06‏/12‏/2020

ما وراء سطور رواية (دابادا) حسن مطلك / جمعة عبد الله

 

قراءة ما وراء السطور في رواية (دابادا) حسن مطلك

جمعة عبد الله

أثارت هذه الرواية للشهيد (حسن مطلك) زوبعة وضجة عاصفة، في الوسط الثقافي والأدبي، وتخللتها ردود أفعال متنوعة، بالهزة العنيفة بأن ولادة هذه الرواية قلبت الموازين في العمل الروائي العراقي السائد، في تغييرات جوهرية في المتن الروائي عامة، في الأسلوبية البنائية والشكل المعماري، واعتُبِرت بأنها رواية جديدة غير تقليدية، في الخلق والإبداع، في التجديد والابتكار والتحديث، في الأدوات الروائية غير المسبوقة، واستخدامها نمط لغوي جديد، ينحى إلى الثنائية، لغة ظاهرية، ولغة باطنية وهي جوهر العمل الروائي، في أسلوبها الرمزي، الذي يأخذ منحى التمويه  المبطّن، والتشويش والغموض، وبعثرة  زبدة الحدث أو الحكاية بشكل مراوغ ذكي، في عملية تقطيعية هنا وهناك، بهدف  التملص  من مقص الرقيب، أو من غضب السلطة الماحق والظالم، الذي لا يرحم حتى الحجر، هذا الأسلوب الفطن والذكي، أنقذ روايته من الحجب، رغم  إلى الرقابة احتفظت بها لمدة عام  وبعدها اجازتها، بذريعة رواية غرائبية.، ولكنها في حقيقة الامر رواية فكرية سياسية وفلسفية واجتماعية، تتناول حقبة مظلمة من تاريخ العراق، مغلفة في حكايات سريالية غرائبية، ولكن مضمونها الاساسي، يتناول هذه الحقبة السريالية، التي خيمت على العراق بشفرات  رمزية مثل  (القرية) وتعني العراق، انها رواية تستفز الذهن، من خلال المضمون المخفي والمبطن في الرمزية، واعتبرت رواية (دابادا) نقلة نوعية في ميلاد الرواية العراقية الجديدة، في تجديد اساليبها التقليدية، وبعض النقاد وضعها في مصاف الروايات العالمية، أو بمستوى اهم انجازات الرواية العربية، في أسماء مؤلفيها، ذو شهرة واسعة وباع طويل في الانتاج الروائي. إنها رواية انتقادية بكل المواصفات بالرمز المشفر، في تعرية الأوضاع السائدة، التي تتجه نحو السريالية، في محاصرة الإنسان، ووضعه في قفص مغلق، مراقب على مدى 24 ساعة في اليوم، ويحصي حتى زفير تنفسه، بكل أشكال النخاسة الإرهابية والفكرية، إلى تخريب الإنسان من الداخل، إلى وضعه في محنة اخطبوطية، حتى يتجه إلى مشرحة الموت البطيء، إلى تدجين الضمير بالخراب العام، إنها محاولة صرخة في الفراغ، من اجل الحرية والانعتاق، صرخة ضد الظلام السريالي. وقد قال عنها الناقد جبرا إبراهيم جبرا، بأنها (رواية غير عادية، فهي جديدة، وكاتبها شاب جريء). وهذه القراءة النقدية، هي محاولة الكشف ما وراء السطور في المتن الروائي، المخفي في المضمون، انها محاولة فهم وفك  شفراتها الرمزية، وفهم جوهرها التعبيري، المغلفة بحكايات غرائبية ملغزة، في أشكال سريالية غرائبية، هي محاولة تجميع جزئيات المقطعة في الرمزية متناثرة هنا وهناك، والمخفية بأسلوب التمويه والتشويش، لذا فأنها محاولة إرجاع الشفرات الرمزية إلى أصلها الواقعي، إلى الواقعية الواقع، بأنها صدى وانعكاس له، انها وضع الأمور في نصابها، وفي  جوهر المتن الروائي، الذي استغرقت من جهد الروائي الشهيد حسن مطلك. خمسة أعوام، لكي تكتمل بهذا الشكل النهائي المقدم إلى القارئ، كما يقول اهرنبورغ (إن الفنان يعرض الشيء الذي يثيره وتقلقه، ويثير معاصريه، وإذا كان قادراً، على النظر إلى أعماق القلب الإنسان، وليس إلى غلافه الخارجي، فهو يخلق فناً يساعد الناس في معاناتهم)، لذا فأنها عملية اكتشاف الرمز المبطن، الذي يكمن وراء هذه الحكايات، وليس تتبع مسارها الزمني، وهي ثلاث أيام وأربعة ليالي، ولكنها في الحقيقة، تتناول حقبة زمنية من الأوضاع التي مرت على العراق لأكثر من عقدين من الزمان. 

1ــ الحكاية الأولى: اختفاء الأب (محمود) الغامض.

اختفى في البراري، بشكل غامض لمدة عشرين عاماً لا يعرف مصيره عند اهل القرية، بسبب أرنب مبقع أجبره على السير معه، هذه الأرانب المبقعة التي تفتك بأهالي القرية، حتى لا يجد لهم أثر بعد ذلك بالضياع الكامل، لقد قاده الأرنب مبقع إلى (أرض مليئة بالأرانب المبقعة) ص34.  زوجته (هاجر) فتشت عنه وطرقت كل الأبواب، لكن دون ان تحصل على نتيجة لمدة عشرون عاماً، من العذاب والمعاناة تركها وحيدة مع طفلها (شاهين) وكان عمره آنذاك سبعة أعوام، ولكن أخيراً أخبرتها العرافة (وزة) وكما قالت إلى ابنها (شاهين) وهو الآن في عمر سبعة وعشرين عاماً، تقول له (إن وزة أخبرتني عن أبيك، قالت انه يتنفس لحد الآن، غير انه لن يجيء الآن) ص34. إن رمزية الحدث أو الحكاية مكشوف، في التعبير والرمز في (الأرانب المبقعة) التي تملك السلطة الكاملة في تغييب المواطنين، في اختطافهم واعتقالهم وسجنهم في سراديب سرية، ألم يقصد الأجهزة الأمنية في هذه التسمية الغريبة والسريالية (الأرانب المبقعة) إنها أدوات السلطة، التي تراقب المواطنين وتحصي أنفاسهم.

2ــ الحكاية الثانية: رمزية الكلب شرار. 

عواد: رسام باحث عن الشهرة والأضواء والمال، يشغل نفسه طوال الوقت في رسم كلبه شرار، في رسمه في أوضاع مختلفة، في بوزات وأزياء متنوعة ومختلفة، يرتبط به بعلاقة بهيمية غريبة، حتى يصعد على قمة الأضواء والشهرة، ويقول عن الكلب شرار، بأنه هجين وغدار وشرس ومتهور، ويحب (أكل لحوم البط ولا يحب ثمر التين، رسمه، في أوضاع الجري والوثوب، واستبدل عينيه بزراريّ معطف مطري) ص 43. لا أعتقد من يبحث عن المال الأضواء والشهرة، وإبراز اسمه في العاصمة والإعلام، ويقضي في الانشغال المحموم، في رسم الكلب شرار. أعتقد انه من فصيلة أخرى تملك كل زمام الأمور. من فصيلة آدمية وضعه القدر على رقاب العراقيين، في سريالية غرائبية، في رسم صورته في كل مكان وزاوية، و(عواد) يشعر أن اسم شرار مرعب ومخيف يجلب الخوف والقلق على مصير حياته (وكلمة شرار، كإبرة طويلة إلى حنجرته، ويهمس لا يمكن احتماله) ص48. ويهمس بالاعتراف عن كنة وماهية الكلب شرار (كل ذلك بسبب شخص معين. بسبب مجموعة أخطاء، لمجموعة اشخاص يتكرر وجودهم، ويترسب في خط بركاني ليعزله عن بعضه، بسبب آخرين يشبهونه، لكن أحدهم لا يبالي ليلة سماع الصراخ، في أقصى القرية) ص 47. الرمز واضح والقرية تعني العراق، وليس بحاجة إلى توضيح أكثر، لأنها جزء من سريالية الواقع العراقي بغرابته.

3ــ الحكاية الثالثة: رمزية موت عبدالمجيد بسم الفئران.

عبدالمجيد مختار القرية أو رئيسها الفعلي، يموت بدس سم الفئران في طعامه من قبل (حلاب) ليكون المختار الجديد على القرية، وحلاب ذو شخصية متسلطة قاسية ومتجهمة بشراسة المرعبة والمخيفة (افسحوا الطريق لحلاب. جاء حلاب افسحوا الطريق. ابتعدوا...) ص 111. ويصبح البعبع المخيف في القرية، واسمه يجلب الرعب، بعد اغتصاب السلطة، وتغير الحال في القرية نحو الأسوأ بالتدهور الفظيع (أقول لكم: كان العالم طرياً في البدء، ولكنه هوى على رأس مثقب، بالأخص فوق فتحات الأسلحة) ص113. هذا (حلاب) يسجل كل شاردة وواردة في مسك السلطة، بواسطة رجاله الأشداء المتزمتين في الغطرسة، هذه اللعنة التي أصابت القرية، وهي جزء من اللعنات من المؤامرات المتواصلة، في مذابح الاخوة البشر على العراق (سبعة وعشرون عاماً من المؤامرات، لأجل هذه اللحظة الذكية ويسقط. طعم الجحيم النقيقيّ، في أسفل الهاوية والساعة الاخيرة من العيش والذهول والرعب والمؤامرة مرة اخرى، حيث المذابح الصفراء، التي نادراً ما تصل إلى درجة القتل - مذابح الاخوة البشر -) ص124. ملامح الرمزية مكشوفة، رغم انها متناثرة هنا وهناك بالتقطيع شأن كل الحكايات الرمزية في سرياليتها، ولكن عملية تجميع هذه القطع المتناثرة، تعطينا الصورة الواضحة، لبعدها الرمزي. وهي ترجمة حقيقية لصراع الدموي على السلطة، أو بالأصح اغتصاب السلطة بمؤامرات القتل، أو مؤامرات دس سم الفئران في الطعام أو في الشاي.

4ــ الحكاية الرابعة: رمزية حمار قندس.

حمار قندس، هو يرمز إلى الأداة التنفيذية السلطوية، التي هي في قبضة (حلاب) المختار الجديد، أو هو عنوان السلطة، ويحاول (شاهين) وهو بطل الرواية، أن يعلن عصيانه وتمرده على سلطة حلاب، الذي تسبب في اختفاء أباه (محمود) لمدة عشرين عاماً، ويكتشف سر اختفاء أباه محمود (يكشف مع نفسه مسؤولية حلاب في اختفاء محمود، لأنها بقيت بالسرية التامة) ص181. هذا (شاهين) الطفل اليتيم بعد اختفاء أباه لمدة عشرين عاماً، وعاش منعزلا ً وانطوائياً، غريباً عن الواقع، منزوياً في غرفته المظلمة مع أمه (هاجر) لقد فشل كلياً في التكيف والتأقلم مع الواقع والناس. ويعتبر نفسه غريباً عالة على أمه والناس، ويشعر بالكآبة والحزن (يحس انه حزين، ليس حزيناً بالضبط، وانما يريد ان يبكي، وهو يراقب صوت الفجر، المتسلل بين الاحطاب وقصب السقوف، والانطلاقة الأولى لعصافير العراق) ص173، ويتذمر من اخبار العالم المفجعة في نشرات الأخبار (زلازل. فيضانات. أخبار مجاعة السود. محدثات نزع السلاح النووي. عمليات الفدائيين العرب. جلسات مجلس الأمن. إرهاب عالمي. مخدرات. فضائع سياسية. تجسس. جرائم. خطف. حروب. انقلابات. اِنحلال. أسلحة جديدة ............ إلخ) ص174. ويتساءل (إلى متى هذه الظلمة. . . إنها عبارة عن محض صرخة في فراغ: دا - با ................. دا ............... بذلك كان الضحك، بعد محاولة الضحك دائماً. الضحك. الضحك. الضحك ........... إلى ما لا نهاية) ص170. جعلته يتوخى العلاقة مع الناس، لأنه يعتبرها خاوية وجافة ومصلحية (أخلاق الناس بنظري، مرة مشيت مع صديق، واحد في المائة يعطي الصداقة حقها .......... مصالح) ص164.. لذلك من أجل الانعتاق من هذا الوضع المظلم والسريالي، قرر أن يقتل الحمار قندس، ليوجه طعنة قاتلة إلى (حلاب). واخذ المدية سلاح القتل وهجم على الحمار قندس بالطعنات (طعنة.... طعنة. طعنة... ويهجم الالم لحظة رؤية الدم يغطي النمش) ص196. ويهرب وهو يرى يديه ملطخة بالدماء، فيركض إلى الشاطئ، لكنه بعد ذلك يقع في مفاجأة، بأنه لم يقتل الحمار قندس، وإنما الحمار بخير لم يقتل لأنه (استعملت المدية بشكل معكوس، لأني كفي ظل يؤلماني، والدم هو دمي أنا، لا دم الحمار) ص 210.

5ــ الحكاية الخامسة: رمزية اختفاء شاهين.

بعد المحاولة الفاشلة، يشعر بالانهيار وأن حياته انتهت بالخسارة والرعب، بأن حياته أصبحت على كف عفريت، ويختفي في ظروف غامضة عن الوجود، وتقلق أمه (هاجر) لهذا الغياب المخيف، المشابه لغياب أبيه (محمود)، ويصبها الرعب والخوف، وتفتش عنه في كل مكان وتسأل الناس (الرائحين والقادمين: هل رأيتم شاهين؟ هل رأيتم ولدي؟ فيميلون عنها، معتقدين أن عدوى جنون العائلة، قد تسرب إليها، فصارت تركض من تل إلى آخر، وتفتش الوديان والبيوت) ص193، لكن أخباره ضاعت واختفت، بالضبط مثل أخبار الروائي الشهيد حسن مطلك، ولكنه عرف فيما بعد، بأنه أُعدِم، بذريعة مشاركته في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد صدام حسين، وهو لم يبلغ عمره ثلاثين عاماً، في أوج عظمة إبداعه الأدبي، وخاصة، انه رسام وشاعر وروائي قدير. نسأل المولى القدير أن يتغمد الراحل برحمته الواسعة، واسكنه فسيح جناته. 

× رواية (دابادا) الروائي الشهيد حسن مطلك× إصدار: دار العربية للموسوعات الطبعة الأولى عام 1988/223 صفحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*جمعة عبد الله: ناقد وشاعر ومترجم عراقي jamah.abdala@gmail.com

*نشرت في (الناقد العراقي) وفي (كتابات في الميزان) بتاريخ 24/3/2017م

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/40490.php

https://www.kitabat.info/subject.php?id=91199

ليست هناك تعليقات: