23‏/09‏/2009

إهداء إلى حسن مطلك / إبراهيم أحمد

قصة

الـســـجـادة


إبراهيم أحمد


..إلى ذكرى المبدع حسن مطلك
الذي حاول الثورة بمدفعه،
وكانت مدفعية الإبداع بين يديه

كان فاضل الأحمدي مشهوراً بصنع أجمل السجاد وأفخمه. يأتي زبائنه إليه ليعلموه أن الزهور اليانعة المشعة فيها تجعل من يطأ السجادة يميل ويكاد يسقط كي لا تطأ قدماه أوراقها الغضة. وليست بلقيس وحدها ترفع طرف ثوبها حين تمر على السواقي الرقراقة في مخمل سجادة. وإنهم كفوا عن إطلاق العطور أو البخور في أرجاء الحجرات الواسعة لأن زهور السجادة أخذت تبعث شذاها وأريجها المسكر. وعندما يطلقون طيور الحب من أقفاصها كانت تحط على أغصان سجادات الجدران وتتطارح الهوى والغرام مع طيور سجادته الحريرية اللامعة. بل إن أحد زبائنه من ضباط قصر حاكم البلاد أتاه ببدعة خبيثة إذ قال له أن أسد سجادته الحريرية ذات الوبر الناعم قد التهم أحد ضيوفه! وإلا أين، يكون قد ولى بعد أن دخل قصره ثم اختفى كل أثر له!.كان هذا غاية الجمال والكمال في ذائقة الناس المنعمين المترفين فيأتون إليه يريدون سجادات أعراسهم وأفراحهم ومناصبهم الجديدة وانتصاراتهم المزعومة. وكان ذاك يمنحه نشوة كبيرة ولكن بعد مقتل ابنه في الحرب صار ذلك يؤلمه، ويجعله يتذكر أنه لم يستغل حظوته بين هؤلاء المتنفذين في الحكم ليقوم بإعفاء ابنه من الخدمة في الجيش كما فعل غيره لأبنائهم. وكانت زوجته كثيرة اللوم له لاستغراقه بفنه وصناعته النادرة غافلاً عن حياته وأبنائه وشئونهم وعن أمواله وثروته!. كان الأحمدي كلما بلغ الأوج في إبداعه والذروة في فنه يحرص أن لا يغفل السر الأعظم لمهنته الذي كان والده يؤكد عليه دوماً .. حتى أن آخر كلمة نطق بها وهو يحتضر: مهما بلغت الذرى في إبداعك لا تنسى أن تضع على قمة خلقك الجميل الخطأ المقصود ! . والخطأ المقصود أمر محمود! ولا مناص منه كالبسملة والحمد لدى المؤمن! وهو خلاصة خبرة وتقاليد أصيلة عريقة يرثها كل ناسج للسجاد عن أبيه وأسلافه الأقدمين .توصلوا إليه بحنكتهم المشهودة وتجربتهم المؤكدة على مر العصور . ويوضحونه بتواضعهم الجم : أن كل سجادة يصنعها من أودع الله في قلبه وعقله سر حكمته وإلهامه فتأتي كاملة تضاهي في كمالها آيات الله البينات ينبغي أن يقوم السيد النساج بإحداث نقص وخلل صغير أو خطأ خفي في زاوية منها لكي لا تتجرأ على الكمال الذي هو لله وحده! وذلك ليس من أجل الله الذي هو في غنى عن العالمين وأشياءهم الزائلة، بل من أجل البشر أنفسهم حيث الكمال يتناقض ويتناحر مع خطأ الناس وانحرافهم وضلالهم ويستدعي الحسد الذي يجلب الويل والثبور على من يقع عليه .وكل سجادة دون الخطأ المقصود هي بمثابة لغم سينفجر يوماً بصمت ويودي بأصحابها من الأغنياء أو الفقراء إلى أفول سريع وزوال مريع ! ذاك سر مؤكد يقول الأحمدي أجمعت على قوته ونجاعته حكمة العصور التي خالطت دماء النساجين وتوارثوها واحترموها ونظروا لها بذات المهابة التي نظر بها الأطباء والصيادلة للسم الزعاف والترياق المداف!؟ تلك هي حكمة الشرق كله وسر بقائه وأنواره التي بددت ظلمات الصقيع في أركان هذا الكوكب! .ما أن تكتمل السجادة وتغدو كاللوحة المشعة وكالقصيدة الناضجة الوهاجة حتى يتقدم منها بخشوع ويضع في مكان منها الخطأ المقصود وهو قد يكون زهرة خزامى زرقاء على غصين زهرة نرجس صفراء عليلة. أو منقار بلبل ذا طرف برتقالي على رأس عصفور رمادي، ثم يضع شيئاً آخر لا يدركه سوى هو النساج الشامخ المتواضع كما لا يدرك سوى الخالق الباري لماذا أنفي غرابي منفر وأنفك صقري مهاب!. ذات يوم خريفي عاصف جاء إلى الأحمدي ضابطٌ من قصر حاكم البلاد يأمره بعمل سجادة طويلة تغطي جدران قاعة الاحتفالات لقصر الحاكم الذي بني مؤخراً مع مجموعة قصور أخرى بينما الشعب حولها يتضور جوعاً . أرادها الحاكم أن تكون أكبر وأجمل سجادة في العالم كله بخيوط من الحرير والدمقس غريب الألوان وأن تتوسطها صورة الحاكم الذي يدعى بالأعظم وهو يستلم التفويض الإلهي لحكمه من يد أول حاكم مطلق للبلاد قبل أكثر من ستة آلاف سنة .وتحف بها آيات ونقوش ورسوم فريدة !ورغم أن فاضل الأحمدي امتعض واغتم في أعماقه لهذه المهمة الثقيلة إلا أنه لم يسعه سوى الابتسام والتظاهر بالفرح قائلاً :
- أشكركم لإناطتكم بي هذه المهمة الجليلة.
كان كمعظم أفراد الشعب يكره الحاكم ولا يمكن أن ينسى أنه ما كان ليفقد ابنه البكر الجميل لولا حروبه الرعناء .لكنه ما أن اختلى إلى نفسه حتى أحس بشكل غامض أنه يستطيع أن يفعل شيئاً في سبيل الإطاحة بهذا الحاكم الظالم المكروه المتشبث بالسلطة، المنبوذ من العالم والذي سلطه أعداء البلاد ليجثم على صدور الناس بروحه الشوهاء المتعطشة للدماء وحاشيته الفاسدة وحراسه الكثر المسعورين .ولكن ماذا يستطيع صانع السجاد أن يفعل في ما عجز عنه ضباط كبار ووزراء وسياسيون عريقون ومثقفون وشيوخ قبائل وعشائر كانت قوية مؤثرة قبل أن تسحق وتباد . ألم يطبق الشعب كله عليه يوماً وكاد يسحقه مع طغمته الصغيرة فانبرى حلفاؤه أعداء البلاد لحمايته وإبقائه في كرسيه. لم يطل تأمله فقد بزغ الهامه المعتاد وأدرك أن ما ينبض به ضميره هو أن يترك السجادة التي سيصنعها للحاكم المنبوذ دون الخطأ المقصود وهذا كل شيء. ولكن قلبه لسع وانقبض . كيف يخالف أهم مبدأ كان أبوه يرسخه في نفسه .وقد غادر الدنيا وهو مطمئن أن ابنه سيرعاه من بعده .ولا ينسى أول كلمة قالها له وهو يكشف له هذا السر الخطير في مهنتهم والمكان المفضل لوضعه على السجادة " بدون الخطأ المقصود ستحل لعنة الباري على مقتني السجادة وعلينا أيضاً .وتشمل أسلافنا الراقدين في قبورهم فيوضعون في أسفل طبقات الجحيم.". راح يقنع نفسه أنه سيغفل الخطأ المقصود في سجادة حاكم متوحش سفاح أباد الناس والنبات ولوث الماء والهواء والتراب وأطلق أولاده وأزلامه يهتكون الأعراض ويستبيحون الحرمات .إن إزاحة هذا الغول أو تدميره لا يعدها الله ذنباً بل هي واجب .وقد يحسبها للأحمدي مأثرة يهبه عليها حسن الثواب!.إذاً سأتوكل على الله وأقوم بضربتي الهادئة المحكمة وسأفلح هذه المرة بما عجز عنه كل من سبقني وسيتحقق أمل الشعب كله بإذن الله !... باكتمال السجادة الفخمة ووصولها لجدران القصر سيبدأ السر العظيم يعمل بصمت ومهابة وبشكل حثيث للإطاحة بهذا الحاكم التعيس ونظامه المرعب ورغم أن السر بسيط إلا أنه قانون مبرم محكم مجرب قلب فيه النساجون القدامى الماهرون إمبراطوريات وممالك وإلا لماذا انهارت صروح وإهرامات وزقورات لم تمسها لحظة سقوطها سيوف أو رماح أو بارود . ألم يكونوا ينسجون خيوط الحرير والصوف والقطن كما ينسج شعراء ورسامون وأمراء كلام ونغم خيوط الزمن ورماده لتغدو شباكاً تقتنص الوحوش والفرائس من غاباتها وبراريها في الأحلام فتهد بها أسس قلاع الجبابرة وتطلق الخيول والطيور والغزلان لتفتح الآفاق وتفرش الأرض والأوراق بأطيافها الساحرة . ومن هنا سن ذلك القانون المبرم الذي ينص على أن كل مكان تحل فيه سجادة مكتملة الصنع تماماً ينحل فيه النقص ويتكرر انحلاله وتفتته كل يوم حتى يدمر ويتلاشى. قرر الأحمدي أن يستنفر كل براعته ومهارته ويصنع للحاكم أجمل سجادة صنعها في حياته. ستكون كالبدر في ليلة تمامه .وإذا كان البدر يصل إلى محاقه ثم يختفي فهي ستبقى محتفظة بهالتها المدهشة بينما تروح كل الأشياء المعوجة القبيحة تدور في فلكها وتصل إلى محاقها وذوبانها وتلاشيها حتى تتفتت قلعة الشر حجراً بعد حجر ثم تكون نهاية شقاء الناس قد أزفت. ذاك هو اللغم الخفي الصامت الذي لن يسمع دويه إلا حين يكون قد وصل غايته المدمرة المرجوة. إنه حلم جامح لكنه يركب فرساً أصيلة رشيقة متمرسة ثابتة الخطى .لن يعول على الحسد فلا أحد يحسد حاكماً ظالماً مكروهاً لا ينام ليلة واحدة مغمض الجفنين ويظل كالخلد المذعور يتنقل بين جحور وأقبية تحت الأرض منتظراً قدوم قتلته دون جدوى .ما سيعمل هنا هو ذاك التيار القاهر الذي يؤكد أن الكمال المطلق والجمال الباهر الذي لا يحده خلل أو خطأ سيكون نقيضاً مدمراً للخلل والشذوذ والانحراف .إنه بالطبع ليس ذاك الخلل أو الخطأ العادي الذي لا ينجو منه إنسان حاكماً كان أو محكوماً بل هو الخطأ الرهيب الساحق والانحراف الثابت الطاغي الذي يعشش في قلب الحاكم وزوايا قصره وثكنات جنده وزنازين سجونه ومقاصله فينشر الخراب والرعب ويتلف الناس والحياة ويلوث الهواء والزمن والكلام .هذه هي الحرب السرية الخفية التي ستنشب بين الأشياء في أرضية القصر مما سيؤدي إلى انهياره وزواله بأسرع وقت . وهكذا ستكون هذه السجادة الجميلة الطريق الذي سيسير عليه طيف الحق والجمال والعدل من سجنه الطويل حتى يهد جدران القصر فوق رأس حاكمه الظالم . ستهيج تلك القوى الخفية الكامنة في القمقم أو كهوف الأرض المهجورة بل ستستدعي معها كل الأرواح المغدورة التي محقت ظلماً في الحروب والسجون والمنافي لتأتي وتحيل القصر ومن فيه إلى رماد . ولكن من قال يا فاضل الأحمدي أن الكمال سيزيح النقص والخلل بالسرعة التي يزيح فيها النور الظلام؟ ألم يمر بالقصر أناس كانوا على قدر كبير من الكمال والصواب والجمال؟ .بلى ولكنهم مروا على عجل .كان الحاكم يستدعيهم فقط لقتلهم. فهو لا يطيق كمالاً أو جمالاً أو صواباً في أي مكان في البلاد أو في العالم معتقداً أن الكمال والصحة في شخصه وفي أفعاله وأشيائه كلها بينما هو الإعوجاج الذي لا يقبل التعديل.. والجمود الذي يرفض التغيير .والمرض الذي لا يقبل الشفاء .إنه ليس حاكماً بل مجرد سجين ضعفه وأسير مخاوفه ويريد أن يثبت لنفسه وللعالم أنه حر وقادر. لذلك يبطش ضمن قوة هوجاء طائشة ستتصادم حتماً مع الكمال البهي الذي يشع من السجادة الكاملة الرائعة حتى يهوي إلى جحيمه. ليس هذا فقط بل إن الكمال البهي العظيم والجمال الباهر الساطع يحركان عقول وأبصار من حوله لتفلت من براثن الشذوذ والبشاعة وتبحث عن طريقها إلى النور والعافية.. وحيث أن الله يدرك مدى الألم والعذاب الذي عاناه الناس من مصائبه وكوارثه فلا بد أنه سيغفر لك تقليدك لصنيعه بشكل كامل دون نقصان وهذا أيضاً من إلهامه وفضله أيضاً سيعطي السر الجبار نتيجته المحتمة السعيدة ولتتوارى خجلاً كل الألغام والقنابل التي وضعها الثوار والمنتفضون في طريق الحاكم الماكر وخذلتهم وكل خطط الانقلابات والثورات التي كان يحصل عليها أعداء البلاد ويسلموها له رغم أنه يتظاهر بمعاداتهم .بل لتذهب إلى سقر حتى نوبات صحوة الضمير التي كانت تنتاب بعض رجاله أو المقربين إليه ثم لا تسفر سوى عن تخبطات أليمة تجعل الضحك ضرباً من البكاء .. منذ الآن سيعمل السر المحكم على إحالة قصر الحاكم المنيع وكرسيه وطغمته وقوانينه الجائرة إلى هباء تذروه الرياح ليبدأ عهد للخير والأمن والمحبة.
لم ينته الأمر بعد . ماذا يا فاضل الأحمدي لو جاء مع ضابط القصر حكيم أو خبير يعرف سر صناعة السجاد وتقاليده؟ ليس من المستبعد أن يحدث ذلك؛ لقد أشعل هذا الحاكم حروبه الطويلة الطاحنة الخائبة دون أن يستشير حكيما أو خبيراً ومن غير المعقول أن يرسل حكيماً ليستلم سجادته .لابد من الحذر يا فاضل الأحمدي .ماذا لو جاء الحكيم واكتشف عدم وجود الخطأ المقصود ؟ سأقول له لا ينبغي أن يكون في سجادة الحاكم الكامل خطأ مقصوداً. وماذا لو أصر الحكيم على وضع الخطأ المقصود؟ سأطلب منه إحالة الأمر للحاكم نفسه .فهو بجهله وعجرفته المعروفين سيعاقب الحكيم الذي يطلب أن يكون ثمة خطأ مقصود في سجادته !وإذا أخذ الحاكم بنصيحة الحكيم وهو المتطير المتهالك على حكمه وحياته . سأقول له .كما تريد يا سيدي .لكن الخطأ المقصود لا يعطي مفعوله ويصد العين الحاسدة إلا إذا كان صانعه وحده يعرف به . وتلك إشاعة لا تستند لخبرة صحيحة تلك التي تقول أن الخطأ المقصود ينبغي أن يكون ظاهراً ليلفت النظر ويصد العين الحاسدة بل ينبغي أن يكون مضمراً ليجذب الهاجس الغامض في نفس الناظر والذي هو أخطر من البصر الظاهر " سيبتسم الحاكم وتمر عليه الحذلقة التي اعتادها ويرضى من أجل سلامته أن يكون هناك ثمة شيء صغير يفلت عن علمه وإحاطته!.
اشتغل مع الأحمدي رهط كبير من العمال والمساعدين المهرة .وتحول مشغله إلى معسكر عمل منضبط تحت إمرته كان يستغرق عادة في سجادة أصغر حجماً سنة أو أكثر لكنه أنجز هذه السجادة الهائلة في خمسة أشهر .وكان كأنه يستعجل يوم الخلاص العظيم الذي سيتم على يديه الماهرتين وقد جاءت السجادة إعجازاً مدهشاً!. قال الضابط وهو يستلم السجادة مبهوراً بروعتها كأنه أول المصروعين بسرها الدفين والمعول عليه : . " انتظر هدية كبيرة من سيدنا .!"
وضعها جند القصر في شاحنة كبيرة وانطلقوا .كان الأحمدي كلما رأى في العيون تألقاً ببهاء السجادة أحس أن سره راح يعطي مفعوله حتى أنه استبشر حين رأى الشاحنة التي تحمل الدبابات والصواريخ عادة، تحمل الآن السجادة وسرها المكنون .وخامره اعتقاد أن السر سيتفاعل مع الحديد ويلويه أيضاً. تنفس بعمق وغمرته هناءة لم تداخله مذ فراق ابنه الحبيب. لقد تم كل شيء على ما يرام ستعلق السجادة في قاعة الاحتفالات وسيجري كل شيء في فلكه المقرر .وهكذا يا فاضل الأحمدي لم يتبق لك وربما لم يتبق للشعب كله سوى مصارعة لهاث الوحوش بأنفاس الورد.. ذاك قدر المعذبين دائماً وربما سر قوتهم وانتصارهم في النهاية كما يعزون أنفسهم دائماً. وهكذا سينقلب يأس الناس يوماً إلى حدائق ورد احتضنتها سجادتك العتيدة منذ الآن .أحس فجأة بالتعب ينقض عليه .كان يهم بدخول حجرة استراحته في مشغله ليتهاوى على فراشه حين رأى وراء شبكة النسج والده الذي مات قبل أكثر من ربع قرن .كان بلحية بيضاء ويد معرورقة تحمل أداة النسج وقد تلاحمت خيوط حرير النسج مع لحيته كأنه يريد أن ينسج من لحية الموت سجادة كبيرة .قال الأب : -تعال واجلس. أقبل عليه متهللاً يريد معانقته لكن الأب صده بإشارة غاضبة من يده المرتعشة . ولم يسعه سوى أن يجلس أمامه واجف القلب كما كان يجلس قبالته لحظة غضبه في الأيام الخواليي، وجاءه صوته قاطعاً كسكين النسج :
ـ لماذا خرقت قانون مهنتنا الذي سنه الأسلاف بعصارة أرواحهم؟.
أدرك الأحمدي على الفور قصد أبيه وما تجشم من أجله عناء السفر عبر أرض الأموات الشاسعة فقال بضراعة : من أجل الناس يا أبي؛ لقد عانوا طويلاً من ظلم هذا الحاكم الجائر وحروبه ورعونته.
- ولكن الحاكم زائل والسجاد باقٍ.
ـ وما جدوى السجاد إذا هلك الناس وغابت الحياة أو تلف صوابهم وذائقتهم؟!.
وما جدوى الحياة والناس إذا فرطوا بما أنجزوا وخانوا أمانتهم؟!.
لا أمانة ولا تراث مع من لا موثق ولا عهد له .لكنك خدشت موثقك مع الله وقاربت كماله وبهائه وهما له وحده !
- الله رحيم بالعباد وهو غفور رحيم.
لكن فعلتك هذه ستودي بي وأسلافنا كلهم إلى الجحيم .أيرضيك هذا؟
- لا يا أبي إنه وزري وسأتحمل أنا وحدي جريرته.
- وهو وزرنا أيضاً،حيث لم نرسخ بك أمانة المهنة ولم نحسن تربيتك.. لذا عليك أن تذهب إلى القصر وتضع الخطأ المقصود على السجادة.
- لكنه سيقطع رأسي كما فعل بطباخة الذي انهار أمامه في اللحظة التي وصلت فيها اللقمة المسمومة إلى فمه !.
ـ لا أدري ومهما كان حناني عليك فهي ستبقى مشكلتك .
ـ لماذا يا أبي لم تأتني قبل أن أسلم السجادة للضاب؟ .
-الآن فقط نبض قلبك بالخوف وأيقظني .لماذا تهورت وعهدي بك رصينا؟!.
تذكر فاضل أنه فعلاً لم يحس بالخوف إلا بعد أن خرجت السجادة من يديه، ربما كان يحدوه الأمل بينما الآن يحدوه القلق .أجاب أباه :
- لم يبق لنا الطغيان عقل ولا روية .وإذا لم أفعل شيئاً سيطول عذاب الناس وتفنى أرواحهم وقيمهم.
- دع هذا لمن يحمل مثل سلاحه ولا تخرب سر جمال السجاد لتطيح بحاكم تافه . أتضمن أن العهد الذي سيأتي سيحفظ الجمال والكمال مثلما حفظنا نحن أسرار السجاد؟.
ـ سامحني هذه المرة وباركني يا أبي وستكون أمانتنا أعظم بعد هذا الامتحان.
ـ قلت لك تدارك الأمر ولا تهتك تقاليد الأسلاف في معمعة زائلة لا محالة.. ولا تناقشني أكثر فأنا متعب.
واختفى الأب تاركاً خلفه شعيرات بيضاء عالقة بخيوط حرير لسجادة جديدة تؤكد أنه كان هنا حقاً. أحس فاضل الأحمدي أن سحابة النوم التي كادت تحلق به بين أمواج السماء الزرقاء قد توارت مع أبيه .وقلبه ينخلع منجذباً إلى هالة ضوء عكرة .وثمة سورة من دماء قديمة تمور بأعماقه وترده لنبض غريب مقلق. نهض ببطء وتناول قدحاً من الماء البارد ولامست جبهته نسمة ربيعية منعشة لكنه وجد صعباً عليه أن يستعيد هدوء روحه وأن عليه لكي يعاود تنفسه هادئاً عبور غابة غامضة ومستنقعاً من الطمى ومشيمات الأرحام وسحنات الوجوه القديمة الغاضبة والمنذرة . . وجد أن عليه أن يسارع للقصر ويضع الخطأ المقصود على السجادة حتى لو أدى الأمر للإطاحة برأسه من أجل راحة أسلافه .أدرك صعوبة أن يصل إلى السجادة التي صارت الآن من مقتنيات القصر وكيف أن ضباطه سيرتابون به وكم قتلوا وغيبوا من بدرت منهم أدنى حركة مبهمة .الآن أفهم لماذا أحبطت في اللحظة الأخيرة خطة قائد الفيلق ومؤامرة الوزير المقرب وركن العائلة الذي كان وحده يدخل عليه حاملاً سلاحه.. كأن ركاماً من الطمى الدموي انهال فوق رؤوسهم فأحجموا في آخر لحظة عن تسديد طعنتهم للقلب الذي انطلقت منه كل هذه الشرور .تاركين خلفهم صحاري العذاب لتطول وتمتد " لكنه عاد وخلع ثيابه وقد قرر أن يترك سر السجادة يعمل في القصر أما أبوه وأسلافه فلا ضير عليهم.. على العكس فحين سيدعو الناس بالخير لكل من ساهم في إزالة هذه الطامة عنهم ستهبط عليهم شآبيب الرحمة. تمدد على فراشه وأحس براحة وأمل .بغتة تذكر أن أباه قد سأله " أتضمن أن العهد الذي سيأتي سيحفظ الجمال والكمال مثلما حفظنا نحن أسرار السجاد؟.. حقاً هل ضمن ذلك؟ . ثم هي معمعة زائلة لا محالة " ما هذا .. أأكون قد قامرت بأسرار جمال السجاد من أجل عهد جديد قد يكون بشعاً أيضاً ؟.. ماذا .. أفقدت ثقتي بمفعول جمال السجاد؟ . لا أبداَ ولكن قد يهدم الجمال عالماً بشعاً ثم لن يستطيع أن يبنيه على غراره. مازال الأب بارعاً رغم الموت حين ضرب على هذا الوتر. أاكون قد وضعت أجمل سجادة في العالم في طريق الصاعدين والهابطين للسلطة دون أن أدري؟.. أأضمن أنهم لن يشهروا سيوفهم تحت زهور مخملها وغناء عنادلها ورنين كؤوسها؟.. لماذا شط بي حلم السجاد حتى عمدت لخرابه مع كل هذا الخراب؟.. نهض كأنه لسع وراح يرتدي ملابسه .مسلماً بموته منذ الآن مردداً في نفسه إنها محنة حقاً.. جازفت برأسي من أجل الحياة وأجازف به الآن من أجل السجاد!.
دخل بيته .قبل أولاده وأحفاده مستغفلاً زوجته لكي لا تثنيه عن قراره، وسار باتجاه القصر . لكنه أحس بدوار وبخطاه تفلت منه وإنه يقبل على أبواب قلعة عالية مهيبة تظللها غيوم بيض كأنها أكفان نفختها الريح .كان الطريق إليها منيراً مفروشاً بالسجاد الفاخر الرائع والمشغول بأيدي أجداده الماهرين وكانوا هم يقفون تحت أقواسها تشع وجوههم السمراء ولحاهم الصفراء الطويلة بنور سماوي يلوحون له بمناديل مضمومة أدرك على البعد أنها مليئة بخيوط الحرير وبالمزيد من أسرار صناعة السجاد وطرقه المخملية التي تزيد الإنسان متاهة فوق متاهته .فسار نحوها يحث الخطى مسرعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إبراهيم أحمد: روائي وقاص عراقي يقيم في السويد، من أعماله: طفل الـ CNN ، التيه في آيس.
* نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.

ليست هناك تعليقات: