13‏/09‏/2009

رسالة من حسن مطلك إلى فارس السردار

رسالة من حسن مطلك إلى فارس السردار

أ أنا حقا على الطريق..؟
توصيف رسالة

فارس السردار
فارس السردار بريشة حسن مطلك

عمر هذه الرسالة قد تجاوز الـ 22 سنة. وقبل أن أكتب هذه الأسطر قرأتها. ليس سهلاً بالمرة أن لا أنزلق عاطفياً أمام مأساة حسن مطلك، لكن لم تكن قراءتي الأولى لها، فقد قرأتها مراراً ولا أريد أن أناقش محتواها بقدر ما أريد أن أنقل سطوتها وقدرتها على الحرث. قد يستغرب البعض وهو يتصفح شهادات الأصدقاء في موقع مجلة (ألواح) لا لشيء إلا أن حسن مطلك قد كان بعيداً عن التأثيرات العاطفية للأصحاب، أما هنا فهذا وجه آخر لحسن، ولكن مع فارس سعد الدين، أو قد يكون أي شخص آخر، ولكن ما يميز فارس هو الحميمية التي دفعت حسن للبوح له بهذه الرسالة.
هذه الفترة كانت قد نالت منا بقوة، ووضعتنا أمام حسم قناعاتنا، إذ لم تكن القراءات قد أنضجتها بعد، ولا الحوارات، لكن الحرب التي جربناها بصرامتها وواقعيتها ولونها القاني كانت لابد أن تطلق في الجميع ثوابتها وتعميماتها. وتنقلنا من تهويمات الافتراضات إلى الوقوف أمام هذا السد الفولاذي الذي رأينا كيف يتهاوى أمامه الإنسان: شهيدا أو منافقا.
وهكذا لم يكن فقط من تمزق جسده بالشظايا شهيداً، ومنهم من كان ينتظر ولا زال.
حسن مطلك هنا يكشف عن انتمائه ونسبه وولائه الذي أختاره عن قناعة. عندما قال (لقد ولدتني كلمة) التي كانت هي البدء. وهي التي وقفنا أمامها زمنا لسنا بقارئين.
يكتشف حسن في أولى أيام خدمته العسكرية حجم الهوة، ويكتشف الخسارة الفادحة، كما يكتشف أن الزمن المقرر اجتيازه يتحول من كلمة تحبو إلى جملة تتسيد صفحة بيضاء، لتذوبا معاً في وحدة واحدة، حتى تتحولا إلى شجرة أو نبع أو ضوء، لذلك كان حسن مطلك مندفعاً وصارماً أعانته بيئته، وانفلاته، وإيمانه أن الكلمة هي أساس التغيير.
عندما اقرأ رسائله، وهذه واحدة منها، أجد كم كان حسن مطلك محقاً فأتحامل على نفسي علّي أبقى واقفاً على تلك (هذي الطريق).
* * *

نص الرسالة

فارس الصديق جداً.
لقد ولدتني كلمة، ومضيت حياتي أعجن الفكرة لأحولها إلى شكل فأنفخ فيها فتصير كلمة، أنا أيضاً أحب الباذنجان كالقطيع، إنما لا يميتني شيء كالكلمة، الكلمة.
كل شيء، كل عبث أحببته، كل تخريب ضد الضمير ـ الحصاة، الذي وهبني إياه الآخرون، كل الميتات التي متها، الزيجات اللاشرعية، الحرف الأول من توقيعي الذي أحببته حب التجار لأوراقهم… ربما كل ذلك يذهب بعيداً، ربما يعلق بسنارات المغفلين، غير أنني "سأبقى ضبعا ..الخ" كما قال عني رامبو. أو أبقى شبيها لأليوت "أيها النمر القارئ المرائي.. يا شبيهي، يا أخي".
أعرف بأنك، حين تكتب إلي، وباختصار، إنما تحثني على أن ألعنك، لعلك اشتقت إلى لعناتي كثيراً، وأعرف بأنك تعرف بأنني أعرف نفسي حين تواجه القلم والورقة البيضاء الرهيبة، إنما تقوم بفعل التخديش الذي يعلو على الانفعال والبكاء شوقاً إلى أصابع الأم. يا صديقي الجميل: إنها العبارة القديمة، لطالما أضحكتك: "أنا أملك طاقة لا أعرف كيف أبددها".
والآن مرت طائرة من فوقي، وارتفع صياح المؤذن، ولأنني بدأت أنظر إلى الله بحياد، ربما لأنني أقتعد صخرة من صخور الفلاحين السذج، حيث الأشياء الوحشية، أشياء الأخوة البشر، وحيث الذعر الدائم من مخالب الأنثى الرقيقة.
أرفع سبابتي أمام عينيك، أهدد وأحتج: من قال بأنني هُزمت وأن العبارة، أصبحت خربشة؟ إذا سمعت أن حسن مطلك توقف عن العبث والقلق والكتابة فاعلم أنه قد توقف عن التنفس. قال لي نقيب حقير:
ـ كف عن هذه القصص التافهة.
ـ سيدي، إن قرار إعدامي أسهل من هذا الطلب الذي جاء بصيغة الأمر.
حسن مطلك يكتب ويكتب، ولا يؤجل. المرأة والكلمة والصديق هي عناصر لحياتي، أو ألوان أساسية في رأسي.
ذات ليلة خرجت شمس الجنوب من الأدغال، حارة لتوها، كأنما خرجت من فرج عذراء، كذلك كانت لزجة، رغبت أن أكون كئيباً، وهكذا أصبحت. أردتك، ربما أردت صديقاً آخر. لا شيء، لا شيء غير العدم. كان محاوري يتحدث عن النساء بصيغة الافتراس، وكنت على يقين بأنني سأقتله بعد دقائق إذا استمَر. ولأربعة أيام صمت عن الطعام والحديث، لم تنفع محاولة الأخوة السذج في إقناعي، لا بتقديم الشَربَت، ولا بإعداد الشاي على خشب صناديق العتاد.
أردت أن أخرج من ظلمتي، وأمزق ردائي الكهنوتي العاهر، فتذكرت منفى دستويفسكي، في رواية (ذكريات من بيت الموتى)، وقارنت، ثم خرجت عندما سبقني العريف دستويفسكي بالرتبة والكآبة. شكراً دستويفسكي لقد فتحت شهيتي فشربت كل زجاجات الشربت الصناعي المزيف.
كتبت رواية أطلقت عليها اسماً يشبه عناوين الأفلام. هكذا (دخول الأفعى المجنحة).. كتبت في آخر صفحة "انتهت" وختمتها بتوقيعي الجميل.. قالوا لي سنفحصها ثم نبت في أمر نشرها. قلت افحصوها. وهم يفحصونها الآن لتقرير صلاحيتها للنشر.
وإذا كانت أخباري قد انقطعت في الجرائد فهذا ليس ذنبي، لدي قصص كثيرة مقدمة للنشر، في (الأقلام) و(الطليعة الأدبية)، ماذا أعمل إذا كان الموظفون في مؤسسة الأدب يخافون على رزقهم بسبب افتتاحي لدكان صغير يبيع الكلمات في نفس الشارع، ربما لأن بضاعتي أفضل فقد حجبوها عن المشتري، لا تتأسى على كل حال، أنا أستطيع صناعة "قنبلة نووية" وإبادتهم، ولكنهم مزقوا قميصي.. وبقلمي وحده.. ربما بقلم رصاص أستطيع تخديشهم حد الموت.
كانت أجمل قصة كتبتها، وهي نائمة من ستة شهور في سجل الوارد لمجلة (الأقلام). قصة (ولدان وبنت حلوة).. كانت قفزة من قفزاتي حسب تقديري ومن خلال مراقبة نفسي. آخر ما كتبت قصة حربية سميتها (مستوى النار) وستعلن النتائج في نهاية شهر آب القادم ولن أفوز لأنهم لم يفهموها.
الآن أصبحت لي لغة خاصة، لكن لم تصبح لي قناعة خاصة بشأن شيء... ربما بعد حين ستسمع بأنني غيرت اسمي وتاريخ ميلادي، أنا الفتى الأخضر السعيد، كنت سعيداً، والآن صار من المحتمل أن أكون سعيداً، وربما في المستقبل أقول لك: من المحتمل بأنني كنت سعيداً. كل ما أعطتني إياه العسكرية هو خمسة كيلوات من اللحم، أضفته إلى وزني السابق. وأخذت مني كل شيء: الأصدقاء، الحبيبات، البهجة.. ومنعتني من مواصلة كتابة الرواية القديمة التي تسال عنها. وأنا أعتبرها مشروع الانتصار، أو القنبلة التي ستخرب دكاكين الأدب على رؤوس أصحابها. إنها تحتاج إلى كذا سنة من التفرغ والاحتراق، ولكن لا يمكن أن أخلعها من رأسي لحظة واحدة، مثلما لا يمكن محو الذكريات التي تحمل رائحة زهر البرتقال وطعم القطيفة القروية.
يا صديقي يا صديقي. أردنا أن نخوض خضم الأدب، وصعب علينا الرجوع إلى الضفة. لقد خلقنا الله أدباء، ولن يميتنا إلا أدباء، كما مات (فتز جيرالد) على أرصفة أمريكا، أو (إدغار الان بو) مات متيبسا على مقعد في حديقة، أو يقتلنا الخمر كما قتل صموئيل بيكيت وجه البومة.
لا شيء أشق من الكتابة، ولا شيء أصعب من نكرانها أو نسيانها، ولا شيء أصعب على الإنسان من الصدق والبراءة، ولقد ربطنا حلف بأقلامنا بأن نظل أطفالاً حتى سن التسعين، إذا لم نمت بالسكتة القلبية فلن نموت بالسكتة الأدبية... هذا هو حسن مطلك.
اكتب أيها الفارس، لوث الورقة، قل أي شيء، ولا تمهد للسكوت الأبدي، فإن من يعود نفسه على الكسل فإنه يحبب إلى نفسه الموت. اطمئن، وأريد أن أطمئن عليك.. أُريدك فوق مستوى اليوميات، والمشاريع المؤجلة، لقد زرع الله اللذة في المرأة وزرع في الرجل الطموح.
والســلام.

حسن مطلك
في 19/7/ 1984

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في العدد الأول من (الملحق الثقافي) لصحيفة (المسار) في أيلول 2006م العراق.
**فارس سعدالدين السردار: كاتب من العراق. farisalsardar@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: