كل الأمكنة تصلح كرؤية للوجود
مقدمة للإقتراب من رواية (دابادا)
عبدالهادي سعدون
تــقــديــم:
في الرسالة الأخيرة لي قبل رحيله، كتب حسن مطلك:" إن علينا أن نُـسطر كل ما لدينا بصدق وحرص شديد وأن نمنح العمل الإبداعي طاقتنا القصوى حتى لو شعرنا بالنضب، وأننا لن نقدر على الكتابة بعد ذلك "(1). وشبه ذلك بحال إحدى القبائل الإفريقية عند حِدادها، إذ تُظهر حزنها بالبكاء حد شعورهم بجفاف العين من مائها... وكأنه يتكهن بمصير حياته؛ فقد غاب عنا بعد سنتين: أُعدم أثر اشتراكه في عملية انقلابية مناهضة للنظام عام 1990م.. ولكنه ترك لنا رفرفات روحه تُحلق فوق عواطفنا وأفعالنا ورؤيتنا للحياة وأسئلتها الأزلية.. غاب ولم يترك من مؤلفاته منشوراً سوى رواية بكر هي (دابادا)(2)، موضوع قراءتنا النقدية، وبعض القصص القصيرة.
--------------------------
1 ـ الواقعية المُـطلَـقة:
يجتهد حسن مطلك في عمله الأدبي الوحيد المنشور، ونعني به (دابادا) إلى التأكيد على جملة أمور لم تُمهله الحياة على إتمامها أو وضع صيغتها النهائية وجعلها حركة أدبية أو اتجاه طليعي جديد، فمن خلال أولى قصصه القصيرة حتى روايته (دابادا) شاء العمل من خلال ما أسماه بـ(الواقعية المطلقة) والتي كان قد ألقى عليها الضوء في أكثر من لقاء خاص ومنشور، مؤكداً أنه:" ليس ثمة فارزة أو حدود ما بين الواقعي والخيالي في الأدب.. أحدهما يكون ذراعاً والآخر رأساً واللغة روح لهذا الجسد الهجين"(3) فالواقع متداخل بالخيال والعكس صحيح، وأن كل ما هو خيالي، هو بالتالي؛ جذره واشتراكه العام واقعي بحت. أي أن عالمنا مطلق بكل نتاجاته واقعاً وخيالاً، وطالما كان للواقع خيال مطلق، فللخيال واقع مطلق وممكن. إن (مطلق) واقعيته يسبح بكل إنجازات الأدب ما بين خالص وهجين، وإن تناوله منها هو في حدود حاجة النص، وإن ما يخرج عن ذلك إخلال بالنص وبمطلقية الواقع الروائي. يقول في ذلك:" تأثرت بجميع الكتاب بما فيهم (المنفلوطي) ولم أُقلد أحداً. أنا مُـعلم نفسي"(4). وهنا يذكرنا بأسماء مثل: فرجينيا وولف، جويس، فولكنر. حيث يشكلون عند لوكاش خير الأمثلة على تخفيف الواقع في الكتابات التي تنحو منحى حداثوي. وهو في هذا إنما يستفيد من كل تجارب الأدب السابقة؛ من الأساطير والملاحم والتراث، إلى الواقعية الشعبية، الاشتراكية والواقعية السحرية ممثلة بماركيز، إلى الوجودية ونظريات الرواية الجديدة أو اللارواية.. حتى أنه يلجأ إلى القصص العلمي، بل كل فنون التعبير الذاتي ومنها السينما والصحافة، وهو ما نراه بوضوح من خلال قراءتنا لرواية دابادا.
2 ـ دابادا.. ما هـي؟:
إن رواية (دابادا) ليست برواية سهلة، إذ أن قراءتها تحتاج لوعي ونَـفَـس طويل ومتمكن من فك رموزها وخوض مسالكها الكثيرة الصعبة واسقاطات تداخل شخوصها وأحداثها وأمكنتها والأزمنة والأفعال المُحركة لها. رواية (دابادا) بقدر ماهي عصية عن الإمساك بجذورها الحكائية والمكانية والزمنية، بقدر ما يزرقها بمضادات القراءة السهلة أو القراءة ذات الاتجاه الواحد، كما يصف الروائي الإسباني خوان غويتيسولو ومن قبله جينيه الفرنسي.. إن رواية دابادا تشبه قصيدة غليظة مشحونة بحس الفجيعة المضحك. غائرة في تراثنا الاجتماعي الحالي وواقعها الأزلي ممثلاً بالتاريخ البعيد والحاضر، تاريخنا المشترك، تاريخ حضارة وادي الرافدين، أو هي، كما يسميها كاتبها،:" تمريناً شاقاً لتعلم الخطأ". هي رواية لا ترسخ اتجاهاً معيناً ولا تدافع عن أي مدرسة أدبية أو حركة بعينها، بل تتحدى كل قدسية تراثنا الأدبي، المحلي والعالمي منه. قراءتها تبدأ من مدلول (اسمها) وتسمياتها الأخرى الظاهرة والخفية. من تداخل أقطاب الروي فيها إلى الأصوات المختلفة النغمة والسرد، إلى الأزمنة الممتدة منذ الأزل إلى اللحظة الراهنة.. وكأنها مختزنة في لحظتها الحالية، لحظة خروج شاهين ـ بطل الرواية ـ من غرفته بعد عشرين عاماً من العزلة أثر اختفاء الأب وراء أرنب مبقع، وهي تمتد منذ كانت " الأشجار أكبر من حجمها الحالي". أو من لحظة مشاهدته للمكان/القرية للمرة الأخيرة وكأنه يراها للمرة الأولى.
دابادا.. صرخة الفراغ المسيطر على واقعنا، أمكنتنا المتداخلة والتي تلتقي في المكان الأوحد/القرية، مثل رمز قريتهم ذاتها، إذ تتفرع طُرقاً عدة من مكان (السدرة) الأسم الحقيقي للقرية في الرواية، ولكنها لا تشاء أن تفترق إلا لتجتمع عندها:" يبدو شاهين محايداً في وقفته تحت السدرة، محايداً تجاه كل مواضيع الحياة الممكنة بالنسبة للمارين به نحو مزارعهم باستثناء لعبة الانتظار التي يأمل أن تنتهي عندما يجد فيها بعض العزاء، على اعتبارات أن الأمر سـيثبت طرفاً منه بمثابة مـشجب لكي لا يـنزلق الـطرف الآخر إلى النسـيان"(5).
دابادا.. هي الصرخة الأولى للتكوين والخلق، صرخة الوليد، صرخة اللامعنى التي تُقاس بمعانٍ أخرى.. هي صرخة المكان ذاته بفعل مواقعته الدائمة ما بين الآن واللحظة القادمة… دابادا اللفظة الغامضة، العصية على إدراك فحواها منذ الوهلة الأولى وتحتاج لتدريب شاق للقاريء، مثلما فعل كاتبها (6). يذكر محمود جنداري في مقال حول الرواية:" إن كل أشخاص الرواية الذين يعلنون عن وجودهم من حين لآخر في الحياة وفي صورتها، في الرواية؛ هاجر وشاهين وشرار (الكلب) وعواد وعزيزة وحلاب ووزة وزهرة والحمار قندس والأرنب المبقع و(المعذَب صابر يوم الأربعاء بعد المطر) لأنهم كلهم مرتبطون بقوة أسباب الحياة. وبقوة أسباب البناء الروائي، مرتبطون بنسيج قوي لا يمكن أن يسيل من خيط واحد دون أن تتحرك بقية الخيوط كما هي حقيقة الحياة في القرية"(7).
إن نص دابادا الروائي بلغته المميزة وتكوينه الاهتدائي، إنما يُنشيء عالمه الخاص والخالص، الأولى:" يحاول ببساطة أن يعطينا لغة للفهم من خلال لغة الشعر. فهو من المنطلق الوجودي، حسب ما يذهب إليه (هيدجر) يحاول جعل اللغة ممكنة كمادة يتصرف بها لأنها مُعطاة إليه من قبل. وذلك لأن ماهية الشعر حقيقة لا تقوم في التدفق التلقائي للأحاسيس والعواطف، وإنما من خلال مجموعة مدهشة من النشاطات البشرية العلوية التي تجعل الموجودات معروفة من جديد من حيث المجازي الذي هو لعبة الأدب"(8).
3 ـ المكان.. ما هو صالح لرؤية الوجود.
يُدخلنا حسن مطلك عبر روايته في المكان الأول والوحيد الذي هو متفرع وأساسي تؤكده الوقائع المار ذكرها بين حين وآخر في متن الرواية. القرية كمكان.. الذي هو العالم الأكبر كطرف منه دون اللجوء إلى فرض عزلة ما بين عالم روائي متخيل، مبتدع وآخر هو عالم حسي، حقيقي للقرية التي تدور فيها الأحداث/الرواية. إن موضوع الرواية الوجودي كأي تساؤل أولي وأزلي يعتبر أي مكان في العالم فسحة صالحة للإنسان من أجل أن يخلق ويبلور رؤيته للوجود، ذلك أن معظم تساؤلاته الرؤيوية للوجود تنبع من الإنسان نفسه، الإنسان العادي أو الخارق أو مجرد ظله فوق الأرض. حضوره أينما كان فوق هذه الكريات الأرضية (أحد أسماء الرواية) حتى لو كان ذلك ممثلاً بقرية مجهولة في خارطة بلده نفسه. والقرية كمكان حدث واقعي وكمكان لوقائع الرواية كذلك، يشكل ثراءاً كبيراً لإغناء الحدث، لأن الأشياء في القرية لها حياة أخرى، حياة لا تشبه قرية أخرى أو أي مكان في أقصى بقاع العالم. فيها أليس هناك ما هو دون حياة.. تحسس الحياة عبر الأمكنة الماثلة والشاخصة منذ بداية التاريخ، يمنح رؤية دقيقة وواعية للوجود اعتماداً على تعامله مع كل الموجودات بذات الأثر الحي؛ شاهين، حزن هاجر، تجارب الرسم، النهر، الغرفة، التل، الوادي، الجبل، النباتات والأشواك… إلخ. تلك المسميات. وهو يشعر بوجع المسمار وهو يُدق ما بين طرفي المطرقة وضيق فسحة دخوله في الحائط، مثلما سيشعر بتفاهة ما يدعون إلى الخروج من غرفته وعزلتها الدائمة، أثر ضحك منفلت وصاخب لم يسمع بمثله منذ عشرين عاماً.. والبطل كرؤية الكاتب ذاتها يتعامل مع الأشياء جميعها كروح حيّة، والضحك لديه هو نقطة التلاقي في الجهات مع بعضها مثل التقاء الشرق بالغرب كما يصفها في الرواية.. والقرية رغم أنها منعزلة في الواقع وأحداث الرواية إلا أنها على تواصل مكاني/رمزي مع العالم، عبر الأخبار التي يحملها الراديو وعبر التقصي عنها حتى أننا نجد الأصوات تصدح بذكر أزمات العالم وأحداثها من مكان غرفة شاهين، نافذة تواصله ورؤيته للعالم، إلى الحد الذي يجد فيه تلاحماً حياً بين اسمه (شاهين) مع محنة (هيروشيما) يقول:" وضحك آنذاك بعد انطلاق العجلة الهرمة من جديد وانحدارها في واد. كانت هيروشيما معهما رغم الضوضاء…"(9).
إن هذه الإشارات ما هي كذلك إلا عُقد الشعور بالذنب أزاء الآخرين ونتيجة الإحساس بالضعف والخيبة اللـتين تلازمان شـاهين على مدى أحـداث الروايـة(10).
المكان لدى مطلك هو بقعة للرؤية، مثلما هو بقعة لإبراز الواقع، مثلما لكل كائن حي بقعته الخاصة كما يكرر الراوي أو بطلها باستمرار. مكانه الدائم/غرفته هي نقطة الرؤية للعالم، للبطل أن يشاهد، أن يخرج للأحداث، أن يعقب على الذكريات، على استذكار خذلانه أو ضياع الأب وراء أرنب مبقع، صمت الأم وحزنها الذي يعرفه ولا يعرف كيف يحييها أو يناديها: هاجر.. أمي. غرفته هي نقطة الالتقاء والانفراج، ومن " كوتها " يطل لاستعراض ما يدور:" الغرف مظلمة ما عدا غرفته لأنها مرتفعة. مكان دائم لتبدل الفصول. مكان خاص للنوم والطعام والعري...". حتى أن الأمكنة تتبدل في الرمز أو المعنى الإيحائي كما في علو غرفة شاهين عن علو بيت حلاب (شخصية التسلط في الرواية) عن بيوت القرية، ما بين رمزها التطهيري في الأولى عن إيحائية التمايز الطبقي في الثانية:" تغوص القرية خلف خيط التلال ويبقى منزل حلاب يدفع الضوء من نوافذه إلى مديات الطرق الفضية..(ص18)". وكما نرى فإن مكان غرفته/ تواجد شاهين، دائم رغم تبدل الأحوال أو المعنى الزمني، ففي محاولة وصف بيت هاجر وشاهين يقول:" البيت ذابل في مركز العالم..." لا حدود مكانية للقرية، هي في المركز، عند خط الاستواء أو إفريقيا مثلما هي بقعة نائية من شمال القُطر، أو أي مكان آخر في العالم، هي الممثل عنهم، ونظرتها تصلح كبعد مكاني لأي وجود آخر. إن أي مشهد صوري من وقائع الرواية هو صورة مكانية ما للقرية/العالم. مكاني وشخوصي متحرك رغم أنه أزلي فالـ" حياة مكرسة في مقهى صغير…(ص38)". إن صلة الوقائع مع المكان في دابادا هي؛ الممارسة الأزلية لطقوس الموت، من خلال الحياة. المكان الذي تتحطم فيه كل الحقائق لتنشأ على أشلائها حقائق تلبس أردية ملونة قابلة للتأمل والزوال " فالقاص يتأمل كثيراً بتشكيلات المكان الطبيعي ومن حوله ويعيد ترتيب بناء الأشياء المادية بلا محاولة إقناع تقليدي ومباشر، بل يلجأ إلى الإقناع الفني..."(11). إن بقدر ما للزمن من قياس حدي في الرواية ممثلاً في ثلاثة أيام بلياليها، هي زمن خروج شاهين من عزلته، والتي فيما بعد تمتد إلى بدايات اختفاء الأب قبل عشرين عاماً، متقاطعة من خلال لغة متماسكة أراد بها الكاتب أن يُصدر واقعه الذي يشهده من خلال بطله الأبله والطريقة المأسـاوية التي تـتصف بـها الحياة في المكان الذي يـعيش فيه ( ألا هي الطفولة)..."(12).
إن الأمكنة في رواية دابادا متداخلة في وضوحها وغائمة بدافع عمقها التاريخي. القرية، البناء المكاني الحالي فوق الأثر الحضاري ( الآشوري هنا أو أعمق بحيث يشمل كل حضارة وادي الرافدين) وصلتها الأركز والأقوى تمكناً من خلال تداخلها مع عمقها التاريخي كماضي أول وحاضر للتو.. بناء الحاضر فوق آثار الماضي، القرية/المشهد قرب، فوق، مع آثار آشور بكل قطعها وأمكنتها الأولى ملتحمة (مكاناً واقعياً) معها يقدر التحامها وجوداً مع الناس الذين هم بالسياق (العرفي) أبناء أولئك الآشوريين أو من خلال الصلة الآنية المكانية والتواجد الحتمي معها:" فتح النافذة، على اعتبار أن فتح النافذة، بل مجرد فتحها، كان يقرب إليه سماء زقورات الآثار: ها هي قريبة، ها هي. ويدخل فجر الحقول في غرفته... ساعة الحائط، رفوف القواقع، ملابس الطفولة ويداه في الظل مفتوحتان للإمساك بشيء ما..(ص38)". والحال ما تنطق به أحداث الرواية، إن العيش اشتراك مكاني ما بين الحالي والماضي، الأثري وما فوق ألأثر، الرفقة المتتابعة للانصهار فيما بين الاثنين. ونجد أن المكان ذاته من ضمن تصورات الوجود. الأمكنة تنطبق مع الأمكنة الأخرى، والأثر يبرز بين فترة وأخرى مع أثرهم الحاضر:" أما البيوت الأخيرة فيها... حيث ينمو الفطر في أكواب الآشوريين..(ص12)".
إذا كان محمود جنداري في وقائع قصصه الأخيرة، والتي تتخذ من التاريخ القديم بذرة تجريب إنساني جديد، ويرتأي فيها البحث في عمق المكان، أي نبش التاريخ كمكان دائم ومتداخل مع عمقه الآخر، فإن مطلك يعالج ترميمات البنية التاريخية في روايته (دابادا) ولا يجد مفراً من أن يطفر الأثر المكاني التاريخي بين حين وآخر كحيز حي وواقع حاضر. الإسقاطات التاريخية تُلمح كفعل حي من خلال السرد الروائي كحالة وجودية مكانية لها عمق رمزي. وهو يكررها عبر أحداث الرواية.
أقتطف هنا وصفه للأثر الآشوري المعروف (اللبوة الجريحة) ويعيد تصويره في أكثر من موضع من الرواية، مؤكداً رمزها الحاضر كواقع عن مأساتنا الخاصة ومأساة الإنسان بوجه العموم:" يرتفع أحياناً بين هندسة الوسائد حتى الإعلان السياحي؛ صورة اللبوة الجريحة. يقول لنفسه كلمة وهو يطيل التحديق في جلستها الملتاعة، وضع الابتهال والنجدة عبر العصور. يمكنه أن يفسر بلا معرفة وبلا أي شعور بنقصان الألم، لأن الإنسان الأقدم كان ينقصه التعبير عن الألم. يضيق بتوسلاتها فلا يجد مهرباً. الإنسان الذي يقدس صورة تعلو على توحل الحظ، في قائمتيها الأماميتين. ولكن آخرها قد سقط مثل كرسي محطم، فكها الهلالي، الجوف الملتصق بالجلد، مخالبها التي أهملت كخطوط في رقيم طيني لكي تخلد لحظة الاحتضار، كأنها كانت تنتظر المصور أن يتم نقشها.. تتحامل وتتساند قبل أن تسقط بمستوى الأرض وتسلم لذباب التفسخ. إنه يسمع نجدتها القادمة من قعر العصور حتى ساعة القيامة. صرخة ملتاعة صادرة عن أسفل القصبة الهوائية.. وقد صارت السهام عزيزة عليها.. لحظات طويلة أخرى. يرفع بصره حيث جروح اللبوة، مستنكراً ومعتذراً بشكل أسف..."(13).
المكان تخليد للحظة الروي، النظرة لذلك الأثر. وهو في تقصيه لا يمنحه اتحاداً مطلقاً مع الزمن، توهانه بهدف أعلى لا يلتقي مع زمنه، لأنه متجزئ منه كضلع آدمي يخلق أنثاه:" كان الزمن ضائعاً في فراغ المكان (ص21)" ومرة أخرى يقول:" يمد الطريق نفسه إلى هدف سري في الهاوية، لأن الهاوية في كل مكان".
إن تداخلاتها الكثيرة ورموز التنوير فيها والعتمة متلازمة، وهي خطوة الفهم المطلق للنص، إذ لا يمكن تجزئتها، وأن قراءتها كعمل روائي تقليدي بحكم الشكل الروائي السائد إجحاف في حقه.. فهي كأي عمل ذهني يحتمل قراءات متتالية. وفي كل قراءة إنارة لجهة أو زاوية صغيرة فيه. ولا أجدني مغالياً إذا وضعتها في مصاف وأهمية روايات ذهنية متميزة، أعمال احتجنا لقراءتها والقراءة عنها عشرات المرات وبمناسبات مختلفة مثل: الدون كيخوته لثربانتس، حكايات بورخس، أو نصوص التصوف العربية الاسلامية، أو التصوف الإسباني ممثلاً بغويتيسولو أو روايات تداعي الوعي أو أعمال غاية في ألإيقاظ والاسترداد الواعي لإشكالية الفرد وعلاقته مع العالم، مثل؛ يوليسيس، الصخب والعنف أو الفنار... رحلتها غوص في عمق الذات والمكان الشاخص منذ بدء الخليقة، ومحاولة خلق حضورها من عين البراءة والبدء ـ عين شاهين ـ ووصفها مع مدلولها في اللسان المرتبك، غير الواضح النبرة ـ لسان شاهين ـ. من خلال الآخرين، من خلال عيوننا نحن، أو حتى عين المؤلف ذاته كخطاب مباشر يعينك على تفقد؛ أن ما تقرأه لم يكن في أية لحظة عملاً خالصاً، وإنما استقراء لأفكارنا وقراءات أخرى قد تكون بحد ذاتها محتملة الصواب أو التخطيء:" أقص الوقائع ولا أدري. إنها الأكاذيب تأتي بها الروايات الواقعية عادة، ربما لم يكن الأمر صحيحاً وربما العكس، غير أنه مبالغ فيه...(ص105)". أو:" أقول شهدتها، لأن الكُتاب يشهدون على جميع مآتم الأرض ويتحدثون عنها، لأنهم أكثر المخلوقات بطالة...(ص129)".
4 ـ حسن مطلك.. الأثر القائم:
إن التعريف بحسن مطلك ونصه الروائي (دابادا) ليس سوى خطوة أولى لإظهاره إلى النور من جديد (بعد مرور 13 سنة على صدورها، و11 عاماً على رحيله) وهي محاولة لإبراز أهم ما تتضمنه أمام النقد للتصدي لها والاهتمام بجوانبها الأخرى التي لم نتطرق لها: لغتها، دلالاتها الرمزية، تعدد شخوصها وتداخل موضوعاتها الزمانية كذلك... كما أنني أذكر بأن رواية (دابادا) قد خلقت وأثرت في جيل أدباء شباب كامل، ولا أجدني مخطئاً إذا ما أشرت إلى أثرها في نصوص ظهرت بعدها في فترة زمنية مناسبة ولكُتاب عريقين في مجال القص العراقي المعاصر.
إن اختلاف (دابادا) عن ذلك الكم الهائل من الروايات والأعمال القصصية التي ظهرت في فترتها أو الفترة التي تلت، تكمن في أن " طريقة كاتب دابادا تختلف، بأنه يأخذ الأشياء التي تؤثر في الحدث، سواء كانت زمانية أو مكانية، وتناول العلاقة أو نوع العلاقة بين العالم والوعي"(14). إن نظرة متفحصة للرواية تدلنا بوضوح إلى قيمة وقوة اللغة وديناميكية النص الأدبي، وهو ما يستذكره حسن مطلك في إحدى المقابلات معه قائلاً:" لم احاول في يوم ما أن أجبر اللغة على قول ما لا تريد أن تقوله.. واللغة هي أنا فأحاول أن لا أكذب.. إنها ليست مجرد أداة للتوصيل، فهي تشمل الصوت أحياناً. المهم أن نجرب كيف نخطيء في اللغة بعد أن نتقن الإعراب.."(15).
إن رواية (دابادا) قد عانت التهميش المتعمد من قبل المؤسسة الثقافية أولاً، ومن ثم رقابة السلطة. الأولى: بدعوى (طليعيتها)!. والثانية: بعد أن تصدى لها بعملية مباشرة لتقويضها مما حدى بالسلطة إلى مصادرتها بعد تصفية الأديب. إن جهد التعريف بها بقي مهمشاً هو الآخر، ولم يصل إلى حدوده القصوى، وهي من المهام النبيلة التي علينا إبرازها في المستقبل القريب، لأن أثرها مازال قائماً في مشهد الإبداع العراقي... لقد قلت في قصيدة رثاء، بعد رحيل الروائي حسن مطلك، ونشرتها في ملحق صحيفة عراقية، أسميتها: (الكريات الأرضية) (عنوان مستمد من الأسم الآخر لرواية دابادا) وأهديتها إلى شاهين محمود بطل الرواية ولسان حال الكاتب. قلت فيها:
" ذاكرتنا بعيدة الوصول
ولكن آثارهم تقترب !".
-------------------------------------------
هـــوامــش:
(1)ـ مقاطع من رسالة حسن مطلك إلى عبدالهادي سعدون في عام1989.(2)ـ داربادا/رواية/حسن مطلك/221 صفحة/الدار العربية للموسوعات/ط1 بيروت 1988م.(3)ـ حسن مطلك/ مقابلة في جريدة (الطلبة والشباب) العدد253 الثلاثاء28/6/1988 بغداد.(4)ـ المصدر السابق نفسه.(5)ـ دابادا/الرواية ص176.(6)ـ يرد ذكر (دابادا) اللفظة في أكثر من موضع من الرواية، الصفحات:161،162،171،199،201.(7)ـ د جنداري/جريدة (القادسية)العدد3095 السنة10بتاريخ 5/12/1989م بغداد.(8)ـ باسل الشيخلي/جريدة(الجامعة)العدد 5 الأربعاء9آب1989م بغداد.(9)ـ دابادا/الرواية،ص133.(10)ـ صلاح حسن/جريدة(القادسية) بتاريخ27/9/1988م بغداد.(أزاء ذلك تحفل الرواية بإشارات الأماكن والأحداث العالمية كما في الصفحات:16،170،171،173،174.(11)ـ باسل الشيخلي،مصدر سابق.(12)ـ صلاح حسن، مصدر سابق.(13)ـ دابادا/الرواية ص64 ويعود لتذكرها في ص134.(14)ـ محسن الرملي/جريدة (صوت الشعب) الخميس 28 تشرين أول1993م الأردن.(15)ـ حسن مطلك/مقابلة، مصدر سابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المقالة هي قراءة عامة كتبت لغرض تقديمها في ( ندوة القصة العراقية) التي أقيمت في لندن عام 1997.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق