان هسة وحسن مطلك وهنري روسو مرة واحدة لكل شخصية من هذه الشخصيات، فكان مجموع الشخصيات بحدود 18 شخصية.
نظرة بسيطة بعد استعراض النتائج لتفحص الهوية الحيوية لكاتب رواية (دابادا) حسن مطلك
بعد أن أحصيت النتائج ودرستها تعمدت أن أقوم بمحاولة (جريئة) وهي أن أتطرق إلى تأثير الجانب البيئي وأثره في شخصية الكاتب من خلال التحليل الحياتي لرواية (دابادا ) فوجدت ميوله إلى الكائنات الحية بصورة ملفتة للنظر فذكر بحدود (143 ) كائناً في رواية لا يزيد عدد صفحاتها عن (221) صفحة من القطع المتوسط، مع العلم أن الشخصيات لم تكن ضمن هذا الرقم كونها من صميم الأدب، فاعتمد الكائنات ذاتية التغذية أكثر من المعتمدة التغذية والكائنات المحللة في قولبة روايته.
فتأثر بنباتات اليابسة (ذاتية التغذية) وخصوصاً الواطئة منها، وعللت ذلك أثراً لتفاعله مع بيئة قريته التي تفتقر إلى النباتات الراقية وأيضا تفتقر إلى المسطحات المائية أو الأهوار أو البحار فأثرت به اليابسة أثراً ملفتاً للأنظار حيث أن قريته (سديرة) يقرب منها نهر دجلة فقط فاهتم بالنباتات الراقية من هذه البيئة أكثر من الواطئة فكان تعداد ذاتية التغذية الأكبر من المكونات الحية في نظام (دابادا) البيئي.
أما بخصوص معتمدة التغذية فكانت 66 كائناً تقريباً، وكان للفقريات النصيب الأكبر وذلك كون ما تمّ تدجينه والاهتمام به في هذه البيئة أكبر من اللافقريات، أو نسبة كبيرة في البحار والمسطحات وكما قلنا بيئة الكاتب هي اليابسة وعلى أساس التغذية فكانت آكلات النبات هي الغالبية من آكلات اللحوم، ربما لأن الكاتب بطبيعته شخصٌ حساسٌ طيب، أما الأقل من المكونات الحية هم المحللون في الرواية وذلك لأن الكائنات المحللة دائماً مجهولة فهو غير مختص بهذا المجال كي يولي اهتماماً أكبر، أو يكون لها أثراً أكبر في ذاته.
فقد أعانت جميع الكائنات الكاتب في الوصف لكي ينقل الصورة الحية فمثلا يقول: (وجوه حادة التعابير، لواحد وجه الثعلب في قراءة الأطفال) فأحس بالكائنات بدرجة حساسية عالية جدا، فمثلاً يقول: (يحس بثقل السلحفاة، وعذاب الحلزون بسبب القوقعة) وعرفنا من دراسة البيئة أنه عاش العزلة لفترات طويلة، فقال متحدثاً عن كثير من الظواهر فمثلاً ظاهرة الافتراس الموجودة بالمستهلكين الثانويين آكلات اللحوم فمثلاً يقول: (... مدت دجاجة جناحيها فوق كتاكيتها حين أبصرت في الأرض ظل الباشق).
فاستخدامه للكائنات أو أثر الكائنات في نفسيته، أعانته لنقل المشهد الحي كونه فناناً نقلها بدقة فيقول (كان هجوم الصباحات على النافذة في لحظات قصيرة مجحفة تمنحه البدائل عن كل أمنية إذ إنه اعتاد النهوض قبل طلوع الشمس ليرى الطيور وهي تمزق بأصواتها سماء الفجر الفضية رابطة الغيوم بخط أسود بليل ومتقطع....) فكان ينفق الكثير من وقته بمراقبة سلوك بعض الكائنات، فأجبرته أن يدون سلوكها، فمثلاً ذكر العواء، المواء، النهيق، النقيق وغيرها، وتطرق للعديد من الأمراض كالسعال الديكي ومرض السل (الصدور السليلة) ومرض الحصبة، وأيضا ذكر العديد من الاختصاصات كعلوم الحياة، مثال الفيزيولوجيا والمناعة، وتطرق إلى علم البيئة ومروراً بعلوم الحياة ولابد أن أذكر بأن هناك حقيقة علمية، هناك قانون بيئي: الطراز المظهري = العامل البيئي + العامل الوراثي ( 50 % + 50 %) .. فأثر البيئة على أي كائن مساوٍ لنسله الوراثي.

* * *

إعادة جدوَلَـة:
* مجموع الكائنات التي مر ذكرها في رواية دابادا بحدود (142) كائن حي، أو جزء من ذلك الكائن.
* تم تقسيم المكونات الحية حسب مفاهيم النظم البيئية إلى ثلاث أقسام هي:
1ـ الكائنات المستهلكة Consumers وعددها 172 كائن حي ونسبتها المئوية 51% من الكائنات الوارد ذكرها برواية دابادا.
2ـ الكائنات المنتجة Producers ( يمكن صنع غذائها بنفسها ). وعددها 66 كائن حي ونسبتها المئوية 43% من مجموع الكائنات التي مر ذكرها في رواية (حسن مطلك).
3ـ الكائنات المحللة Decampments عددها 5 ونسبتها المئوية 4% ، من الكائنات التي ورد ذكرها بالرواية.

إشارة: جميع النسب مقربة، النسب تمثل كل قسم من هذه التقسيمات بمفرده فمثلاُ 80% الفطريات من مجموع الكائنات المحللة فقط وليس من مجموع الكائن المحللة التيهي 80% من مجموع 5 كائنات محللة.

ملاحظات:
1ـ الدراسة تمت بدون إشراف، وذلك كونها دراسة موجزة وإحصائية ونظرية لا يوجد فيها جانب عملي
2ـ صعوبة التصنيف Classification بسبب استخدام الأسماء المحلية لأن العمل أدبي وتم البحث بالطرق العلمية.
3ـ لم تعنى هذه الدراسة بالتكرار فهناك كائنات تكررت لعديد من المرات كما سواها فأهملت هذا الباب.
4ـ شخوص الرواية يقعون ضمن التصنيف الأول من الكائنات المستهلكة وتم مضلهم ن لسب كون العمل أدبي، ولتفادي الإسهاب.
5ـ النظام البيئي مؤلف من مكونات حية تم التطرق إليها بشيء من البساطة أما المكونات غير الحية Abioti components لم أتطرق إليها فاسحاً المجال لغيري من المختصين للإسهام في ترجمة معان رواية الشهيد المبدع حسن مطلك.
6ـ اسم الدراسة باللغة الإنكليزية هو:
Simple study for Biocompenent of Ecosystem for ((Dabada )) long story to detal Biopersonal it write (( Hassan Mutlak ))
-------------------------------------------
*عن صحيفة (الاتجاه الآخر) العدد 166 نيسان 2004م العراق.
*هلال حمود هايس: كاتب وباحث بيولوجي عراقي.


صورة: حسن مطلك - الشلالات - شمال العراق

قراءة / حسين سليمان

تضيع الحروف ثم الكلمات جميعا ثم الصوت..
باستثناء( دابادا) حسن مطلك
حسين سليمان

خلقت الأعمال الروائية الكلاسيكية على يد الروس والأوروبيين عالما فنيا يفوق الواقع التاريخي الاجتماعي ويدل عليه ويقف منه موقفا وجدانيا يكشف تشوهات الروح والبؤس، ويكشف حركة المصير التي لا تعبأ بتطلعات الفرد أو المجتمع، حركة لها قدمان يطآن الرغبة والأمل. لقد أشادت هذه الأعمال النصب العالمي آنذاك وجاءت أعمالا متينة سلسة تمس الوجدان والعاطفة وتخلق فيهما موقفا مضادا للواقع.
ثم كانت الأعمال الحديثة التي لطريقة تركيبها الفني قد كسرت الصيغ الكلاسيكية المألوفة. فلم يعد الحديث فقط مع العاطفة والوجدان بل أضيف إلى ذلك العقل الذي سيساهم في عملية التحليل والتفكيك لإطلاق المعاني المرمزة. هذه المعاني التي لن تحملها الطرائق الكلاسيكية. حيث أن قوة المغزى عميقة مغروسة في أعماق البنية البشرية، والأشكال السطحية المنظمة المضبوطة والتي يشكلها الزمان والمكان معا هي تيارات سطحية لا تشي بمعمار الداخل القابع في القاع.
لقد تزامنت هذه التيارات الجديدة مع الاكتشافات الحديثة للفيزياء والكيمياء اللتين يكشفان في كل مرة أن حقيقة الوجود تظل ناقصة والطريق إلى الحوزة عليها هو طريق توافقي بالمعنى الرياضي أو (تضاعفي)، حيث أن ملايين السنين القادمة لن تكفي للوصول إليها.
ولقد أجادت الرواية العربية الطرائق الكلاسيكية وأمتعتنا بسرديتها وبفنيتها الجميلة (موسم الهجرة، الحرافيش، التيه من مدن الملح.. لا أغفل أيضا أعمال إبراهيم أصلان..) وبظهور التيه وموسم الهجرة كنت قد كونت نظرة عن أن الرواية العربية وصلت إلى المنتهى الكلاسيكي ويجب بالتالي إما أن تكرر نفسها أو أن تستكشف طرائق أخرى- وهذا الكلام لا ينطبق على إبراهيم أصلان مثلا حيث الظاهرة الإبداعية لديه فيها خصوصية عربية مصرية. وربما كانت البدايات على يد إدوار الخراط في رواية "الزمن الآخر" التي سيطر عليها عامل اللغة وأدارها كي يحولها إلى قصيدة نثر طويلة. فالزمان والمكان في هذه الرواية هما في حالة الشعرية وليسا في حالة الروائية. الزمن الآخر قد افتتحت النهج أو الصيغة الحديثة التي ستكتمل عن طريق تحويل قوة الشعر إلى الرواية حيث سيتم فيها إدخال معامل خاص يضمن رؤية مختلفة للمكان والزمان. هذه الرواية، الزمن الآخر، مهدت الطريق لدابادا.
في الواقع البسيط والمباشر أن من مهد الطريق لدابادا هو وليم فوكنر في راوية الصخب والعنف حيث كانت ترجمتها إلى العربية العامل الأكبر لظهور دابادا. لكن هذا الظهور من الوجهة العميقة يدين لرواية الزمن الآخر أو (رامة والتنين) فهي التي ألمحت للنفس العربية المبدعة بضرورة كسر القيد الكلاسيكي للنص الروائي. لذلك لا أخشى في أن أقول إن إدوار الخراط هو الأب أو الجد ( Grandfather) المؤسس للرواية العربية الحديثة. حيث أن هناك رباطا بينه وبين الكلاسيك من جانب وبينه وبين الحديث من جانب آخر.
الحالة الروائية عند إدوار الخراط أو عند حسن مطلك ليست حالة قص أو رواية أحداث كما هي عند بلزاك أو فلوبير، محفوظ أو منيف، بل هي طاقة موسيقية غاضبة تريد أن تخرج بأداة اللغة، ولا تتسع لها القصيدة، ولا تتسع لها الرواية الكلاسيكية التي تبدو أمامها هشة ضعيفة، فتهشمها الطاقة الإبداعية العميقة التي تدفع وتخرق بالصور الفنية المعنى الزماني للمجتمع ذلك كي تدينه وتكشف خطاياه الأبدية.
.."بحلول الخريف حيث تجاهد الأشجار للتخلص من أوراقها الميتة، قامت هاجر ثم اتجهت إلى المطبخ المنفرد لكي توقد ما تبقى من أحطابها وتعد أصباغا من عروق الشوك لقربة اللبن. قامت هاجر. يقول شاهين وهي أمه. وفي كل خريف تتجدد ذكرى ضياع الأب في البراري بسبب أرنب مبقع"
ما سبق هو افتتاحية رواية دابادا التي كتبها الراحل حسن مطلك وصدرت طبعتها الأولى على نفقته عن الدار العربية للموسوعات في بيروت العام 1988. ويقوم ويشاد في هذه الافتتاحية الأساس الذي سيبنى عليه المعمار الروائي التشكيلي الغامض، حيث الافتتاحية في هذا النوع من الأعمال ليست مقدمة للتوضيح بل هي من مرة واحدة غرف اليد عميقا في سريان الباطن كي تمسك على المنبع الذي يغذي العمل الروائي كله. فالتيمة التي تقص ضياع الأب هي أساس الرواية. وكما هو الحال في رواية (بيدرو بارامو) التي يفتتحها خوان رولفو "جئت إلى كومالا لأنهم قالوا لي إن والدي يعيش هنا" فالبحث عن الوالد أيضا هنا هو قوام الرواية. ويتضح ذلك أيضا في رواية الزمن الآخر حيث تقول الأسطر الأولى منها "كانت رامة تقف بالباب، في الدفء المخامر، ندية، نظرة، ثقيلة بجناحين كبيرين مطويين إلى جانبها" فالرواية كلها عن رامة الحبيبة الشرقية المستحيلة.
إن حالة ضياع الأب في البراري تتوافق مع حالة البحث عن الأب في "بيدرو بارامو" وتتوافق أيضا مع الصورة الهائلة للحبيبة رامة التي تستحضرها لنا رواية الزمن الآخر. فعمل المقدمة هنا هو عمل يضع القارئ في بطن السيالة الفنية التي تشكل العمل الفني كله. إنها الدفقة الأساس، الدفقة النووية التي لم تنفجر بعد. إن كان بلزاك (ديكنز) وفلوبير قد أمسكا الطرف الأول من العصا فإن جيمس جويس وفرجينيا وولف أمسكا بالطرف الآخر منها حيث نظر الأولان إلى الخارج بينما التاليان نظرا إلى الداخل وهم مجتمعين لم يخرجوا عن الصيغ الكلاسيكية للرواية بينما فولكنر وخوان رولفو كانا بعيدين وحرين وهما من أخرجا الرواية إلى المدى البعيد الرحب حيث سيتم تشكيل العالم وترميزه كي يحمل ثقلا أضافيا.
دابادا جاءت كصراع بين الخير والشر ( بين البلاهة والخبث)، ورغم أنها قد استعارت أبله فوكنر (بنجمان= شاهين) إلا أنها قريبة أكثر في تركيبها لراوية "بيدرو بارامو" منها ل "الصخب والعنف" حيث دابادا كانت قد كتبت قبل دخول ترجمة "بيدرو بارامو" العراق. وهذه واحدة لها تقول لنا إن الراحل حسن مطلك حاول التجاوز والتخلص من تأثير وليم فولكنر وافتتح بهذه المحاولة رواية كونية حديثة.
تقص الرواية كيف مختار القرية (حلاب) أغتصب السلطة من الشيخ عبد المجيد الذي مات مسموما بمؤامرة من حلاب؛ وأزاح أيضا عن طريقه أبا شاهين محمود الصياد الذي ضاع في البراري خلف أرنب مبقع. كان لشاهين من العمر سبع سنوات حينذاك حيث سيعتزل في غرفته العلوية لعشرين عاما حزنا أو استسلاما. بعد ذلك يخرج منها كما يخرج الفرخ من بيضة، أبله بالطبع ومع أن أمه هاجر تحاول أن تجعل منه رجل البيت بعد اختفاء أبيه إلا أنها تفشل. فهي أمام أبله لم ينم جسده بشكل طبيعي فقد كان سبيعي، سبعة اشهر وليس تسعة، في ولادته. ثم يحاول المختار حلاب أن يجعله احد أتباعه وأحد خدمه فيمنحه حمارا كي يرعاه لكنه في البرية يطعن الحمار بمدية أمسكها بالمقلوب فيدمي يديه بدلا من قتل الحمار. ويظن انه قتل الحمار فيهرب نحو الجبل للاختفاء. يساعده في الاختفاء عارف الذي يقوده نحو المخبأ الآمن، لكن الأخير سيعود إليه ليقول أن الحمار بخير. وما فعله شاهين لم يكن سوى طعن نفسه... هناك أيضا مركز أو كتلة قص تدور حول صديق شاهين الفنان الرسام عواد وموديله عزيزة التي يقع في غرامها. والحياة العاطفية لشاهين، إن كان هناك حياة عاطفية، تتردد بين عزيزة وبين محاولات أم عواد (40 عاما) التي حاولت لفت انتباهه لأنها بحاجة إلى رجل يعوض لها نفور زوجها المتدين عنها. الصفحات الأولى من الرواية تبين مشهدا خارجيا غامضا. بعض الأشخاص في غرفة بعيدة يبدون من خلال نافذة غرفة شاهين منهمكين في عمل ما يبعث سعادة في نفوسهم فيضحكون. ويكتشف شاهين في نهاية الرواية أنهم إنما يقومون بوضع مساميرا في النار حتى الاحمرار ثم يلقونها في الماء لتصدر صريرا " كش" فيضحكون على هذا وكان شاهين يظن أن ضحكهم لسعادة ما. لقد انعزل شاهين لعشرين عاما! تظهر لنا هذه العزلة ثم الخروج منها، تظهر أحيانا بأنها غير مبررة فنيا، فهو أصلا يعيش في عزلة وذلك إن كان قد انعزل في غرفته لعشرين عاما أم لا، فهي العزلة حاضرة في كيانه وروحه. فكأن هناك كما يبدو لي في بعض المقاطع تحضيرا مسبقا للصناعة ودفعا عقلانيا للصيغ الفنية: ينعزل عشرين عاما ثم يخرج. حيث كما أرى أن هذا الدفع والتخطيط المسبق له لا يصلح لهذا النوع من الأعمال الروائية، لسبب واحد وهو وجوب أن يكون التضافر بين الدفقات الشعرية والبناء الحكائي تضافرا نابعا من موطن واحد وهو ساحة ما تحت الشعور الخفي الذي يعرفه الشعراء جل معرفة. وهذا الموطن لا يسمح للوعي بالتدخل، أي أن عناصره لا تبنى ولا تصمم مسبقا بطريقة الوعي بل تحضر بشكل غامض، تدركها البصيرة وتحس بقوتها والتي يخمنها الكاتب ويقدرها فيقرر بالتالي إن كان دفعها يصلح لعمل روائي أم لا."بحلول الخريف... قامت هاجر. يقول شاهين وهي أمه". قامت أمه كي تفتح له الفجوة فيخرج بعد عزلة دامت عشرين عاما. وجاءت الجملتان في مقطع افتتاحية العمل: "قامت هاجر. يقول شاهين وهي أمه." جاءت غريبة عن الصياغة العربية. حيث في حوار مع حسن مطلك قال مرة: "المهم أن نجرب كيف نخطئ في اللغة بعد أن نتقن الإعراب". تلك الجملتان، أو في الواقع جملة واحدة، هي جملة غير سليمة من حيث التركيب. كان يجب أن تكون على سبيل المثال كما يلي: (" قامت هاجر" يقول شاهين). لكن أدوات الترقيم هنا ليست أدوات جملة القواعد، أي حين تنتهي الجملة (الفكرة) توضع نقطة أو فاصلة الخ. بل الترقيم في هذا العمل هو ترقيم مولف على الدفقات (والتي لا شان لها مع الفكرة) التي تخرج من النفس واحدة بعد أخرى ولا يحدها ويفرقها عن بعض سوى أداوت الترقيم. (قامت هاجر) كانت هذه الدفقة الأول. ثم الدفقة النفسية الثانية (يقول شاهين وهي أمه). إننا ندخل هنا في خضم العمق ونؤلف لغة تعرفها النفس وتشعر بها، وهي بطريقة ما مستهجنة من اعتياد العقل ومن قواعده المألوفة. (قامت هاجر. يقول شاهين) هذه هي جملة وليم فوكنر حيث تتوقف هنا، إلا أن حسن مطلك مدها مضيفا إليها(وهي أمه). والجملة السليمة في العربية ستكون: قال شاهين: قامت أمه هاجر.
فتأت في الماضي (قال، قامت) لكن دابادا لم تأخذ هذه الصيغة بل جعلت شاهين حاضرا في الصيرورة فهو "يقول" وليس "قال" حيث أن استعمال كلمة "يقول" سينقل الصورة من الحكاية أو من الماضي المحكي إلى صورة حاضرة في الصيرورة. وأن جملة (وهي أمه) تدل على انفصام وتخلي عن الملكية وإيغال في الهجر فستكون (هي= الأم) ضمير غائب. وهي، هاجر، الحاضرة في جملة (قامت هاجر)، كي تغيب في جملة (وهي أمه)، يغيبها الراوي، الذي ليس سوى شاهين نفسه. فتظهر الأم في جملة (قامت هاجر) وتغيب في جملة ( يقول شاهين وهي امه! وهنا يترأرأ الزمن (الصيرورة) بين الماضي والحاضر (قامت. يقول)، وبين الشاهد والغائب (هاجر. أمه). والعالم بشكل عام سيكون هو "الآخر" فيظهر بصورة الغائب متخفيا ضبابيا لا ملمس واضح له. حتى أناه- أنا شاهين، هي ليست "أنا" بل "هو".
اللعب في الرواية على الضمائر والزمن يفتح أبواب الخيال على حالات قصوى غير مألوفة في الأعمال الكلاسيكية. وهناك في الرواية صورة لم تكتمل أو حركة لم يتممها الروائي حسن مطلك، ربما قد نسي إتمامها أو انه وضعها عن قصد ناقصة من دون تتمة وإغلاق ألا وهي "ذكرى المعذب صابر يوم الأربعاء بعد المطر". فمن هو صابر وماهي ذكراه ولماذا يوم الأربعاء؟ تتكرر هذه الجملة في أكثر من مكان. حيث سيظن القارئ حين يواجه هذه الجملة في الصفحات الأولى أنه سيعثر في الصفحات القادمة على لغز العذاب وعلى شرح واف لقصة صابر. لكنه لن يعثر على كلمة تدله على الجواب. هل ولدت هذه الصورة سبيعية أيضا لا تتمة لها أو هل ماتت في رحمها كجنين لم يكتمل؟
ليس هناك شرط كي تـُغلق القصص الجزئية وتكتمل، كما هو الحال في تقنية الرواية المألوفة والتي تورد مقاطعا من صورة جزئية غامضة في البداية كي تفسر ويحل غموضها في الصفحات المقبلة. لكن العمل الذي نحن بصدده ليس عملا يهدف الحكاية بل هو عمل يستند على الحكاية كي يقول ماهو خارج الحكاية، يقولها بوجه يحمل أكثر من تفسير. فالرواية هنا ليست قص.
ويلزم على الأقل قراءتان لرواية دابادا، حيث في القراءة الأولى تلعب الفقرات دور قوة نابذة للفهم وللوعي بها. كأنك تحس أن هناك تحديا مقصودا يقيمه الكاتب في وجه القارئ وهو الذي قال في حوار معه: " يجب أن يكون الكاتب أكبر من القارئ كي يحمي نفسه منه دائما". وهذه القوة النابذة إن صح التشبيه تدفع بالقارئ إلى الملل والتشوش والشعور بقصر القامة حيث الأدب يجب أخيرا أن يرفع قامة القارئ ويغذي وعيه بالطاقة الروحية لا العكس.
وللتخلص من هذا التباعد أو التعالي الذي تقيمه اللغة يجب قراءة الرواية مرة أخرى للإمساك بالخيوط الضائعة. وعندها ستلتئم الهوة وسينكشف المعنى- تظهر تضاريس الرواية ويبان تلالها ووديانها.
ومثلما كان إدوار الخراط في الزمن الآخر: ثقل اللغة يقف عائقا أمام اكتمال ونمو العمل، كان حسن مطلك كذلك أيضا، يستمع إلى نبض وينجذب إلى بعد وحيد، يبدو بشكل ظاهر أنه بعد غامر كلي لكنه بالتدقيق والتأني يظهر لنا أنه الطاقة الشعرية (الظاهراتية phenomenalism؟!) الهائلة التي غمرت النصوص والفقرات واجتاحت في طوفانها النظام العقلي- والذي في النهاية يجب الاعتماد عليه، ليست هذه الطاقة الشعرية سوى إعاقة للنمو الذي نكتشف إنكساراته في الصيرورة الداخلية للعمل. على سبيل المثال لقد جاءت صورة إمساك المدية بالمقلوب حين طعن شاهين الحمار، فكان يطعن يده بضربات متلاحقة ويظهر الدم من يده وهو يظن انه دم الحمار الذي يطعنه، جاءت غير مقنعة ولا توازي قوة الشعر في نصوص الفقرات، ثم الهروب إلى الجبل من جراء هذا الفعل! إن رمز الحمار في الرواية غير مقنع. وكذلك أيضا حالة انعزال شاهين. ثم نهاية الرواية التي تكشف لنا زيف الضحك بتسخين المسامير ثم رميها في الماء، جاءت في غير مكانها حيث يفرض القارئ أن تكون أوسع وفيها تعبير آخر يستعير ملامح القرية، ميثولوجية المكان، ليوظفها الكاتب التوظيف الملائم.إنها رواية قد فتحت فمها لجذب الصور والقصص والأفكار العالمية المختلفة ذلك بسبب طوفان الوعي وعدم ثباته فلا تعرف هل تقرأ حلما أم تحلم أم تتوهم.
بالطبع الرواية تمتلئ بالجمل الصادمة المكتوبة لأول مرة: "دقيقة صمت، بل دقيقة وقوف لأن الصمت مستمر" "إن حضورهم شبيه بغسل الأحجار قبل رميها في النهر".
ويصور الكاتب كيف الأم هاجر تحمل الفانوس وتدخل غرفة ابنها شاهين المظلمة: " ثم تصير الغرفة مضيئة مليئة بالباب. الباب هو الغرفة، والغرفة هي الباب. باب من ضوء. شاهين يا ولدي لماذا تركتني وهربت؟" "فكر بأنه مختلف لأنه يحس بألم المسمار؛ المطرقة من طرف وصعوبة الاختراق من الطرف الآخر". وفي حفل الطهور تصور الرواية كيف كانت النساء تزغرد والبنادق تطلق: " كانت الزغاريد تخرج من أنابيب البنادق، أما النساء فيطلقن الرصاص من أفواههن بهجة" ويقول الكاتب في إحدى الفقرات كأنه يتوقع موته وأزمته "أتدرين سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة" ثم في منطقة الصيد يفاجأ شاهين بالذئب القادم ف "يتبادلان حروف اسميهما، هو وهي؛ شاهين وهيروشيما، لأنه كان يحلم بتلك المرأة الفاتنة من اليابان لحظة هجوم الذئب" وفي مكان آخر " هناك فقط شيئان؛ عمود الحياة وحفرة الموت".
أظن في النهاية أن الطاقة والقوة الهائلة الموجودة في رواية دابادا جاءت بسبب الحالة غير المعقولة التي عاشها الروائي الراحل، عاشها ويعيشها العراق، إنها رواية غضب، غضب فلسفي وديني غضب إنساني عارم تحمله أداة الأدب.
يبقى أخير أن نقول أن تسمية دابادا جاءت دليلا على محاولة التخطي أو التجاوز الذي أراده حسن مطلك. فما هو معنى دابادا؟ إنها الكلمة التي لا تحتويها لغة بالمعنى الذي أراده الروائي- من الممكن العثور عليها هنا أو هناك، لكن الكاتب أرادها كلمة تنبع من الأعماق حيث لا لغة ولا حروف، فقط هناك أصوات أزلية بدئية، أصوات خام منها تتكون اللغة وتتشكل. دادادادا بابابا دادادا. بداية الصوت- صوت اللغة الإنساني، كان دابادا.
تبقى هذه الدراسة دراسة غير مشبعة فكثير من الآراء التي وردت فيها تريد تروية حيث قوة العمل يريد قوة رؤية وهنا قوة الرؤية تتشوه بسبب ضيق اللغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في أكتوبر 2005م في عدة منابر ومواقع ثقافية ومنها: مجلة(أفق) و(دروب) و(الحقائق).
*حسين سليمان: كاتب وناقد يقيم في هيوستن. hsolaiman@hotmail.com
أو

قراءة.. / .. جسد الثقافة

عن كتاب الحب لحسن مطلك



بداية القول، اعتراف: إذ إنني لم أفلح مع الورقات الأولى في ( دابادا ) حيث قلت لنفسي يجب أن أغادر فكان ذلك على وجه السرعة. هل العطب في النصّ أم في المتلقي؟ لن أكون عادلا حين أقول في النص إذ لم أتجاوز ما يتيح لي الحكم بأمانة. أما المتلقي فلم يدع لنفسه مجالا رحبًا كي يكشف الأمر من كل جوانبه لذا كان الانفصال بسرعة الضوء فلا حكم ولا رأي قاطع.
أما في ( كتاب الحب، ظلالهنّ على الأرض ) فقد كان الأمر مختلفًا. أقصد أنني قدرت على المطاردة ولحقت حتى أكملت المشوار إلى النهاية. في حقيقة الأمر أنني ذهلت للشعرية المطلقة التي لوّنت النص. ارتفعت به وكانت في الوهج الكامل. حرف هادر وبكامل الأناقة.
في القسم الأول، القصة الأولى، لم تكن حرارة اللقيا مقنعة ولا ثمة شعور بأنها كانت ذات يوم.. قصة حب. لم أجد الحروف تكاد تعبر عنه سوى بذكر أطلال متهدّمة. كانت الحروف باتجاه الجسد، اللذة الكامنة لاغير. لم تكن الروح فيه تشهق ولم يكن النهر في غاية الجريان! هو الحب بوجهه الآخر العابر..
بينما في القسم الثاني مع هدى. كان الوجه الأكثر بياضًا. الأشد قسوة. الكتابة كانت رقراقة، وبليونة السلسال. كيف للإنسان الذي أراد أن يحطّم سلطة جبّارة؟ أن ينقلب الحال معه حين يحضر الحب. فـ يكون الارتجاف والشوق واللهفة. أيّ حبٍّ هذا؟ لم يكن حبًّا! كان انشطارًا.
فالروح حاضرة وبكل هيمنتها. تشعر من خلال السطور ومابينها بأن ثمة روح تئن، تبكي، تتحطم لأجل قلب يغادر بعيدًا. بينما لم تكُ باللمعان نفسه في عالم ميسلون. في أجواء هدى صار الأمر صاعقا ويقود إلى الجنون. إنه الحب الذي يُعمي ويُصيب بالهوس عشّاقه. عجبت لامرأة تُحَبّ كل هذا الحب فتفرط فيه! وفي قلبي نصل! إذ كيف أيضا للعاشق أن يفرط بعشقه؟ هل من أعذار مبرّرة؟ حتى القيد الاجتماعي يجب أن يكسر لأجل الحب.
حسن مطلك، يحق لغرور كهذا أن ينال حبا خالدًا. هدى وأيّ هدى هذه؟ حرفها جاء في الأخير كي يعذّب أكثر وأكثر. شخصيًا رأيته من البساطة بأن يحرق القلوب الرقيقة، وبمجرد أن تذهب بيدك للشمال حيث القلب، تجد أن الألم قد حلّ فغزا الشغاف فأصابك في مقتل! هل أتحدث أكثر؟ كفاية ففي القلب غصّة ومرارة.
نهاية القول، هي أن ثمة شجاعة يجب أن تُطرى هنا، إنها شجاعة الاعتراف، فكثيرون حين يطرق الحبُّ أبوابهم يلوذون بالصمت والكتمان فيكون الاحتراق والموت. سلام ورحمة على المحبين أينما كانوا. ميسلون. هدى. صاحب الحب، والنص الظليل، حسن مطلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتــــــــ
*نشرت في موقع منتدى (جسد الثقافة) بتاريخ 4/10/2009م.

قراءة / عبد عون الروضان


قوة الضحك في أورا للقاص الراحل حسن مطلك

توظيف الأسطورة وتحريف المتن

عبد عون الروضان

بعد روايته الأولى (دابادا) الصادرة عام 1988 التي اعتبرت نقلة نوعية في الكتابة الروائية العراقية، كتب الراحل حسن مطلك روايته الثانية (قوة الضحك في أورا) عام 1987 أي قبل أن تصدر روايته الأولي لكنه لم ينشر تلك الرواية الثانية أو لم يتسن له نشرها إذ رحل بعد وقت قصير من صدور روايته(دابادا) تاركاً مخطوطة (قوة الضحك في أورا) وراءه وقد استطاع أخوه الكاتب محسن مطلك الرملي قراءتها وتتبع (إشاراتها ومخططاتها التي كان المؤلف يضعها أثناء إعادته المتكررة لكتابتها) وأن ينشرها عبر دار الدون كيشوت للنشر والتوزيع، في سوريا وقد صدرت طبعتها الأولي في دمشق عام 2003 وتقع في مائة وأربع وأربعين صفحة من القطع المتوسط.
سنتناول هنا جانباً واحداً من جوانب الرواية وهو استثمار الموروث الشعبي والأسطوري.يعد هذا الاستثمار والتوظيف اتجاهاً واسعاً في الرواية العربية والعالمية وقد تراوح هذا التوظيف والاستثمار بين الإجادة وعدمها وعلي درجات متفاوتة فالاشتغال علي استثمار التراث أو الأسطورة في الرواية وحده لا يعد كافياً لتقديم منتج روائي عالي الجودة يستطيع أن يفرض نفسه وأن يسحب المتلقي إلى منطقة القراءة الواعية، أي بإنتاج نص بفضاءات مفتوحة ومديات رحبة تتيح الفرصة لكشف رؤية الكاتب بعيداً عن النمطية شرط المحافظة علي القيمة العليا للنص كجنس سردي متماسك.
إن محاولة نسخ الأسطورة أو الموروث وإلصاقهما بالعمل الروائي دون تمثل أو إغناء، أي الاكتفاء بالتلقي دون الوصول إلى قراءة جديدة مستندة إلى جهد معرفي، إن محاولة كهذه ستكون لا شك عقيمة لا تخلق رواية مكتملة الأبعاد ذات رؤى واضحة المعالم وهذا يعني بالتالي أن على منتج النص أن يتعامل مع الأسطورة أو الموروث علي أنهما مواد خام ولا بد أن تكون في أي مادة خام كنوز لا تعطي نفسها إلا بعد تعرضها ربما إلى حرارة عالية أو جهود مضنية من البحث والتنقيب من أجل الكشف عن تلك الكنوز ومن ثم إعادة تشكيلها وصياغتها وإثرائها وتقديمها داخل النص برؤى مغايرة حيث لا يتبقى منها إلا الجوهر المستخلص بعناية ودرجة حرفية عالية عبر عملية التمثل للمتن الأسطوري أو الموروث نحو إنضاج المعرفة بوعي.
لقد استفاد حسن مطلك في روايته (قوة الضحك في أورا) من الموروث نحو خلق نموذج روائي متميز من خلال المثول الأسطورية والشعبية في عملية تداخل وتماه واعية لم تخلف ورائها إلا رموزاً وعلامات دالة تشير إليها ضمن حالة إنتاجية هي الاقتباس البعيد عن عملية الاستفادة الآلية من المقروء.
كان أول ما لجأ إليه الروائي هو أسطرة المكان، أي خلق مكان أسطوري مؤسس على متن سابق متمثل في الذاكرة عبر تراكمات وترسبات (أورا). هي لا شك (نينوي) عاصمة الآشوريين حيث عاش الروائي الراحل في مدينة الموصل القريبة من أطلالها وآثارها. لكن (أورا) ليست هي (نينوي) فهي تختلف عنها كثيراً، لم يبق منها في المكان الأسطوري الجديد سوي إشارات ورموز ومسميات ظلت حاضرة في الرواية. لكن هذا المكان الجديد بدوره تجرد من أبعاده المتعارف عليها وتحول إلى فضاء يختلط فيه الزمان بالمكان فهو زمكان.. حيث يعرف حسن مطلك أورا في توطئته بقوله:(أورا هو كل مكان لم أره، تاريخ مفتعل، بل رقعة ألم تأخذ شكل القبر لأن المعادل الكلي لما قلت هو الموت المخيف والرفس ومحاولة الهرب إلى مكان بلا ذكريات وليس(أورا) إلا ذكريات جارحة كبرت فتحولت إلى كوابيس..) الرواية ص5. فأورا إذن تاريخ = زمان، رقعة ألم تأخذ شكل قبر = مكان، وذكريات = زمان (ملاحظة اعتراضية: في توطئته هذه يعرف الروائي أورا بقوله: هو.. ثم وليس (أورا) أي يحيلها إلى مذكر، لكننا نراه لاحقاً يحيلها إلى مؤنث: انفتحت أورا أمامي ص9) أورا ليست كغيرها من المدن بل هي أسطورة تقع بين المخيلة والواقع التاريخي الذي لم يبق منه سوي المعبد الآشوري ودكة العرش التي تغوط فوقها أحدهم ممن جلب نقمة المستر أوليفر الآثاري فجمع رجال أورا وراح يعنفهم وصمم على أن ينقلهم من حالة التغوط في أي مكان إلى إتمام العملية في حفر خاصة معدة لهذا الغرض رغم سخرية زوجته وضحكها منه. وأورا (وقعت من السماء عبر السحب الخضراء المتجلدة علي رأس أحد صيادي الأسماك فلم تتحكم بشكل كلي لأن بعض بيوتها قد انغرست في رمل الحافات اللدن) الرواية ص 26. وديام الراوي العليم عاد إلى أورا من البرية حيث القحط ثم تآلف (مع المكان مع انه مسكون بعظام آلاف الجنود، تلك التي يستخرجها سيل المطر) الرواية ص 12. ولأورا قانونها الخاص (كي تكون رجلاً عليك أن تسعي إلى تصغير رجولة الآخرين لتبقي الرجل الوحيد فتصبح وحيداً في المجابهة) الرواية ص75. وهي (بقعة مناسبة للموت) الرواية ص74.
هذه هي أورا التي يدهمها الطوفان القادم إليها من منطقتي الباز والبغاز، وهي كما أظن، مكانان حقيقيان في الموصل لكن الروائي رحلهما في المخيلة وحولهما إلى رمزين للخراب والتدمير بفعل الطوفان الذي يكتسح أورا مثل طوفان نوح، لكن المؤلف انحرف بالمتن، فالطوفان هنا لم ينشأ عن فوران التنور كما في القرآن الكريم بل كان المطر هو السبب، المطر الذي سقط بلا انقطاع وقد تسببت الأمطار في أن (تستيقظ أورا بصرخة ملأت أنحاء المكان علي مشهد مروع لجماجم تتدحرج وعظام آدمية في الطرقات وأفنية البيوت غير المحمية بأسيجة من جهة الآثار بما في ذلك بيتنا الذي كان نصيبه ثماني جماجم) الرواية ص25. ثم انحدرت المياه من منطقتي (البازل) و(البغاز). لكن الروائي وهو يستعير أسطورة الطوفان البابلية وقصة نوح في القرآن الكريم لم يعمد إلى ذلك مجرداً من وعي مسبق وبدون قراءة متمعنة بل فعل ذلك عبر قراءة وتمثل ليعطي منتجاً لا يمت إلى المتن أو المتون إلا من خلال رموز مشتركة وإشارات بعيداً عن مصادر المتن في عملية تخليق واعية للأسطورة والنص القرآني، فعمد إلى تحريف المتن، فنوح إذ أرسل الغراب فعاد إليه بعد أن لم يجد أرضاً ثم أرسل الحمامة فعادت وهي تحمل غصن زيتون علامة على عثورها على اليابسة، بينما الأم في قوة الضحك في أورا أرسلت القطة (لمعرفة مستوي الماء في الظلام لكن القطة قد عادت وما كانت لتعود لو لم يكن الطريق مغلقاً بالماء) الرواية ص33. وديام يقول: (هذا نوح وأبي معصوم من الماء عند أوليفر)الرواية ص32. تناصاً مع الآية الكريمة: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، بعد أن دعا نوح ابنه ليركب معه في السفينة لينجو من الغرق.
ويواصل الماء ارتفاعه وتحديه ويكتسح كل شيء (بلغ الماء حافة السماء فرفعنا أيدينا إلى الماء ثم تراجعنا خطوة نرفع أيدينا تراجعنا خطوتين فصرخت أمي: ويلي.. سنتحول إلى طين)الرواية ص28. وتحاول الأم بمساعدة ديام أن تقوم بعملية إنشاء سد في وجه الفيضان، ويتكرر رمز القطة مرة ثانية حين تنادي: (اسمعي يا قطة قومي لنصنع سداً حول البيت) الرواية ص34. فينبري ديام قائلاً: (ميو يا أمي... فقمت لأصنع معها سداً حول البيت من جهة الفيضان) الرواية ص35. والسؤال هنا: هل القطة هي لفظة تدلل بها الأم ولدها ديام فأرسلته ليعرف مستوي الماء وعاد بعد أن رأي اتساعه في كل مكان وقالت عنه القطة أم أن القطة حقيقية في مجال الأسطورة؟ والسؤال المتولد هنا: لماذا أرسلت القطة ولم ترسل الدجاجة أو الكلب أو البقرة مثلاً؟ ربما لأن القطة هي الحيوان الأكثر التصاقاً بالعائلة في البيت وربما ذلك تأسيسياً على أسطورة أخرى متداولة ضمن الموروث الشعبي بالقول أن القطة لها سبع أرواح فهي إذاً الأقدر علي القيام بمهمات خطرة كالكشف عن مدي اتساع الماء أو القيام بإنشاء السد، وربما أن الأم أطلقت هذا الاسم على ابنها من هذا المدخل.
وتعمل الأم وحدها دون ديام الصغير غير القادر علي حمل المعول، لكن الفيضان لم ينحصر ولم يفض الماء هنا يولد الجد في الصباح (وسلم نفسه قائلاً: خذني يا ماء... خذني ما....) الرواية ص 36، لقد ولد الشيخ في الماء ليضحي بنفسه حتى يتوقف الفيضان تناصاً مع الأسطورة المصرية القائمة علي التضحية بفتاة للنيل الغاضب لوقف الفيضان المدمر، لقد ضحى الشيخ بنفسه بصورة تراجيدية حيث يقول ديام: (وأضفت من عندي: إنه بدأ يرقص وهو عارٍ ثم سلم نفسه للنهر ضاحكاً) الرواية ص 37.
الرواية بعد ذلك مشحونة بالرموز والإشارات المتناصة مع أساطير وميثولوجيات مختلفة لعل أبرزها أسطورة الفحل التي يمثلها أدهم الحداد الذي قام بإخصاء نفسه بنفسه، ربما احتجاجاً علي إصابته بمرض أدي إلى تورم خصيتيه وخوفاً من الفضيحة إن هو عرض نفسه على طبيب، لذا قطع خصيته بنفسه وكان لهذا الإخصاء أثره في انقلاب معادلة علاقته مع ولديه ياسين ومطلق الذين كانا يهابانه ويخافانه ولا يجرئان علي مواجهته، كذلك كان الجميع يفعل، إلا أنه بعد أن قام بفعلته تلك تمرد عليه الولدان وراحا يستهزئان به حتى أنهما كانا يضعان قدح الشاي علي صلعته دون أن يجرؤ علي الحركة خشية أن ينقلب القدح.
الرواية زاخرة بما يغري بالكتابة عنها.. وربما نعود في فرصة أخري لنتناول جانباً من جوانبها الكثيرة والمتعددة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في جريدة (الزمان) العدد 1796 بتاريخ 2004 - 4 - 29
*عبد عون الروضان: كاتب عراقي يقيم في الأردن.
Abdawnarodan@yahoo.co.uk

قراءة / هدية حسين


سرقة التاريخ في رواية حسن مُطلك

هدية حسين

في التوطئة التي كتبها حسن مطلك لروايته ( قوة الضحك في أورا ) التي صدرت في العام 2002 عن دار "الدون كيشوت" بدمشق، يقول الكاتب: " أورا هي كل مكان لم أره، تاريخ مفتعل، بل رقصة ألم تأخذ شكل القبر، لأن المعادل الكلي لما قلت وهو الموت المخيف ومحاولة الهرب إلى مكان بلا ذكريات.. وليس أورا إلا ذكريات جارحة كبرت فتحولت إلى كوابيس ".
هكذا يدخلنا الكاتب قبل الدخول إلى الأحداث إلى ذكرياته الجارحة في رواية لم تر النور إلا بعد موته (أعدمه النظام العراقي السابق في 1990).. ومحاولة الهرب التي نتبعها في هذه الرواية ما هي إلا نبوءة الكاتب نفسه عما سيحدث داخل الوطن ممثلاً بـ ( أُورا ) تلك القرية المعزولة التي تنام على كنوز كثيرة ستكون مدعاة للطامعين، إذ ما أن يهم أحدهم ببناء كوخ على أرضها حتى يجد أثناء الحفر عظاماً بشرية وجراراً ورماحاً وقرون وعول.. إنها مكان للموت وللحب في الوقت نفسه.. قرية تعوم على مملكة بائدة، ويحدث أن يرى أحدهم بعين خياله " سنحاريب وهو يشرب نخب النصر متحصناً ضد الزكام بفراء السباع بينما رؤوس العيلاميين تتدلى ".
ويقول الكاتب أيضاً، في التوطئة: " هناك ذكرى بعيدة منذ كنت طالباً في الصف الثاني الابتدائي، شاهدت رجلاً وجد صندوقاً مرمرياً وباعه بأربعة دنانير إلى رجل إنكليزي.. آنذاك تعذبتُ ومازلت أتعذب ".. تلك الذكرى يستلها حسن مطلك من ذاكرته ليبني عليها ركائز روايته.. وكأن (ديّام) الشخصية الرئيسية في العمل هو ذاته حسن مطلك، ديّام الذي يجلس كل يوم على سطح المعبد الآشوري ليراقب النهر الملتف حول أشجار الصفصاف ومن خلال تلك الجلسات تبدأ أحداث الرواية، ففي أحد الأيام يرى حشداً من رجال القرية (أورا) بينهم أبوه يتجهون صعوداً صوب مركز الخرائب الأثرية تلبية لدعوة (أوليفر) الموظف الإنكليزي الذي يعمل في المنطقة.. يمضي ديام مع الحشد لرؤية ذلك الرجل ذي العينين الزرقاوين الذي يعتمر قبعة ويتحدث بلغة عربية ركيكة.. وهناك، حين يصل الحشد يوبخهم الإنكليزي على ما وجده من قذارة حول ( دكة العرش ) فتحدث مشاداة كلامية بينهم وبين أوليفر الذي يتهم القرويين بأنهم جهلة لا يعرفون قيمة هذا المكان، هو ذاته ـ أوليفر ـ الذي سيسرق الثور الحجري بمساعدة الحداد أدهم ـ عم ديام ـ وأبنائه بعد أن أغراهم بالنقود، وهو نفسه الذي سيسعى لاستكمال سرقاته بالبحث عن المكتبة الآشورية المطمورة تحت الأرض منذ آلاف السنين.
الطفل ديّام ليس معنياً بالمشاجرة المثيرة التي حدثت بين الرجال ومستر أوليفر قدر ما كان مندهشاً بشكل الرجل القادم من بلاد الضباب الذي كان يشبه جذور الجزر بعينين زرقاوين صافيتين وقبعة ذات حافات عريضة لينة، حتى أن الصغير لم يكن يشعر بالخوف الذي طال بعض الرجال من غضب أوليفر المنصب عليهم.. بل كان كلما التقى عينيه يبتسم دون أدنى شعور بالرهبة.
ذلك المشهد سيظل مطبوعاً في ذاكرة الصغير كما حكايات جدته التي تختزن تاريخ ( أورا ) وأورا هي تاريخ الأجداد وأرواحهم والحياة المستمرة لديام.. ما يخيف ديام هو ما يحدث لقريته بفعل الطبيعة عندما تتعرض للفيضان، وهذا ما وقع حين تعرضت إلى الانجراف بفعل أكبر فيضان أخذ الكثير من ملامحها وناسها ومعابدها الآشورية.. إنه خوف يتملك الصغير من زوال وجوده في هذا العالم، في حين نجد الخوف عند أوليفر مرتبطاً بمهنته، أي أنه خوف مهني يعرقل أو يوقف مشروعه بالبحث عن الآثار.

* * *

حين داهم الفيضان قرية أورا انتزعت الأعمدة واستسلمت الأشياء لقدرها.. هل هي مخيلة الطفولة التي لا تحدها حدود؟ أم أن ما أحس به ديام ـ أو المؤلف ـ هو جزء من الحقيقة المطلقة التي ترسم خطواتنا في المجهول؟ ها هي يد خفية غير مرئية تحمل ديام وتمنحه مكاناً فوق سطح المعبد ـ أثناء الفيضان ـ ومن هناك، في المكان العالي حيث تنفرش أورا أمام عينيه يتجسد المشهد.. ثمة جماجم تتدحرج وعظام آدمية في الطرقات وخيالات تجر الصبي إلى مشهد رآه قبل أن يولد حيث وصايا الجد الأكبر ( دلهوث ).. تلك الوصايا التي تناقلتها الأجيال وحملها الأحفاد على كاهلهم حتى أبد الآبدين والتي تتلخص في عبارة قالها الجد :" إن الإنسان يكون إنساناً عندما يخطئ أما الذي لا يخطئ من البشر فكيف له أن يكون إنساناً ويصعد إلى مرتبة الملائكة؟" ص26.
منذ ذلك الوقت الغارق في القدم صار الخطأ هو المبدأ الذي يحكم في هذه البقعة من الأرض برغم أن القرية دُمرت مرات ومرات ثم قامت من ركام حطامها لتولد من جديد، لذلك كله صار ابنها ديام خشن الطباع حاد السلوك سريع الغضب.

* * *

أخذ الفيضان بهياجه ما أخذ، الناس والحيوانات والأشجار. مات جد ديام أمام عينيه، مشهد يضاف إلى ما اختزنته الذاكرة ويحفر له مكاناً عميقاً فيها. أخذ الفيضان الجد بينما كانت أصابعه العشر متوترة، وحرص ديام أن يلم بآخر وميض له، ثم انكشفت عظام الأجداد وظهرت قطع الفخار المدفونة في الأرض منذ آلاف السنين، بل أنه ـ الفيضان ـ بلع حافة السماء، وامتدت رحلة الجوع بعد الفيضان عشر سنوات.

* * *

يلخص الكاتب حسن مطلك تاريخ العراق بتلك القرية الغافية على النهر والتي لا ترى من فصول السنة إلا فصلين، صيفاً حاراً جداً وشتاءً بارداً جداً، ولذلك يشخص على لسان أوليفر طباع الناس حسب هذين الفصلين حين يقول عن أهل أورا:" إنهم طيبون متسامحون، قساة غلاظ في آن واحد"ص30.
حتى الأم تفهم الأمر على النحو نفسه حين تقص على مسامع ابنها ديام عشرات المرات الحكاية ذاتها:" إننا أبناء دلهوث، فأنت ترى فينا الطيب والفاسد، ذلك الذي يجمع النقيضين في عقله"ص28.. لكن الأم ـ يقول ديام ـ :" ذهبت بلا أية فكرة عن الشر، ولذلك لم تكن من الممثلين لسلالة دلهوث وفق مقاييس جدتي، فدلهوث علّم أبنائه الشر قبل الخير لكي يتجنبوه قبل أن يفعلوا الخير، لأن الشر أقوى تأثيراً، ولذلك فإن مجرد إبعاده وإزالته هو من عمل الخير"ص44.

* * *

يمسك الكاتب حسن مطلك بتفاصيل المكان وناسه، يجسده لنا بعيني ديام فيموج بانكساراته وتعرجاته ودغله المتوحش وصياديه ومغازلات الصبيان للبنات والسباحة المشتركة في النهر، وتلك الخلوات السرية لهم بين الدغل الكثيف واكتشاف الذكورة والأنوثة، والفضائح التي تحدث من حين لآخر، واختزان الذكريات والأماني والحماقات والظمأ الدائم للحب الذي يزوغ لحظة الإمساك به، والحبيب الذي يعد بالسعادة بعد فوات الأوان والليل الذي يمور بأخبار الأرواح والحيوانات الغريبة والجثث الغريقة أيام الفيضان.. ثم من كل ذلك يصنع المؤلف قانون أورا:" لكي تكون رجلاً عليك أن تسعى إلى تصغير رجولة الآخرين لتكون الرجل الوحيد فتصبح وحيداً في المجابهة، لأنهم سيسعون لتصغير رجولتك".
بث حسن مطلك آراءه بين ما وراء السطور، لم يجهر بها فالسياف يكمن خلف الباب بانتظار زلة لسان أو زلة قدم.. قال بعض ما يريد لأن كل ما يريد توارى تحت جلده:" من أين لك البذرة التي تتحدث عن الخير.. ستكون واحداً منا بعد أن ترى التماع السكين في الظلام.. بطرق أخرى للتهديد كالورقة المثقوبة بمسدس، كالظلال اللصية الساقطة على الستارة آخر الليل، أو شكل السدس أو هوس التحري في الطعام بحثاً عن المدسوسات.. أنواع السيانيد والزرنيخ والأعشاب المحضرة محلياً.. وتمثيل المؤامرة كالتشاور بين اثنين تشير أصابعهما إليك.. منذ أيام أفردت أصابعي أمام وجهي لأتبين ما إذا كنت على قيد الحياة حتى الآن ودفعت نفسي مجبراً إلى كتابة مواعيد انصراف الرعاة ومواعيد رجوعهم وساعة سوق الأبقار إلى منصة إعدام القصاب و.. اعتبرت نفسي ميتاً بنبض".

* * *

نهار أورا مثل ليلها، وثمة أحداث كثيرة تخترق وجه سكونها فتغير نمط أيامها وسلوك أهلها.. العم أدهم يترك مهنة الحدادة إثر تعرضه لحادث مؤلم فيتحول إلى الشعوذة ويمارس طقوس السحر، ولأن ذلك التحول يكسر نفسية ولديه ( ياسين ومطلك ) ويجلب لهما العار فإنهما يتحولان من تسلطهما على الحيوانات إلى إذلال أبيهما بشتى الطرق، ثم يساعدان أوليفر في سرقة آثار أورا. أما آدم ( أبو ديام ) الذي تصدمه مشاهدته أولاد أخيه في تلك السرقة فيقرر ترك العمل في الآثار مع أوليفر.. ولأنه لا قدرة له على مقاومتهم فإنه يعتكف في بيته ويقوم على رعاية ثوره الحي كبديل عن الثور المرمري المسروق.. ويتحول حب الابنة ( تفاحة ) لأبيها إلى البحث عن رجل كبير القيمة وقوي الشكل لها تعويضاً عن الأب الذي امتهن السحر، وربما للرجل الذي تزوجته وهي صغيرة بالإكراه ثم انتهى على يديها إلى تقطيع جسده بالفأس.
أما ديام الذي أحب ابنة عمه (سارة) فلعله يبحث من خلال ذلك الحب عن علاقة خارجة عن نطاق المألوف من العلاقات وخارج اليومي الرتيب:" أحاول أن أفهم سر هذا التعلق بها.. إننا أنا وهي، ديام وسارة، لا نريد إذلال بعضنا بعض.. لا نريد جرح بعضنا بعض.. لا نريد تخليص بعضنا من بعض. لا نريد غير المزيد من العاطفة.. إننا نؤجل دائماً لحظة القتل، نطهّر بعضنا باللمس.. إننا نصر على أن نكون في حضور دائم بلا عذاب معروف ولا عُقد ممكنة ولا أمل معذب، نتناول بعضنا ببساطة كما نتناول هواء التنفس ودون أن يحاول أحدنا سرقة الآخر.. نترك الوقت يمضي وأيدينا متشابكة كجذور العشب المعطّر، وعيوننا الأربع تصير عيناً واحدة مفتوحة نحو الحلم.. وأشعر أننا لسنا من سكان هذه الأرض المعتقة بالخطيئة"ص110.
هذا هو الحب الذي يريده ويسعى إليه ديام، ولكن إلى أي حد يمكنه أن يحقق ذلك بعيداً عما جُبلت عليه النفس البشرية من آثام وخطايا؟.. وما الذي يمكن أن يحققه رجل في قرية صغيرة معزولة ومحاصرة بالسرّاق والقيم البالية وتكرار الموت بطرق مختلفة؟. قرية لها جذر في التاريخ القديم فيما خيوطها في الحاضر تكاد تنقلت.. رجل ليست له سلطة على الذات بقدر سلطته على أمانيه وأحلامه التي تصطدم بصخرة الواقع المرير.. حتى سارة التي تأتي بعد تجارب عاطفية وترسو سفينة أحلامها على شاطئ ديام والتي تظن أنها آخر التجارب، فإنها تستمر باللعبة.. لعبة الحب الذي يتوهج.. ثم ينطفئ.
أما لعبة سرقة الآثار فهي وحدها التي تستمر وسيكون لديام دور فيها، ولكنه دور لا يشبه ما يقوم به أولاد عمه، حيث يلعب لعبته مع أوليفر الذي أراد الوصول إلى المكتبة الآشورية المطمورة تحت بئر في منخفض الوادي.. حذره ديام من لعبة الموتى إلا إذا قدَّم القرابين للآلهة السفلى، فيهيئ أوليفر ثلاث نعاج وحبلاً ومصباحاً يدوياً، وستدخل النعاج تباعاً إلى البئر العميقة وستُفتَرس قبل أن ينزل ديام لاكتشاف الكنز.. يعلل أوليفر افتراس النعاج بأنها ذهبت طعاماً لأحد الآلهة تحت الأرض بينما يفسره ديام على أن النعاج ذهبت طعاماً لذئب جائع ربما يقبع في الدهليز الذي يربط قعر البئر بالوادي، ثم بعد ذلك ينزل ديام ويكتشف الكنز بنفسه لكنه حين يصعد ينفي ما رآه ويقول لأوليفر: لم أجد شيئاً يا مستر.
ربما أراد حسن مطلك أن يعيد صياغة تلك الذكرى، أيام كان طالباً في الصف الثاني الابتدائي وشاهد رجلاً وجد صندوقاً مرمرياً وباعه بأربعة دنانير إلى رجل إنكليزي، ليبقي على ذاكرة أورا وذكرياتها.
وإذا كان ذلك الرجل قد سرق وباع صندوقاً مرمرياً ليكتب، بعد سنوات طويلة، حسن مطلك روايته من صدى تلك الذكرى البعيدة.. ترى ماذا عساه سيكتب لو عاش ورأى ما آل إليه تاريخ العراق الحضاري من فوضى وسرقات؟؟.
-------------------------------------------------
*نشرت هذه المقالة في مجلة (عَمان) الأردنية/ العدد 103/ كانون ثاني 2004.
*هدية حسين: كاتبة عراقية تقيم في الأردن.
---------------------------------------------