دابادا. . نـعـم انها رواية عراقية
صلاح حسن
يعتمد نجاح العمل الفني على توفر ميزتين أساسيتين تتمثلان بحجم القيمة الجمالية وحداثة الشكل.. بالإضافة إلى المميزات الثانوية التي تقع في إطار الاستخدام اللغوي والوعي الاجتماعي والتاريخي الذي يسهم في رصد الوقائع وتوظيفها لبناء النص.
ولعل رواية الكاتب الشاب (حسن مطلك) ـ دابادا ـ لا تشذ عن هاتين الميزتين.. بل أنها تكريس وانحياز لهما. لقد حاول الكاتب من خلال أحلام يقظة الشخصية الرئيسية في الرواية أن يقدم لنا عالماً عصياً على الإدراك.. وقد يبدو لأول وهلة أن الحوادث تجري في محور واحد.. تتشكل نتيجة لانفعالات عصبية تعتمل في داخل الشخصية المحورية (شاهين) بينما الواقع أن هذه الحوادث تقع بشكل طبيعي، غير أنها في مخيلة البطل أو في تصوره غير طبيعية. إن التداعي الذي يلازم شاهين حتى النهاية يوحي بأن الرواية، من حيث الشكل، قد اعتمدت على السرد فقط.. ولكن بشيء من اليقظة نكتشف أن الرواية تضمنت حوارات مكثفة وطويلة ومواقف دراماتيكية ساهمت البنية الروائية في طمسها لإحداث ثغرة بين الوعي واللاوعي، فقد حاول الكاتب من خلال عملية (البناء والهدم) أي المشهد الروائي، التوصل إلى صيغة جديدة في رسم الواقع الفنتازي والتنفيس عن حالات (تبدو) غير منطقية في تصور (شاهين) وقد أضفى على شخصية شاهين بعداً جديداً عندما وصفه على لسان الشخوص بأنه أبله. ساهم ضعف بنيته وانعزاله عن الناس في تكريس هذه الصفة واكتسابها قوة الحقيقة، ويجب أن نتذكر هنا العلاقة بين شاهين الراصد للأحداث والشخوص الآخرين المنتجين لها.. ذلك أن الوقائع كلها تقع خارج شاهين الذي يحاول دائماً أن يكون أحد المساهمين فيها.. إذ تكشف الرواية عن عزلته المطلقة من خلال انعدام الحوار بينه وبين أمه (هاجر). ولا تمثل علاقته بـ(عواد) الفنان الرسام استثناءً عن ذلك.. إن (عواد) أشبه بالعامل المساعد في الكيمياء.. يدخل في عملية التفاعل ويخرج منها دون أن يتأثر، لذلك فإن علاقته بعواد من حيث المبدأ؛ واهية.. لأنها الطريق لشخصية أخرى هي الفتاة الجميلة (عزيزة).. إن الذي يعشش في مخيلة شاهين عزيزة وقد توطدت علاقتها مع شاهين عن طريق عواد الذي يمثل الوعي المتعالي (وعي الفنان) على الآخرين، وهكذا فحين يتقابل عواد وشاهين فإنهما يتحدثان عن عزيزة ولا يتحدثان عن علاقتهما الشخصية، ولكون شاهين الذي يعيش في مرحلة عمرية ـ هي رمز الفتوة والحيوية ـ فإن الذي يشغله رجولته التي تنقصها المرأة (الأنثى) ومعاناته في التخلص من عقدة حب الأم.
أما الإشارات الذكية إلى الحوادث التي تقع في العالم... فيضانات الهند، الارهاب الدولي، التمييز العنصري...إلخ.. فما هي إلا عقدة الشعور بالذنب أزاء الآخرين، ونتيجة الإحساس بالضعف والخيبة اللتين تلازمان (شاهين) وتكادان تطبعانه بطابع لا يمّحي.. وتؤكد ذلك محاولته قتل الحمار (قندس) وهربه واختفاؤه في الجبل ومحاولته ـ بدافع الآخرين ـ تقليد أبيه في صيد الأرانب ومواجهة الوحوش البرية والضواري. لقد أراد الكاتب أن يصور واقعه الذي يشهده بصمت من خلال بطله الأبله والطريقة المأساوية التي تتصف بها الحياة في المكان الذي يعيش فيه (فترة الطفولة).. ولهذا جاءت الأحداث على لسانه أشبه بالهذيان (المنظم) الذي يخفي تحته الحقائق العجيبة في مواصلة الناس العيش بهذا الشكل غير المنظم. تتحدث الرواية عن كل شيء في نطاق معين ولا تتحدث عن شيء محدد بالذات، وما الإشارة التي ترد هنا أو هناك والتي تخص الأماكن والشخوص والعادات والتقاليد إلا تعبير عن الخصوصية المطلوبة في كل عمل.. على أساس أنها البداية الشرعية والمنطقية للولوج إلى أكثر الأماكن غرابة وسرية، وقد ساد الطابع الشعري على الصور الذهنية وساهم في تشكيل عالم روائي بديع من حيث الاستخدام اللغوي البارع.. بحيث تشعر في بعض الصفحات بروح الشعر تترقرق بين السطور.. ويستطيع القاريء المتأمل أن يؤشر بيسر ظلال ماركيز الخافتة في الرواية.. غير أن هذه الظلال لم تجد ما تحتله في الرواية لفطنة الكاتب ودرايته بالصنعة الروائية وتمكنه الكامل منها، غير أن طغيان (الواقعية السحرية) على الرواية يشي بهذه الظلال رغم أن الكاتب حاول باستمرار التنصل منها والركون إلى التيار النفسي في محاولة لإكساب البطل صفة موضوعية بحكم اختلاله (الكاذب). إن شاهين ليس أبلهاً ولكن العامل البايلوجي المتمثل بولادته قبل أن يكمل التسعة أشهر أكسبه صفة النقصان التي زحفت على نقصان العقل بالموروث الشعبي عندنا، وفي ضوء ذلك فإن كل ما يتعلق به غير طبيعي.. علاقاته، عزلته، أراؤه، سلوكه بشكل عام. وقد ساهم الاختفاء المأساوي لأبيه في رحلة صيد الأرانب من مضاعفة الشك في داخله؛ من أن العالم مبني على الخطيئة.. إذ ترافق مع هذا الاختفاء ـ في تصور شاهين ـ الجشع الذي يمثله (حلاب) بائع القطن والممارسات غير الطبيعية التي تقع تحت ابصاره بين الرجال الأربعة والمرأتين وسلوك (عزيزة) المراوغ، وضياع (عواد) الشخصية التي تتوافق مع سلوكه والذكرى المفجعة لـ(صابر) الحزين يوم الفيضان الذي أغرق القرية. إضافة إلى نشرات الأخبار التي يسمعها كل صباح وهي محملة بكم جديد من الكوارث الطبيعية والبشرية. ان رؤية شاهين للواقع جاءت محصلة لمراقبة الأشياء من خلف زجاج مضبب، والحقيقة أن الواقع مطروح كما هو غير أن الرؤية هي المضببة. ومن جراء ذلك يحدث الانفصام الذي يجعل الرواية عبارة عن أحلام يقظة دائمة متولدة عن تاريخ طويل من البكاء. لقد أرادت الرواية أن تقوم بعملية الوخز فقط.. محاولة في التنبيه أو شيء من هذا.. محاولة للتذكير بالمصير المحتوم والطريقة التي يسير بها العالم إلى نهايته المفجعة.. لم تقل الرواية ولم يكن هدفها الكشف عن حقائق معينة. ولم تقدم أفكاراً يراد منها تبني منهج حياتي أو أدبي.. إنها بالفعل؛ صرخة في الفراغ ولكن.. أي فراغ؟.. وكما قلت في البداية فهي تتحدث عن كل شيء ولا تتحدث عن شيء محدد، وهي بهذا البناء غير المعهود تقدم شكلاً جديداً وطريقة جديدة في عملية الكتابة الروائية، وعلى حد علمي فإنها الرواية العراقية الوحيدة التي ظهرت بهذه السمات المميزة.. ذلك أن المشقة التي رافقت كتابتها والمتمثلة برصد الانفعالات النفسية وتطويعها وملاحقة أحلام اليقظة وتسجيلها بهذا الإتقان وهذه العفوية تبدو مستحيلة من دون الفكرة الناضجة التي اختارها الكاتب وصبره وتفانيه الإبداعي في إنتاجها، محققاً بذلك نقلة نوعية على طريق الكتابة الإبداعية. ان دابادا.. حقاً رواية عراقية متميزة وفيها من التجديد ما لا يمكن إنكاره على الصعيدين؛ البنائي والمضموني، حيث يمكناها من الوقوف إلى جانب الروايات العظيمة مثل:(جـن) آلان روب غرييه، و(مدن لا مرئية) لإيتالو كالفينو و(العاشق) لماركريت دورا و(حرّودة) لطاهر بن جلون.. ولكوننا غير متخصصين بالنقد ولسنا من النقاد نتمنى من النقاد المختصين أن يشاركونا الرأي بهذه الرواية والاحتفاء بها على أنها رواية عراقية جديدة ومهمة تستحق الإعجاب.
---------------------------------------------
* نشر هذا المقال في جريدة (القادسية) بتاريخ 27/9/1988م. بغداد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*و نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق