22‏/09‏/2009

قراءة / د.عبدالله إبراهيم

الاحـتفاء برواية عراقية


د.عبدالله إبراهيم

لا أجدني مطالباً ببيان الأسباب كلها التي دعتني للكتابة عن رواية شابة وروائي شاب، فالأسباب جميعها تتعلق بالجهد الإبداعي الأصيل في هذه الرواية، وبالجهد القصصي الجيد الذي بذله كاتبها في قصص قليلة في الصحف والمجلات العراقية، واستأثر بعضها باهتمام لا بأس به. والرواية بعنوان (دابادا) وكاتبها هو (حسن مطلك) وقد صدرت في تموز عن دار الموسوعات العربية في بيروت بعد أن ظلت سنوات مرفوضة من النشر هنا، لأسباب فنية لاغير، إذ أُتهِمت.. ويا للعجب؛ بأنها رواية طليعية، لم يحن أوان نشرها بعد. ولابد من الانتظار سنوات كيما تتوافر إمكانات قرائية لدى القراء لتقبل عالمها الجديد، وطرائقها السردية المبتكرة، ولا أجدني، مرة أخرى، مسؤلاً عما في هذا الرأي من دلالة، فذلك من شأن خبيرها.
لقد عرفت حسن مطلك؛ قاصاً مجداً، وقيض لإحدى قصصه القصيرة أن تفوز بالجائزة الأولى لإحدى مسابقات قصة الحرب، وفي الوقت الذي كان يعمل فيه على كتابة بعض الأقاصيص ونشرها بين سنة وسنة، كان منكباً، طوال خمس سنوات على كتابة رواية (دابادا) وهي رواية قصيرة، تستفز القاريء، وتقف بدءاً من الصفحات الأولى في مواجهة أسلوب القراءة الإسقاطية التي تظل أسيرة وهم اكتساب مزيد من المعلومات والوقائع التاريخية الحقيقية، فهذه الرواية تؤسس ذائقة جديدة، ومرجعاً خاصاً يتفتت ولا يتراكم خلل الوعي، وعي شخصياتها، إذ أن لا واقعة ولا قضية خارج سياق عالمها. والإشكالية الموجودة بين شخصياتها هي من نتاج اللغة التي تؤشر إلى وعي الشخصيات وتنظم حواراتها، وعلاقاتها. ولا شك أن هذه الرواية شأنها شأن أي عمل إبداعي مجد؛ لا يمكن تلخيصها، فتلخيص الرواية لا يبقي إلا على الحكاية فيها، أما العناصر الأساسية الأخرى في متنها وطرائقها السردية، فلا يمكن تلخيصها. ولما كانت رواية (دابادا) تنهض أساساً على تصديع بنية الحكاية التقليدية في الرواية فإنها بذلك تستعصي على التلخيص، ولا يمكن والحالة هذه إلا قراءتها، فالقراءة هي الوسيلة الأمينة الوحيدة لمعرفة النص كائناً ما كان نوعه أو جنسه. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الرواية تتصدى لقضايا كبيرة.. إنها تغرق في أسطورة القرية العراقية، وعالمها الثر الخصب، وتكشف أول مرة كيفية الاقتراب إلى الأشياء وكيف يتم فهم العالم، وما هي مستويات التوجس، وكيف تنتظم الأشياء خلل الوعي وليس في الواقع، وكيف تتكون الحروف لتنظيم كلمة جديدة لا معنى لها؛ كلمة (دابادا) التي تشكل حروفها أوائل الحروف في كلمات كبيرة ذات دلالة خاصة. إن الوعي يتكون خلل اللغة، وإن العالم يتكون بوساطتها، فلا سبيل للخداع إذاً، وأية محاولة للاقتراب إلى عالم خارج اللغة أو بعيداً عنها، ما هي إلا مغالطة لا تحيل إلا إلى الوهم الذي أرساه العقل والمنطق ليكون واضحاً في الافتراض على الأشياء المرئية والبرهنة عليها.. هذا ما اعتمدته الرواية التقليدية. (دابادا) لا تنهض على هذه المسلمة المنطقية التي أرستها الفلسفات والمعارف والعلوم، بل تعمد إلى تقويضها، فهي تجعل من العالم خطاباً لغوياً سائلاً غير متناه، وما الشخصيات والأحداث والخلفيات الزمانية والمكانية إلا مستلزمات سردية تفرضها الكتابة لا الواقع، ولحظة بدء الرواية لا تفترض أبداً وجود نهاية.. هنالك ذهول متواصل واكتناه عميق للعالم الذي تتناوب الشخصيات لنسجه في وعيها وخلله، ولا تعتمد هذه الرواية، لذلك، على التفسير ووصف سلوك الشخصيات، والعناية بالاستهلال والذروة والحل، ولا تعنى ببناء حكايتها، ولا بمحاولة إقناع الآخرين بصدقها أو عدمه، إذ تعد ذلك جزءاً من الموروث الذي لا بد من الانطلاق منه إلى ما هو جديد.. إلى ما هو مبتكر. فالطفل فيها يستظهر علاقاته، والمرأة تتحول إلى بؤرة لا متناهية للخصب، وثمة صخب عائلي يتردد في جوانب البيت، وثمة هموم فنية. غن الشخصيات لا تتحاور حول واقع، لكن الواقع الذي تكونه اللغة موطناً للرواية، ينعكس في وعي الشخصيات ثم يتجه إلى المتلقي. عالم هذه الرواية معبر عنه بوساطة الوعي.. فهو تعبيري، لكنه يتبلور بالاستذكار والاستحضار والتداعي، ولا سبيل إلا الإنغمار في تجربة قراءة هذه الرواية.
لا أريد أن أفرض قراءة معينة لمواجهة عالم هذه الرواية، فهذا شأن القراء، إذ لكل منهم، حتماً، قراءته الخاصة، لكن ما أود تأكيده هنا؛ أن التسلح بمعرفة تقليدية لقراءة هذه الرواية، سيواجه صعوبات جمة، لا سبيل إلا التلقي... وهل يحق لأحد أن يقول: لم فعلت كذا ولم تفعل كذا في مواجهة النص الإبداعي؟. القراءة إذن مغامرة ورحلة كشف لعالم جديد، وما فائدة مغامرة أو رحلة في عالم معروف مسبقاً.. معروف بطرقه وأحداثه ووقائعه؟. المتعة تكمن إذن فيما هو جديد، وذلك ما أحسب أن رواية (دابادا) تقدمه. وأستدرك قائلاً: أن هذه الرواية ستثير إشكالات في مستوى القراءة، ومستوى التأويل وستختلف الآراء حولها، وما هذه النظرة إلا إحداها، لكن لا يحق لي أن أعدها الأصوب.. إنها محاولة أولى للاقتراب والترحيب والاحتفاء برواية عراقية جديدة لا بد من الاقتراب إليها.
---------------------------------------------
* نشر هذا المقال في جريدة (القادسية) بتاريخ 12/8/1988م. بغداد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ونشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.

ليست هناك تعليقات: