مملكة الأديب المبدع حسن مطلك . . كما عرفتها
الصورة: حسن مطلك، في كردستان العراق/مطلع الثمانينات
عطية محمد أحمد الجبوري
أرى لزاماً عليَّ أن استهل هذه الكلمة بالاعتذار، كما أني أردت أن ادخل عالم الأديب والمفكر الشهيد ( حسن مطلك ) من باب واحدة ربما تكون غامضة على الكثيرين من قرائه ومحبيه ومن أبناء جلدته والمقربين إليه لان كتاباته وحياته سحرتني ولأني لا أعرف، مهما بلغت بالاهتمام في القراءة والاطلاع، أن أصل إلى إلمامه الخاص والذي اعتبره كبحر متلاطم تكثر فيه الحيتان وحيوانات البحار.. ولكني وباختصار شديد أراه من كتاب هذا الزمن الصعب. كان يطل على عالمنا بوجه حسن بثلاث عيون رغم بساطة ملقاه وحياته البسيطة التائهة بألغازها التي لم نستطع لحد اليوم فك شباكها العجيبة. وكلما حاولنا أو اقتربنا منها قتلنا الخوف والفزع والارتباك.. خوفا أن تفقد إحدى حلقاتها المتراصة حد الموت.. ولا أعرف بالضبط كيف سحر هذا الشاب المغرور قلوب الناس وذاع صيته في وطنه..! ثم انتقل كسرعة البرق إلى خارج دائرة المحيط ليغطي مساحات واسعة من العالم المترامي.. ولا أنسى، وللأمانة أقولها، كرجل لازمته بعض حياته الأدبية وعرفت الكثير من أصدقائه وأقاربه وتنقلاته وضحكاته وحزنه وعتبه إلا أن أقول: انه كلما مر على مقهى أو حضر مأدبة عشاء أو سار في السوق أو حضر أمسية أدبية أو حتى ماراً في قريته.. لم يكن مروره مر الكرام، فلابد أن يتحدث بكلمات عجيبة وغريبة تتغلغل في الصدر وتدور مع الدم لتخلق عالماً آخر للقاص والمبدع. والمغرور (حسن مطلك).. بدأ بالتفكير ليلاً وربما بعد الواحدة بعد منتصف الليل أو اكثر بكثير.. بالتفكير والتحليل والتنجيم بما قاله (حسن ) وماذا يريد وماذا يعني بكلمته الفلانية التي قالها في المكان الفلاني أو في القرية الفلانية، ويبدأ التساؤل.. وأؤكد أن الجميع لم يصلوا إلى حل لغزه إلا بعد جهدٍ جهيد، وكل يفسر مقالته حسب رأيه واجتهاده.. فأنا أقول: اصبح عليَّ لزاماً أن ادخل سيرته من بابها الثقافي الواسع.
إن الأستاذ الشاب الأديب (حسن مطلك) عالم مجهول وغامض تماماً وبحر، كما ذكرت، لا يُستطاع الغوص فيه، وأكررها للمرة الثانية، حتى الحيتان واسماك القرش وحتى الغواصين أنفسهم.. لأنه قادر في لحظة صمت أن يحول مياه ذلك البحر إلى مكان مجهول ويموت الجميع بعد أن خلق عالم آخر يختلف باختلاف المياه والمذاهب الأخرى. وللأستاذ الكريم عالمه الخاص وفكره الخاص وتأملاته الخاصة وطموحه الذي هو اكبر منه بسبع مرات.. إنه يحمل هموم الناس قبل أن يحمل هم نفسه رغم تواضعه وبساطة مظهره.. لم يذكر لي، ولو لمرةً واحدة، المادة والعوز لكنه كان يؤكد على المساواة وان الفقر ملعون وكان يبكي أحياناً.
-1-
يبكي.. على البؤساء والمتعبين، لا من أبناء قريته فحسب، انه يبكي على الوطن. لم يعرف التحفظ على ما يريد الإيضاح عنه لكنه يوصله إليك بأسلوب الخبير بعلم النفس.. هو يقرأك قبل أن تقرأه.. وهو يعرف ما بخاطرك، وإذا تورطت مرة وجادلته في الأدب وفي القصة الفلانية نقلك إلى عالم (حسن مطلك) الواسع ودهاليزه المظلمة وعبر فضاءاته البعيدة وطوفانه ومراكبه المحملة بالودع والخرز والعناكب وطيور الماء وأشجار الدفلة ولا يقربك للموز والجوز والمشمش والتفاح والقصور العالية لأنك بعيداً عنها ولأنك تريد العيش بعز. هاجسه المساواة.. كان يغضب وعندما تناقشه في أمور الدنيا يدعوك إلى الاتزان والشكر.. أقولها وأكررها: هاجسه الوطن المعافى وان يكون صاحب فضيلة وان لا تجرح كرامته من أي مكان مصدره ومكانته فلولا هؤلاء الناس البسطاء لما جلس وتربع الحاكم على عرشه.. كان يخاف الانكسار ويدعو إلى التلاحم. يطيل القراءة والاطلاع على حضارة الغرب بعد أن يعطيك نبذة مختصرة وفاحصة عن حضارتنا وكتابنا الأجلاء.. كان، وكما قلت، عالِما نفسانياً يداوي الأمراض جملة واحدة (حسن مطلك) بكل تركيباته وأفكاره.. حتى سيرته وحياته ونقاشه يختلف عنا.. حتى قراءته وكتاباته والأفكار التي يحملها وأسلوبه في النقاش ومعرفة الأحداث والنصوص والحبكة في الموضوعات وكل تصوراتها.. حزنها وآلامها.. ضحكها عرسها خفاياها وأسرارها.. هو يعرفها وأنا وغيري من الكتاب لا يعرفها.. والذي حيرني وحير الكثير من أصدقائه الكتاب والمفكرين وحتى السياسيين.. انه يعرف كل أدباء العالم وتولداتهم وكتاباتهم وحتى حياتهم الخاصة والعامة.. وفوق هذا وذاك له رأي آخر بكل ما كتبوا وناقشوا وما سألوا وما أجابوا.. حتى أنني اضطر في بعض الأحيان لشراء مؤلفات ذلك الكاتب فاقرأ ما قال به ( حسن ) فأجد الكثير من صدقه واطلاعه وجرايته حتى وكأنه عاش معهم أو صاهرهم أو أن والدته منسوبة إليهم.. هو يركض فوق الحائط بلا أرجل ويعوم بالماء ويغوص نحو الأعماق ويقترب من الصخور ويقف أحيانا عند حافات المقابر ويعقد ندوته الأدبية لأبناء قريته..(هو جدل الوجه والقناع وثنائية السطح والمحتوى) وأنت تعايشه ترى أن تركيبته كأنها من ركام المعادن وصفائح الحديد يبني عليها خطابه الجميل كنواة أساسية.. وهذا نابع من إيمانه وإدراكه ليعطي شيئاً من الوظيفة المجانية لها، أما صلابته مهما ومهماته فهي اكثر شجاعة هو رجل غيور ومغرور يهاجم ويخترق يصوب دون أن يطبق الفرضة على الشعيرة.. مشيته مع نفسه، حركته ذات طرد مركزي، وهو ذو أعمال نحتية خضعت لطريقة معينة لتكسبها وتأطرها.
-2-
بإطار فضفاض وبذلك يخلق التلاحم والتواصل في جميع كتاباته من رؤى وأفكار ومقترحات فكرية وجمالية و(حسن مطلك) مميز في اللحظة المرحة.. فالكلام عنه يطول لكني اعترف، وهذا رأيي الشخصي، أن القاص المبدع (حسن مطلك) من ابرز رجال الحداثة، رغم صغر عمره، وانه ساهم بخلق أنماط جديدة في كتابة القصة والرواية.. اقرأ له صفحة واحدة فستجري من عمق سريرته.. إنه يبحث في كل المغارات من أجل الضوء ليأخذك ويجذبك دون درايتك.. كتاباته تستوقف القلوب الواجفة خلف الدور وعند ضفاف الأنهر وفي الصحراء الواسعة.. هو يحكي عن الخراب.. وكأنك تعيش معه في دوامات فارغة. والحقيقة، وكما عرفته، هو يريد فضح العالم، وهو يريد أن يكتب ما يريد وتتوقد كتاباته في الزنزانة والمنفى.. هو طليق لكنه سجين. قال لي بأنه: (بائس.. لكنه مغرور).. هو مبتل الأيدي، لكنه يملك الاقتدار والاقتحام.. هو صلب لكنه هادئ.. يصل إلى ما يريد الوصول إليه.. كل شيء وكأن لم يحصل شيء! بحيث يجعلك تبحث عن نفسك بدون ضوء.. يتفحص كثيراً.. يُرى انه متعب ومهموم ولا يستطيع الكلام ولا حتى رد السلام وإبداء الرأي، لكنه يُفحم من يجادله ويناقشه في أمور الأدب والثقافة بحيث يرفع يديه ويسلم تسليم.. وهو طائر فرح.. دائماً يصفق بجناحيه المتعبة ولا يبدو عليه أي يأس؟، انه يواجه عالما غامضا يطمس ويستعبد الآخرين لذلك تراه يتهرب عما ينبغي فعله.
أما عالمه السياسي فانه يسوده الغموض تماما سوى التلميحات في بعض الأحيان. عندما أكون في ضائقة أدبية؛ سواء من طبع مؤلفاتي وعدم قدرتي أو لعدم نشر قصصي والموافقة عليها، آتيه منفعلا" وأطلب منه قراءتها والرد عليها في اليوم الثاني، وما أن يراني حتى يبتسم ويقول: الصبر جميل يا أبا الأنوار فلا تتعجل. وعندما اصرخ: هل قرأتها؟ وعرفت لغزها؟. يجيب بهدوء: قرأتها بتأمل وتستحق النشر. عندها افقد أعصابي ويتعالى الصراخ، وأنا الرجل الثقيل كما يحلو أن يسميني رحمه الله. واذكر مرة في عام 1981 بالضبط أني كتبت قصة (العرس الآخر) ولم يوافق على نشرها لعدة مبررات، وذهبت في مهمة خارج المحافظة أو ما نسميه بالواجب، لكوني أحد الفنيين في القوة الجوية، وعند عودتي رأيت زوجتي تلوح بصحيفة فرحة وهي تقول: لقد نشر حسن مطلك قصتك. وأذكر كذلك أن غداءه كان عند جاري العزيز (عبدالله صالح) الملقب بأبي فاضل.. لم اسأله عن الكيفية التي تمت بها الموافقة لأني أعرفه إذا قال شيء يفرض بالدليل والبرهان والحجة، ودعوته إلى تناول قدح من الشراب البارد في محلة (وادي الحجر) التي كتبت عنها مجموعة قصصية كاملة.
-3-
.. وأذكر انه قال لي بالحرف الواحد: إنهم يخافون من كتابة الثوار. ولما سألته: كيف أيها الشاب المغرور؟. أجاب بابتسامته: لأن صدى الكلمة يا صاحبي كالريح العاتية وهم يخافون من الرياح التي تُغيّر. منذ ذلك الحين بدأت اقرأ كتاباته بكل تأن وأعيد قراءتها وأناقش بها زوجتي، وكانت تجيب: أنت مجنون لكن لا خوف عليك.. خوفي على هذا الشاب الذي لا أفهم حرفاً من كتاباته. وبدأ يكتب وينشر ويسافر إلى بغداد ويلتقي بالأدباء وأصبح نشره غزيراً وأن مجلة (الطليعة الأدبية) لا ترد له طلباً، وكذلك الصحف الأخرى.. أقول؛ أن اسمه قد لمع فعلاً، وبدأنا في المقاهي وأثناء الندوات الأدبية؛ الكل يحكي باسم (حسن مطلك).. هذا الرجل القروي المقتدر الذي يُفحم من يريد إفحامه، وهذه الكلمة ترددت على مسامعي عدة مرات، وبدأت اقترب من حسه الوطني العالي كلما كثرت قراءاتي لكتاباته واخرج ما يدور بذهني بعد أن آخذ وقتا بتحليل أقواله. وكان وقتها يبدوا شاباً عادياً، وحاولت مرات عديدة إثارته حول الوضع الحالي وترف الحكام وحاجة المعوزين.. وقتها ضحك ضحكة طويلة وقال: بدأت أفتحك. وقتها قلت له: لقد فهمتك قبل أن تفهمني. عندها أجابني: أبداً.. أنا فهمتك منذ عام 1967 عندما سجنوك أثناء تقديم قصتك (الورد والشوك) لمجلة (الجندي). قلت: لكنك صغير ولم أعرفك. استحلفته بالله عمن أخبره؟. فأجابني بهدوء كعادته: أم الأنوار. قلت له: لكننا لم نكن قد تزوجنا بعد!. سكنت الدهشة ثم أجاب: لنكتب عن (التغيير). قلت له: ماذا تقصد؟.. وضح رجاءً. همس بأذني: ألا ترى ما يدور من حولك؟. قلت: بالطبع لكن ما العمل يا صديقي؟. سكت وأطال السكوت، وهذه ليست من طباعه.. وعلى الفور بعد برهة أجاب وكأنه في حالة استعداد: " الطوفان ". قلت له: أبعدني عن ألغازك ومتاهاتك وأجبني أمانة في رقبتك.. ماذا تريد؟.
أجاب بعصبية: قلت لك لنبحث عن التغيير والتغيير لا يكون إلا بالطوفان، ولن يبقِ منهم أحداً.. لان بقاء أحد منهم يعني موتنا جميعاً. ثم اعتذر عن عصبيته وغادرني دون وداع .. منذ ذلك الوقت بدأت أضع النقاط على الحروف وقتلني الخوف عليه.. بعد شهر تقريباً جاءني يحمل صحيفة وفيها لقاء معه يسمي فيه نفسه بالرجل المغرور وانه قادر على أن يقلب الأمور ويصل إلى ما يريد، وفيما معناه، ولا اذكر نصه، لكنه أكد انه قادر على الوصول لما يريده وانه كاتب له وزنه وعليهم أن يعطوه المساحة التي تليق به.. وقال لي: ألم اقل لك باني رجل اقتحامي.
ـ 4 ـ
ومرت الأيام والسنين واشتركنا في المسابقة القصصية لوزارة الثقافة والإعلام ولا اعرف كم عدد المشاركين وكانت النتائج فوزه الأول على القطر بقصته التي عنوانها (عرانيس ).. والحقيقة أنها أحدثت ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية وقد اتهمه بعض المغرضين بان السيد مدير التربية والذي مسقط رأسه في الشرقاط تدخل في الأمر وأعطى فوز (حسن مطلك) لان قريته تابعة للشرقاط وهناك صلة بينهم.. والحقيقة تقال أن اغلب الأدباء وقفوا وقفة واحدة لتكذيب هذا الخبر. وفي لقاء بعد الفوز وبعد تهنئته قال بصوت يكاد لا يُسمع: ( الفوز القادم أهم واشمل وسأطبع على حسابي كل مخطوطاتك). انبهرت من هذا القول وأنا اعرف انه لا يملك شيئاً.. ولو كان يملك شيئا على سبيل القول لطبع كتبه هو.. أو لدفع طبع روايتي (البيارق) والتي كلف طبعها على ما اذكر (300) دينار قطعتها من قوت أولادي ومن راتبي البالغ (100)دينار. إنني اخبر زوجتي بكل صغيرة وكبيرة ولما أوجزت لها ما دار بيننا من نقاش قالت: (اترك المسكين يشوف طريقه). واذكر وقتها أن فاضل عبدالله كان عند أخواله في قضاء الشرقاط (قرية سديره) وأخواله هم أهل (حسن)، ضحك عندما سمع ذلك، وقتها كان في المتوسطة والإعدادية، وقال: (كانت والدة حسن قبل فوزه تلومه على قراءته وعدم مساعدة أهله في الزراعة، وان هذه الـ (شخابيط) لا تطعم والفلاحة هي التي تطعم ولما فاز وقدم لها ثلاثة آلاف دينار، فرحت وراحت تدافع عنه ولم تقبل أن يذهب للمزرعة.. بل تدعوه للمزيد من القراءة والمطالعة). وبدأ نجمه يسطع في الساحة الثقافية واصبح اسمه يذكر في جميع الندوات كشاب قاص مبدع وبدأت الصحف تكتب عنه واسمه صار لا يسقط عن لسان الأدباء، ناهيك عن قريته وأبناء جلدته..
اختفى حسن مطلك وكلما سألت عنه قالوا: انشغل بالتدريس وأمور الحياة الأخرى وظهرت غيمته الممطرة بولادة مؤلفه الجديد الـ (دابادا) وذاع صيته وبدأ كنجم لامع في سماء الأدب وراح الكتاب الكبار يكتبون عن دابادا حسن مطلك.
والنقاش جار حول محتواها ومضمونها وشدة حبكاتها.. وانه ماذا يريد حسن مطلك من كل ما قاله..؟. وقد كتب عنها الكثير وكثر توزيعها، واذكر أنها طبعت في لبنان ثم انتشرت في كل أنحاء الوطن. واذكر ما كتب عنها صديقه المرحوم محمد جنداري وما قاله من: أن هذا الشاب مبدع ودابادا هي أروع ما كتب في هذا القرن..
-5-
وبدأت اقرأ الدابادا شأني شأن الآخرين من الأدباء والقراء والمحبين لـ(حسن مطلك).. قرأتها عدة مرات وفي كل مرة احصل على لغز.. وفي القراءة الرابعة توصلت إلى جملة مفادها: أن حسن مطلك يريد التغيير وحتماً انه مشترك أو سيشترك في انقلاب الحكم ونقلت ذلك لزوجتي فصرخت بي، ولأول مرة في حياتها: أن خل الولد يعيش. ولما عاتبتها على صراخها قالت: (مسكين بعدو شاب خطية بعد ما شاف شيء من دنياتو وهذولة ما ينكدرلهم).
وبدأت أفكر في مسيرة المرحوم وغروره وكل كلماته وافكك حلقاتها وأبعادها ووصل عندي الشك اليقين عند لقاءي أو عند دعوتي إلى حفلة عرس في مسقط رأسي في قرية (الحود الفوقاني) من قرى ناحية (القيارة) حيث جلست مع المرحوم الشهيد النقيب (صباح عبدالله حسن) وتركنا العرس ورحنا نتناقش حول العسكرية وتذمر الضباط والمراتب والتسلط والانفراد بالسلطة والسجون وأمور كثيرة، واذكر انه سألني عن (حسن مطلك) وكتاباته ورأيي فيه تجرداً عن العشائرية. قلت له: شاب مغرور ينظر إلى الأمور بعين مغرور ويحلم بأشياء أكبر من عمره. أجابني: نحن أبناء منطقة وفرحنا واحد وحزننا واحد ماذا فهمت منه؟. قلت: انه متذمر من الحكم ويريد التغيير على ما أظن. قال بتوسل: كيف عرفت؟. قلت من خلال (دابادا) ه وكلامه الملغوم معي. واخذ بيدي خارج بيت العرس وقال: (أمانة الله عليك هل قال لك شيء). قلت: أبداً لكني فهمت من كلامه الشيء الكثير وأنكما سيان وأنكما تريدان الانقلاب. فجأة قال: وأنت؟. وأقولها بصراحة متناهية؛ قلت: ( الوضع يخوف، ولا يمكن لأي قوة أن تقهرهم ). هز رأسه واستأذن بالانصراف. بعدها التقيت الشهيد حسن مطلك وكان متعبا جداً ومتفائلاً جداً ويتكلم عن كانون.. حتى أني ظننت انه قد كتب رواية لهذا اليوم..! وقتها كنت في الكلية العسكرية الثانية وطردت منها أثناء نقاش حول أن صدام حسين رجل سياسي وميداني. قلت: سياسي وليس ميداني والدليل انه لم يخدم العَـلَم. لم أكن أعرف بأن الخبر وصله. ربت على كتفي واقسم بالله أنه سيأخذ كل حقوقي وستنشر جميع كتاباتي وتوزع.
ولا اعرف كم بقى من كانون لكن على ما أظنه ثلاثة أو أربعة اشهر عندما قال لي: ستأخذ إجازة قبل كانون وستعيش هناك فترة من الزمن، أعرفك على كثير من الأدباء والكتاب وربما أساعد في نشر قسماً من كتاباتك. قلت له مازحا: ( زرّع يا جحش حتى يجيك الربيع). قال بتأسف: كلام لم اسمعه منك من قبل يا أبا الأنوار. قبلته وقلت له معتذرا: لا تعاتبني يا مغرور فأنا (...). قال: صدقت، لكن قل لي كيف صوتك؟. قلت مازحاً: هل تريد أن أكون مطرباً. ضحك وأجاب: أبداً.. أبداً لكني سأمتحنك قبل كانون القادم. أجبته فوراً: سأنجح. أجاب: بالطبع.
ودعني وداعاً حاراً ولم أره بعدها. أذكر انه وقف على بعد أمتار وقال: ( لا تنسى انك من رجال الظل). حيث اختفى عن الساحة الثقافية ولما سألت بيت أبو فاضل جاري في الموصل.. هز رأسه وأخبرني أن أخباره مقطوعة نهائياً وأن مقره بغداد أو كركوك.
-6-
اختم شهادتي بالقول الآتي:
إن الشهيد حسن مطلك أول من كتب الحداثة في الثمانينات وانه كذلك أول من مد جسور التواصل الثقافي والأدبي بين القرى والأرياف والأقضية والنواحي.. صحيح أن الناس يقولون باني كنت سباقا لذلك وان الدليل لهم أني أسست رابطة أدباء وكتاب القيارة عام 1989 لكني أقول وللأمانة: كان ضوء وصوت حسن مطلك يغطي الجميع بما فيهم أنا. والحقيقة الأخرى: أن للقاص والمبدع الشهيد حسن مطلك مملكة خاصة وعجيبة وان الدخول إليها صعب جداً.. بل وأحيانا وبسبب واحد أن الغموض والرؤية في مملكته تحتاج إلى الصبر والتأني والتأمل واخذ الحيطة والحذر الشديدين وان حراسها مدججون بالسلاح الفكري العالي وان كنوزها ليست كالكنوز التي نعرفها.. ولا أظن أن أحداً قد اقترب منها.. حتى أخوه الدكتور الأديب المبدع محسن الرملي.. وإن اقترب فلم يقترب إلا نحو حافاتها الشمالية الغربية، إن صح التقريب. أما أنا فقد اقتربت، على ما أظن، بشكل حسن وحيطة وحذر عاليين.. إن كل كلمة من كلماته، كما ذكرت، تولد الينابيع وان كل بذرة ستلد آلاف الأشجار المعمره وان الأشهر والسنين ستشهد كتابات واعية ومدركة وستحمل كثيرا من الألغاز المتشابكة والمعقدة.. وان سيرة الشهيد الغائب الحاضر في قلوب كل الخيرين ستكون ثورة الأمل والبحث عن الأمان.. ثورة العدل والمساواة والحرية التي ترفرف فوق أسوارنا العالية والتي نادى بها شهيدنا لأكثر من أربع وعشرين سنة.
نم في ضريحك يا حسن مطلك مرتاح البال.. فقد أديت الرسالة وأعطيت دمك وفكرك وكل ما تملك لخدمة المساكين والفقراء ولطريق أبهى وأجمل.. وإننا على العهد سائرون مستلهمين منك ومن صحبك الكرام العزيمة والإقدام وان لا تهزنا الرياح العاتية مهما تعددت أشكالها واتجاهاتها بعد أن توكلنا على الله ناصر المجاهدين.
كما يمكن القول بأنه أعطى المثل الحقيقي لأبطال كتاباته وأضاف نغمة واعية ومدركة ونظرة شمولية لمستقبل مجهول ومعركة دائمة من خلال قصصه المتفرقة هنا وهناك.. وانه كعالِم أكد على الأصالة والابتكار والمخيلة بعالم مشترك مترابط عجيب. فهو ينقلك إلى عالم الأموات وبواطن الأرض لتحس بتلك الديدان التي تعيش دون شمس.. وانك لا تستطيع اقتناص معنى جملة إلا في الغوص في أعماقه وعند حافاته فهو يبني من الرمل أهرامات في صحراء متناهية الأطراف فيولد لها المطر ليكون الاخضرار..
-7-
واغلب قصصه توصف بالصدق، وكلما تعددت شخصياتها تكون اكثر وضوحا، والفاحص المدرك لكتاباته يرى أن حكاياته تستساغ بوعي.. وكأنه يعطيك تعزية نفسه لمعالجة معضلة ما.. وكأنه قد ألم بها جيداً.. أعود فأقول: إن الحديث عن مملكة الأديب سلسلة ليس لها نهاية نعيشها اليوم لأنها تبشر بالرضا المرتقب.. فهو محارب جيد للأفكار حتى في نفحة اللحود، ذرى في الإبداع وسر الحياة التي فارقها في عنفوان شبابه هو كونه معارض وفاضح لعالم منحرف.. هو لم يكتب حرفاً واحداً لصدام بينما كان أحوج من غيره لذلك. بدأ حرب الكتابة ثم الجودة بالنفس ولذلك وجد ملاذه وخلاصه بالحب فلما لم ينفع الحب بدأ بالهجوم لذلك اصبح عنوان الحياة الجديدة فأبقى لنا صورة صافية ممتزجة بالأمل والحب والسلام والخير بالأهل والأصحاب.. وانه نجح إلى حد بعيد بدمج علم النفس بأشخاصه.. فهو ينتمي إلى كل الأجيال.. واكرر: لابد من تشكيل فريق عمل ودخول مملكته لمعرفة أسراره.. وهذا لا يكون إلا بالبصيرة والتعقل، عندها سنصل إلى عالمه العجيب وسنكشف عن كنوزه الكثيرة وسنكتب الكثير بلا شك وهذا ما سنفعله بعون الله تعالى..
رحم الله حسن مطلك.. الشاب الذي احرق نفسه ليضيء الدرب للآخرين.. وليخلق عالماً فيه الفضيلة والتسامح والعادات التي ننشدها جميعا ونناضل من اجلها حد الموت كما ناضل من قبلنا حسن مطلك وصحبه الأخيار رحمة الله عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عطية محمد أحمد الجبوري: كاتب عراقي، سكرتير تحرير جريدة (الحياة الجديدة) ومحرر جريدة (الإنقاذ). aljeboury2000@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق