18‏/09‏/2009

شهادة / هادي الحسيني

(دابادا) . . حـسـن مـطلـك

شوكة في أعين الطغاة


هادي الحسيني


تحت وطأة حرارة صيف العراق، ووطأة حرارة الحرب الحامية حد اللعنة، والعناء الكبير من جراء السفر. كان حسن مطلك يقطع أياماً من أجازته الدورية التي لا تتعدى الأسبوع، ليأتي من قضاء (الشرقاط)؛ تلك البلدة المعروفة في العراق بكرم أهلها وطيبتهم، إلى العاصمة بغداد، لكي يلتقي بأصدقائه من الأدباء الذين يرزحون تحت طائلة الحرب ومأساتها كجنود مجندين فرض عليهم القتال قسراً.
وكانت سعادتهم الأعظم في اللقاء مابينهم أثناء الإجازة الدورية، ونادراً ما يلتقون جميعهم فعادة ماتتفاوت الأجازات فيما بينهم.. وما أن يتم اللقاء في المقهى أو في اتحاد الأدباء حتى يبدأ النقاش حول هموم الثقافة العربية والعالمية وجديد تياراتها وإصداراتها. وما أن صدرت (دابادا) رواية حسن مطلك، والتي أحدثت ضجة واضحة داخل الوسط الثقافي العراقي في بداية العقد الثمانيني المنصرم.. حتى أصبح اسمه من الأسماء التي يحسب لها حساب الروائي المقتدر على الرغم من أنه قد كان جندياً في الجيش.
وثمة علاقة حميمة كانت تربطه مع القاصين المبدعين شوقي كريم حسن وحميد المختار، وهم من سكان العاصمة، الأمر الذي يجعله أن يتحمل عناء السفر ويقطع مئات الكيلومترات كي يلتقي بهم.. وتلك سعادته العارمة، إضافة إلى أصدقاء آخرين مثل: حاكم حسين، خضير ميري، عبدالرزاق الربيعي، عدنان الصائغ، فضل خلف جبر، أردال حسن، سعيد الغانمي، عبدالرحمن طهمازي، رضا ذياب، موسى كريدي.. وغيرهم.
وذات يوم كنت جالساً بصحبة أصدقاء من الأدباء في مقهى حسن عجمي، وأذكر منهم: شوقي كريم وحميد المختار والشاعر رياض إبراهيم.. حتى دخل المقهى جندي شاب يرتدي البزة العسكرية، وانقض على جلستنا بلهفة وشوق معانقاً شوقي وحميد بحرارة، وملقياً التحية على الباقين، حينها كنت أجلس محدقاً فيه مستغرباً على بساطته وتواضعه.. وما أن بدأ باحتساء الشاي الذي تناوله من يد (أبو داود) عامل المقهى، حتى همست بأذن شوقي: من هذا؟. قال لي بصوت عالٍ: إنه حسن مطلك صاحب رواية دابادا.
وشوقي كريم معروف لدى الوسط الثقافي بنكاته الصاخبة وفلسفته للأشياء بطريقة تختلف عن المألوف، على العكس تماماً من صديقهم الثالث حميد المختار الذي يمتاز بهدوء تام. واستمر الحديث طويلاً إلى أن جاء المساء فانتقلنا من المقهى إلى حانة الاتحاد في ساحة الأندلس.. كنت أنظر إلى حسن مطلك نظرات إعجاب بشخصه ودماثة أخلاقه، وكرمه الذي لا نظير له؛ فمن المقهى وحتى السهرة في الاتحاد التي تخللتها المأكولات بعد احتساء الشراب، لم يسمح لأحد أن يمد يده إلى جيبه ليدفع فاتورة الحساب.. وعلى الرغم من أنني لم أكن أعرفه ولم ألتق به من قبل، فقد أخجلني بكرمه لمجرد عرف أنني صديق حميم لشوقي وحميد.
وتربط حسن مطلك علاقة طيبة ووثيقة بابن بلدته القاص المبدع محمود جنداري، والذ وافته المنية أواخر العام 1996 على أثر دس السلطات الحاكمة له مادة الثاليوم بعدما أُخلي سبيله من حكمه المؤبد بتهمة التواطؤ مع حسن مطلك أبان الإنقلاب الذي فشل سنة 1990 من قبل نخبة من الضباط الأحرار من مدينة الشرقاط، وكان بينهم صاحب رواية (دابادا) الذي تم إعدامه أثر ذلك. في الوقت هذا أصبح حسن مطلك رمزاً يحتذى به في الشجاعة داخل الوسط الثقافي العراقي. وقد حاول النظام تشويه صورته بكل الطرق إلا أنه فشل في ذلك، وظل اسمه، وسمعته الطيبة، وروايته المتميزة (دابادا) بعد عقد ونيف من إعدامه حديث الوسط الثقافي.. فظلت دابادا شامخة في ذاكرة المثقف لما لها من قيمة إبداعية نادرة، ولهذا فإن العمل الإبداعي الحقيقي يبقى شامخاً.
وقد زار عمّان في منتصف التسعينات القاص محمود جنداري والتقيته في مقهى السنترال مع علي السوداني ونصيف الناصري وفاضل جواد. وطلب منا أن يقوم بجولة استطلاعية في شوارع عمّان. وأوكلت المهمة لي لعدم ارتباطي بأية مشاغل، وعلى مدى أكثر من أربع ساعات تجولنا فيها أنا والجنداري، والتي عبر فيها عن سعادته بالحرية الحقيقية التي لم يطلها في العراق المحاصر، والمخرب من الحروب، فقد حدثني بحسرة وألم شديدين عن صديقه وابن بلدته حسن مطلك.. حتى أطلق عليه في آخر الحديث كلمة ( بطل).. وكيف إذاً تكون البطولة!.
وما أن عاد محمود جنداري إلى العراق لترتيب بعض أمور عائلته، وما هي إلا أيام قلائل حتى توفي نتيجة مادة الثاليوم والتي أكدها لنا بعض الأصدقاء القادمين من العراق إلى الأردن في ذلك الوقت، حينها كان النظام الحاكم قد زج بشوقس كريم في سجنه بتهمة ملفقة، وبعد شوقي جاء دور حميد المختار الذي تضاربت الأنباء في إعدامه وسجنه حتى هذه اللحظة.. وبهذه النهاية المؤلمة يكون النظام قد نجح في تفرقة شمل نخبة من الروائيين الذين بشر لهم بمستقبل كبير على صعيد الرواية، فيما زاد عدد العوائل المرملة والأطفال الميتمة.. ولكن بقيت (دابادا) وصاحبها شوكة في أعين الطغاة الدكتاتوريين الذين لم يجلبوا سـوى الخراب والدمـار لأرض الرافـدين الـخالـدة..
فيما سيبقى حسن مطلك رمزاً من رموزنا الأدبية في كتابة الرواية، وفي تسطير البطولة.. وحاضر في ذاكرة الثقافة العراقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.

ليست هناك تعليقات: