فقط لو يتركون مرفقيه على قاعدة الشباك
عبدالهادي سعدون
" لكن الجميع يعرف أن الرجل الحقيقي هو الذي يحذف ساعات الخطر الحقيقية ويقترب من القرار بألغاء صيغ التعجب في تحجيم الذات. لم يكن ثمة وهن في تلك اللحظة " دابــادا
لم ألتق حسن مطلك ولو لمرة.
لكنني أعترف هنا بأنني أعرفه جداً، إلى درجة أظنه أقرب لي من كثير من الأدباء الذين تعرفت بهم عن قرب أو عن طريق القراءة. ولكن الحديث عن عدم الالتقاء لا يعني بالتأكيد بعدي عنه، بقدر ما يعني إننا لم نتواجه ولو لمرة. ولكننا بأية حال من الأحوال التقينا مرة واحدة وحيدة وجهاً لوجه. أقول وجهاً لوجه ولا أقصد بها لعبة أدبية أو نوع من خيال حكائي مطلق، بل هذا ما جرى بالتحديد.
زرت (إسديرة) للمرة الأولى والأخيرة لتواجدي في العراق قبل خروجي إلى إسبانيا تحديداً، وكان ذلك على ما أذكر نهاية عام 1992 أو على أبعد تقدير بداية 1993. كان حسن قد أعدم. ولكن صلتي الدائمة بشقيقه محسن الرملي حتى بعد تخرجه من الجامعة وخدمته في الجيش وعودته إلى قريته كانت في تواصل دائم عن طريق الرسائل. الرسائل التي كنا نتبادلها ونبعث بها بشكل سري وبطرق غريبة ومختلفة مثل عاشقان يخشيان انكشاف سرهما أمام الأهل. لم نكن نخشى حقيقة ولكننا كنا نعرف إنها الطريقة الأكثر أمناً بوصول رسائلنا، وبهذا كنا نستمر بإرسالها عن طريق الأصدقاء الماضين إلى القرية ومعهم في عودتهم من القرية إلى بغداد. وطوال تلك الفترة كنا نتواصل بالحديث عن كل شيء، وكل شيء كان حسن مطلك، وأعني دابادا وأعني شاهين وأعني هاجر وأعني حلاب وأعني الحمار قندس أيضاً. عن طريق هذه الرسائل وغيرها من أفواه الأصحاب وما يتداول بشكل سري أو علني في المقاهي وأقسام الكليات حيث كنت ما أزال أدرس، كان حسن كمقيم أبدي معي. لم أكن أجرؤ الحديث عن أشياء كثيرة أمام الجميع، ولكن جلال نعيم ومنذر الحلو كانا على إطلاع تام على ما كنت أعرف به وأخفيه عن الجميع في الكلية أو في الجريدة حيث عملت لفترة بسيطة، وكنت أمارس البله والجهل لأتوافق مع حالة بلد يمضي سائراً في نومه حسب تعبير لوركا في قصيدته المعروفة.
في نهاية الثمانينات تعرفت أولاً بمحسن كزميل دراسة ولم أكن أسمع بعد بأديب أسمه حسن. ولكن تطور زمالتنا إلى تفاهم ومن ثم إلى تقارب في الحديث الدائم عن الأدب عشقنا الكبير كان يحدثني دائماً عن حسن وآراء حسن. وكنت في كل مرة أكتب شيئاً وأنتظر رأي محسن فيه، كان يحمل لي رأي حسن أيضاً بعد عودته من القرية. إلى درجة تأكدت فيها بان حسن كان يعاملنا مثله لا نقل عنه أو نزيد، بل كان أغلب الأحيان يؤشر إلى نقاط عديدة فيما كنا نكتب ويؤكد حرفتنا وانشغالنا فيه، بل يضيف بتواضع بأنه يتمنى لو يستطيع أن يكتب مثله. بعدها قرأت قصص متناثرة له في مجلات أدبية، واحدة منها فازت بجائزة رسمية، والعديد منها أطلعت عليه في مجلة الأدب الشاب آنذاك وأعني بها مجلة الطليعة الأدبية. ولكنني عرفت حسن بشكل حقيقي لا مجال للشك فيه وبقدرته كأديب حقيقي في مجال القصة والرواية في بلد مثل العراق يضم أسماء قليلة جداً جديرة بتسمية قاص وروائي، كان ذلك بعد تسلمي رواية دابادا، حملها لي محسن معه بإهداء حسن مطلك، وهي النسخة نفسها بإهدائها التي أحتفظ بها في مكتبتي الشخصية في العراق.
يجب أن أذكر بأنني وجدت صعوبة آنذاك بإتمام الرواية أو معرفة خاصيتها الأسلوبية والحكائية، ولكن أشياء عديدة لا أجد لها تفسيراً أجبرتني على قراءتها كاملة حتى وإن لم أدرك حرفيتها أو أمسك بخيوط الروي فيها. وهذا الحال تكرر مع العديد من الأصدقاء الذين لم يستطيعوا تجاوز أكثر من عشرين صفحة على أكبر تقدير. منهم جامعيون وأساتذة بل حتى أدباء ممن ينعتون بريادتهم وجدارتهم كروائيين، بعضهم كتب عن ذلك وآخرين آثروا الصمت وعدم التطرق لذلك.
ذلك الصمت وعدم التجاوب مع رواية دابادا، والذي شكل صدمة كبيرة لحسن نفسه، كان بسبب من أن الرواية فاقت بسرعتها وتجاوزت بضربة واحدة محطات عديدة في مجال النثر التي كانت الرواية العراقية وما تزال، تراوح فيها. ما هو مفهوم الأدب، كيف ننظر للرواية، الأسلوب، التقنية، وما إلى ذلك؟ كل هذا كان حسن قد تجاوزه. ولكن غيره كان عليه المرور بأكثر من كتاب ورواية حتى يصل إلى ما وصل له بأول أنجاز روائي. ولكن لفهم خاصية حسن التي ربما بدت جديدة في الوسط الأدبي، هي قدرته اللغوية الكبيرة، معرفته بالمدارس الأدبية قديمها وحديثها و صبره على الإنجاز وعدم التسرع، وهو على حد علمي قد كتب دابادا لأكثر من خمس مرات. كان في كل مرة يمزق ما كتبه ليبتدئ من جديد. ولم يكن ينتظر سوى أن يرضى بحلتها النهائية.. أتساءل الآن، كم حالة في الأدب العراقي والعربي مثل حالة حسن مطلك مع دابادا؟.
بعد قراءتي الأولى للرواية بعثت لحسن برسالة تهنئة وبنفس الوقت كانت رسالة تساؤل واستفسار ومعرفة المزيد. وعادت لي الإجابة برسالة رقيقة من كاتب يدرك تماماً ما هو إنجازه. كانت الرسالة الوحيدة أيضاً بيننا. تحدث فيها عن الرواية وكيفية الخوض فيها، عن الرمز في روايته، عن الواقعية المطلقة التي ينادي بها وهي الشاملة لكل منجز إبداعي معروف، عن شخصيات كنت سألته عنها. وكان من جملة ما أذكره من تلك الرسالة التي أحتفظ بها بين أوراقي في بغداد: هو تشبيهه للكتابة بحال إحدى القبائل الأفريقية عندما تحزن على ميت لها، إلى درجة تذرف فيها الدموع حتى تجف الأعين. كان يذكر بأن علينا أن نكتب كل ما عندنا في النص الواحد حتى لو شعرنا بأننا لم نعد نملك أية قدرة أو موضوع لنص آخر. كما لو أننا نكتب نصنا الأخير في الحياة.
في تلك الأيام أخبرني محسن بأن حسن سيزور بغداد قريباً، وأول ما سيفعله؛ "سيتصل بك و يلتقيك". كانت تلك المحاولة الأولى للقائنا ولم تتم. لم يأت حسن إلى بغداد، ولم ألتقه. لكنه أعدم بعد حين.
العودة لمعرفتي بإعدام حسن كان لها وقع كبير. كنا ما نزال تحت المطرقة نفسها حتى بعد انتهاء الحرب مع إيران، ولكن الحال كان يسير بشكل أسوأ، وكنا بين الشك واليقين ندرك أن شيئاً لا بد أن ينفجر. نحن، الحكومة، العالم. كل شيء. في تلك السنة نقل لي أحد الأصدقاء من إسديرة الوسطى قرية حسن، خبراً أكده لي اختفاء أخبار محسن عني. قال لي: لقد أعدم حسن! لمعرفتي اللصيقة بذلك الصديق ومعرفته بي، سرد لي أجزاء كبيرة عن كل ما جرى، أو ما ظن أنه جرى، لأن كل شيء كان آنذاك بمثابة أحجية وتراكم لغز فوق آخر.
قررت أن أمضي إلى إسديرة، ولكن الصديق أمهلني حتى يسأل محسن. في تلك الأيام وصلتني رسالة من محسن يمنعني فيها منعاً باتاً الوصول إلى القرية لأن هناك خطر كبير على حياتي، ولإدراكه بأن ذلك ليس بسبب سيوقفني لحظتها، أضاف، بان الأمر سيشكل خطراً واستجواباً على عائلة حسن نفسه وما يجر ذلك من متاعب أخرى. أدركت ما كان يريد محسن تبليغي إيـاه.
في تلك الأشهر البعيدة، كانت أخبار محسن قد انقطعت تماماً. لكنه من وقت لآخر يبعث لي سلاماً، وأحياناً كلمات متناثرة على ورقة صغيرة. كان يخبرني بها انشغاله بتجميع أعمال حسن. كتب متكاملة، قصص، أشعار، مذكرات، مشروع رواية. وكان يكتب أيضاً دراسة طويلة عن معالم دابادا. كان محسن يخشى آنذاك أن يمر الوقت وتبرد الهمة عن مشروع مثل هذا، حتى أتمه نهائياً بدراسة مهمة وطويلة فاقت المئتي صفحة من الحجم الكبير لم يترك فيها جانباً من دابادا إلا وأضاءه، وكان على حق في ذلك لأننا فيما بعد سنضيع ونتشتت ونفقد الوقت إلا درجة لن نستطيع أن نتذكر عبارات التذكر نفسها. في تلك الفترة جاء محسن إلى بغداد وبقي معي لمدة ثلاثة أيام. كنت في تلك الفترة قد عملت محرراً ثقافياً في إحدى الصحف وكنت قد نشرت قصيدة طويلة أسميتها " أعراس الكرة الأرضية"، وهو عنوان موح للذين يعرفون بأن رواية دابادا كان أسمها الأولي قبل النشر هو هذا، وكذلك أهديتها إلى الشهيد شاهين محمود، وهو بطل الرواية.
هذه المرة عدنا سوية. طلب محسن أن أرافقه إلى إسديرة. هناك في تلك الزيارة الوحيدة للقرية إلتقيت بـ حسن مطلك وجهاً لوجه.
حملني محسن لزيارة قبر حسن. لم أذرف دمعة ولم أكن أعرف حقاً هل قرأت الفاتحة على روحه أم ماذا فعلت لأنني أدرك الآن إنني ربما فكرت بكل شيء سوى ذرف دمعة أو قراءة الفاتحة، لأنني ابتسمت فقد كان شاهين بن محمود برفقتي وكان يبتسم لهذه الكش، ولأنه لم يخرج منذ اختفاء الأب وراء أرنب مبقع، ولأنه خرج الآن ولم تعد الأشجار أكبر من حجمها الحقيقي. تواجهت بحسن مثلما تركته. كان هناك أعلى التل، بقبر لا يدل على شيء، ممسوح بالأرض كأنه منها، تشكل موزاييك لوح وجهه حصى لامع وكبير تشيران بلا كلمات: هنا يرقد حسن بن مطلك صاحب دابادا ذلك " أنه لم يرد لحضوره أن يكون شبيهاً بغسل الأحجار قبل رميها في النهر".
في غرفة طينية في أقصى إسديرة الوسطى على مدى أيام جلسنا ثلاثتنا، أنا ومحسن وحسن. نقرأ، نتكلم ونضحك من نشيد (الكش) ذاك. في تلك الزيارة أطلعت على أغلب نتاج حسن غير المنشور، على المقابلة الوحيدة المسجلة له، صوته، أحتجاجاته، تواضعه الكبير، ومدى معرفته الجادة بما يريد أو ما يرى. حملت في عودتي إلى بغداد ما أستطعت، ومنها دراسة محسن عن دابادا. ولكن وجه حسن حملته معي أيضاً.. التقينا ولم نلتق وجهاً لوجه. ولكننا نلتقي كل يوم بعد ذلك وجهاً لوجه.
* * *
هنا في أسبانيا، لا أبالغ إذا قلت بأن أغلب مشاريعنا يصححها حسن. لأننا في معاركنا وفي اختلافاتنا وتوافقنا دائم الحضور. أحكي عن حسن لأنه معي الآن، مثلاً وأنا أكتب هذه المقالة، ولا أريد أن أذكر " كان" وهو من الأفعال الكريهة له. كان ينادي بقتل كان، والتخلص من الصفات، والبحث عن لغة يشعر فيها الكاتب بأنه مبتدعها هو وحده، وهي ملكه، ميزته واختلافه عن الآخرين في آن واحد. عندما فكرت بكتابة الرمادية، كان شاهين يساعد البطل بإرشاده إلى السلم الذي به يعرج إلى السماء. في بلد متنقل أول من يطفر من فوهة الهاتف شاهين لأنه لا يستطيع أن يقول هاجر وهي أمه، ولأنه يقرر أن يمضي خلف الأب المختفي للحاقه بأرنب مبقع. في (ماوت) وجدته مرافقاً " عجمي" وهو في مواجهة بياض اشد نصاعة من الأبيض نفسه.
علي أن أصحح هنا إنني التقيت و ألتقي حسن مرات عديدة. نلتقي به كل مرة، أسماء وأسماء أفصحت أو لم تفصح، كتبوا على منواله وتأثروا به، وأكرر هنا ما قلته بحوار سابق معي بأن الأفضل البدء بقراءة الرواية العراقية المعاصرة بدءاً من تاريخ صدور دابادا، وهي نقطة مضيئة لا يمكن تجاوزها أبداً.
بعد مرور هذه الأعوام، أفتح الملحق الثقافي لصحيفة الباييس وأقرأ ما يلي عن مجموعة روائيين شباب في المكسيك حصل أغلبهم على جوائز الأدبية في بلدهم وهم يشكلون ظاهرة جديدة وصوت آخر مختلف عن نمط الرواية السابقة، وفيها يتحدث أغلبهم ـ يطلقون على أنفسهم جماعة الـ كراك ـ عن ما أسموه بأدب الواقعية المطلقة Realismo Total الذين وجدوا فيه معبراً جديداً عن إبداعهم الذي ظهر منتصف التسعينات. أضحك وأضحك وأترك لمرفقي حرية أن يسقطا على قاعدة الشباك وأنادي حسن:
ـ ياه يا حسن بن مطلك، حتى هؤلاء تأثروا بك و ينادون بواقعيتك المطلقة دون أن يعرفوك ولا قرأوا لك بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق