نَص على نَص / يسار خصاونة

دابـادا. . هـذا الـعالم الـفـسـيح

(نص هاذي بصوفية العشق لإشراقات داباديّة)

يسار خصاونة

أخي أيها المصغي.. يا ابن ذاكرة الرمل وطلع الرافدين إنك الآن وقد وجدت بك اغفاءات النائم في مهد الحضارات.. أخي الذي أظلني بروحه عشرة أيام لا أريد انقضاءها وأنا في كنف طهره.. هذا العالم الفسيح دابادا... أرجوك دلني لأستنير أمام عجز فهمي أين حسن مطلك منك؟.. أريد أمي الأخرى وأبي.. أريد "عجائز الوديان" أن تستطف كبطريق أسود يحاور البحر موتي.. تلتف به عباءات السواد حول قبري، أدخلني إلى دهليز الخوف وشموخ العراق، قبري مفتاح أتوحد به مع السنا.. فهلا فتحت لي أبوابك أم أنك….؟! وهذه خديعتي بمن رحلوا.. أرجوك تكلم فأنا أمتلك من الموت شدة الإصغاء.. راجياً أذنك بالدخول إلى عالم دابادا علي أصيب أجراً واحداً في هذا الاجتهاد، فهلا أذنت لي بهذه الرؤية.. رؤية: قال تعالى:" ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع النضيد، رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج"...
ودابادا... صرخة القبور التي تضيق بأرواح من رقدوا، توقظهم لينفظوا عنا غبار اليأس ويشقوا تراب الأرض عن أجساد من مزقهم الحصار في لحظة سبق بها الكاتب صدق حسه ليكشف زيف الكذبة نُجملها بحرية القيد ونلقي مفتاحها بصندوق الكنز الموهوم زعماً أن المارد يحاربك بحق، ينزع منك الروح بيديه ويقذف جوهرة الجسد بذلك الصندوق ويطبق عليه بكلتا يديه يخشى أن ينبعث من الضوء، من ثقب المفتاح فينصدع الرأس وتسقط الأفعى ميتة في ذاك الدهليز... دابادا.. سحر لا يمتلكه العراف.. ولا يُسخر به الكاتب شياطين الإنس لخدمته بل يعريهم أمامك بغير ذاك الثوب "المبرقع" الذي يفزعهم وهو الهارب منهم ليعيش نهم الثورة مع فراشات غبية ركضت أمامه ووقفت على مخادع الزهر ليمزق بأشواكه جسد الوادعين تحت ظله إذا ما بهرت عيونهم الشمس فهو لا يحب من السماء أقمارها والنجوم يلونها بدم المعصية ليقهر الضوء بالظلام ويدير الشهوة في محاق الشمس ويسعل من شدة برد قلبه ليبصق الرضا في وجه الحضارات وينام كثور مجنح على عتبات باب التاريخ من غير أن يطير بل يذيب عيونه ويحتسيها قهوة مرة تجرح كل ظلام نفسه فيتغول البصر بأعماقه حتى يموت.
دابادا... "عواء ملتاع لضواري جائعة" يفكر الكاتب بها " حتى أطراف الفجر بعدما فشل في قراءة الظلام" حيث يسمع دقات الضوء تفسر ما به من انعتاق رقيق يجابهك به كحقيقة الأشياء ومن غير غرور يتذكر الأماسي بصباحات الفجر الندي، يفك طلاسم الكون، يزرع عقله، ينبته في حقول التمني حقيقة يصعب إنكارها يحول بها "العنزات الثلاث في المنحدر" إلى غاية نشيء الإنسان في تعبده فيعرف من خلال عقله من غير أن يفقد حاجته.. يأكل ويعطيك كل ما يملك؟! إنها حقاً أولى متطلبات الحكمة التي تكشف كل زوايا الانكسار ليُخرج منها القبح والجنون حين يعطيك منها ما لا يملك ويستمر معك حتى يبدل أحاسيسك بأوراق خضراء تكتسيها كدودة أشجار الخريف.. فتضحك من "انكسار الضحك " الذي يصحح مسيرة الفشل في هذا المجهول فيشكل بقواه الحقيقة جذراً ويصهرك برعشة الوجود الأبدي لتتربع على سفوح القوة فضاءاً مطلقاً لا يملك الظلام نهره رغم قهقهات المدى وسبات الموت وخديعة السراب...
دابادا... إعجاز نقديّ للنقد تدعوك أن تفكر بكلماتها منفردة إذا لم تملك القوة بأن تكون أحد أحداثها، فهي بيان غائب تستلهمه منك النفس وأنت غائب عنها مثلما تستلهم أنت منها كل ما تريد " وهي الحاضرة التي لا تغيب وأنت معها" بنداءات مستمرة حتى لحظات الفجر الذي يُسمعك صراخ الليل "المنسلخ من كبد الظلام" رافضاً بهجة الشوق في عيون المساء يردد لحن الظل تحت وطأة الغيم والمغيب خائفاً من الشمس راقصاً للرصاص" مستشفياً بحليب أنثى الحمار" غير أبه "بصعود هاجر" وصراخها لولا أن " غلاف البيضة بدأ يتشقق بفعل النقر" وأن شاهين "الصامت طويلاً بدأ يُذكره" " بفيضانات الهند" وطوفان القهر " وخاصية الغطس وندرة الكلام" وعشقه لخصائص البحر وبقاءه في أعماق وادي "السدرة" ساحة طفولته ومكمن الدُر ومحطة الأمنيات " في أن يتوسد أريكة الشمس" متسللاً بارعاً في وصف شتات الهم وجمعه في فكرة واحدة يتحداك بها الكاتب ملفتاً نهم الطغاة إلى غضاضة عقله لتسول لهم أنفسهم أمراً كقتله قبل أن يرى عمله النور وهو الفدائي المبرقع الجميل الذي يهول الطغاة صيده حباً بالقتل لفئد قلب أبيه وأمه التي تتلجلج عليه علّ جبريل يشق بجناحيه الأرض فيغور الطغاة بدهاليز عنها قبل أن تحاك عليه خيوط اللعبة؟! تضمه بخوف والدموع المنهمرة من عينيها لا تثنيه عن الخوض بمعرفة الحضارات وسر أزمنتها السحيقة ونشأتها وروح "الاتساع السحري لهذه الترسبات وسدرة المنوى الدالة على تاريخ الحياة وأصالتها في ذلك الوادي السحيق وقد التفت القبور حول تلالها العاليات تحمل على أكتافها قمم الشموخ التي يصفها الكاتب " إنها أثداء ترضع الشمس " من أرواح أجسادنا المسجاة في سفوحها وهي التي كانت للأرض روحاً وللتاريخ...
هذه أجزاء مختصرة من دابادا أكثف بها اجتهادي راجياً أن لا أحمل بتفسيري عن بعض ما فيها شيئاً من المسخ لا سيما وأنها جاءت لفك طلاسم ذهول حيرتنا أمام الحتف الأكيد الذي لا تبرأ منه حماقتنا بالخلاص بل بصرخة أخرى مثل دابادا نتمرد بها على ذاتنا نجاهد بها لنتخلص " كأشجار الخريف من أوراقنا الميتة" أو نتبع العبوس في وجه هولاكو الأصفر" يقهقه الانفجار الذي "خمد تحت خدعة التجمع..." بانتظار الوقت "وعواد لازال منشغلاً بعلاقته مع الكلب شرار.. وشاهين يرفس الأحجار لتنقسم إلى أقسام فتكشف ذلك الخط البركاني الذي تفصح عنه قرون النمو البطيء.." بمجتمع لا بد له أن يقذف حجارته من براكين العذاب حتى تنطفيء "جمرة الحرص والرغبة في يقين القلب" أما عزيزة القلب فهي امرأة ذئبة لا أجد في طيبها وسر جمالها وعطرها أكثر مما تملكه الأرض بكل ما عليها من جمال وقبح فإذا أتت أو غادرت بها ناشداً الجمال منحتك وإذا أنت أوغلت في طلب الشهوة حطمتك، تريد من يحافظ عليها لتحافظ عليه "عالية" متعالية... وهي الأم التي يرسم صورتها كل من عز عليه رحيلها ملاكاً رائعاً في مخيلة القدر يغضب الحق لغضبها فيدمر بقوتها كل ضعف يدانيها فتدوسه بأقدامها وصدرها حتى لا تسمع خلفك بعد ذلك منها غير عواء الفضاء... ودهشة الدموع في عيونها وقد "شُنقت بأهدابها وتدلت كصورة العنب في الماء" وصوت الغناء يُسكر الصمت ولا يكسره" يكشف ما تبقى من مهابة الجلال في عزم الفضاء وينصت حيث الدروب الموحشة في أعماقه تفتح كل شبابيك "القرية" على صوت "الربابة" والريح لملء فراغ تنفسهم بكل ما هو حزين وأصيل حتى استحالت الجدران إلى زجاج ثاقب وشفاف رأيت من خلفه قلب كاتبنا (حسن مطلق) يتعرى ليُلبس الدنيا ثياب نبضه ويقول:" أنظروا إلى تلك الأبقار الضامرة إنها تحرك أذنابها لطرد البعوض" أفلا يكون عزمكم اليوم بمثل ضمورها؟!.
إن الذين قدموا إلى عالم دابادا هم من أبطال النعش العراقي الذي لا يعظم الخونة رغم كثافة الشعر وأعداد الشعراء فالصوفي (المطلق) بالرواية وبواقع الرفض هو الكاتب الذي اختار عناصره بالتوحد حتى أن الأسماء جاءت بمدلولاتها فأحكم الأشخاص لصفات أسمائه كي تعرفهم من أثر السجود "بصلوات آخر الليل التي حقنتهم بالرضا" فرأيت وجوههم مستبشرة ضاحكة إلى ربها راجعة مهللة بعد أن عادت إلى كينونتها وفطرتها الأولى… تستعيذ بالله من جهابذة القهر وتمضي باسم الله نحو النهر " المجعد" بأمواج العمر ليرى شاهين مع عزيزة" القلب عجباً؟!.. نمل أسود على صخرة يابسة في وسط النهر؟!" فيستدرك همه.. ماذا يأكل في هذا المكان ومن أين يأتيه الطعام؟! فتشير إليه نحو السماء بيدها وتقول: من هناك يأتي طعام النمل وطعام البشر" فكشفت في أعماقه عاطفة ابن آدم الأولى وبحثه عن حواء النهر من خلال هذه المخلوقات التي تحدد وجه هاجر فوق الماء و"زهرة " ترسم عرشها بظلال الشك تحسبه لجة وقد أسلمت مع " مسعود" لله رب العالمين نادمة على ظلمها... امرأة لا ككل الرجال يشرق منها جبلاً يفوق بحنانه " حكمة الشمس " ودفئها و"زهرة" تدفع إليك بأنفاس "جوفها العنبري" حتى لحظة القحط المعطر برائحة المطر.. ورائحة الذئب وقرار القوة وقوة المعادلة في إخفاء السر الذي "يقفز إلى هاوية اللسان" بحيث يصبح الموت لعبة سحرية بيد من تعلم أن يعطي الحياة للجمادات ويقتل الأحياء ولا يرى نفسه إلا بظلمة الضوء خلف متاريس الإسمنت "ومراحيض" القصور وجدران لا تقوى على الصمود طويلاً " أما مطارق الرجال "الذين نزعوا من أعناقهم مشانق الموت وشدته وعقدة الجوع وعصافير الروح تهبط فوق صراخ الطفولة وفراغ مهدها " ليتأكد أن الحقيقة الوحيدة" هي دمعة القهر التي لا يمكن لكل قوى الاستبداد أن تحبسها رغم "أن أية محاولة كفيلة: بأن تحطم شاهين.. لكنها لا تهزمه فهو ليس كأبواب مسندة نخرها سوس التاريخ.ز بل طريقاً للرفاق الذين فتحوا من أجسادهم نوافذاً للريح وللحياة كي يعبروا..
بهذا السرد الرقيق المنساب إلى مخيلة الفضاء كانت دابادا حدثاً مهماً في تاريخ الرواية العربية حيث شكلت بحس كاتبها النوراني سماءً من المتغيرات الثابتة وروحاً وهاجة جديدة لنجم سهيل، وبنات نعش، ودرب التبانة... ولحظة الضوء التي نرى بها "الغمائم مثقوبة" في وجه زحل " وناب الذئب" المعلق على صدر العراف ماضياً في حاضر الكلمات وفعلها أما الفكرة فهي مستقبل الاطلاق وولادته وجنين (دابادا) المنتظر القادم من رحم الغيب الذي " يدفع قدميك حتى النهاية البعيدة" ثم يعيدك إلى أطراف الروح حيث الرأس الممتد على ذكرى الرقص وهسيس النار ورائحة النصر وسقوط أبراج الزيف بكهوف مستقبلية كأن الكاتب يصلب بها هزيمة الخذلان والرقيم لازال في "فراشك" نائماً يحرقك بأحلام نفطه ينظم لأرضك "هجرة الغربان" في كل قوة يقتل الحمام ويزيد من "ثقوب الأرض" فيبني الجرذ فوق الدم مجده والرجل الصالح "يأكله العدم" وقد اعشوشبت "لحيته وتخضبت برائحة التراب المليئة بالمسرات الشبيهة بقصاصات الحب" لتفك عنه طلاسم الجسد وتحيله إلى تبر وزهر وسناء.
ويبقى شاهين يحدق بالأشياء من غير أن يبصرها يسأل عن "ثقب السواد" في ضوء المعرفة ليمحو الخوف من دائرة "الذئاب" فتغير خط هجومها خوفاً من الضوء "مؤكداً أن لصوص الظلام والضوء ضدان لا يجتمعان وإن الإبصار الذي لا ينفذ إلى قلب الأشياء من "جرح القباب" يُظل طريقه ولا يرى كما في تلك الدورة الحياتية التافهة التي يبين بها مرت الكائنات على رفوف مقصلة الاستقبال الآدمي مستخفاً بها عقل إنسانيتك وهو يحدثك عن شفافية الموت بقشعريرة الجسد ورأفته المتعلقة" بثقوب موت الأسماك" وخروجها من الماء.. وهوايته الغارقة بجمع القواقع وانتباهه إلى كل مخلوق صغير باستثناء اختناقتها الكبيرة وصمتها الذي لاتملك به حتى الارتجاف بل تتصلب عبر فحيح الخوف وضغط هم الخلاص حتى تشكلها الرسوبات وجهاً حضارياً يرسمه الموت على جدران متاحفنا المحنطة حتى النبض.. أو كما في حقيقة البوم "الذي يدعو لخراب القرى فيكومها نصراً له.. مطلقاً عليها صرخة عاوية" كي ترتد إليه" عـبر إجابات نـفسه حـتى وهـم أنـه صـار "شـواهـيـناً".
لكن القرية وعلى الرغم من كل شيء تبدو بنظر الكاتب كـ(علبة الثقاب) فهماً رائعاً يتمثل به الرؤوس وضمورها؟ الصمت والقهر والانتظار لأعواد الكبريت التي ستشتعل بطلقة واحدة.. فيتعذب لهذا البلل "يضحك أحياناً" لهذا الجفاف!! مشيراً إلى "حلاب وشعبان وهاجر وعالية وزهرة ومسعود، صاحب النظارة السوداء، مشغل عواد، زهور والمرأة ذات القميص المهتز، المرأة الأقل فتنة، وصاحب المقص وعجائز الوديان واحتفالهم بيوم القبور.. غير آسفين على "قندس" حمار "الأيديولوجية" والدم والذئاب وبكتريا التفسخ..." هذا المجتمع الذي نعيش فيه بنهاية قد ألم بها الروائي المتميز على جمع كل تناقضاته فكانت الأقرب إلى طبيعة الحياة والأقوى برفد إنسانيتنا من الموت الذي لا ينتهي بهذه الحياة النزقة لا لشيء وإنما لابتعاد الإنسان عن غاية النشأة التي حددها حسن مطلق بفهمه العميق وإيمانه بربه وهو الأقدر على الإنصات وسماع صوت الحجر المتدحرج في ليل نوم الحجل عندما يصطدم " بأعشاشه وبفعل غيرة مثيراً الاضطراب وفزع طوارق الليل التي تدق بابك بغير خوف الله...
فطوبى لك أيها الكاتب وقد فتحت لنا أبواب الغيب بعلمك الباطن لظواهر الأمور وأدخلتنا إلى أعماق قديس أطفأوا عينيه فأشعل ببصيرته طرق الحياة وحدد الموت بفلسفة رائعة ليرحل عنا ومن غير أن يموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.