04‏/10‏/2009

شهادة / يحيى صديق يحيى


ما كان يريد ملكاً فيموت فيعذرا

صورة: حسن مطلك في الوسط /جامعة الموصل
يحيى صديق يحيى
صباحات يلغيها الحذر والترقب وتغطيها قطرات من الندى لا تخفف من عناء أجوائها المشحونة بقدر ما تضفي عليها لمسات من الجمال المسكون بالخوف ولربما الذعر في الكثير من تفاصيله وثناياه.
ندخل باب جامعة الموصل سراعاً عابرين حراس الخوف الذين انتصبوا على جانبي البوابة، تمسح عيونهم الداخلين أو ترمقها بنظرات عجلى تتخللها إشارات سريعة لا تكاد تبين للجميع الذين لا يعلمون ماذا اخفيّ لهم من تجمع قسري أو خطب فارغة تلقى على أسماعهم وما عليهم سوى تأييدها بالهتاف والتصفيق، حرب ضروس على حدود البلاد وحرب أخرى ماحقة للأحاسيس والمشاعر والجمال تدور رحاها في الداخل تعتصر القلوب وتوشح جدران المدينة وأزقتها بالسواد وشوارعها بمواكب العزاء. نتوزع على كلياتنا ونقرا قرطاسنا وعلمنا وعلى الحواشي بين الطيات خربشات بالكلمات جاد بها الخيال وظن بها واقع عصي.
حنا مينا، جبرا، البياتي، أمل دنقل، غسان كنفاني، يوسف إدريس، التكرلي.. أسماء يحرك تأثيرها فينا سحر الكتابة وانفعالات الإبداع، سواء على مستوى المضمون أو الشكل الفني، وما اكثر ما كنا نتردد على المكتبة المركزية نقلب حجراتها كي نستعير كتابا في الفن والأدب.
حسن مطلك شاب ذو سحنة قروية، انحدر إلى الجامعة من الشرقاط. بلدة محمود جنداري وحمد صالح، غالباً ما كان يصادفك بوجهه الباش وشاربه الحليق في مرسم المركز الطلابي أو في المكتبة أو في شوارع الجامعة يجوبها مع ثلة ممن يتعاطون الثقافة الأدبية و(السياسة) سراً يطرحون قوالب جديدة ويعصرون ذواتهم ألماً عندما يحاولون أن يملأوا أجساد مواضيعهم بثقافة تقاطع ثقافة السلطة وتنبذ ما جرت عليه التقاليد الثقافية آنذاك.
التقيت حسن مطلك في مقهى الشرق، مع رسام الكاريكاتير اكرم الياس بكر. كان اكرم قد توصل إلى ملامح جديدة لشخوصه الكاريكاتيرية أشبه ما تكون بملامح التمساح، يكون فيها الفك طويلاً مدبباً يحاكي فم التمساح بالحركة تماما. كناية عن الشخصية الجشعة المهووسة بابتلاع الأخريين.
كان حسن مطلك شاعراً بطريقته الخاصة، فناناً جامحاً كخيول فائق حسن التي كان مغرما بها، اذكر انه رسم لوحة جميلة لحصان يشق طريقه مندفعاً عبر حائط انهارت حجارته بفعل انطلاقة الحصان الثائرة وبرز الحصان بصدره البارز وحركته وسيقانه توحي إليك بأنه مندفع إليك ليمنحك رسالة بعيونه وحركته أو ليحملك بعيدا إن ليحرضك على الثورة، ويثير فيك كوامنها. بيتاً واحدا مازال عالقاً في ذهني لقصيدة كتبها حسن واراني إياها: (هزي إليك بجذع النخلة .. تساقط عليك عذاباتي).
كانت لديه أشياء كثيرة ليقولها عبر العديد من المنافذ: فن، شعر، قصة، نقد.. تحرك مع جماعة من المثقفين ليؤسسوا مجلة أدبية اسمها (المربي) صدر منها عدد واحد واختفت شان سائر العباد والبلاد الذين كانوا يشهقون باختناقاتهم ويؤدون.
كان مغرماً بقصة (البومة في غرفة بعيدة) لغسان كنفاني، قرأها مرات عديدة بل حفظ مقاطع منها، (أنظر كيف يبدا القصة.. لاحظ مسار القصة..) لكنه كان منذ ذلك الوقت يتذوق التجديد ويميل إلى صناعة عجينه جديدة وشكل جديد.. اذكر أنني كتبت قصة في مجلة الجامعة (أصابع وجدران) كانت محاولة خجولة لتدشين الخطوات الأولى في مجال الكتابة والقصة خاصة، وكنا آنذاك نتبادل النصوص ونتجاذب الحوار والنقاش حول تلك الولادات الأولى اللذيذة الطعم كالقبلات الأولي، بريئة المنظر مثل سوسنات خجلى. (خذ مني ما تريد واعد لي عمري وخطواتي تلك وحسن مطلك والاصطحاب وبراءتنا الأولى.. كل المراكب رست ومركب حبيبي غاب).
ما زلت اذكر كل شيء حول القصة، كنا نجلس على أحد مصاطب حديقة قسم الرياضيات/كلية العلوم، جلس إلى جانبي وأخذت اقرأ له ما كتبت وفي النهاية باركني وشد على يدي ووعدني أن يكتب مقدمة نقدية بسيطة تظهر مع القصة. وطلب مني تغيير العنوان، كان لامعاً في اختيار العناوين وصناعتها، اختار لفارس سعدالدين عنوانا لقصة شاب يعيش تجربة شبابه والمها ويسلط الضوء على جانب من هواجسه ومعاناته الحبيسة. قال له لتكن (البيوت الرطبة) وكان له ما أراد. حتى إن عنوان رواية (دابادا) نفسها يقال بان كل حرف فيه يشير إلى معنى معين، أو هناك تقديم وتأخير في تركيب الكلمة قصده حسن مطلك إخفاءه لظرف البلد البوليسي آنذاك. ومضت الأيام نكتب ونقرا ويقرا ونكتب، نجوب إسفلت الجامعة ومسرحها ومرسمها وسينمات الدواسة ومقهى الشرق وقرطبة. ونأكل سندويجات الفلافل والمخ والحمص ونسمع أم كلثوم في مقهى (أبو داود) في شارع غازي وحسن معنا يرسم اللوحة وينشئ القصيدة ويكتب القصص القصيرة وينشرها في جريدة الحدباء ومجلة الطليعة الأدبية. ألوان من حياة القرية ونماذج من شخصياتها وأزماتها الاجتماعية وواقعها المُتعب.. اذكر أنني دخلت ذات يوم مرسم الجامعة، كان شفاء العمري يعزف على الكمان وضرار القدو (رحمه الله) وحسن مطلك في نقاش حول الفن، يتطلعان في لوحة حسن (الحصان) وضرار يبدي بعض الملاحظات ويقول: (عاشت أيدك حسن).
صورة من الماضي.. ومضت العجلة، دارت في الدروب المتعبة، ويبدو أن مطلكاً هذا. كان يحاول أن يبعد عن أنامله ورأسه مداسات دواليب العجلة واندفعاتها الهوجاء ما شاء له أن يفعل.
ذات عصر ربيعي أطل علينا حسن عبر مجلة ( ألف باء ) بقصته الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة، كانت (عرانيس) أولى الخطوات الواثقة غمرنا الفرح وغبطنا الرجل وإبداعه، فعمره المبكر ونكرته استطاع أن يشق طريقا لم يكن ليعلم بأنه سيجر عليه ويلات قاتلة، في وقتها قال حسن:" لم أفاجأ، هذا ما توقعته لها".. هو ذا عنفوان الشباب وجنونه الساحر ومرت السنون ودخلنا الجيش. التقيته ذات يوم في إحدى مقاهي شارع السعدون كان يتحدث عن رواية جديدة، قال لي:" أكتب رواية أروي فيها كيف تشرب البقرة زجاجة كوكاكولا". لغة جديدة وصور جديدة ونفس جديد في الكتابة.. بعد فترة ظهرت ( دابادا ) فكنت فاتحة للون غير مطروق في الكتابة. لم تكن الساحة الأدبية في العراق قد الفته، كتب عنها الربيعي وذكر كيف أنها كانت رواية (غريبة وعصية وربما لم يستطع إكمالها على ما اذكر ) ولعل حسن مطلك قد أصر على أن تكون الرواية بهذا الشكل نظرا للقيود الثقيلة التي كانت تكبل الكتابة وأشكال التعبير ولكي يحافظ على جسده ورأسه معا أطول فترة ممكنة، وهكذا جاءت الرواية ملغزة، متشابكة الخيوط، لا تكاد تبين لأي شخص ما لم يكن قريبا من شخص حسن ورؤاه وطريقة تفكيره، كي يتوصل إلى لمحة من اللمحات أو فكرة من الأفكار.
ذات يوم جاءني فارس سعد الدين واخبرني بان حسن مطلك أُعدِم في ظروف غامضة. وقتها لم تتضح تفاصيلها، قلت له:" أأنت متأكد؟!. قال:" نعم دفنوه في الشرقاط واصدروا أمراً بمنع الحِداد والمواساة".
لم يكن حسن مطلك يريد ملكاً فيموت فيعذرا وتنطوي صفحة طموح. أظل طريقه، بل كان يريد شيئاً أخر ليس اكثر من ورقة بيضاء تتسع لبضع عناوين جميلة ولوحة يغرق في ألوانها، ويسمع الأصحاب أراءه ونقده فيما يكتبوه..
رحم الله حسن مطلك.
-------------------------------------------------------
*الأسماء التي وردت هي لأدباء وفنانين في مدينة الموصل عاصروا الشهيد حسن مطلك.
*يحيى صديق يحيى: قاص ومترجم عراقي، وصديق للشهيد حسن مطلك.

ليست هناك تعليقات: