" سـدرة " حـسن مـطلك
جاسم الرصيف
تعرفت عليه في "عرانيس" قصته الشهيرة التي فازت بالجائزة الأولى في الثمانينات.. مبدعاً من طراز يختلف عن مجايليه من الأدباء بشاعريته الفذة وأصالة موهبته... ثم تعرفت عليه شخصياً بصحبة القاص الكبير محمود جنداري على هامش ندوة الحرب سنة 1989 في فندق "المنصور ميليا"؛ شاباً هادئاً، يبتسم دائماً بثقة للأدباء، مع أنه قليل العلاقات بهم. أهداني نسخة من روايته ( دابادا ) التي وجدتها فيما بعد أكثر من رائعة.. لا بل وأكدت لي، كما أكدت لغيري من الأدباء، أن حسن مطلك خطير، أدبياً، على مجايليه بموهبته المتميزة، وأن " عرانيس " لم تكن فلتة عابرة.
ذلك اللقاء، الأول وألخير، بيننا لم يوح لي بأكثر من أديب شاب، موهوب، طموح، وانطوائي.. عللت انطوائيته، في حينها، بالتحفظات التي يمتلكها الأدباء القرويين ضد الانفلات الاجتماعي في المدن.
كان لقاءً قصيراً، ويتيماً حقاً، لم يدر في خلدي أثناءه أن ذلك الفتى يحمل سراً من أخطر الأسرار في تاريخ العراق المعاصر، أثر وبشكل كبير على مئات، ولا أقول، ألوف العوائل من عشيرة " الجبور " بشكل خاص وعوائل أخرى من غير هذه العشيرة.
في " إسديرة " قرية حسن مطلك.. واسمها تصغير لشجرة السدر التي تنمو بشكل طبيعي على ضفاف دجلة في منطقة " الشرقاط ".. تنتشر المضائف العربية التي يمكن أن توصف، ودون مبالغة، بالمدارس الليلية التي يستعيد فيها أهالي " إسديرة " وضيوفهم قصصاً يومية من التاريخ العربي القديم، والتراث الشعري؛ فصيحاً وشعبياً!... التقيت في هذه القرية برجال عجائز، أميين!! حفظوا المعلقات السبعة منذ نعومة أظافرهم، والكثير الكثير من وقائع التاريخ العربي البعيد والقريب، وخاصة قصص الكرم والعدالة والشجاعة والنخوة. وكان أهالي هذه القرية يواظبون على استذكار تلك القصص وتحفيظها، في آن، لمن لم يحفظها بعد من الرجال والنساء والأطفال الذين تنغرس في ذاكرتهم الطرية المثل العليا للعرب والإسلام.
و" إسديرة " هي مجموعة من ثلاث قرى متداخلة تماماً؛(العليا)،(الوسطى) و(السفلى) يسكنها فخذ (الرملي) من عشيرة (الجبور) تقع على الضفة الشرقية من دجلة، وتقابلها على الضفة الأخرى قلعة ( آشور ) بكل شموخها التاريخي والأسطوري، وكان قدر هذه القرى أن تعيش التاريخ البعيد والقريب وحاضر العراق لحظة بعد لحظة. وهي كما قرى قضاء (الشرقاط) الأخرى؛ رفدت الجيش العراقي، أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية،بألوف من المقاتلين الشجعان الذين استشهد الكثير منهم، في الوقت الذي كان فيه أبناء مدينة (تكريت) يختبئون تحت غطاءات مختلفة أثناء الحرب، فيجدهم المرء يرتدون، ولحد الآن، الزي العسكري " رمز المسؤولية " ولكنهم يقدمون خدماتهم المخابراتية ضد المواطنين الحقيقيين بعيداً عن مواقع القتال والخطر، لذا لم تخسر (تكريت) غير قتلى حوادث السيارات الفارهة " مكارم القصر الجمهوري " عن "بطولات" وهمية في أفضل حالاتها لا تتجاوز التجسس على العراقيين.
وبعدما توقفت الحرب العراقية الإيرانية ضمت (تكريت) إليها قضاء (الشرقاط) وقراه، حفاظاً على بعض ماء الوجه أمام العراقيين لتضع لنفسها موقعاً مع المناطق الأخرى التي قدمت الكثير من الضحايا لتلك الحرب، فتعكز بذلك "شرف" الحكومة على شرف (الشرقاط) وقراه، فصارت هذه الواقعة سرقة لشرف تلك القرى ومواطنيها الحقيقيين فضلاً عما كانت، ومازالت، تعانيه من إهمال يجعل المرء يشعر بمواطنة ربما دون الحد الأدنى، إذا ما قيست "بمواطنة" المقربين من الحكومة، أو حتى سكنة (العوجة) و(تكريت) الذين يتمتعون بكل شيء، كل شيء، على الإطلاق!!.
إذن، قلعة (آشور) وحكايات التاريخ، القريب والبعيد، والشعر العربي، فصيحاً وشعبياً، ونهر دجلة.. كل ذلك يشكل الإطار العام الذي ولد فيه حسن مطلك، هذا الإطار الذي تصادره في كل لحظة مجموعة من الجهلة، أفضل حالات تحصيلها العلمي (نائب ضابط)، استحوذت على كل معطيات العراق تحت شعار:"جئنا لنبقى" وتحت غطاء الولاء (الضرورة).. نفر قليل من بين عشرين مليون عراقي ونيف يغطسون يوماً بعد يوم في مستنقع الفقر والسـجون والاعتـقالات المقاسـة على مسطرة (الولاء) لفردية صارت قـدراً سـيئاً لهذا البـلد.
وكانت المفاجأة سنة 1990 عندما اعتقلت الحكومة مجموعة كبيرة من شباب قرية (إسديرة) ومنهم حسن مطلك، والقاص المرحوم محمود جنداري، تحت (تهمة) محاولة الإطاحة بالحكومة العراقية أثناء استعراض الجيش في (عيده) السنوي!!.
كانت مفاجأة كبيرة جداً، ليس للحكومة التي طردت كل أبناء عشيرة (الجبور) أينما وجدوا، في أماكن تعتبرها الحكومة حسّاسة ومهمة، حسب.. بل وللكثيرين من أبناء عشيرة الجبور نفسها الذين ما كانوا يعلمون السر الخطير وراء وجه (حسن مطلك) القاص والروائي، الهاديء، البسام!!.
وكان وقع المفاجأة أكبر في الوسط الأدبي العراقي، الذي كان يرى في حسن مطلك موهبة أدبية كبيرة واعدة، ويرى في إبداع القاص المرحوم محمود جنداري ملامح أساسية من ملامح القصة العراقية المعاصرة بوصفه أحد أركانها الأكثر أهمية في طبيعة الموضوعات التي تناولها في قصصه!!.
وجرّت المفاجأة الأولى مفاجآت أكبر عندما أصدرت الحكومة عقوبة الإعدام، ونفذتها بعد أيام قلائل من اعتقاله، بحق المرحوم (حسن مطلك) وجماعته، والسجن المؤبد للمرحوم (محمود جنداري) الذي كانت "جريرته" أنه علم "بالمؤامرة" ولم يلغ عنها!!.
وجاء إعدام حسن مطلك وجماعته رسالة من الحكومة إلى كل شرائح المجتمع العراقي: هذا مصير من يغرّد خارجاً عن مسطرة الولاء "للضرورة" التي تريدها "تكريت".. ولكن هذه الرسالة في وجهها الآخر، تؤكد حقيقة واحدة في ظل الطغيان، وهي أن عمر الرصاصة يقاس بالثواني، وقد لا تصيب هدفها، ولكن عمر الكلمة الثائرة الأصيلة يقاس بالأجيال، ولا بد أن تصيب هدفها، مرة في الأقل، إن لم نقل مرات.. ومن لا يؤمن بهذه الحقيقة فليعد إلى التاريخ والشعر وقلعة (آشور).. وسدرة حسن مطلك.
-------------------------------------------------
* نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق