طَرَقات آخر الليل
يا ناس.. مَـرَدَ قلبي.. ورحَـل
حسين محمد العنكود
لو لم ينبهني محسن الرملي إلى اقتراب ذكرى رحيل حسن مطلك لما تخيلت أبدا انه ميت. ذلك أنني الوحيد الذي لم يتجرأ أن ينظر إلى وجهه حين أتوا به مذبوحا في تلك الظهيرة العراقية الخائنة. يقولون مذبوحا أو مخنوقا.. لا أدري، أو بشكل أدق لا أُصدق.. ذلك انه يظل معي ينبهني إلى أخطائي وحماقاتي.. كما يحلو له أن يسميها آنذاك في ( بعض تلك الأيام التي تستحق العيش) عندما كان النهر نهر والشجرة شجرة.. وكان العالم رائعا نظيفا، وكانت الخيانة والمكر البشري لم يدخلا الرأس كفكرة أصلاً.. أقصد خيانة الأخوة البشر لبعضهم البعض.
جاءوا به مخنوقا. ابتعدتُ واقترب الآخرون وعيونهم تكاد تخرج من الهول.. قالوا لي انه مبتسم، وقالوا أن ابتسامته غامضة مثل ابتسامة قديس، وقالوا أن لحيته طويلة.. فابتعدت، ذلك أنني ما أردت أن أتصور نفسي أبداً محشوراً في مهزلة بدأت من لحظة قابيل وهابيل.. ولم تنته بحسن مطلك. لكن الشيء الوحيد الذي ظل عالقا في ذهني هو؛ صيحة أمه المنهارة قرب جثته عندما قالت: ( يا ناس مَرَد قلبي هذا الولَد).
ومن تلك الليلة وأنا أشعر بأن قلبي ممرُوداً وأشعر بشيء لا يمكن للغة أن تصوره.. شيء يشبه المشي بأرجل حافية على ارض زرعت بشفرات الحلاقة.. أو شيء من هذا القبيل.. بل أنني أحيانا أشعر بأن غيابه يُحجم الحياة عندي، فتصير بقدر الدرهم فأركلها بالحذاء ولا أ أبه بشيء.. بمعنى أدق؛ أشعر بأنني أعيش أياماً زائدة بعد رحيل حسن، لذلك فأنا أعيش على ذاكرة تلك الأيام التي فتحت جروحا في القلب لا يمكن أن تندمل أبداً..
آنذاك عندما كنت استيقظ على طرقات الباب بعد منتصف الليل ليوقظني من نومي ذلك المجنون الرائع ويأخذني معه على ظهر (كلبه الحديدي)، كما يحلو له أن يسمي دراجته النارية، يأخذني صوب النهر فننزل راكضين على الرمل حتى حافة دجلة، ليقرأ لي نصوصاً من سورياليات بريتون وجماعته.. لكُم أن تتصوروني في قاع الفجر القروي، تحت هيبة الجبل عند حافة النهر، وكان حسن مطلك بصوته المجلجل ينفخ الحكمة في أذنيّ.. لكم أن تتصوروا تلك اللحظات الهائلة.. كنت على حافة الجنون.. الجنون الجميل.. الجنون الذي اخترته قبل أربعة عشر عاماً عندما قررت أن ألازم حسن مطلك حتى في لحظات التبول رغم انه قبلها لم يكن بعيدا عني.. آنذاك بالضبط بعد رحيل الروائي إبراهيم حسن ناصر، عندما شعرت بعد رحيله بلحظات الضياع الفكري والثقافي إضافة إلى الحميمية التي كانت تربطنا.. ولجأت إلى حسن الذي يعسر على من عرفه أن ينساه.
كيف أنسى الذي يستشعر نبض الكلمات.. الذي يحس بألم المسمار؛ ألم المطرقة من طرف وصعوبة الاختراق من الطرف الآخر!!.. الذي يحس بألم أرجل الطاولة من تعب الوقوف.. فكيف لي أن أتقبل بأن إنساناً كهذا قد مات!!.. وهو الذي ترك لنا الشخصيات المذهلة التي صنعها في أعماله: ديامه، ديام، عالية، عزيزة، عواد، حلاب.. والمهيوب.. وشاهين.. شاهين ابن البقرة الحلوب.. آه لو تعرفونه!.. فقط لو تعرفون حسن مطلك!.
إن الساعات التي قضيتها مع حسن مطلك تحملت عبء حملها كثيرا.. إنها لذكريات تهز الحجر، وإني على تدوينها ملزَم.. أعدك يا محسن.. أعدكم أيها القراء ويا محبي وأصدقاء حسن مطلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق