17‏/09‏/2009

شهادة / عبدالرحمن مجيد الربيعي

حـسن مـطلك و" دابادا "


والحزن العراقي المديـد

عبدالرحمن مجيد الربيعي

ذات يوم وفي ثمانينات القرن الماضي وكنت لا أزال مقيماً للعمل في بيروت زارني صاحب (الدار العربية للموسوعات) وهو ناشر عراقي اتخذ من بيروت مقراً لدار النشر التي أنشأها. وكان يحمل بيده أحدث إصدارات داره وبينها رواية لفـتـت انتباهي اسـمها (دابادا) وكذلك اسـم كاتبها حسن مطلك الذي لم أكن قرأت لـه من قـبل.
كانت طباعة الرواية أنيقة وحروفها كبيرة واضحة تغري على القراءة في تلك السنوات التي لم تظهر فيها أسماء كثيرة، وعدد الروايات المنشورة محدود. بحثت في ذاكرتي عن الاسم الذي أطلقه المؤلف على روايته ظناً مني أنه من أسماء الأماكن الأثرية التي تحفل بها حضارة وادي الرافدين العظيمة، فلم أعثر على جواب، وقلت لنفسي؛ لعلي أجده في سياق روايته. وعندما بدأت القراءة وجدتني أكتشف روائياً كبيراً.. أو إذا أردنا الدقة: مشروع روائي كبير. لم يكتب إلا بعد أن نضجت تجربته الحياتية وتعددت قراءاته والتقى أو رافق الأسماء الكبيرة التي أسست لفن القص في بلادنا، كما قرأ أهم إنجازات السرد العربي والعالمي والعـراقي بشكل خـاص.
وبعد أن فرغت من هذه الرواية حرت في أمرها؛ إذ أنها لم تكن عملاً هيّناً وليد الركض وراء فذلكات حداثة مفتعلة.. بل ابنة لحداثة واعية وحقيقية على كل مستواياتها؛ من اللغة إلى التقنية. ولما كنت معنياً إلى حد كبير بالتجارب الحقيقية والأصيلة في الرواية بادرت إلى كتابة كلمة قصيرة عنها نشرتها في وقتها. ورأيت هذه الرواية مثالاً للرواية التجريبية العراقية التي نريدها لأنها تؤسس للإضافات اللاحقة من قبل هذا الكاتب الشاب الذكي. وعرفت أن اسمها مركب من أولى الكلمات ـ كما يرى ـ التي يطلقها الطفل عندما يبدأ بالنطق.
ولم أدر أن كلمتي القصيرة تلك قد تركت أثراً طيباً في نفسه عندما التقاني ببغداد وعرفته عن قرب.. وتفاءلت كثيراً وأنا أنصت إليه وإلى مشاريعه و " امتنانه " ـ فهو على خلق عال أيضاً ـ لأنني قمت بالتنبيه لعمله ـ على الأقل ـ من خلال كلمتي تلك. وكانت لديه مشاريع أخرى حدثني عنها وسيتمها بعد أن يُسرح من الجيش وتتوقف الحرب التي يزداد سعيرها بين العراق وإيران، وقد وجد هؤلاء الشباب أنفسهم في أتونها.. مشاريع شهداء.. أُرغموا على خوض حرب لا يريدونها.. بل ولا يؤمنون بها.
تركته.. وصورته الآن غائمة في ذاكرتي، أحاول أن أعثر على شيء منها وأنا أتطلع لصورة شقيقه الأصغر محسن الرملي ـ لم يسمّ نفسه باسم أبيه كما فعل حسن بل ذهب إلى لقب العائلة رأساً ـ فأعثر على شيء من تلك الملامح.. بل وعلى كثير منها.
ذهب وبقيت أنتظر أن أقرأ روايته الثانية، ولكنني بدلاً من هذا سمعت بنبأ إعدامه.. ربما سئم من الحرب، بصق عليها وقرر أن يجد ملاذاً خارجها، لكنهم لم يتركوه يحقق ما أراده. أمسكوا به وأطلقوا على صدره الرصاص.
لقد صرخت من كل قلبي وجعاً عندما وصلني الخبر، وتساءلت: لماذا يحصل لنا كل هذا؟ ولماذا يذهب مجاناً هذا الإنسان الممتليء بالحياة والمشاريع الكتابية، والدنيا كلها مازالت أمامه؟.. إذ لم يكن وقتها إلا في الثلاثينات من عمره.
لقد سرقته تلك الرصاصات اللعينة منا، أخذته مبكراً، صادرته.. فاللعنة عليها وعلى كل حرب تطحن الأبرياء، وتزج بهم رغماً عنهم في ساحاتها قرابين غامضة وأرواح رخيصة لا فرق بين مبدع كبير وإنسان بسيط سُرق من محل عمله وأُلبس بدلة القتال.
وما أدعو إليه الآن هو إعادة طبع (دابادا) لتبقى وثيقة حية على أن الحروب قد عاثت بنا وضيّعت منا أجمل مبدعينا.
إن حسن مطلك أسم لن يغيب من ذاكرة الإبداع العراقي ولا من قلوب الشرفاء الذين رفضوا الحروب كلها، وكانت دعوتهم الوحيدة للمحبة والوئام لأنهم أنصار سلام وأعداء لكل ما يمس كرامة البشر.
.. ليرحمك الله يا حسن يا ابن مطلك الرملي، وعزاؤنا أن بين يدينا "داباداك" ورواية أخرى علمت أن هناك محاولة لجمع أوراقها المتناثرة... ولنا في وجود شقيق لك يحمل رسالتك نفسها هو الصديق محسن الرملي وشقيق روحه وتوأمه الإبداعي الصديق عبدالهادي سعدون ما يجعلنا نطمئن.
والعراق لن ينسى مبدعيه حتى لو أن رصاص الغدر ثقب صدورهم العامرة بالحب والرافضة للحروب وغيّبهم عنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.

ليست هناك تعليقات: