العَمى في النص .. والبصيرة في القراءة
تحركٌ قرائي في رواية " قوة الضحك في أُورا "
للروائي العراقي حسن مطلك
زيد الشهيد
تتداخل خطابات البشرية وتتمازج أفكارُها. يدخل الهم الإنساني وتأثيرات فعله في بوتقة انصهار الهموم، وتشكُّل الأفعال خروجاً إلى عالم النص بحيثياته الكتابية، وتعدد مستوياته.. ثم بتراكمات الحُقَب وتوالي الأجيال يغدو النص مجموعة نصوص، وتصبح تشابكاته الذاتية والموضوعية، التاريخية والأسطورية درباً يقود إلى ما أُطلق عليه حديثاً "التناص"؛ فيستحيل هذا التناص ـ كتوصيف موضوعي ـ شبكة معقّدة من البُنى النصيّة. أي نص داخل نص، استظهاراً لنص يُتيح للذات القارئة فسحةَ الإطلاع بحثاً عن المكنونات بعد تجاوز مبررات الظاهر منه ـ علامات وجهه الفارقة ـ حيث "لكلِّ كلامٍ وجهٌ وتأويل" على حد إشارة ابن رشيق، هذه التي لم تعُد في طرائق القراءة الحديثة ذات أهمية تستدعي الوقوف طويلا، إنما غدت القراءة ممارسةً لفعل التأويل.. التأويل الذي يبحث في "مناطق العمى" داخل النص تلك التي يشير إليها بول دي كان في كتابه "العمى والبصيرة"(1) ويؤكدها روبرت شولتز(2) مشيراً إلى "أن النص لا يستطيع أن يقول ما يعنيه، لأن الصمت في بعض النقاط الحاسمة يمكِّن معاني النص من الظهور."ص37، وهذا ما يجعل النصوص بعمومها غير مكتملة، مما يؤدي بالقارئ الناقد إلى اعتقاد اكتشاف الخبيء في ثنايا النص. أي الشيء الذي لم يبصره الناص زمن خلق نصّه وإرساله إلى بقعة الضوء. والقراءة وفق هذا المنظور تؤدي لخلق نص جديد بناء على افتراضات هي ذاتها اللبِنات لقيام صرح النص.. لكنَّه نص النقد/القراءة، لا نص الفحوى/الفكرة. النص الذي ينضم إلى سلسلة النصوص المكوِّنة لمفردة التناص، حيث يأتي القارئ الناقد ليكتشف مناطق العمى لدى نص القراءة فيدخل في هياج البحث، والاكتشاف، والتنوير.. وهكذا تبقى متوالية ضمنية النص لمناطق عمى لا يراها القارئ الناقد المدوِّن ليدخل عند رقعتها قارئ ناقد آخر. ومن باب هذا المفهوم نحاول الولوج إلى خطاب "قوة الضحك في أورا" الروائي وهو يحاور الزمن في تفاعلاته الأسطورية، ووجوده الأزلي عبر العودة إلى الماضي لاستكناه كنوزه المُهملة/المنسية/المتروكة بفعل تأثيرات إرث الجهل المتعاقب بالموروث لحقبٍ وفيرة رأت في هذا الإرث عِبئاً بناءً على تأسيسات فكرية لا تتوافق والمحمول الديني السائد.
فالبناء الظاهر رمزاً لزمن كفري مارق، والنحت الصوري للجسد البشري ـ أو المزيجي من بشري وحيواني ـ إنّما هو رمز لصنمٍ ينبغي، بل يجب ـ إصراراً ـ تهشيمه، وتحطيمه، ومحو أثره لأنّه يتعارض والخلق الإلهي الأوحد... ولقد شهدنا في عصرنا الحديث قبل أعوام فعل الجهل ونظرة التخلّف، والممارسة غير المسئولة لطالبان أفغانستان عندما ارتكبوا إثمَ تحطيم تمثالين فنيين خلاّقين، عملاقين وعظيمين لـ " بوذا " اعتقاداً من توجههم التخلفي أنهما ـ التمثالان ـ ينافسان الله في عظمته الألوهية، ويطيحان بجبروته السرمدي؛ جاهلين أنَّ "بوذا " هو إنسانٌ مِن خَلِقِ الله، وأنه ليس غير مصلح اجتماعي ينأى بحاملي أفكاره إلى الابتعاد عن التطرّف وارتكاب الحماقات، كذلك إشعارهم أنَّ الإنسان قيمةٌ عليا خلقها الله لبناء الخير والعمل الوفيق؛ لا للقتل المبرمج القميء وزهق الأرواح النقية البريئة.
أبجدية الخطاب الروائي.. عين أُورا
ينبني الخطاب الروائي لحسن مطلك على راوٍ عليم ـ لسان الأنا ـ صوت السارد يحكي عن حياة وتفاصيل اجتماعية تدور في كينونة قروية اتخذّت اسماً مُتخيلاً "أورا"، تجاور صروح أثرية لحضارة "آشور" التي وجدت ما قبل الميلاد وكبرت واستحالت إمبراطورية جمعت إرث الحضارات السابقة لها من (1) سومرية: نشأت في بلاد أور جنوب وادي الرافدين بآلهة واعتقادا وخط مسماري خليق بولادة الكتابة الأولى/صور المشاعر. و(2) بابلية: عملقت حضارتها مسلاّت القوانين وأسسّت للبشرية نظامها الاجتماعي والحياتي، وقالت للإنسانية خذي: هذه العجلة للتنقل فصارت الحركة مثل تحقيق لخيال، فلم تعرف القدمان تماسّاً للأرض في انتقالها، وصار الوصول لأيّما قصبة أو مدينة أو موقع يسيراً قياساً بالوصول ترجّلاً. وبعد ذلك اليقين الزمني كانت ( 3) لآشور: إمبراطوريتها المترامية ووجودها المهاب.. وكانت ل" أورا " بعد ثلاثة آلاف سنة وجودها. يترجل أهلها على ذات السهب، ويشمّون ذات العطر المنبعث مع أنفاس الطبيعة ودخان خبز التنانير، يشيع مُعلنا التوازن الأزلي لبني الإنسان.
يسوح السارد يحكي بذاكرة الطفولة مشهداً حياتياً حصل مرةً لحدث يبقى في ذاكرة الصبي ذي التسعة أعوام غريباً وغير مألوف حيث الأب والعم ورجال القرية في حالة هرج ومرج وأمر مهول في نظر وذائقته المتغرِبة، المتسائلة بلا اكتناه رد ولا صيد جواب؛ سوى العبارة المترددة صدى يوم سمعها من أبيه:" سترى اليوم شيئاً عجيباً،، سترى رجلاً ذا عين زرقاء".
وذو العينين يشهده رجلاً غريباً، أحمر البشرة، أزرق العينين؛ وهي إشارة إلى العهد الاستعماري الإنكليزي، إذ دخل فرأى إرثاً متروكاً ومهجوراً تعبث به ضحكات الغبار، وتتراكم فوقه تهالكات السنين. أمّا البشر فلا اكتراث لهم به اعتقاداً من أنَّ ما يظهر على الأرض ليس إلاّ لأناس أبادهم الله لأنهم لم يعبدوه؛ وما تحتها بواقي لا يصُح الوصول إليها لأنها مسكونة بالجن وملعونة من السماء. أمّا ذو العين الزرقاء فيرى نقيض ذلك. يرى أنَّ الماثل كنزٌ لا يُثمَّن، ووجود لا يُمتلك إلاّ بالخيال، وسط غبار بشري تنتفي عنده قدرة تمييز الذهب من التراب، والحكمة من الشتيمة. لذلك كان اليوم يوم غضب؛ وتلك الساعة التي جلبت رجالات قرية أورا ليقفوا أما "ذو العين الزرقاء" يوم ويل وساعة حساب قاسيين.. لماذا؟.. لأنَّ أحدهم ارتكب إثماً بنظره، ويجب أن يُحاسب أمام الجميع.. ذلك الإثم يتمثل بتغوّط أحد القرويين على دكّة العرش؛ الحافة التي كانت يوماً ما من زمن تاريخ غائر موقعاً لجلوس الملك الآشوري " شلمنصر ".. فالقروي المجهول هو المستهين ـ جهلاً واستهانةً وإهمالاً ـ بالإرث. أمّا ذو العين الزرقاء الذي عرف الصب السارد لهذا الخطاب أن اسمه "أوليفر" فهو المهتم علماً ويقيناً بأهمية المكان؛ وهو الذي لا يريد تبصيرهم بقيمة المكان إنّما لأنَّ من تغوَّط سيعيق جهوده في الاكتشاف بغية السرقة.
السرد وصفي. يبني الناص آجرات خطابه اعتماداً على ذات ساردة تغور إلى مصافي الفتوة عبر قطار الذاكرة كاشفاً همود انصهاره ومثيراً بواعث انطماره؛ عارضاً تضاريس أسرة، وطبيعة ممارسة، وجغرافية مكان، ومعطيات العلاقات الثنائية بين الصبي ـ بنظرته التفسيرية والتصويرية في زمن حاضر ـ وبين الأشياء ـ بوجودها الماثل هيكلياً أو تأثيرها الفاعل تخيّلياً وزمنها الغائر في أحشاء الماضي "لا شيء محدد في أورا، ولا سيما الوقت، حتى أننا محاطون بأنقاض، وأن أوليفر يطلع علينا يومياً بخبر جديد من تحت التراب: الطائر زو، الإله آشور حل محل أنليل السومري واستحدث "أدد" إلهاً للعواصف، كالح هي نمرود الحالية، سنحاريب هو الذي أسس نينوى"ص49
ويسرد الصبي في مشهديته ليعرّفنا على أبيه "آدم" العامل لدى "أوليفر" في الحفر والتنقيب؛ وعمّه "أدهم" الحداد ذي القبضة القوية والجَموح الهائج الذي لم تُطح بهيبته إلاّ تلك المرأة التي أدخلها غرفته ـ في بيته لحظة كانت تهينه وتشتمه لأنّه لم يكمل عمل قفل أوصته بإصلاحه ـ وخرج وقد أذلّته بغوايتها، تماماً كما أذلّت المرأة في الأساطير السومرية "أنكيدوا" الجبار فأدخلته بفعل غوايتها إلى حومة الوعي متخلّياً عن قوته الجبروتية المهولة.. ويأتي الحديث عن أب البشرية ليعطيه اسم "دلهوث"، مُقدِّماً وتناسله في أسلاف عاب عليهم انقسامهم، متسائلاً: "كلكم أبنائي فما الذي جعلكم تنقسمون إلى عشائر وأنتم من ظهري؟" بينما يعطي الراوي لنفسه اسم "ديّام" ولأخته "ديّامه" وهي أسماء غائرة في الزمن تعود للعصور الأزلية، عصور بدء الوجود على طبيعة الأرض يوم كانت هذه الأرض تحتاج لتناسل بشري لتشعر بوطأة ثقله البغيض على الأرض.
ويحدث إن شرع يوما ما فيضان بمثابة طوفان يتناص والطوفان الأزلي الذي حدث للخلق ولجدّنا "نوح" حينما أغرق ـ الطوفان ـ الأرض وتماهى مع العواصف والأعاصير وجنون الرياح.. يحدث الفيضان فيغيّر المعادلة المألوفة لحياة القرية، ويطيح برتابة الأيام. ولأنَّ القرية تعيش تحتَ طائلة الفقر والأعمال الرعوية الرتيبة فقد تضررت بيوت الطين المتهالكة وانهالت الجدران، بينما طفت القدور والأواني وعاثت المياه بطمأنينة الأسرة التي ليس لها سوى الزرع المحدود ورعي الأغنام المعدودة، ورضا الأب في عمله ولو بشيء من الخنوع تحت أوامر "أوليفر"..
في هذا الخطاب يجد المتلقّي نفسه إزاء اشتغال اعتمد محورين في انطلاقته التدوينية ليبني وجوده ويحرك شخوصه وفق موتيفات متناقضة. أولها طمعي استحواذي؛ والآخر براغماتي يهدف إلى العيش بمردود يتجاوز أطر ما تهبه الأرض من زرع والحيوانات من مشتقات.. تمثّل المحور الأول بـ "أوليفر" المنقب عن الآثار بطريقة خداعية ذاتية أنانية، فيما كان آدم القروي ومن بعده ولده "ديّام" وعائلة العم "أدهم" التي تشكل نسيجاً واحداً مع عائلة أخيه آدم يحمل تمثيل المحور الثاني.
تظهر نوايا أوليفر كمرموز لمستعمر يوظّف الوداعة تارة والحزم تارات لتحقيق مآربه في السرقة والاستحواذ وسط جهل الكثيرين وحنق البعض الذي يرى نفائس ممتلكات الجدود وارث الحاضر يُنتهك من قبل أغراب، فقد سرق أوليفر "الثور المجنح" وهرّبه متبعاً الخديعة المظلِّلة لحظة الاعتراض والاحتجاج. "عندما علم أبي بالخبر ثار ضد أوليفر، فأقنعه الأجنبي أن الثور لم يُسرق وإنما طلبته الحكومة، ولم يكن أبي ليقتنع فقال له: ولو..!.. انه ثور أورا " ص43
ويغور الناص في سرد وقائعٍ حدثت في عائلة العم أدهم تاركاً أوليفر بعيداً عن السرد وجاعلنا أمام العم الحداد الذي ابتلي بورم خصيته فأجهز على بترها في إحدى لحظات الشعور بالحنق على نفسه، وتخلصاً من عواقب تواصل ورمها الذي سيجلب له العار. هنا يستطيع المتلقي اكتشاف منطقة عمى نسي الناص إلقاء الضوء عليها ليكتشفها هو ـ أي المتلقي ـ حيث الخصية تمثل في نظر العربي رمزاً للذكورة التي هي لسان الفخر. فالجنس وإثباته هو ما شغلنا أنفسنا به فنسينا الرسائل الإنسانية الواجب حملها وتفعيلها فخلّفتنا الأمم وراءها ولم ننتبه إلاّ ونحن تائهون في غياهب الضياع؛ مستباحون بمن كنا نستهين بهم ونتندر عليهم.. وفي تواصله السردي الموصوف لعائلة أدهم الحداد يتناول السارد البنت "تفاحة" التي وهِبت صفات الرجولة فلم تدع الزوج الوصول إليها إلاّ بعد ليالٍ طوال تركت العروس وراءها وانتهت رجولتها بقتله وتقطيعه، ثم رميه إلى النهر. "تفاحة ابنة الحداد الكبرى تسمع قصة أبيها فتقتل زوجها وتعود إلى أورا. الحكاية أبعد من ذلك بكثير من تاريخ زواجها حين أعدت لعريسها عشر ليال سوداء من الصراخ والدفاع المستميت عن غشاء رقيق. حيث سمع الناس في أقصى القرية صراخها كلما اقترب منها، ولم تنفع كل المحاولات لإقناعها بعكس ذلك، لا أقراص المُنوّم التي دُسّت في طعامها، وكانت كافية لقتلها فلم تنم، ولا محاولات العجائز بإقناعها أن العملية سهلة، وأن لا ألم فيها على الإطلاق وانظري إلى النساء يتزوجن وينجبن؛ حتى اتفق بعض المقربين من العريس بربطها على جنبات الغرفة بالحبال؛ باعدوا ما بين الفخذين وفرقوا يديها لكي لا تدافع.. وهكذا تمَّ كل شيء."ص65
ويستعين أوليفر بالشاب ديام بعدما تخلّى الأب آدم عن خدمة هذا الرجل الأجنبي الطامع السارق , ولأجل أن يستمر في سرقة الكنز الأثري يأخذ ديام مرةً في سيارته مغمض العينيين حتى لا يكتشف هذا الشاب موقع الكنز فيستحوذ عليه. لكن ديام المغمض العينيين بإحكام يصحح مسار أوليفر ويدعوه للانحراف قليلاً لئلا تسقط السيارة في بطن الوادي فيقتلان. وفي غمار دهشة أوليفر للتحذير يأتي الرد من النباهة والفراسة التي يتمتع بها الإنسان البدائي بمعرفته تضاريس الطبيعة وأحاجيها وألغازها الخفية بعض الأحيان.... إنَّ الحادثة الأقرب إلى الواقع تمنح النص بوليصة اهتمام القارئ المتلقي، وتبعث في نفسه رغبة الاهتمام واكتساب المعرفة وتنشيط الذاكرة لاستلهام الجديد اعتماداً على تجارب الغير في مضمار الحكي، وهذا ما مثلته وهذا ما مثلته الأهزوجة السردية لطبيعة الصورة التي مثلتها الذات الساردة وعرضتها بألوان ورتوش مؤثرة تدغدغ بهاء الذاكرة وتحفّزها على الاستلهام وامتصاص الدلالات. تعيدها لفحوى الحكايات ذات الأثر لتحقيق فعل التناص الذي هو "امتصاص وتحويل الوفرة من النصوص الأخرى" كما تقول كريستيفا لتحقق فعل الحدث التراكمي عبر المدلولات المتقاربة أو المتشابهة في إدراك قبض النهايات بتجانسها ذو النتائج الفاعلة. فالسرد الآتي في تصوير الحدث يمكِّن المرسل من الوصول إلى دواخل المتلقي لتبليغ رسالة التأثر إذ يتجسّد جانب أوليفر ـ المحتال ـ المندهش مقابل جانب ديّام العارف/الناصح.. كفّة الغريب الذي قد يطيح به القريب؛ وكفّة القريب الذي يتراغى الغريب في سلبه والاستحواذ عليه. والطريق الذي سلكه الغريب معتمداً على ديام الذي أراده كالأعمى أظهر عمى الغريب وبصيرة القريب وهما سائران في عربة تحقيق النهب "يذكره ديام بأنه على خطأ كبير. يجب أن تنحرف قليلاً يا مستر.. والاّ.. سنسقط في الوادي. فيصرخ به: لا ترفع العصابة عن عينيك ويجيبه بهدوء: لم أرَ صدقني، لم ارفعها صدقني. انه يعرف الأرض من خلال اهتزاز السيارة وثغاء النعاج. يقول: اخبرني كيف تعرف؟. لا فائدة يا مستر.. الأمر بسيط جداً. بما أن السيارة قد اهتزت أربعة اهتزازات عنيفة متتابعة فهذا يعني أنها أمام باب القلعة من جهة الشمال حيث يوجد الوادي. وبما أن النعاج كانت صامتة طول الطريق، وأخذت تثغو الآن، فهذا يعني أنها استدلّت بطبيعتها، وبما عودها الرعاة أن تشرب من غدير منخفض الوادي.. والأغنام تثغو حين تُساق إلى السكين أو الماء." ص92
وهناك عند البئر الذي كان لغزاً وهدفاً للاكتشاف يقف أوليفر صحبة ديام وقد جلب حبلاً وثلاثة أغنام لإنزالها إلى يم البئر المهمل منذ قرون سحيقة لاكتشاف إن كان ثمة قرار للبئر، مثلما كان يسعى لتبيان جو الأمان هناك، في الأعماق؛ ويقين عدم وجود مبررات اللعنة التي تسوق للقتل تماماً؛ تماماً مثلما يحدث للملعونين ممّن يفتضون أسرار فحوى الأهرامات في مصر ودروبها فيكون مآلهم الجنون أولاً ثم الموت آخراً.... وبالاعتماد على حذاقة أوليفر تنزل إحدى النعاج إلى قاع البئر المعتم فيعود الحبل فارغاً إلاّ من أحشاء النعجة الأولى فيهجم الرعب إلى نفس أوليفر، ويسوده اعتقاد أنَّ لعنة ـ لها مواصفات التمزيق ـ تحدث لمن يغير على مقتنيات الملوك الآشوريين. ويدخل بعين الفضول لفضح أسرارهم.. إنَّ الوهم الذي يحصل بفعل المصادفة وجملة الأقوال والاعتقادات المنقولة ـ مُعلَّمة بإبهام متوارث وحكايات تتأرجح بين تصديق العقل وقراره في اعتبار المسموع هياكل قادمة من محفّات الخرافة ـ كل ذلك يزعزع ثقة النفس ويدفع إلى اتخاذ الوهم مساحة لا يستهان بها من أبجدية الواقع الحاصل. وهذا هو ما جعل أوليفر يسقط في براثن الإغماء بعدما شرح لديام عن لعنة الفراعنة.
وفي محاولة ثالثة طلب أوليفر من ديام النزول لاكتشاف سر الأعماق.. وفي الأعماق شاهد ديام الكنز الذي لا تثمّنه نقود ولا أموال. شاهد الإرث الآشوري وكنوزه الهائلة فهل يخبر أوليفر بما رأى ليتيح لهذا الأجنبي سرقة بهاء الماضي ليثري على عتبة وجود الحاضر؟.. هذه اللحظة تشكّل المحك لدى ديام؛ هل يقول بما أبصر من مهولات الإرث العظيم أم يأتي بمشاهدات تطفئ عين الغريب وتجعل بحثه المتواصل والمستديم ـ بغية السرقة ـ هباءً وبلا نتيجة/بلا هدف/ بلا تحققات؟.
إنَّ الفقرة التالية المُختلَسة من الكتاب هي التي تتجسّد ذروة لخطاب "قوة الضحك في أورا"؛ وهي التي تجعل من الأحداث مرتّبة كيما تكون أكثر إقناعاً عند القراءة وأشد توجهاً عند التأويل حيث الترتيب المقنع للإحداث يدفع بهذا التأويل إلى أن يتصيّر ذا فاعلية أقرب إلى التصديق والتأثير؛ وهو ما يجعل المتلقّي القارئ ينحو باتجاه الوقوف مع إرهاصات الحدث وقوته ويدفع إلى جعل مناطق العمى في النص أكثر كشفاً، تتجلى فيها ما لم يقله المؤلف. وفيها ـ أي الذروة ـ يعود المتلقي لإعادة البحث، يتحرى ويكتشف.. يتفرس ويجوس؛ وبالتالي نحصل نحن القراء على نصوص موازية للنص البؤرة. فتكتمل الساردية التي ابتدأت بالسرد وأُضيئت بالتأويل/القراءة. "تنفتح دهاليز بمنزلة أبواب تساقط منها الجص. ممر المثوى الأخير للبشر الذين أضاعوا حتفهم. ممر معصرة العطور. ممر غرفة الزينة. مدخل خزائن الملك. مدخل آخر يؤدي إلى قاعة الرقص. ممرات مغلقة بأبواب صخرية كالتي شاهدها على فوهة البئر، شبيهة بالقمر في وضع المحاق (..) تبدو الجدران أقرب مما هي عليه في وضعها الحالي. أفضل مما لك يكن. لم تزل نظيفة تحت التراب. هنا جلس الملك، وجلست الملكة أيضاً. منضدة من المرمر. مقاعد تحتفظ بجلالها حتى بعدما باضت عليها الحشرات. ألواح مصنوعة بعناية يسند بعضها بعضاً في جيوب جدارية أعدّت لهذا الغرض. يتناول أحدها فيشعر ( بسلام طائر الخطاف على سلك الكهرباء).. وهذا ما يريده أوليفر. يريد لوحاً من المكتبة، لكي يريد المكتبة كلها. لكي ينجح. اللوح مخطط بإشارات متباينة الطول والاتجاه، ورقة من كتاب الحساب. ورقة من سجل منجزات الملك. خارطة لتوزيع الآلهة في قبة السماء. سيرة البطل ذي القرنين.. ورمحه مسند إلى العربة". ص132
ويؤول مآل أوليفر إلى الموت مقتولاً بفعل راصد له، وجد فيه الشخص الذي جاء ليسرق فهو إذاً لص ينبغي التعامل معه.. والقتل هنا يصبح وجها آخر للعنة التي تحل على منتهكي ممتلكات الغير وارثهم؛ تماماً كما اللعنة التي حلّت بالعديد ممّن قدموا منقبين في بواطن أهرامات النيل وممرات ملوكها الفراعنة.
الخطاب الروائي .. تداخل الشخوص
يتخلل الخطاب ظهور شخوص تدخل نسيج الأحداث لتضفي على البناء صفة التمازج والتشابك كيما يأتي الاشتغال بتوصيف يعرض اكتمالية قواعد البناء الروائي وشمولية الحياة الناشرة ألفبائيتها على المكان والزمان وحركة صانعي الأحداث. فثمّة سارة ابنة عم ديام تأخذ حيزاً من حركة السرد لأنَّ لها وجوداً في حياة ديام؛؛ هي التي أعلنوها خطيبةً له وهما بعمر العشر سنوات. وصارت تحضر في اهتمامات ديام وولعه بتصاعد الأعوام نحو الشباب.. وثمّة أبناء العم أدهم المشاكسون في فتوتهم؛ هم المشغولون بنصب الشراك والفخاخ للخنازير البرية لصيدها ومن ثم قتلها بطريقة النزق وتحقيق بجاحة الذات... ولديامة أخت ديام وجودٌ وامض من خلال نشوئها وترعرعها يكتشف ديام كبره.. هذا إضافة إلى ما رأيناه أول الرواية من دور محدود للأب والعم..
وبختام قراءة الرواية واستنباط حركة السرد ودوافع المؤلف في بث رؤاه يمكن الوقوف عند بعض ما يثير الاهتمام:
* ففي هذا الخطاب يتدخل المؤلف في التلاعب باستخدام المفردة. يوظفها لتكون صورة أو حركة؛ مرموز لفعل ساخر أو إشارة لمنطق زمني ورائحة مكانية. وهذا منحى يجيد فيه حسن مطلك استخدام المفردة كيفما ارتأى؛ بل ويتميز بتوظيفها المؤثر. والجملة في سرده التي هي لبنة في هيكل الخطاب الأدبي لديه تدل على تلاعبه اللغوي؛ فمن تفكيكها تتبدّى غرابة استخدامها في حسن تفعيلها وإشارتها. و"الخطاب الأدبي هو قبل كل شيء لعب بالكلمات"(3) كما يقول ميشيل ريفاتير و"أن من يقرأ الأدب يدرك بسهولة أنه لعب لغوي، سواء أكان لعباً ضرورياً تحتمه إمكانات اللغة المحدودة أم كان لعباً اختيارياً"(4) حيث أنَّ نواة معنوية واحدة تنقلب في صور مختلفة عن طريق اللعب بألفاظ اللغة وتغيير مواقعها بالاشتقاق منها"(5).
** يعتمد الخطاب الشعرية الموازية لمسارات الحدث. فاللغة تعوم على رغاوي الشعر؛ متعطّرة بأريج يجعل فعل المطالعة نشاطاً تحليقياً، والمد الروائي غيمة من الفن؛؛ أليست الرواية "مزيج من الأنواع الشعرية، من الشعر الطبيعي دون لمسة براعة وصفة شعرية، بل أنها تتكون من الشعر الفني ممتزج معاً؟" كما يشير باختين (6) فحين نقرأ رؤية ديام في حبه لسارة نخرج بمحصلة يقين الشعر في درب الرواية ونجازة التحليق عدواً في أزقة الروح ومنعطفاتها. "إننا نصر على أن نكون في حضور دائم بلا عذاب معروف، ولا عُقد ممكنة ولا أمل معذب؛ نتناول بعضنا ببساطة كما نتناول هواء التنفس دون أن يحاول أحدنا سرقة الآخر، دون أن نطمح إلى إذلال بعضنا. نترك الوقت يمضي وأيدينا متشابكة كجذور العشب المُعطر، وعيوننا الأربع تصير عينا واحدة مفتوحة نحو الحلم. نتخلص لحظة اللقاء من مشقة الجسد وأمراض البشر بما فيها الغيرة؛ بما فيها طعنة الإذلال التي اعتاد أحد العشاق أن يجهزها للآخر بعد عذاب القلق. أشعر بأننا لم نعد من سكان هذه الأرض المعتقة بالخطيئة. إننا من كوكب آخر لا تعني لديه كلمة (موت) أكثر من نكتة فارغة تثير الضحك." ص110
*** استخدم المؤلف أسماء ترجع بأصولها إلى الخليقة الأولى، فرأينا إلى:" آدم؛ سارة؛ ديّام؛ ديّامة.." وحتى اسم "تفّاحة" التي تحيلنا إلى الثمرة الأولى التي استخدمتها حواء لإغراء آدم في تناولها، في حين منح القرية اسماً وجعلها "أورا" قريباً من "أور" المدينة الأكدية التي تقع في الجنوب من وادي الرافدين... ومن الضروري إدراك أنَّ صناع الخطابات ولا سيما الشعرية يتجهون دائماً إلى استخدام الأسماء الغائرة في القدم، المستلة من التراث كقناع لإخفاء رؤيتهم لئلا يقعون تحت طائلة العقاب والمسائلة مثلما رأينا "كليلة ودمنة" وهي تجيء حكايات على لسان الحيوانات نأياً عن ضرر سيلحق براويها أو كاتبها إن هو تعرض لسلوكيات اجتماعية بشرية. كذلك ما قرأنا في عديد نصوص السياب والبياتي وأدونيس ومعهم أعداد لا تحصى ممّن سلكوا درب استخدام القناع؛ إلا أننا لا نجد مبررات هذا الاستخدام في خطاب "قوة الضحك في أورا"، بل نرتأي العكس. إذْ كان سيصبح للأسماء وقعها الفاعل لو أنها جاءت معاصرة تحكي الزمن الاستعماري الذي جاء لينهب كنوزاً تفتح له أنهاراً من ثروة لا تتطلّب جهداً كما هي المتاحف الآن في أوربا وأكثر بقاع العالم المادي. كان الأفضل لو جاءت الأسماء مشتقة من صفات كأن يُستبدل اسم "ديّام" بـ "راجح" دلالة عقله المتّزن الذي وظّفه في التمويه على أوليفر فأفشل مسعاه في سرقة آثار الوطن وارثه؛ وأن يجيء اسم "صابر" دلالة صبر الأب على تجاوزات أوليفر ثم رفضه عندما تمادى، مقرراً ترك العمل مع سارق محتال. كذلك "سارة" بنت عم عمّه الذي وصفها ديّام بأوصاف الجمال والفتنة القروية. ما ضرّها لو حملت اسم "نوّارة" كمرموز لمواسم الزرع والربيع وانفتاح الطبيعة على محبيها.. أيضا.. أيضاً، "أورا" القرية التي كان من المفضّل حمل اسمٍ قريب من ذائقة سكان الأرياف ومزارعي الأرض؛؛ في حين كان المؤلف موفقاً باستخدامه اسم "أوليفر"، وهو مرموز لصورة المستعمر وفعله النهبي والاستحواذي.
**** يحيل الناص الكثير من الصور المستلّة من الرُقُم والمسلاّة إلى كلمات ليدفعنا إلى إعادة تشكيل الصورة أو الصور بريشة خيالنا لتغدو أجمل من الواقع، وأكثر تأثيراً من تجسدها الماثل أمام العين. "اغرورقت عيناها وهي تنظر إلى هيبة الرجل المنقوش يسوط الوحوش التي تجري بلا عائق بجمال وقسوة لا مثيل لها."ص99.. وهي صورة أثرية للملك شلمنصر يعتلي عربته وقد تحركت أمامه الوحوش والأسود مرتعبة، منكفئة. وهذه صورة لرقيم مشهور احتواه المتحف التاريخي في بغداد وقد حوى الخطاب ترجمات صورية عديدة أحسن المؤلف توظيفها.
إن "قوة الضحك في أورا" هو العمل الروائي الثاني للمبدع العراقي حسن مطلك الذي سبق وأن قرأنا روايته "دابادا" ونشرناها عبر الصفحات الثقافية لصحيفة "العرب" ليضاف هذان الاشتغالان إلى الحركة السردية العراقية والعربية كي تؤشرا استمرار السرد العربي المتميز والذي لا يجب إغفاله والمرور عليه مروراً عابراً.
-----------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) يشير "بول دي مان" إلى أنَّ أعظم لحظات العمى التي يمر بها النقاد بصدد افتراضاتهم النقدية هي أيضاً اللحظات التي يحققون بها أعظم بصائرهم..ص8.. "العمى والبصيرة" بول دي مان، ترجمة: سعيد الغانمي، منشورات المجمع الثقافي ـ الإمارات العربية المتحدة.
(2) السيمياء والتأويل/تأليف روبرت شولتز، ترجمة: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1994.
(3) تحليل الخطاب الشعري: ستراتيجية التناص، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي/ط3 1992.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5 ) المصدر السابق نفسه.
(6) ص164باختين، المبدأ الحواري. تزفيتيان تودوروف. ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*زيد الشهيد: كاتب وناقد عراقي. zaid532000@yahoo.com
**نشرت في أكثر من منبر ثقافي، ومنها في صحيفة (المدى) العدد 256 بتاريخ 23/11/2004م بغداد.
فالبناء الظاهر رمزاً لزمن كفري مارق، والنحت الصوري للجسد البشري ـ أو المزيجي من بشري وحيواني ـ إنّما هو رمز لصنمٍ ينبغي، بل يجب ـ إصراراً ـ تهشيمه، وتحطيمه، ومحو أثره لأنّه يتعارض والخلق الإلهي الأوحد... ولقد شهدنا في عصرنا الحديث قبل أعوام فعل الجهل ونظرة التخلّف، والممارسة غير المسئولة لطالبان أفغانستان عندما ارتكبوا إثمَ تحطيم تمثالين فنيين خلاّقين، عملاقين وعظيمين لـ " بوذا " اعتقاداً من توجههم التخلفي أنهما ـ التمثالان ـ ينافسان الله في عظمته الألوهية، ويطيحان بجبروته السرمدي؛ جاهلين أنَّ "بوذا " هو إنسانٌ مِن خَلِقِ الله، وأنه ليس غير مصلح اجتماعي ينأى بحاملي أفكاره إلى الابتعاد عن التطرّف وارتكاب الحماقات، كذلك إشعارهم أنَّ الإنسان قيمةٌ عليا خلقها الله لبناء الخير والعمل الوفيق؛ لا للقتل المبرمج القميء وزهق الأرواح النقية البريئة.
أبجدية الخطاب الروائي.. عين أُورا
ينبني الخطاب الروائي لحسن مطلك على راوٍ عليم ـ لسان الأنا ـ صوت السارد يحكي عن حياة وتفاصيل اجتماعية تدور في كينونة قروية اتخذّت اسماً مُتخيلاً "أورا"، تجاور صروح أثرية لحضارة "آشور" التي وجدت ما قبل الميلاد وكبرت واستحالت إمبراطورية جمعت إرث الحضارات السابقة لها من (1) سومرية: نشأت في بلاد أور جنوب وادي الرافدين بآلهة واعتقادا وخط مسماري خليق بولادة الكتابة الأولى/صور المشاعر. و(2) بابلية: عملقت حضارتها مسلاّت القوانين وأسسّت للبشرية نظامها الاجتماعي والحياتي، وقالت للإنسانية خذي: هذه العجلة للتنقل فصارت الحركة مثل تحقيق لخيال، فلم تعرف القدمان تماسّاً للأرض في انتقالها، وصار الوصول لأيّما قصبة أو مدينة أو موقع يسيراً قياساً بالوصول ترجّلاً. وبعد ذلك اليقين الزمني كانت ( 3) لآشور: إمبراطوريتها المترامية ووجودها المهاب.. وكانت ل" أورا " بعد ثلاثة آلاف سنة وجودها. يترجل أهلها على ذات السهب، ويشمّون ذات العطر المنبعث مع أنفاس الطبيعة ودخان خبز التنانير، يشيع مُعلنا التوازن الأزلي لبني الإنسان.
يسوح السارد يحكي بذاكرة الطفولة مشهداً حياتياً حصل مرةً لحدث يبقى في ذاكرة الصبي ذي التسعة أعوام غريباً وغير مألوف حيث الأب والعم ورجال القرية في حالة هرج ومرج وأمر مهول في نظر وذائقته المتغرِبة، المتسائلة بلا اكتناه رد ولا صيد جواب؛ سوى العبارة المترددة صدى يوم سمعها من أبيه:" سترى اليوم شيئاً عجيباً،، سترى رجلاً ذا عين زرقاء".
وذو العينين يشهده رجلاً غريباً، أحمر البشرة، أزرق العينين؛ وهي إشارة إلى العهد الاستعماري الإنكليزي، إذ دخل فرأى إرثاً متروكاً ومهجوراً تعبث به ضحكات الغبار، وتتراكم فوقه تهالكات السنين. أمّا البشر فلا اكتراث لهم به اعتقاداً من أنَّ ما يظهر على الأرض ليس إلاّ لأناس أبادهم الله لأنهم لم يعبدوه؛ وما تحتها بواقي لا يصُح الوصول إليها لأنها مسكونة بالجن وملعونة من السماء. أمّا ذو العين الزرقاء فيرى نقيض ذلك. يرى أنَّ الماثل كنزٌ لا يُثمَّن، ووجود لا يُمتلك إلاّ بالخيال، وسط غبار بشري تنتفي عنده قدرة تمييز الذهب من التراب، والحكمة من الشتيمة. لذلك كان اليوم يوم غضب؛ وتلك الساعة التي جلبت رجالات قرية أورا ليقفوا أما "ذو العين الزرقاء" يوم ويل وساعة حساب قاسيين.. لماذا؟.. لأنَّ أحدهم ارتكب إثماً بنظره، ويجب أن يُحاسب أمام الجميع.. ذلك الإثم يتمثل بتغوّط أحد القرويين على دكّة العرش؛ الحافة التي كانت يوماً ما من زمن تاريخ غائر موقعاً لجلوس الملك الآشوري " شلمنصر ".. فالقروي المجهول هو المستهين ـ جهلاً واستهانةً وإهمالاً ـ بالإرث. أمّا ذو العين الزرقاء الذي عرف الصب السارد لهذا الخطاب أن اسمه "أوليفر" فهو المهتم علماً ويقيناً بأهمية المكان؛ وهو الذي لا يريد تبصيرهم بقيمة المكان إنّما لأنَّ من تغوَّط سيعيق جهوده في الاكتشاف بغية السرقة.
السرد وصفي. يبني الناص آجرات خطابه اعتماداً على ذات ساردة تغور إلى مصافي الفتوة عبر قطار الذاكرة كاشفاً همود انصهاره ومثيراً بواعث انطماره؛ عارضاً تضاريس أسرة، وطبيعة ممارسة، وجغرافية مكان، ومعطيات العلاقات الثنائية بين الصبي ـ بنظرته التفسيرية والتصويرية في زمن حاضر ـ وبين الأشياء ـ بوجودها الماثل هيكلياً أو تأثيرها الفاعل تخيّلياً وزمنها الغائر في أحشاء الماضي "لا شيء محدد في أورا، ولا سيما الوقت، حتى أننا محاطون بأنقاض، وأن أوليفر يطلع علينا يومياً بخبر جديد من تحت التراب: الطائر زو، الإله آشور حل محل أنليل السومري واستحدث "أدد" إلهاً للعواصف، كالح هي نمرود الحالية، سنحاريب هو الذي أسس نينوى"ص49
ويسرد الصبي في مشهديته ليعرّفنا على أبيه "آدم" العامل لدى "أوليفر" في الحفر والتنقيب؛ وعمّه "أدهم" الحداد ذي القبضة القوية والجَموح الهائج الذي لم تُطح بهيبته إلاّ تلك المرأة التي أدخلها غرفته ـ في بيته لحظة كانت تهينه وتشتمه لأنّه لم يكمل عمل قفل أوصته بإصلاحه ـ وخرج وقد أذلّته بغوايتها، تماماً كما أذلّت المرأة في الأساطير السومرية "أنكيدوا" الجبار فأدخلته بفعل غوايتها إلى حومة الوعي متخلّياً عن قوته الجبروتية المهولة.. ويأتي الحديث عن أب البشرية ليعطيه اسم "دلهوث"، مُقدِّماً وتناسله في أسلاف عاب عليهم انقسامهم، متسائلاً: "كلكم أبنائي فما الذي جعلكم تنقسمون إلى عشائر وأنتم من ظهري؟" بينما يعطي الراوي لنفسه اسم "ديّام" ولأخته "ديّامه" وهي أسماء غائرة في الزمن تعود للعصور الأزلية، عصور بدء الوجود على طبيعة الأرض يوم كانت هذه الأرض تحتاج لتناسل بشري لتشعر بوطأة ثقله البغيض على الأرض.
ويحدث إن شرع يوما ما فيضان بمثابة طوفان يتناص والطوفان الأزلي الذي حدث للخلق ولجدّنا "نوح" حينما أغرق ـ الطوفان ـ الأرض وتماهى مع العواصف والأعاصير وجنون الرياح.. يحدث الفيضان فيغيّر المعادلة المألوفة لحياة القرية، ويطيح برتابة الأيام. ولأنَّ القرية تعيش تحتَ طائلة الفقر والأعمال الرعوية الرتيبة فقد تضررت بيوت الطين المتهالكة وانهالت الجدران، بينما طفت القدور والأواني وعاثت المياه بطمأنينة الأسرة التي ليس لها سوى الزرع المحدود ورعي الأغنام المعدودة، ورضا الأب في عمله ولو بشيء من الخنوع تحت أوامر "أوليفر"..
في هذا الخطاب يجد المتلقّي نفسه إزاء اشتغال اعتمد محورين في انطلاقته التدوينية ليبني وجوده ويحرك شخوصه وفق موتيفات متناقضة. أولها طمعي استحواذي؛ والآخر براغماتي يهدف إلى العيش بمردود يتجاوز أطر ما تهبه الأرض من زرع والحيوانات من مشتقات.. تمثّل المحور الأول بـ "أوليفر" المنقب عن الآثار بطريقة خداعية ذاتية أنانية، فيما كان آدم القروي ومن بعده ولده "ديّام" وعائلة العم "أدهم" التي تشكل نسيجاً واحداً مع عائلة أخيه آدم يحمل تمثيل المحور الثاني.
تظهر نوايا أوليفر كمرموز لمستعمر يوظّف الوداعة تارة والحزم تارات لتحقيق مآربه في السرقة والاستحواذ وسط جهل الكثيرين وحنق البعض الذي يرى نفائس ممتلكات الجدود وارث الحاضر يُنتهك من قبل أغراب، فقد سرق أوليفر "الثور المجنح" وهرّبه متبعاً الخديعة المظلِّلة لحظة الاعتراض والاحتجاج. "عندما علم أبي بالخبر ثار ضد أوليفر، فأقنعه الأجنبي أن الثور لم يُسرق وإنما طلبته الحكومة، ولم يكن أبي ليقتنع فقال له: ولو..!.. انه ثور أورا " ص43
ويغور الناص في سرد وقائعٍ حدثت في عائلة العم أدهم تاركاً أوليفر بعيداً عن السرد وجاعلنا أمام العم الحداد الذي ابتلي بورم خصيته فأجهز على بترها في إحدى لحظات الشعور بالحنق على نفسه، وتخلصاً من عواقب تواصل ورمها الذي سيجلب له العار. هنا يستطيع المتلقي اكتشاف منطقة عمى نسي الناص إلقاء الضوء عليها ليكتشفها هو ـ أي المتلقي ـ حيث الخصية تمثل في نظر العربي رمزاً للذكورة التي هي لسان الفخر. فالجنس وإثباته هو ما شغلنا أنفسنا به فنسينا الرسائل الإنسانية الواجب حملها وتفعيلها فخلّفتنا الأمم وراءها ولم ننتبه إلاّ ونحن تائهون في غياهب الضياع؛ مستباحون بمن كنا نستهين بهم ونتندر عليهم.. وفي تواصله السردي الموصوف لعائلة أدهم الحداد يتناول السارد البنت "تفاحة" التي وهِبت صفات الرجولة فلم تدع الزوج الوصول إليها إلاّ بعد ليالٍ طوال تركت العروس وراءها وانتهت رجولتها بقتله وتقطيعه، ثم رميه إلى النهر. "تفاحة ابنة الحداد الكبرى تسمع قصة أبيها فتقتل زوجها وتعود إلى أورا. الحكاية أبعد من ذلك بكثير من تاريخ زواجها حين أعدت لعريسها عشر ليال سوداء من الصراخ والدفاع المستميت عن غشاء رقيق. حيث سمع الناس في أقصى القرية صراخها كلما اقترب منها، ولم تنفع كل المحاولات لإقناعها بعكس ذلك، لا أقراص المُنوّم التي دُسّت في طعامها، وكانت كافية لقتلها فلم تنم، ولا محاولات العجائز بإقناعها أن العملية سهلة، وأن لا ألم فيها على الإطلاق وانظري إلى النساء يتزوجن وينجبن؛ حتى اتفق بعض المقربين من العريس بربطها على جنبات الغرفة بالحبال؛ باعدوا ما بين الفخذين وفرقوا يديها لكي لا تدافع.. وهكذا تمَّ كل شيء."ص65
ويستعين أوليفر بالشاب ديام بعدما تخلّى الأب آدم عن خدمة هذا الرجل الأجنبي الطامع السارق , ولأجل أن يستمر في سرقة الكنز الأثري يأخذ ديام مرةً في سيارته مغمض العينيين حتى لا يكتشف هذا الشاب موقع الكنز فيستحوذ عليه. لكن ديام المغمض العينيين بإحكام يصحح مسار أوليفر ويدعوه للانحراف قليلاً لئلا تسقط السيارة في بطن الوادي فيقتلان. وفي غمار دهشة أوليفر للتحذير يأتي الرد من النباهة والفراسة التي يتمتع بها الإنسان البدائي بمعرفته تضاريس الطبيعة وأحاجيها وألغازها الخفية بعض الأحيان.... إنَّ الحادثة الأقرب إلى الواقع تمنح النص بوليصة اهتمام القارئ المتلقي، وتبعث في نفسه رغبة الاهتمام واكتساب المعرفة وتنشيط الذاكرة لاستلهام الجديد اعتماداً على تجارب الغير في مضمار الحكي، وهذا ما مثلته وهذا ما مثلته الأهزوجة السردية لطبيعة الصورة التي مثلتها الذات الساردة وعرضتها بألوان ورتوش مؤثرة تدغدغ بهاء الذاكرة وتحفّزها على الاستلهام وامتصاص الدلالات. تعيدها لفحوى الحكايات ذات الأثر لتحقيق فعل التناص الذي هو "امتصاص وتحويل الوفرة من النصوص الأخرى" كما تقول كريستيفا لتحقق فعل الحدث التراكمي عبر المدلولات المتقاربة أو المتشابهة في إدراك قبض النهايات بتجانسها ذو النتائج الفاعلة. فالسرد الآتي في تصوير الحدث يمكِّن المرسل من الوصول إلى دواخل المتلقي لتبليغ رسالة التأثر إذ يتجسّد جانب أوليفر ـ المحتال ـ المندهش مقابل جانب ديّام العارف/الناصح.. كفّة الغريب الذي قد يطيح به القريب؛ وكفّة القريب الذي يتراغى الغريب في سلبه والاستحواذ عليه. والطريق الذي سلكه الغريب معتمداً على ديام الذي أراده كالأعمى أظهر عمى الغريب وبصيرة القريب وهما سائران في عربة تحقيق النهب "يذكره ديام بأنه على خطأ كبير. يجب أن تنحرف قليلاً يا مستر.. والاّ.. سنسقط في الوادي. فيصرخ به: لا ترفع العصابة عن عينيك ويجيبه بهدوء: لم أرَ صدقني، لم ارفعها صدقني. انه يعرف الأرض من خلال اهتزاز السيارة وثغاء النعاج. يقول: اخبرني كيف تعرف؟. لا فائدة يا مستر.. الأمر بسيط جداً. بما أن السيارة قد اهتزت أربعة اهتزازات عنيفة متتابعة فهذا يعني أنها أمام باب القلعة من جهة الشمال حيث يوجد الوادي. وبما أن النعاج كانت صامتة طول الطريق، وأخذت تثغو الآن، فهذا يعني أنها استدلّت بطبيعتها، وبما عودها الرعاة أن تشرب من غدير منخفض الوادي.. والأغنام تثغو حين تُساق إلى السكين أو الماء." ص92
وهناك عند البئر الذي كان لغزاً وهدفاً للاكتشاف يقف أوليفر صحبة ديام وقد جلب حبلاً وثلاثة أغنام لإنزالها إلى يم البئر المهمل منذ قرون سحيقة لاكتشاف إن كان ثمة قرار للبئر، مثلما كان يسعى لتبيان جو الأمان هناك، في الأعماق؛ ويقين عدم وجود مبررات اللعنة التي تسوق للقتل تماماً؛ تماماً مثلما يحدث للملعونين ممّن يفتضون أسرار فحوى الأهرامات في مصر ودروبها فيكون مآلهم الجنون أولاً ثم الموت آخراً.... وبالاعتماد على حذاقة أوليفر تنزل إحدى النعاج إلى قاع البئر المعتم فيعود الحبل فارغاً إلاّ من أحشاء النعجة الأولى فيهجم الرعب إلى نفس أوليفر، ويسوده اعتقاد أنَّ لعنة ـ لها مواصفات التمزيق ـ تحدث لمن يغير على مقتنيات الملوك الآشوريين. ويدخل بعين الفضول لفضح أسرارهم.. إنَّ الوهم الذي يحصل بفعل المصادفة وجملة الأقوال والاعتقادات المنقولة ـ مُعلَّمة بإبهام متوارث وحكايات تتأرجح بين تصديق العقل وقراره في اعتبار المسموع هياكل قادمة من محفّات الخرافة ـ كل ذلك يزعزع ثقة النفس ويدفع إلى اتخاذ الوهم مساحة لا يستهان بها من أبجدية الواقع الحاصل. وهذا هو ما جعل أوليفر يسقط في براثن الإغماء بعدما شرح لديام عن لعنة الفراعنة.
وفي محاولة ثالثة طلب أوليفر من ديام النزول لاكتشاف سر الأعماق.. وفي الأعماق شاهد ديام الكنز الذي لا تثمّنه نقود ولا أموال. شاهد الإرث الآشوري وكنوزه الهائلة فهل يخبر أوليفر بما رأى ليتيح لهذا الأجنبي سرقة بهاء الماضي ليثري على عتبة وجود الحاضر؟.. هذه اللحظة تشكّل المحك لدى ديام؛ هل يقول بما أبصر من مهولات الإرث العظيم أم يأتي بمشاهدات تطفئ عين الغريب وتجعل بحثه المتواصل والمستديم ـ بغية السرقة ـ هباءً وبلا نتيجة/بلا هدف/ بلا تحققات؟.
إنَّ الفقرة التالية المُختلَسة من الكتاب هي التي تتجسّد ذروة لخطاب "قوة الضحك في أورا"؛ وهي التي تجعل من الأحداث مرتّبة كيما تكون أكثر إقناعاً عند القراءة وأشد توجهاً عند التأويل حيث الترتيب المقنع للإحداث يدفع بهذا التأويل إلى أن يتصيّر ذا فاعلية أقرب إلى التصديق والتأثير؛ وهو ما يجعل المتلقّي القارئ ينحو باتجاه الوقوف مع إرهاصات الحدث وقوته ويدفع إلى جعل مناطق العمى في النص أكثر كشفاً، تتجلى فيها ما لم يقله المؤلف. وفيها ـ أي الذروة ـ يعود المتلقي لإعادة البحث، يتحرى ويكتشف.. يتفرس ويجوس؛ وبالتالي نحصل نحن القراء على نصوص موازية للنص البؤرة. فتكتمل الساردية التي ابتدأت بالسرد وأُضيئت بالتأويل/القراءة. "تنفتح دهاليز بمنزلة أبواب تساقط منها الجص. ممر المثوى الأخير للبشر الذين أضاعوا حتفهم. ممر معصرة العطور. ممر غرفة الزينة. مدخل خزائن الملك. مدخل آخر يؤدي إلى قاعة الرقص. ممرات مغلقة بأبواب صخرية كالتي شاهدها على فوهة البئر، شبيهة بالقمر في وضع المحاق (..) تبدو الجدران أقرب مما هي عليه في وضعها الحالي. أفضل مما لك يكن. لم تزل نظيفة تحت التراب. هنا جلس الملك، وجلست الملكة أيضاً. منضدة من المرمر. مقاعد تحتفظ بجلالها حتى بعدما باضت عليها الحشرات. ألواح مصنوعة بعناية يسند بعضها بعضاً في جيوب جدارية أعدّت لهذا الغرض. يتناول أحدها فيشعر ( بسلام طائر الخطاف على سلك الكهرباء).. وهذا ما يريده أوليفر. يريد لوحاً من المكتبة، لكي يريد المكتبة كلها. لكي ينجح. اللوح مخطط بإشارات متباينة الطول والاتجاه، ورقة من كتاب الحساب. ورقة من سجل منجزات الملك. خارطة لتوزيع الآلهة في قبة السماء. سيرة البطل ذي القرنين.. ورمحه مسند إلى العربة". ص132
ويؤول مآل أوليفر إلى الموت مقتولاً بفعل راصد له، وجد فيه الشخص الذي جاء ليسرق فهو إذاً لص ينبغي التعامل معه.. والقتل هنا يصبح وجها آخر للعنة التي تحل على منتهكي ممتلكات الغير وارثهم؛ تماماً كما اللعنة التي حلّت بالعديد ممّن قدموا منقبين في بواطن أهرامات النيل وممرات ملوكها الفراعنة.
الخطاب الروائي .. تداخل الشخوص
يتخلل الخطاب ظهور شخوص تدخل نسيج الأحداث لتضفي على البناء صفة التمازج والتشابك كيما يأتي الاشتغال بتوصيف يعرض اكتمالية قواعد البناء الروائي وشمولية الحياة الناشرة ألفبائيتها على المكان والزمان وحركة صانعي الأحداث. فثمّة سارة ابنة عم ديام تأخذ حيزاً من حركة السرد لأنَّ لها وجوداً في حياة ديام؛؛ هي التي أعلنوها خطيبةً له وهما بعمر العشر سنوات. وصارت تحضر في اهتمامات ديام وولعه بتصاعد الأعوام نحو الشباب.. وثمّة أبناء العم أدهم المشاكسون في فتوتهم؛ هم المشغولون بنصب الشراك والفخاخ للخنازير البرية لصيدها ومن ثم قتلها بطريقة النزق وتحقيق بجاحة الذات... ولديامة أخت ديام وجودٌ وامض من خلال نشوئها وترعرعها يكتشف ديام كبره.. هذا إضافة إلى ما رأيناه أول الرواية من دور محدود للأب والعم..
وبختام قراءة الرواية واستنباط حركة السرد ودوافع المؤلف في بث رؤاه يمكن الوقوف عند بعض ما يثير الاهتمام:
* ففي هذا الخطاب يتدخل المؤلف في التلاعب باستخدام المفردة. يوظفها لتكون صورة أو حركة؛ مرموز لفعل ساخر أو إشارة لمنطق زمني ورائحة مكانية. وهذا منحى يجيد فيه حسن مطلك استخدام المفردة كيفما ارتأى؛ بل ويتميز بتوظيفها المؤثر. والجملة في سرده التي هي لبنة في هيكل الخطاب الأدبي لديه تدل على تلاعبه اللغوي؛ فمن تفكيكها تتبدّى غرابة استخدامها في حسن تفعيلها وإشارتها. و"الخطاب الأدبي هو قبل كل شيء لعب بالكلمات"(3) كما يقول ميشيل ريفاتير و"أن من يقرأ الأدب يدرك بسهولة أنه لعب لغوي، سواء أكان لعباً ضرورياً تحتمه إمكانات اللغة المحدودة أم كان لعباً اختيارياً"(4) حيث أنَّ نواة معنوية واحدة تنقلب في صور مختلفة عن طريق اللعب بألفاظ اللغة وتغيير مواقعها بالاشتقاق منها"(5).
** يعتمد الخطاب الشعرية الموازية لمسارات الحدث. فاللغة تعوم على رغاوي الشعر؛ متعطّرة بأريج يجعل فعل المطالعة نشاطاً تحليقياً، والمد الروائي غيمة من الفن؛؛ أليست الرواية "مزيج من الأنواع الشعرية، من الشعر الطبيعي دون لمسة براعة وصفة شعرية، بل أنها تتكون من الشعر الفني ممتزج معاً؟" كما يشير باختين (6) فحين نقرأ رؤية ديام في حبه لسارة نخرج بمحصلة يقين الشعر في درب الرواية ونجازة التحليق عدواً في أزقة الروح ومنعطفاتها. "إننا نصر على أن نكون في حضور دائم بلا عذاب معروف، ولا عُقد ممكنة ولا أمل معذب؛ نتناول بعضنا ببساطة كما نتناول هواء التنفس دون أن يحاول أحدنا سرقة الآخر، دون أن نطمح إلى إذلال بعضنا. نترك الوقت يمضي وأيدينا متشابكة كجذور العشب المُعطر، وعيوننا الأربع تصير عينا واحدة مفتوحة نحو الحلم. نتخلص لحظة اللقاء من مشقة الجسد وأمراض البشر بما فيها الغيرة؛ بما فيها طعنة الإذلال التي اعتاد أحد العشاق أن يجهزها للآخر بعد عذاب القلق. أشعر بأننا لم نعد من سكان هذه الأرض المعتقة بالخطيئة. إننا من كوكب آخر لا تعني لديه كلمة (موت) أكثر من نكتة فارغة تثير الضحك." ص110
*** استخدم المؤلف أسماء ترجع بأصولها إلى الخليقة الأولى، فرأينا إلى:" آدم؛ سارة؛ ديّام؛ ديّامة.." وحتى اسم "تفّاحة" التي تحيلنا إلى الثمرة الأولى التي استخدمتها حواء لإغراء آدم في تناولها، في حين منح القرية اسماً وجعلها "أورا" قريباً من "أور" المدينة الأكدية التي تقع في الجنوب من وادي الرافدين... ومن الضروري إدراك أنَّ صناع الخطابات ولا سيما الشعرية يتجهون دائماً إلى استخدام الأسماء الغائرة في القدم، المستلة من التراث كقناع لإخفاء رؤيتهم لئلا يقعون تحت طائلة العقاب والمسائلة مثلما رأينا "كليلة ودمنة" وهي تجيء حكايات على لسان الحيوانات نأياً عن ضرر سيلحق براويها أو كاتبها إن هو تعرض لسلوكيات اجتماعية بشرية. كذلك ما قرأنا في عديد نصوص السياب والبياتي وأدونيس ومعهم أعداد لا تحصى ممّن سلكوا درب استخدام القناع؛ إلا أننا لا نجد مبررات هذا الاستخدام في خطاب "قوة الضحك في أورا"، بل نرتأي العكس. إذْ كان سيصبح للأسماء وقعها الفاعل لو أنها جاءت معاصرة تحكي الزمن الاستعماري الذي جاء لينهب كنوزاً تفتح له أنهاراً من ثروة لا تتطلّب جهداً كما هي المتاحف الآن في أوربا وأكثر بقاع العالم المادي. كان الأفضل لو جاءت الأسماء مشتقة من صفات كأن يُستبدل اسم "ديّام" بـ "راجح" دلالة عقله المتّزن الذي وظّفه في التمويه على أوليفر فأفشل مسعاه في سرقة آثار الوطن وارثه؛ وأن يجيء اسم "صابر" دلالة صبر الأب على تجاوزات أوليفر ثم رفضه عندما تمادى، مقرراً ترك العمل مع سارق محتال. كذلك "سارة" بنت عم عمّه الذي وصفها ديّام بأوصاف الجمال والفتنة القروية. ما ضرّها لو حملت اسم "نوّارة" كمرموز لمواسم الزرع والربيع وانفتاح الطبيعة على محبيها.. أيضا.. أيضاً، "أورا" القرية التي كان من المفضّل حمل اسمٍ قريب من ذائقة سكان الأرياف ومزارعي الأرض؛؛ في حين كان المؤلف موفقاً باستخدامه اسم "أوليفر"، وهو مرموز لصورة المستعمر وفعله النهبي والاستحواذي.
**** يحيل الناص الكثير من الصور المستلّة من الرُقُم والمسلاّة إلى كلمات ليدفعنا إلى إعادة تشكيل الصورة أو الصور بريشة خيالنا لتغدو أجمل من الواقع، وأكثر تأثيراً من تجسدها الماثل أمام العين. "اغرورقت عيناها وهي تنظر إلى هيبة الرجل المنقوش يسوط الوحوش التي تجري بلا عائق بجمال وقسوة لا مثيل لها."ص99.. وهي صورة أثرية للملك شلمنصر يعتلي عربته وقد تحركت أمامه الوحوش والأسود مرتعبة، منكفئة. وهذه صورة لرقيم مشهور احتواه المتحف التاريخي في بغداد وقد حوى الخطاب ترجمات صورية عديدة أحسن المؤلف توظيفها.
إن "قوة الضحك في أورا" هو العمل الروائي الثاني للمبدع العراقي حسن مطلك الذي سبق وأن قرأنا روايته "دابادا" ونشرناها عبر الصفحات الثقافية لصحيفة "العرب" ليضاف هذان الاشتغالان إلى الحركة السردية العراقية والعربية كي تؤشرا استمرار السرد العربي المتميز والذي لا يجب إغفاله والمرور عليه مروراً عابراً.
-----------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) يشير "بول دي مان" إلى أنَّ أعظم لحظات العمى التي يمر بها النقاد بصدد افتراضاتهم النقدية هي أيضاً اللحظات التي يحققون بها أعظم بصائرهم..ص8.. "العمى والبصيرة" بول دي مان، ترجمة: سعيد الغانمي، منشورات المجمع الثقافي ـ الإمارات العربية المتحدة.
(2) السيمياء والتأويل/تأليف روبرت شولتز، ترجمة: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1994.
(3) تحليل الخطاب الشعري: ستراتيجية التناص، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي/ط3 1992.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5 ) المصدر السابق نفسه.
(6) ص164باختين، المبدأ الحواري. تزفيتيان تودوروف. ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*زيد الشهيد: كاتب وناقد عراقي. zaid532000@yahoo.com
**نشرت في أكثر من منبر ثقافي، ومنها في صحيفة (المدى) العدد 256 بتاريخ 23/11/2004م بغداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق