04‏/10‏/2008

شهادة - فارس الطويل



الروائي الشهيد حسن مطلك

بين الحلم الكبير .. ورأس الطاغية


فارس الطويل


أتساءل ماذا لو لم يسلك الروائي الشهيد حسن مطلك (1961- 1990)، ذلك الدرب اللعين، الذي اغتال مبدعاً جميلاً، ورقراقاً، في عمر الورد، كان ما يزال في قمة عطائه، مترعاً بالأحلام، والمشاريع الكثيرة، التي لم ينجز منها سوى روايتين عظيمتين، هما: (دابادا) و(قوة الضحك في أورا)، فضلاً عن مجموعة من القصص القصيرة، والقصائد، واللوحات الفنية، التي تمثل نمطاً جديداً، وفريداً، وغير مألوف للعمل الإبداعي، الذي حاول حسن أن يحرره من قيوده، ورتابته، وأسماله، وينطلق به نحو عوالم وفضاءات جديدة، وغريبة، مستخدماً صوراً وأشكالاً متغيرة، وسائلة، ومفخخة، تتحرّك بيسر، ورشاقة، في أروقة الزمان والمكان، ولا تجد صعوبة في أن تتوحد، وتنصهر، في جسد واحد، تنتمي أشلاؤه إلى أزمان مختلفة، ثم تتجزّأ مرة أخرى، لتولد من جديد، محلّقةً على جناحي لغة حارة، منفلتة، ملغّمة بالسحر، والأسرار، والهذيان، والحكمة. لغة نادرة لا تنتمي سوى إلى حسن مطلك، الذي يعرف كيف يروّض حروفها، ومعانيها، وينفث فيها من روحه، وجنونه، ليخلق منها عالماً قائماً بذاته، تتدرّج طبقاته كعالم المثل، الذي أشاده الفيلسوف أفلاطون، وجعله أساساً لبناء جمهوريته الفاضلة، ولكنه يختلف عنه، بحركته الدائمة، وتجددّه، وغرائبيته، ونزوعه إلى الحرية والتغيير.
لا أعرف شيئاً عن الظروف والوقائع، التي دفعت الشهيد حسن مطلك، وهو الكاتب والفنان المرهف الشعور، للعمل مع مجموعة من الضباط والجنود، الذين كانوا يخططون للقيام بمغامرة انقلابية، ضد أخطر دكتاتور في العالم.
لم يكن يبدو على حسن، أنـّه سيلجأ، يوماً، إلى مثل هذا الخيار، ويقرّر أن يقتل الطاغية الذي يكره، بطريقة العسكر المحترفين، الذين كان يمقتهم أيضاً، ويسخر منهم، بل لم يكن يجرؤ أحد من أصدقائه، على التفكير، بأنّ حسن مطلك، سيشترك، في يوم ما، في انقلاب عسكري، ثم تنتهي حياته، هكذا، بجرّة قلم، على يد حفنة من القتلة الأغبياء، الذين لم يدركوا، بالتأكيد، أنهم يشنقون روائياً عظيماً، وشخصية موهوبة، ورائعة، ليس لها مثيل.
كان خبر إعدامه على يد جلاوزة الطاغية، صدمة كبيرة لجميع من عرفه، وعاشره، خصوصاً أولئك البعض من أصدقائه، الذين وضعه القدر في طريقهم، مثل كوكب درّي، ينبض بالحياة، والفرح، والنبوغ، والشموخ.
كيف يمكن للمرء، أن ينسى ملامح ذلك الوجه الطفولي المحبب، وهو يضحك ويكتب ويرسم ويتكلم عن مشاريعه الكثيرة، بثقة، في زمـنٍ أهوج، كنا نحن فيه، ننتظر، عاجزين، ويائسين، دورنا في الذبح، بعد أن تم حشرنا، كالخرفان، في (جملون) بارد، لعين، في معسكر التاجي، حيث تمَّ ترحيل مئات الجنود (أغلبهم من خريجي الكليات) إليه، من الموصل، بعد أن أمضينا شهوراً طويلة، وقاسية في التدريب، في مدرسة المشاة هناك.
كنتُ أنا أنزفُ خوفاً، وقرفاً، وأخطـّط للهروب من الجحيم، بينما كان حسن يداري حزنه، وتعبه، ويشغل نفسه بالرسم، والكتابة، والتأمّل. لن أنسى، أبداً، ذلك المساء، الذي وقف فيه، حسن، أمامي، وهو يرتعش، وبين يديه رزمة من الورق، طلب مني أن أقرأها بهدوء.. يا الله! كم أربكتني كلماته، وزلزلت كياني، حتى أنني لم أستطع النوم تلك الليلة.. اكتشفت بعد سنوات، أنّ تلك الأوراق كانت صفحات من روايته المثيرة والغامضة (دابادا).
لم نبقَ في تلك الزريبة الكريهة، سوى أسابيع قليلة، قرّروا ذبحنا، بعدها، من غير سكيـن، فقذفوا بنا إلى محرقة الحرب القذرة. أرسلوا حسن إلى لواء مشاة، وأرسلوني أنا إلى لواء مغاوير في العمارة، وودعنا بعضنا بالأحضان والعويل. كنا نبكي كطفلين صغيرين. كنت يائساً من رؤيته مرة أخرى، فقد كانت الحرب مع إيران، تزدادُ شراسـة، وكان الآلاف من الضحايا، يسقطون كل يوم، كقرابين للقائد المقبور، الذي حوَّل العراق، إلى مقابر وسجون وخرائب ومآتم.
أتذكـّرُ، أنني في يوم ما، عدتُ إلى البيت في إجازة من الموت. ناولتني أمي رسالة، وصلتني بالبريد، منذ فترة. خفق قلبي من الفرح، واغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أُبصـِر اسم حسن مطلك على الغلاف الأزرق. كانت رسالة حزينة، وموجعة، بدأها حسن بأبيات من قصيدة (الأرض الخراب) لأليـوت. وقتها لم أستطع أن أمنع نفسي من البكـاء.
قلتُ: الحمد لله.. المهم أنّ حسـن مازال حيـّاً!.
كان حسن مطلك، إنساناً استثنائياً، يحمل حلمه الكبير معه، في أن يكون روائياً عالمياً مشهوراً، كوليم فوكنر، وكافكا، ووليم جيمس، ومارسيل بروست، وغابريل غارسيا ماركيز، وغيرهم، ويعمل على تشييد ذلك الحلم، بصبر، ومثابرة، وذكاء، ووعي نادر، لـ (يحقق ما يحققه كاتب عظيم لوطنه)، (الذي كلما قارنت أدبه بآداب الشعوب، اكتأبت، ودفعني ذلك للقراءة والكتابة)، كما كان يقول.
لماذا فرّط حسن مطلك بذلك الحلم الكبير، بعد أن صارت له أقدام راسخة على الأرض، بعد أن نشر روايته المرعبة (دابادا)؟
ولماذا وضع روحه العظيمة، وموهبته الأدبية والفنية الخارقة، التي أنجزت في عمر قصير، وظروف قاسية جداً، عدداً مهماً من الأعمال الإبداعية المتميزة، تحت سيف جلاد حقير، بالرغم من أنّ هذا السيف، لم ينم في غمده، يوماً، وأراقَ دماء كثيرة لكتاب وفنانين، في السجون، وأرصفة الشوارع، وخنادق الحرب.. لكنّه مع كل ذلك، لم يستطع أن يطفئ أسماءهم المتوهجة، وصورهم المشرقة، وإبداعاتهم الندية، المحفورة في قلب العراق، ووجدان الأحرار والشرفاء؟
ولكن تظلُّ الحقيقة المرة، التي ينبغي أن نتجرّع علقمها، وصديدها، وهي أنّ خسارة الوطن كبيرة جداً، بفقدان هؤلاء المبدعين، وأنّ الزمن لن يجود علينا، دائماً، وبسهولة، بأمثال الشهيد حسن مطلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (عراق الكلمة) بتاريخ 6/6/2007م.
*فارس الطويل: كاتب عراقي يقيم في ألمانيا. faris-altaweel@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: