06‏/12‏/2020

حسن مطلك.. برع بالكتابة ومات مقاوماً/ سماح عادل

 

حسن مطلك.. اِزدَحَمَ بالكتابة وبرع فيها ومات مقاوماً للظلم 

خاص: كتابات سماح عادل

حسن مطلك روضان؛ كاتب ورسام وشاعر عراقي.. ولد عام 1961 في قرية “سُديرة” شمال العراق، أنهى دراسته الجامعية في 1983، وحصل على شهادة البكالوريوس في التربية وعلم النفس من كلية التربية في “جامعة الموصل”، عاش في كنف عائلة ذات ماضي عريق في الزعامة العشائرية وثرية بعطائها للأدب الشعبي.

أقام عدة معارض للفن التشكيلي، وبعد أدائه للخدمة العسكرية الإلزامية عمل أستاذاً في “معهد المعلمين” في كركوك ومديراً لعدة مدارس إعدادية، أُعدم شنقاً بتاريخ 18/7/1990 الساعة السابعة مساءً، لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم. حيث راح يصفه بعض المثقفين إثر ذلك بأنه (لوركا العراقي).

الكتابة..

حاز “حسن مطلك” على الجائزة الأولى لـ”قصة الحرب” عام 1983؛ عن قصته (عرانيس)، والجائزة التقديرية سنة 1988 عن قصته (بطل في المحاق)، وألف رواية (دابادا)، والتي طبعت عدة طبعات، ورواية (قوة الضحك في أُورا) و(كتاب الحُب.. ظِلالهن على الأرض)؛ وهو نوع من الكتابة الحرة والمذكرات، و(العين إلى الداخل.. كتابة حرة)، و(أقنعة.. أنا وأنتِ والبلاد)، مجموعة شعرية، و(الأعمال القصصية)، ومعظم كتبه قدم لها وحققها شقيقه الروائي، “محسن الرملي”، وبعضها تم جمعه من أوراق “حسن مطلك” بعد وفاته.

دابادا..

رواية (دابادا)، تقع في (220صفحة)، صدرت طبعتها الأولى في بيروت سنة 1988، وصدرت الطبعة الثانية في القاهرة 2001، والطبعة الثالثة في بيروت 2006.. يعتبرها البعض أهم الروايات العراقية التي ظهرت في نهاية القرن العشرين، قال عنها، جبرا إبراهيم جبرا: “إنها رواية غير عادية، فهي جديدة وكاتبها شاب جريء”. وقال الروائي، عبدالرحمن الربيعي: “لقد أحببت هذه الرواية العصية، إنها رواية مختلفة، لا يمكن أن تذكرنا بأي عمل روائي آخر ولم تتعكز على إنجاز روائي سابق.. إنها رواية وحيدة ومكتفية بما حملت”. وقال القاص، محمود جنداري: “إن (دابادا) هي الكتابة بشروط الحياة”. وقال الناقد، د. عبدالله إبراهيم: “إنها رواية تستفز القارئ، وهي تتصدى لقضايا كبرى، إن هذه الرواية ستثير إشكالات في مستوى القراءة ومستوى التأويل وستختلف الآراء حولها”. وقال الشاعر، صلاح حسن: “إنها الرواية العراقية الوحيدة التي ظهرت بهذه السمات المميزة.. إن (دابادا) هي حقاً رواية عراقية متميزة، وفيها من التجديد ما لا يمكن إنكاره على الصعيدين البنائي والمضموني، حيث يمكّناها من الوقوف إلى جانب الروايات العظيمة”. وقال الناقد، د. باسل الشيخلي: “إن هذه الرواية تتجاوز حدود الواقعية لتدخل في إشكالية أكبر وأوسع من نمطية الكتابة المقنّعة.. وإن لغة (دابادا) هي سر قوتها”. وقال القاص، “كريم شعلان”: “أتمنى أن يقرأ الجميع (دابادا)، رواية الكاتب العالمي جداً حسن مطلك ونافذته على فجر الرواية العربية”.

ونشر الشاعر والقاص، عبدالهادي سعدون، رسالة تلقاها من حسن مطلك؛ رداً على رسالة كان قد أرسلها له عن روايته، جاء فيها: “الأخ عبدالهادي السعدون المحترم.. أفضَل تعريف سمعته للقصة «أنها تجربة عزلة». وأعتقد أنني لو تمنيت حقاً أن أفرد لك توضيحاً لـ (دابادا) لاحتجت لرواية أخرى سأسميها مثلاً «ميتا دابادا» فالمعذرة إذاً. ولكن أسمع. أعدك في يوم ما عن شيء سماه أحد الأصدقاء «الواقعية المطلقة» إشارة إلى كتاباتي، وهي فكرة مفصلة، إصبع ديناميت في جسد الموروث الأدبي، ـ أنا متعَب وقلق هذه اللحظة ـ ولا أرغب في الحديث عن (دابادا) بالذات، لأنها أتعبتني.. أريد أن أستريح يا أخي، هناك بعض التطور الذي أسميه تراجعاً عن (دابادا) في بعض الأحيان، تجربة روائية جديدة ستذبحني، أكثر عمقاً.. العقدة هذه المرة ليست في الشكل بل في الفكرة، لا سيما أنني مهووس بتاريخ الحضارات القديمة، وأشعر أنها ليست مجرد أحداث انتهت، بل هي طفولتي أنا، طفولتكم.. وأننا نحتاج جميعاً إلى وعي تاريخي، لا إلى وعي في التاريخ. أنني لعلى ثقة بأنك أنت وجميع الكتاب الشباب يجدون في (دابادا) باباً للأدب القادم. إذ لم يعد من السهل أن نبدأ بكلمة «كان» كاستهلال قصصي، وهذه أول خطوة للنجاح../ قتل «كان»”.

حسناً: الحمار “قندس” هو الإيديولوجيا. أو لنقل الروح الخشبية المدللة لكل سلطة. هناك إشارة لا أملّ من تكرارها على الأصدقاء: يا “عبدالهادي” لسنا جادين أبداً، لا في قراءتنا ولا في كتابتنا.. فلنجرب الكتابة في وضع الوقوف. لنكن جادين مرة واحدة وإلى الأبد.. وعلينا أن نفرق بين الأديب والكاتب، وذلك سهل لمجرد أن نجلس في اتحاد (الكتاب) العراقي.. ولا بأس أن نصاب ببعض الغرور، وليذهب موظفو الأدب إلى الجحيم ما دمنا نكتب بألم ونتعذب ونحترق. لنجرب أن نعطي أقصى ما لدينا في كل قصة مهما كانت حتى لو كانت طاقتنا ستفرغ نهائياً في قصة قصيرة واحدة، ولننس أسمائنا. فلتكن قصة واحدة عظيمة ثم نعتزل.. لنصرخ قبل أن يصل الطين إلى أفواهنا. قرأتُ في بعض كتب الأنثروبولوجيا عن قبيلة تعطي لكل لحظة حقها. في الحزن يهلك بعضهم من البكاء، وفي الفرح يهلك آخرون من السعادة، وفي العمل تنهار أجسادهم.. ولكن هناك، سينشأ في الداخل، داخل كل شخص، قوة عجيبة ورؤية واضحة للعالم.. فلنجرب. المعذرة.. سنلتقي في يوم ما”.

الازدحام بالكتابة

في حوار مع حسن مطلك، أجراه عيدان محمود الصحن، نشر في بغداد 1988، يقول عن الكتابة: “الحضور بالنسبة لي هو أن أكتب وأستغرق في الكتابة. وتجربتي ذات أمواج تضعني دائماً في فورة المحاسبة.. أنا مزدحم وأخاف وأحذر النشر مخافة أن أندم فالكثرة لا تعني شيئاً في الإبداع.. أكتب الرواية ليس لأنها سرقت من الفلسفة والشعر قوتيهما ولا لأنها فن العصر، كما يقال، بل لأنها صعبة، وعرة، ولأنني أستمتع كثيراً بهذا الخطر.. ليس ثمة فارزة بين الواقعي والخيالي في الأدب، أحدهما يكون ذراعاً والآخر رأساً واللغة روح لهذا الجسد الهجين”.

وعن اللغة في كتاباته، يقول “حسن مطلك”: “أذكر قولاً لأحد كتاب الرواية الحديثة، يقول: «لم أحاول في يوم ما أن أجبر اللغة على قول ما لا تريد أن تقوله». واللغة هي أنا، فأحاول ألا أكذب قدر الإمكان، إنها ليست مجرد أداة للتوصيل.. فهي تشمل الصوت أحياناً. المهم أن نجرب كيف تخطيء في اللغة بعد أن نتقن الإعراب. ليس للكتابة وقت محدد، ولكن لحظة الدهشة هي ذروة الإبداع.. دهشة الاكتشاف التي تضيع الكثير من التفاصيل، غير أنها تعطي بالمقابل لغـة مـضيئة”.

وعن رأيه في القصة العراقية وكتابها، يقول “حسن مطلك”: “القصة العراقية في أتم العافية، ولكن الجدية تنقصنا جميعاً. إذا أردنا معرفة مستقبل القصة علينا أن ننظر إلى تجارب الآخرين من الشباب. أما الرواية في العراق فلم تخرج من حجرة التقليد.. ولكنني متفائل كثيراً”.

أهل القرى..

في حوار آخر معه أجراه، مجيد السامرائي، نشر في بغداد 1984، يجيب حسن مطلك عن سؤال؛ هل تظن أن هناك أدباء قرى وأدباء مدن؟ قائلاً: “ربما.. أنا أظن أن المبدعين هم أهل القرى، أو الكتاب القرويون المتمدنون.. القرويون أعرف بقراهم من أهل المدن، وإن غطسوا في زحام المدن فهم أدق تعبيراً من غيرهم عن المدينة.

لغة جديدة..

حوار آخر مع حسن مطلك، حاوروه (نـجم ذيـاب – محسن الرملي – ياسين سلطان)، وأجري في بيته بقرية (سديرة وسطى) 1988. وتم تسجيله على شريط، (كاسيت)، وكان حواراً طويلاً عن روايته (دابادا)، يقول حسن مطلك عن استخدامه اللغة بطريقة جديدة: “بالنسبة للغة الرواية فقد استخدمت شاهين أيضاً كمنظار للنظر من خلاله إلى جميع الشخصيات، وأنظر من خلاله إلى الحدث، أي أن كل وصفي ودخولي في الرواية وأسلوبي قد تم من خلال شخصية شاهين، يعني أنني لم أكن أنظر من خلال شخصيتي كروائي وإنما كنت أنظر من خلال شخصية شاهين إلى العالم، ولذلك فإن طريقة الروي كانت بطريقة شاهين وليست بطريقتي.. إذاً فهو أسلوب شاهين وليس أسلوبي”.

الواقعية المطلقة..

أما عن انطباعه عن رأي بعض النقاد الذين اعتبروا روايته خروجاً عن الإطار التقليدي للرواية؛ يبين حسن مطلك: “في أول الأمر تم اعتبارها خروجاً، ثم بعد ذلك شبهها قسم كبير بروايات «ماركيز».. فهي إما أن تكون خروجاً أو تشبه روايات «ماركيز»؛ واحدة من اثنتين. ولكن بتقديري هي فعلاً خروجاً عن التراث الأدبي، ولكن ليس خروجاً كاملاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لأنه ليس هناك من يكتب رواية جديدة 100% دون أن يتأثر بما قرأه وما عاشه في كل السفرات التي قضاها، فنحن بالتأكيد نتأثر بقراءاتنا وثمة تأثيرات كثيرة لكتاب عالميين. أما بالنسبة لتأثري بـ«ماركيز» فطبعاً أن «ماركيز» من المؤثرين بي ولكنني أعتقد بوجود خلاف كبير بيني وبينه وأنني حين أكتب فأنا آخر من يقلد ماركيز، ليس لأنه روائي عادي بالنسبة لي بل بالعكس فهو روائي عظيم جداً، ولكن بالنسبة لي فإن ماركيز لا ينطبق على الأشياء التي أفكر بها أنا، لأن ماركيز كما أعتقد يكتب بدون أفكار يعني يجيد اللعبة الروائية بشكل مذهل، ولكنه لا يقدم أفكاراً كبيرة، أما هذا المنهج الذي اعتمدته فقد أسميناه بـ (الواقعية المطلقة) أو (الواقعية الكلية) والذي يمكن بداخله أن تضع في الرواية كل شيء، أي أنه بالإمكان أن نضع من الكيمياء والفيزياء ومن علم الزراعة والطب وغيرها، وأيضاً بالنسبة للمدارس الأدبية تستخدمها كلها.. كل ما تعلمناه من مدارس أدبية من السريالية والواقعية، والواقعية السحرية والواقعية الواقعية والواقعية النفسية وغيرها، وممكن أن نأخذ «بروست وكافكا وغويس» ونشاركهم كلهم في عملية الكتابة الروائية، فأنا أعتقد أن الخطأ الأساس، أو هو ليس خطأ تماماً، وهو مثلاً عندما أنظر إلى كافكا أنظر له بخصوصية وعظمة، ولكن كافكا قد نظر من منظار واحد ومن زاوية واحدة إلى العالم، لقد نظر من جانب التحويل الحسي إلى موضوعي مثلاً، كافكا يقول، بأن البطل يشعر بأنه شخص وضيع أو شخص متعَب، فهو لم يقل بطل متعب وإنما حوله إلى صرصار كما في روايته (المسخ)؛ أو عندما يشعر الشخص بوطأة السلطة عليه وبأنه مطالب دائماً ومراقب دائماً وبأنه ليس حراً.. فحول هذا الإحساس إلى (المحاكمة)، أو حالة الطموح التي لا تتحقق أبداً في رواية (القصر) فهذه رؤية واحدة نظر بها كافكا إلى أعماله. وهكذا يمكنك أن تتناول أي روائي على هذا الأساس ووفق هذه الناحية. خذ رواية (زوربا) مثلاً ستجده أيضاً بأن «كازانتزاكي» قد نظر من زاوية واحدة ألا وهي؛ الحس والفعل أي الموافقة بين الحسي والعقلاني، الحسي زوربا والعقلاني كان المعلم الشخصية المرافقة لزوربا.. وأنا أعتقد بأن الروائي الجديد أو الأدب الجديد لا بد أن يكون أدباً كلياً، أي أن نضع كل شيء إلى جانب العلم، ويمكن أن نضع المسرح ونستفيد من تقنيات السينما بالتقطيع المشهدي أو في السيناريو وبالإمكان أن نضع موسيقى أيضاً، وأن نضع سحراً فبالإمكان أن نضع كل شيء.. كل شيء داخل الرواية”.

عَقلَنة الشِعر..

كما رأى التجديد في روايته، قائلاً: “بالنسبة للجديد في (دابادا)، وعلى صعيد الشكل أيضاً، فقد استخدمت الشعر، واللغة إلى أقصاها، أي أنها ممكن أن تتحول إلى قصيدة شعرية أو (قصيدة غليظة)، وفي الوقت نفسه، استخدمت العقل (عقلنة الشِعر)؛ أخذت من الفلسفة وأخذت من الشعر.. وطبعاً ستجد أن ثمة تضاد قوي بين العقل والحس، ليس تضاداً بالضبط، ولكن لأنه ليس من الممكن أن نطرح حالة عقلانية بطريقة حسية أو نطرح حالة حسية بطريقة عقلانية فإما أن تصبح في النتائج عقلانية أو حسية.. أنا عملتها عقلانية حسية أو حسية عقلانية.. يعني الاثنين معاً. أعتقد أنها مسألة جديدة جداً في العمل الروائي. وقلت لكم أيضاً (الكلية) أي أن أنظر إلى الأمور بطريقة كلية، ثم أنني لا أتعاطف مع أبطالي، وهذا ليس شيئاً جديداً ولكن العبرة في عملية تنفيذه.. لأن أهم شئ هو أن ينفذ الروائي ما يفكر به فعلاً.. هناك من يتكلمون وكلامهم كبير وعندهم فكرة تامة عن الرواية.. ولكن عند التنفيذ لا ينفذون.. والجديد هو: أنني قلت الشيء ونفذته”.

وعن الأدب والسلطة يؤكد حسن مطلك: “حرب الأديب ضد السلطة بكل أشكالها هي حرب دائمة، وفعلاً هذه الرواية مكتوبة ضد السلطات.. أشكال السلطات الموجودة في المجتمع؛ السلطة التاريخية والسلطة الاجتماعية والسلطة السياسية، وطبعاً هي لا تخص سلطة معينة بالتحديد ولهذا أقول الكلام بدون رقابة”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سماح عادل: كاتبة وإعلامية مصرية.

*نشرت في (كتابات) بتاريخ 2/3/2018م

https://kitabat.com/cultural/%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D9%85%D8%B7%D9%84%D9%83-%D8%A3%D8%B2%D8%AF%D8%AD%D9%85-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%88%D8%A8%D8%B1%D8%B9-%D9%81%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%A7/

ما وراء سطور رواية (دابادا) حسن مطلك / جمعة عبد الله

 

قراءة ما وراء السطور في رواية (دابادا) حسن مطلك

جمعة عبد الله

أثارت هذه الرواية للشهيد (حسن مطلك) زوبعة وضجة عاصفة، في الوسط الثقافي والأدبي، وتخللتها ردود أفعال متنوعة، بالهزة العنيفة بأن ولادة هذه الرواية قلبت الموازين في العمل الروائي العراقي السائد، في تغييرات جوهرية في المتن الروائي عامة، في الأسلوبية البنائية والشكل المعماري، واعتُبِرت بأنها رواية جديدة غير تقليدية، في الخلق والإبداع، في التجديد والابتكار والتحديث، في الأدوات الروائية غير المسبوقة، واستخدامها نمط لغوي جديد، ينحى إلى الثنائية، لغة ظاهرية، ولغة باطنية وهي جوهر العمل الروائي، في أسلوبها الرمزي، الذي يأخذ منحى التمويه  المبطّن، والتشويش والغموض، وبعثرة  زبدة الحدث أو الحكاية بشكل مراوغ ذكي، في عملية تقطيعية هنا وهناك، بهدف  التملص  من مقص الرقيب، أو من غضب السلطة الماحق والظالم، الذي لا يرحم حتى الحجر، هذا الأسلوب الفطن والذكي، أنقذ روايته من الحجب، رغم  إلى الرقابة احتفظت بها لمدة عام  وبعدها اجازتها، بذريعة رواية غرائبية.، ولكنها في حقيقة الامر رواية فكرية سياسية وفلسفية واجتماعية، تتناول حقبة مظلمة من تاريخ العراق، مغلفة في حكايات سريالية غرائبية، ولكن مضمونها الاساسي، يتناول هذه الحقبة السريالية، التي خيمت على العراق بشفرات  رمزية مثل  (القرية) وتعني العراق، انها رواية تستفز الذهن، من خلال المضمون المخفي والمبطن في الرمزية، واعتبرت رواية (دابادا) نقلة نوعية في ميلاد الرواية العراقية الجديدة، في تجديد اساليبها التقليدية، وبعض النقاد وضعها في مصاف الروايات العالمية، أو بمستوى اهم انجازات الرواية العربية، في أسماء مؤلفيها، ذو شهرة واسعة وباع طويل في الانتاج الروائي. إنها رواية انتقادية بكل المواصفات بالرمز المشفر، في تعرية الأوضاع السائدة، التي تتجه نحو السريالية، في محاصرة الإنسان، ووضعه في قفص مغلق، مراقب على مدى 24 ساعة في اليوم، ويحصي حتى زفير تنفسه، بكل أشكال النخاسة الإرهابية والفكرية، إلى تخريب الإنسان من الداخل، إلى وضعه في محنة اخطبوطية، حتى يتجه إلى مشرحة الموت البطيء، إلى تدجين الضمير بالخراب العام، إنها محاولة صرخة في الفراغ، من اجل الحرية والانعتاق، صرخة ضد الظلام السريالي. وقد قال عنها الناقد جبرا إبراهيم جبرا، بأنها (رواية غير عادية، فهي جديدة، وكاتبها شاب جريء). وهذه القراءة النقدية، هي محاولة الكشف ما وراء السطور في المتن الروائي، المخفي في المضمون، انها محاولة فهم وفك  شفراتها الرمزية، وفهم جوهرها التعبيري، المغلفة بحكايات غرائبية ملغزة، في أشكال سريالية غرائبية، هي محاولة تجميع جزئيات المقطعة في الرمزية متناثرة هنا وهناك، والمخفية بأسلوب التمويه والتشويش، لذا فأنها محاولة إرجاع الشفرات الرمزية إلى أصلها الواقعي، إلى الواقعية الواقع، بأنها صدى وانعكاس له، انها وضع الأمور في نصابها، وفي  جوهر المتن الروائي، الذي استغرقت من جهد الروائي الشهيد حسن مطلك. خمسة أعوام، لكي تكتمل بهذا الشكل النهائي المقدم إلى القارئ، كما يقول اهرنبورغ (إن الفنان يعرض الشيء الذي يثيره وتقلقه، ويثير معاصريه، وإذا كان قادراً، على النظر إلى أعماق القلب الإنسان، وليس إلى غلافه الخارجي، فهو يخلق فناً يساعد الناس في معاناتهم)، لذا فأنها عملية اكتشاف الرمز المبطن، الذي يكمن وراء هذه الحكايات، وليس تتبع مسارها الزمني، وهي ثلاث أيام وأربعة ليالي، ولكنها في الحقيقة، تتناول حقبة زمنية من الأوضاع التي مرت على العراق لأكثر من عقدين من الزمان. 

1ــ الحكاية الأولى: اختفاء الأب (محمود) الغامض.

اختفى في البراري، بشكل غامض لمدة عشرين عاماً لا يعرف مصيره عند اهل القرية، بسبب أرنب مبقع أجبره على السير معه، هذه الأرانب المبقعة التي تفتك بأهالي القرية، حتى لا يجد لهم أثر بعد ذلك بالضياع الكامل، لقد قاده الأرنب مبقع إلى (أرض مليئة بالأرانب المبقعة) ص34.  زوجته (هاجر) فتشت عنه وطرقت كل الأبواب، لكن دون ان تحصل على نتيجة لمدة عشرون عاماً، من العذاب والمعاناة تركها وحيدة مع طفلها (شاهين) وكان عمره آنذاك سبعة أعوام، ولكن أخيراً أخبرتها العرافة (وزة) وكما قالت إلى ابنها (شاهين) وهو الآن في عمر سبعة وعشرين عاماً، تقول له (إن وزة أخبرتني عن أبيك، قالت انه يتنفس لحد الآن، غير انه لن يجيء الآن) ص34. إن رمزية الحدث أو الحكاية مكشوف، في التعبير والرمز في (الأرانب المبقعة) التي تملك السلطة الكاملة في تغييب المواطنين، في اختطافهم واعتقالهم وسجنهم في سراديب سرية، ألم يقصد الأجهزة الأمنية في هذه التسمية الغريبة والسريالية (الأرانب المبقعة) إنها أدوات السلطة، التي تراقب المواطنين وتحصي أنفاسهم.

2ــ الحكاية الثانية: رمزية الكلب شرار. 

عواد: رسام باحث عن الشهرة والأضواء والمال، يشغل نفسه طوال الوقت في رسم كلبه شرار، في رسمه في أوضاع مختلفة، في بوزات وأزياء متنوعة ومختلفة، يرتبط به بعلاقة بهيمية غريبة، حتى يصعد على قمة الأضواء والشهرة، ويقول عن الكلب شرار، بأنه هجين وغدار وشرس ومتهور، ويحب (أكل لحوم البط ولا يحب ثمر التين، رسمه، في أوضاع الجري والوثوب، واستبدل عينيه بزراريّ معطف مطري) ص 43. لا أعتقد من يبحث عن المال الأضواء والشهرة، وإبراز اسمه في العاصمة والإعلام، ويقضي في الانشغال المحموم، في رسم الكلب شرار. أعتقد انه من فصيلة أخرى تملك كل زمام الأمور. من فصيلة آدمية وضعه القدر على رقاب العراقيين، في سريالية غرائبية، في رسم صورته في كل مكان وزاوية، و(عواد) يشعر أن اسم شرار مرعب ومخيف يجلب الخوف والقلق على مصير حياته (وكلمة شرار، كإبرة طويلة إلى حنجرته، ويهمس لا يمكن احتماله) ص48. ويهمس بالاعتراف عن كنة وماهية الكلب شرار (كل ذلك بسبب شخص معين. بسبب مجموعة أخطاء، لمجموعة اشخاص يتكرر وجودهم، ويترسب في خط بركاني ليعزله عن بعضه، بسبب آخرين يشبهونه، لكن أحدهم لا يبالي ليلة سماع الصراخ، في أقصى القرية) ص 47. الرمز واضح والقرية تعني العراق، وليس بحاجة إلى توضيح أكثر، لأنها جزء من سريالية الواقع العراقي بغرابته.

3ــ الحكاية الثالثة: رمزية موت عبدالمجيد بسم الفئران.

عبدالمجيد مختار القرية أو رئيسها الفعلي، يموت بدس سم الفئران في طعامه من قبل (حلاب) ليكون المختار الجديد على القرية، وحلاب ذو شخصية متسلطة قاسية ومتجهمة بشراسة المرعبة والمخيفة (افسحوا الطريق لحلاب. جاء حلاب افسحوا الطريق. ابتعدوا...) ص 111. ويصبح البعبع المخيف في القرية، واسمه يجلب الرعب، بعد اغتصاب السلطة، وتغير الحال في القرية نحو الأسوأ بالتدهور الفظيع (أقول لكم: كان العالم طرياً في البدء، ولكنه هوى على رأس مثقب، بالأخص فوق فتحات الأسلحة) ص113. هذا (حلاب) يسجل كل شاردة وواردة في مسك السلطة، بواسطة رجاله الأشداء المتزمتين في الغطرسة، هذه اللعنة التي أصابت القرية، وهي جزء من اللعنات من المؤامرات المتواصلة، في مذابح الاخوة البشر على العراق (سبعة وعشرون عاماً من المؤامرات، لأجل هذه اللحظة الذكية ويسقط. طعم الجحيم النقيقيّ، في أسفل الهاوية والساعة الاخيرة من العيش والذهول والرعب والمؤامرة مرة اخرى، حيث المذابح الصفراء، التي نادراً ما تصل إلى درجة القتل - مذابح الاخوة البشر -) ص124. ملامح الرمزية مكشوفة، رغم انها متناثرة هنا وهناك بالتقطيع شأن كل الحكايات الرمزية في سرياليتها، ولكن عملية تجميع هذه القطع المتناثرة، تعطينا الصورة الواضحة، لبعدها الرمزي. وهي ترجمة حقيقية لصراع الدموي على السلطة، أو بالأصح اغتصاب السلطة بمؤامرات القتل، أو مؤامرات دس سم الفئران في الطعام أو في الشاي.

4ــ الحكاية الرابعة: رمزية حمار قندس.

حمار قندس، هو يرمز إلى الأداة التنفيذية السلطوية، التي هي في قبضة (حلاب) المختار الجديد، أو هو عنوان السلطة، ويحاول (شاهين) وهو بطل الرواية، أن يعلن عصيانه وتمرده على سلطة حلاب، الذي تسبب في اختفاء أباه (محمود) لمدة عشرين عاماً، ويكتشف سر اختفاء أباه محمود (يكشف مع نفسه مسؤولية حلاب في اختفاء محمود، لأنها بقيت بالسرية التامة) ص181. هذا (شاهين) الطفل اليتيم بعد اختفاء أباه لمدة عشرين عاماً، وعاش منعزلا ً وانطوائياً، غريباً عن الواقع، منزوياً في غرفته المظلمة مع أمه (هاجر) لقد فشل كلياً في التكيف والتأقلم مع الواقع والناس. ويعتبر نفسه غريباً عالة على أمه والناس، ويشعر بالكآبة والحزن (يحس انه حزين، ليس حزيناً بالضبط، وانما يريد ان يبكي، وهو يراقب صوت الفجر، المتسلل بين الاحطاب وقصب السقوف، والانطلاقة الأولى لعصافير العراق) ص173، ويتذمر من اخبار العالم المفجعة في نشرات الأخبار (زلازل. فيضانات. أخبار مجاعة السود. محدثات نزع السلاح النووي. عمليات الفدائيين العرب. جلسات مجلس الأمن. إرهاب عالمي. مخدرات. فضائع سياسية. تجسس. جرائم. خطف. حروب. انقلابات. اِنحلال. أسلحة جديدة ............ إلخ) ص174. ويتساءل (إلى متى هذه الظلمة. . . إنها عبارة عن محض صرخة في فراغ: دا - با ................. دا ............... بذلك كان الضحك، بعد محاولة الضحك دائماً. الضحك. الضحك. الضحك ........... إلى ما لا نهاية) ص170. جعلته يتوخى العلاقة مع الناس، لأنه يعتبرها خاوية وجافة ومصلحية (أخلاق الناس بنظري، مرة مشيت مع صديق، واحد في المائة يعطي الصداقة حقها .......... مصالح) ص164.. لذلك من أجل الانعتاق من هذا الوضع المظلم والسريالي، قرر أن يقتل الحمار قندس، ليوجه طعنة قاتلة إلى (حلاب). واخذ المدية سلاح القتل وهجم على الحمار قندس بالطعنات (طعنة.... طعنة. طعنة... ويهجم الالم لحظة رؤية الدم يغطي النمش) ص196. ويهرب وهو يرى يديه ملطخة بالدماء، فيركض إلى الشاطئ، لكنه بعد ذلك يقع في مفاجأة، بأنه لم يقتل الحمار قندس، وإنما الحمار بخير لم يقتل لأنه (استعملت المدية بشكل معكوس، لأني كفي ظل يؤلماني، والدم هو دمي أنا، لا دم الحمار) ص 210.

5ــ الحكاية الخامسة: رمزية اختفاء شاهين.

بعد المحاولة الفاشلة، يشعر بالانهيار وأن حياته انتهت بالخسارة والرعب، بأن حياته أصبحت على كف عفريت، ويختفي في ظروف غامضة عن الوجود، وتقلق أمه (هاجر) لهذا الغياب المخيف، المشابه لغياب أبيه (محمود)، ويصبها الرعب والخوف، وتفتش عنه في كل مكان وتسأل الناس (الرائحين والقادمين: هل رأيتم شاهين؟ هل رأيتم ولدي؟ فيميلون عنها، معتقدين أن عدوى جنون العائلة، قد تسرب إليها، فصارت تركض من تل إلى آخر، وتفتش الوديان والبيوت) ص193، لكن أخباره ضاعت واختفت، بالضبط مثل أخبار الروائي الشهيد حسن مطلك، ولكنه عرف فيما بعد، بأنه أُعدِم، بذريعة مشاركته في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد صدام حسين، وهو لم يبلغ عمره ثلاثين عاماً، في أوج عظمة إبداعه الأدبي، وخاصة، انه رسام وشاعر وروائي قدير. نسأل المولى القدير أن يتغمد الراحل برحمته الواسعة، واسكنه فسيح جناته. 

× رواية (دابادا) الروائي الشهيد حسن مطلك× إصدار: دار العربية للموسوعات الطبعة الأولى عام 1988/223 صفحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*جمعة عبد الله: ناقد وشاعر ومترجم عراقي jamah.abdala@gmail.com

*نشرت في (الناقد العراقي) وفي (كتابات في الميزان) بتاريخ 24/3/2017م

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/40490.php

https://www.kitabat.info/subject.php?id=91199

10‏/09‏/2020

شهادة عن حسن مطلك / فهد عنتر الدوخي

 

الجديد في ذاكرتي عن صاحب امتياز (دابادا) 

الراحل حسن مطلك..

    حسن مطلك 1975       

فهد عنتر الدوخي

الكثير ممن تناول سيرة الراحل حسن مطلك، الذي أحدث صرخة مدوية في فضاءات السرد على المستوى العربي، بروايته الشهيرة (دابادا) حتى ظلت أبواب التحليل والمكاشفة مشرعة إلى يومنا هذا، ومن خلال تجربتنا المتواضعة في هذا الشأن، فقد تسنى لي الاطلاع على الكثير ممن خاض غمار الكتابة عنها، والبعض نصب نفسه شاهدا على فصولها، وأقصد من الجيل الذي واكب غزارة الإنتاج القصصي في تلك الفترة، الذين اعتمدوا في دراساتهم على وسائل التواصل الصحافية والأدبية كالصحف والمجلات والإذاعات والقنوات التلفازية، كمصادر بحثية آنذاك، إذ لم يكن لديهم سبق المعرفة بهذه الشخصية الشرقاطية الآشورية، بعكس الذين جالوا معه وطافوا بظروف هذه البيئة، والذين تختزن صدورهم بذكريات خالدة ومواقف إنسانية متنوعة قريبة إليه، بحكم عوامل عديدة، أهمها المزاملة والصداقة وصلة القربى، ابتدأت، على الأقل، من رحلة الدراسة في إعدادية الشرقاط في العام1977 من القرن المرتحل وحتى رحيله مغدورا بتهمة التخطيط لإسقاط نظام الحكم في السنة المشؤومة 1990 التي غيرت مفاهيم الجغرافية والتاريخ لهذا البلد، لما شهده من أحداث وكوارث وخاصة بعد أحداث الكويت، والحصار الاقتصادي الذي جثم على خارطة الوطن لسنوات عديدة، وقد نسجت أول خيوط المعرفة به من خلال ابن عمه، صديقي وزميل الدراسة الأولية عبد سطم الروضان، وبيت عمه، الذين سكنوا مبكرا في قصبة الشرقاط، بعد أن غادروا قرية إسديرة وسطى، وفتحوا متجرا للمواد المنزلية في سوق الشرقاط القديم، وكان الراحل يسكن معهم لغرض الدراسة، إذ لم تتوفر مدرسة ثانوية في الساحل الأيسر من نهر دجلة أنداك، الأمر الذي جعل أغلب التلاميذ الذين ينهون الدراسة المتوسطة في القرى المحاذية للنهر، يواصلون رحلة الدراسة في ثانوية الشرقاط، ومن بينهم أيضا الراحل الروائي إبراهيم حسن ناصر، مؤلف رواية(شواطئ الدم شواطئ الملح) التي فازت في مسابقة وزارة الثقافة والإعلام العراقية في العام 1988 كأفضل رواية تجسد وقائع الحرب العراقية الإيرانية، وخاصة في معركة الفاو الخالدة.

حسن مطلك الذي عرفته، كان رساماً انطباعياً ماهراً حد الدهشة، وبحكم انتخابي رئيسا لمكتب سكرتارية الشرقاط، الاتحاد الوطني لطلبة العراق، الذي يشمل الرقعة الجغرافية الممتدة من قصبات وقرى حمام العليل والقيارة وحتى مشارف ناحية الزاب الأسفل جنوب شرق مدينة الشرقاط من الضفة اليسرى لنهر دجلة، فقد تطورت صلتي به، وأصبح صديقاً ماهراً في علاقاته مع زملائه، يواكب أنشطة الاتحاد الاجتماعية، الفنية منها، كالرسم والتمثيل. في هذه الفترة، برزت مواهب حسن مطلك الفنية، حتى كان له حضوراً مميزاً في معارض الرسم، في المناسبات الوطنية والاجتماعية، يزين ذلك كله، شخصية هادئة ومحبوبة، تجده متفائلاً، مبتسماً، خجولاً نوع ما، تبدو ملامح وجه الحنطي المشرق، وترتيب شعره وهندامه الأنيق.. وكأنه قادم من مدن لم تطئها شموس الجفاف والتصحر الذي اعتاد عليها سكان القرى والقصبات الريفية، وعندما نشحن ذاكرتنا البعيدة.. أذكر أن الهيئة الإدارية للاتحاد الوطني لطلبة العراق، أجرت مسابقة لتصميم شعار فني لمناسبة ما، وقد عممت شروط المسابقة إلى الجامعات والمعاهد والمدارس لمحافظة نينوى، فسارعت إلى زميلي الراحل حسن مطلك، ووضعت على طاولته هذ الأمر، وبعد بضعة أيام، جلب لي مشاركته في هذه المسابقة، بتصميم مبهر جداً، وفيه مواصفات الرسم الهندسي الحديث، وحتى استخدام الألوان، كان بأقلام غاية في الجودة، تضاهي أعمال كبار الفنانين في بغداد ونينوى آنذاك، ومن فرط إعجابي ودهشتي بهذه اللوحة، حزمت حقائبي وحملت اللوحة إلى مقر الهيئة الإدارية للاتحاد، الكائن في شارع الدواسة الفخم، إذ استقبلني الزميل العزيز مؤيد عيدان كاطع اللهيبي، رئيس الهيئة الإدارية للاتحاد، والذي كان يدرس في كلية التربية، جامعة الموصل قسم التاريخ، إذ نال بعدها شهادة الدكتوراه بهذا الاختصاص، وأصبح استاذاً وعميداً للكلية التي تخرج منها... أبدى ذهوله عندما رآني بحالة انشغال، وحضوري في وقت متأخر من نهار نيساني، ودون دعوة منه للقدوم إلى مدينة الموصل، ولما عرضت التصميم عليه، صُعِق من مهارة هذا الفنان، وأصابته الدهشة والفخر في آن معا، بقدرة وموهبة طالب إعدادية من قرية ريفية اسمها (إسديرة وسطى) التابعة لقضاء الشرقاط، وهو يدرك أن هذه الموهبة كان مبعثها حضارة مدينة آشور التي تجاوز عمرها الثلاثة آلاف سنة، وسرعان ما اتصل بالهاتف الأرضي، بمدير مطبعة جامعة الموصل، التي كانت رائدة في نشر رسائل الماجستير وأطروحات طلبة الدكتوراه، والبحوث العلمية للأساتيذ، وطبع الكتب المنهجية، وهي دار نشر وتوزيع لمعظم النتاجات الأدبية والإنسانية والعلمية، والتصاميم الهندسية والجغرافية... وبعد مداولة هاتفية ونقاش ساخن مع مدير المطبعة، أبدى الأخير أسفه لانتهاء المدة المقررة لاستقبال المشاركات، لأن النتائج حُسمت واختيرت النماذج الفائزة، وهي قيد الطبع والإنجاز، الأمر الذي جعل الزميل مؤيد في حالة امتعاض وأسف شديدين لما آل اليه حالنا، وفي ضوء ذلك، تم تأطير (البوستر) اللوحة، وتعليقها في واجهة مقر فرع الاتحاد، ومكافأة قدرها عشرة دنانير للزميل حسن، الذي تبرع بها هو الآخر لنشاط اللجنة الفنية في اللجنة الاتحادية لثانوية الشرقاط، والغريب في الأمر، أن الزميل الراحل حسن مطلك لم يعر اهتماماً للموضوع، وقابل فشلي بابتسامة هادئة كروحه..

وفي واحدة من نشاطاتنا الطلابية، فوجئنا بزعل عريف الحفل في وقت حرج، لإقامة أمسية كان يحضرها قائمقام القضاء وبعض المسؤولين وضيوف آخرين، حتى عالج حسن مطلك المشكلة، وقف على خشبة المسرح، وكان بارعاً في تقديم الأمسية، وخرجنا بصدور يزينها الانشراح... مع كل ما أسلفنا، لم نعلم ولم نكتشف ميوله الأدبية وعنايته الفائقة في السرد، والتي ظهرت فيما بعد تخرجنا من الإعدادية، هو قُبِل في كلية التربية جامعة الموصل، وأنا قُبلت في كلية الإدارة والاقتصاد، الجامعة المستنصرية، وفي خضم هذا الوقت، أخبرت أخي الكبير سامي عنتر الدوخي، الذي كان يدرس في قسم الكيمياء، كلية التربية، جامعة الموصل، ويعمل في المكتب الطلابي الحزبي للجامعة، أعلمته بمواهب زميلي حسن مطلك، وسرعان ما احتضنه ليملأ باحات الجامعة بتصاميم وبوسترات، وقد طُبعت بتقنية عالية، بنفس المطبعة التي كان يخامر إحساسنا وصولها كهدف عظيم، تتوج برسوماً خالدة يشهد لها التاريخ... ورغم ضعف التواصل بيننا خلال بداية ثمانينيات القرن الفارط، بسبب الدراسة حتى تناقلت وسائل الإعلام فوز القصة القصيرة في مسابقة وزارة الثقافة والاعلام العراقية، قصة (عرانيس) للقاص حسن مطلك، ونشرتها مجلة (ألف باء) الناطقة بلسان الوزارة، والتي نالت عناية النقاد والكتاب الكبار، لغرابة الحدث وجمال اللغة والتقنية القصصية التي كتبت بها، علاوة على واقعيتها، وهي تلبي متطلبات مرحلة حرجة من حياة العراق، وعندما تصفحت أحداث هذه القصة، وطريقة كتابتها والأسلوب المبتكر الذي وثقه فيها، أدركت أنني لم أكتشف مخزوناً إضافياً من الإبداع والمواهب الجديدة لزميلي، الذي عايشته وزاملته لأعوام عديدة.. أما رواية (دابادا)، التي قال لي عنها(أنها سوالف أهلنا، وتعاليلهم وضحكاتهم وهرج مجالسهم.. وهي دابادااااااا.. إلخ)، وذكر لي أن أحد الكتاب المصريين الكبار، والمشهود له بالعمل الروائي، نصحه أن لا يقدمها للنشر، لأنها ستكون مغامرة خطرة، و(أخشى عليك من الفشل والإحباط)...

وكانت لي آخر زيارة له في العام 1989، في قرية إسديرة، تناولنا طعام الغداء في منزله، وكان الأخ الروائي الدكتور محسن الرملي، الأخ الأصغر له، الذي كان يدرس في كلية الآداب جامعة بغداد، قسم اللغة الإسبانية حاضراً، يستمع إلى أحاديثنا عن الرواية وظروف كتابتها والنجاح الباهر التي حققته.. وكان رحمه الله، مسرورا بهالة المجد التي صنعته هذه الرواية….

 

*نبذة عن السيرة الذاتية، من موسوعة ويكيبيديا:

حسن مُطلك (1961 ـ 1990) كاتب ورسام وشاعر عراقي. ويعد واحداً من أهم الأصوات الأدبية الحداثية التي برزت في العراق في ثمانينيات القرن العشرين. ولد سنة 1961 في قرية سُديرة التابعة لمدينة الشرقاط في شمال العراق. أنهى دراسته الجامعية سنة 1983 حاصلاً على شهادة البكالوريوس في التربية وعلم النفس من كلية التربية في جامعة الموصل. أقام عدة معارض للفن التشكيلي وأصدر مع مجموعة من أصدقائه في الجامعة مجلة (المُربي) نشر فيها مقالتين إحداهما عن الفن التشكيلي والأخرى قراءة لرواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال). وبعد أدائه للخدمة العسكرية الإلزامية عمل أستاذاً في معهد المعلمين في كركوك ومديراً لعدة مدارس إعدادية. تزوج وله ابنتين هما: مـروة وسـارة. حاز على الجائزة الأولى لقصة الحرب سنة 1983 عن قصته (عرانيس) والجائزة التقديرية سنة 1988 عن قصته (بطل في المحاق). ثم نشر روايته (دابادا) التي تعتبر قمة أعماله الأدبية. أُعدم شنقاً بتاريخ 18/7/1990 الساعة السابعة مساءً، لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم. حيث راح يصفه بعض المثقفين إثر ذلك بأنه (لوركا العراقي). خصصت مجلة ألواح ALWAH الصادرة في إسبانيا عددها 11/2001 عنه بالكامل، 300صفحة. كما خصصت عنه ملفات في صحيفتي (المدى) و(الزمان) العراقيتين. وكتبت الكثير من الشهادات عنه والدراسات عن أعماله، من بينها رسالة دكتوراه أنجزها عبدالرحمن محمد الجبوري في جامعة الموصل بعنوان (الخطاب الروائي عند حسن مطلك.. دراسة تأويلية). وحسن مطلك هو شقيق الكاتب العراقي محسن الرملي.

---------------------

*فهد عنتر الدوخي: كاتب عراقي، من أعماله: (انتهاء المواسم)، (آدم لا يشبه جده)، (المرأة الجدار) و(للضوء وجه آخر).

*نشرت في مجلة (صدى الريف) العدد الثامن، كانون الأول، سنة 2019م

*وفي (الناقد العراقي) بتاريخ 6/12/2019

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/70566.php







08‏/09‏/2020

إهداء إلى حسن مطلك / قصة: عبد حمد

 

قصة قصيرة

سقوط نيزك

.. مهداة إلى حسن مطلك 

عبد حمد

في إحدى ليالي الشتاء الباردة المليئة بالثلج والضباب، وعلى ضفاف نهر دجله في قرية مليئة بالسدر عند حافة الوادي... فتح الصغير عينيه، وقد ولد توا على يد إحدى عجائز الشرق... عمائم... هلاهل... يلف بصره خمول داكن... لم يستطع تمييز الأشياء... امتد بصره نحو الحقول الخضراء المحشوة بالبطيخ والزغبيب... علقت في رقبته خيط أخضر تتدلى منه رضاعة مطاطية... وبشّرت والده، بان سيكون له شأناً بين أقرانه، على الرغم من أنه ابن سبعة أشهر.. إلا أن أوراقه مليئة بالسواد.

قال الوالد: كيف عرفتِ ذلك؟ قالت صاحبة العمامة السوداء: أما ترى يا بني وجهه الندي الوضاء وجبينه الناصع البياض! رأيته أمس، في المنام، يحمل أوراقا وأسميته (حسن). يحاول أن يزيد من حدة بصره... مسامير على الحائط الطيني، مشنوقة عليها سبعة عشر ملعقة... ثقوب في السقف، باضت وفقست فيها العصافير، وطيور السنونو تتدلى من على عامود يتوسط الغرفة ذات السقف الأحدب... خوف من العالم... حزن على الراحة والاطمئنان اللذان غادرهما قبل قليل... شعر بالحاجة إلى البكاء، فبكى... شعر بالحاجة الى الحليب، فرضع... قالت العجوز لأمه: سيبكي وستبكين... قالت أمه:(اذكري اسم الله).. هذه مجرد أحلام، ربما أكلتِ البارحة بصلاً قبل نومك.

وجد الوليد نفسه.. يتأمل حبل الغسيل المشدود على السواري في فناء البيت... واستسلم لنوم عميق، على إيقاع صرير الحبال وزقزقة العصافير وخرخشة الفئران ومستقبل مجهول... لقد لُفَّ في خرقة بيضاء وتم تحكيمها بحبل من القماش.. حتى أقصى قدميه... استسلم لضغط الحبل.. لأنه يذكره بضيق مكانه الأول.. ولم يحاول إخراج يديه من اللفافة... غادرت العجوز المكان..  وكأنها تودعه إلى الأبد....... سقط النيزك.. وتدلى مشنوقاً بحبل الغسيل... وكثر الضجيج في بيوت القرية وأزقتها.. وتبخر الهدوء من صدر الجبل وسفح الوادي وشوكة البحر التي تحك أوراقها على قارعة الطريق.

----------------------

*عبد حمد علي: كاتب من أبناء قرية (سدير) قرية حسن مطلك

25‏/07‏/2020

شعراء عراقيون شهداء / ميزار كمال




شعراء عراقيون ارتقت بهم قصائدهم الى الشهادة 


ميزار كمال

كان العراق في أوج انفتاحه على العالم الحديث في السبعينيات من القرن الماضي، أدبًا وفنًا وسياسة. لكن هذا لم يدم طويلًا، فحين هيمن حزب البعث على السلطة بدأ يُضيِّق دائرة الانفتاح حتى أغلقها تمامًا؛ وتمثَّل ذلك بحظر الأحزاب المعارضة، وملاحقة المنتسبين لها. ونال شعراء العراق المعارضون نصيبًا كبيرًا من القمع، فمن لم يستطع الهرب أو السكوت، كان مصيره في قصر النهاية أو الشعبة الخامسة، مشنوقًا، أو ذائبًا في أحواض “حامض النتريك (HNO3)”. هذا المقال يتناول ترجمة خمسة شعراء عراقيين أعدمتهم سلطة البعث، وهم يمثلون النبرة العالية لصوت الشعر العراقي الرافض للديكتاتورية.
-----------------------------------------------------------
*الشاعر رياض البكري
(مَن يمدُّ الآنَ كفّيه لكي نحارب؟)
يُعرّفه جيل السبعينيات بأنّه لوركا العراق، إذ كان من أبرز شعراء البلد في تلك الفترة. أبوه كمال البكري كان يساريًّا وموظفًا في السكك الحديد، وكان مطاردًا من السلطات في العهد الملكي وكذلك من سلطة الجمهورية الثانية بعد انقلاب عام 1963 بسبب نشاطه السياسي المعارض. سُجن مرات عدة، وخسر وظيفته من جرّاء ذلك، لكنّ الابن الذي سار على خطى أبيه، خسر حياته، وضاع شعره في الصحف العراقية والعربية موقعًا بالأسماء المستعارة خوفًا من عيون السلطة.
ولد رياض البكري في مدينة بابل عام 1950، لكنّه لم يلبث بها إلا قليلًا، مثلما لم يلبث في أية مدينة يهرب إليها والده متخفيًا من رجال الأمن. ترك رياض البكري الدراسة لمّا أكمل الإعدادية، عمل في مطبعة بالعاصمة بغداد، واعتقل عام 1971 بعد مشاركته في مظاهرات عمّالية يسارية مناهضة لحزب البعث، وظل مسجونًا في قصر النهاية لمدة 18 شهرًا خرج بعدها بكفالة مالية. أسس مع الشاعر محمد علي الخفاجي (جماعة النشء المعاصر) ونشر قصائده في صحف عراقية وعربية . ترك العراق وغادر إلى لبنان لينضم إلى المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا إلى «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، وكان يُعرف باسم (أبو نضال).  ظل رياض البكري يتردد سرًّا على العراق بين عامي 1976 و1977 متنكرًا بأسماء مستعارة، ومستخدمًا جوازات سفر مزورة، حتى ألقي القبض عليه أخيرًا في بغداد نهاية عام 1977، ونُفذ به حكم الإعدام شنقًا 1978 .
مقطع من قصيدة للشاعر نُشرت تحت اسم «روشن» في مجلة “إلى الأمام”:
من يمد الآن كفيه لكي نحارب
من ينزع الجلد الفلسطيني والمصري والسوري كي نحارب
من ينزع الجلد الطوائفي في لبنان كي نحارب
من يخرج السودان من زنزانة التعذيب كي نحارب
من يفتح الطريق للخليج.. إنَّه الخليج.. إنَّه الخليج
واهب المحار واللؤلؤ والردى
أصرخ بالخليج: يا خليج.. يا خليج.. يا خليج
مد لي يدا
 ------------------------------------
*الشاعر خليل المعاضيدي
(هنا موسم للكآبة والوحل)..
خليل المعاضيدي من مواليد مدينة بعقوبة عام 1946، تلقى تعليمه الأولي في مدارسها، ثمَّ درَس الأدب الإنجليزي في جامعة بغداد، وعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في مدارس محافظة ديالى من عام 1970 حتى عام 1978 حين فُصل من الوظيفة، وعمل دهّانًا في صباغة الدور والمباني. شكلت قصيدته “هلّا قرأتَ البيان الشيوعي؟” نقلةً نوعيةً في معارضته للسلطة، وتأثيرها يأتي في قراءتها مطلع السبعينيات أمام جمهور كبير في حدائق نقابة المعلمين بمدينة بعقوبة.
ظلَّ خليل المعاضيدي ملاحقًا من قبل السلطة، وتحكي شقيقته أنَّ رجال الأمن اختطفوه في إحدى المرات ورموا أمامه قطعةً من اللحم في حوضٍ مليء بـ«حمض النتريك (HNO3)» وهددوه بإذابة جسده مثل تلك القطعة إن ظلَّ يمارس نشاطاته المعارضة للدولة. لم ينجح خليل المعاضيدي بالتخفي كثيرًا، ففي عام 1981 ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية، اعتقل وظل مصيره مجهولًا حتى عام 1984، حين أبلغت السلطة عائلته بنبأ إعدامه، ورفضت الدولة تسليم جثَّته ومنعت أهله من إقامة مراسم العزاء.
من شعره:
في الطريق إلى الحب
أوقفني الجلنار وبعض من العوسج الفظ
أعطيته لحظةً من جبيني ثمَّ نمتُ على طلقةٍ في الظنون
في الطريق إلى الحرب
دوَّخني الجبناء الكثيرون
دارت بقربي المعارك
وانطفأتْ طلقةٌ في الظنون
 --------------------------------------
*الشاعر والروائي حسن مطلك
(قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعًا)
كان شاعرًا ورسامًا وروائيًّا ونحاتًا، وكان ثائرًا أيضًا. ولد حسن مطلك عام 1961 في قرية سديرة التابعة لقضاء الشرقاط في شمال العراق، بدأ ولعه بالرسم مبكرًا، لكنَّ أباه الذي كان رجلًا متدينًا كان يمزق لوحاته لأنَّه يعتقد أن الرسم حرام، ومن أجل هذا لم يحقق رغبته في دراسة الفنون الجميلة، واختار التخصص عوضًا عن ذلك في التربية وعلم النفس، في جامعة الموصل التي تخرج فيها عام 1983. أنهى روايته الأولى (دابادا) عام 1988، وأصدر مع مجموعة من أصدقائه مجلة «المُربّي»، ونشر فيها مقالتين إحداهما عن الفن التشكيلي، والأخرى قراءة لرواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال». حاز على جائزة الدولة التقديرية سنة 1988 عن قصته (بطل في المحاق). وفي عام 1990، شارك حسن مطلك في محاولة لقلب نظام الحكم مع مجموعة من الضباط، اعتقل على إثرها ونُقل إلى سجن الشعبة الخامسة بمديرية الأمن العامة، وأصدرت بحقه “محكمة الثورة” حكمًا بالإعدام، وأُعدم شنقًا في العام نفسه.
من شعره:
كن سعيدًا مرة واحدة وانتحر
مرةً واحدةً فقط
مرةً واحدة
أقول لك -وهذا اكتشافي-
إنَّني الناجي الوحيد على جبل الطوفان
وأقول إنَّني آخر من وجد السعادة
وعزفَ في ثقوبها
لن أسمع صرختك وأنت تقول لي: هي كذبة
---------------------------------------
*الشاعر مناضل نعمة
(وحدي.. يسكنني ضدي)
حياةٌ قصيرة، لكنَّها حافلة بالمضايقات والاعتقالات والموت، هكذا يمكن تلخيص حياة الشاعر مناضل نعمة الجزائري الذي سقط في هاوية الموت وهو لم يزل في الرابعة والعشرين من عمره. ولد مناضل نعمة هاشم الجزائري في البصرة عام 1960. وهو من عائلة ثورية كانت تسكن في بداية منطقة (الجمعيات) التي كانت تسمى أيضاً بحي المعلمين. عمل فترة كاتباً في مصلحة التمور في البصرة. أكمل دراسته الثانوية (الفرع الأدبي) عام 1980 - 1981. كتب أثناء دراسته الثانوية قصائد عديدة رافضة ومشاكسة تعرض بسببها إلى المضايقات والاعتقال والضرب من قِبَل عناصر في الأمن الطلابي. أُجبر على الالتحاق بالجيش أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، وكانت وحدته العسكرية في المنطقة الشمالية. فحاول اجتياز الحدود، ولكن ألقي عليه القبض هو وشقيقه الأصغر (باسم) في تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، بتهمة محاولة اجتياز الحدود العراقية-التركية. فحكم على الشقيقين بالإعدام شنقاً. وفي شهادة الوفاة الرسمية التي حصلتْ عليها العائلة بعد سقوط النظام، ثُبِّت تاريخُ الوفاة في 17 نيسان 1984.
من شعره:
أتعرفها ...؟
انها جثةٌ باردة
أتعرفها ...؟
بلى
انها جثتي
ومن موضع حزني عواء يسيل
إذن أنت قاتل
إعترف
لن أبايعكم أبداً
-- 
إعترف
لن أبايعكم أبداً
وانحداراتكم دائماً
دائماً فاسدة
 ------------------------------------
*الشاعر خالد الأمين
(هنيئة الرقبة التي تحمل رأس البلاد)
أُعدم الشاعر خالد الأمين في سجن قصر النهاية ببغداد عام 1972، وتُرجِّح الروايات أنَّه أُلقي في حوض من «حامض النتريك (HNO3)»، وهذه الطريقة في الإعدامات كانت شائعة حينذاك عندما كان ناظم كزار مديرًا للأمن العامة. ولد خالد الأمين لعائلة كردية في مدينة الناصرية عام 1945، وكان أبوه من أثرياء المدينة القلائل، وقد أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس الناصرية، ثمَّ نال شهادة البكالوريوس بالاقتصاد من جامعة بغداد عام 1967. انتمى خالد الأمين إلى «الحزب الشيوعي العراقي»، وكان محظورًا حينها بعد سيطرة «حزب البعث» على السلطة. وعن هذا يقول الكاتب حسين الهنداوي الذي كان رفيقًا لخالد الأمين في تلك الفترة: (لا أذكر أننا تحدثنا بمفردات الأيديولوجيا اليابسة أو بالشعارات. وضع تنظيمنا الطلابي ورفده بالأعضاء الجدد كان موضوعنا الأساسي في لقاءاتنا السرية العديدة. تأثر خالد الأمين بالشعر الفرنسي، وقرأ رامبو وبودلير ومالارميه وسان جون بيرس واراغون، كما كتب مقدمات لقصائد فرنسية مختارة ترجمها الكاتب أحمد الباقري في كتاب حمل عنوان «رصيف سوق الأزهار». لا تتوفر للشاعر خالد الأمين سوى ثلاث قصائد هي “القلب البديع”، و”منفضة الأصابع المحشوة بالأصوات”، و”الغرف”.
من شعره:
وددت لو أثقب غرفتي
لأسيل نحو الشجر، حزينًا، وبغبرة خفيفة
لأني أعلم اليوم
ليس ثمة بلل في هذه الساقية
بل ولا حتى نافذة تشرق منها زهرة الليل
---------------------------------
*نشرت في صحيفة (طريق الشعب)، العدد 179 بتاريخ 21/7/2020م بغداد.