دابادا. . انها كسر حاد لجمجمة الرواية
د.أحمد الدوسري
"دابادا: هي صرخة في الفراغ تشهد نضال الإنسان ضد الموت التدريجي، إنها رفسة موجهة قبل حلول الزوال". هذه هي رواية حسن مطلق.. دابادا الطفولة البشرية الأولى، وهي تمرينه الشاق لتعلم الخطأ، كتب حسن مطلق ليحمي نفسه من القراء، هكذا كان يقول عندما يتحدثون إليه بشأنها، إنها كسر حاد لجمجمة الرواية، نبش لقبور المقدسات والأضرحة المعتقة، هي ليست رواية ولا لوحة تشكيلية، ولا هي قصيدة أو قصة أو تمثالاً، لكنها كل هذه مجتمعة، هي عملية تنشيط لمفاصل الإبداع، التي تمكن منها روماتيزم النمطية، ويقول عنها ناشرها: أنها تشبه قصيدة غليظة مشحونة بحس الفجيعة المضحك، غائرة في التراث الاجتماعي لسكان وادي الرافدين حتى عصر آشور بانيبال، ألم تسيطر على الإنسانية في طفولتها الأولى، طفولة الجمع والالتقاط تلك الروح الشعرية، إنها رد للأصول، لمنابع الإبداع الأولي، حطم حسن مطلق أهراماً أصبحت زيارتها لدى كتابة الرواية واجباً مقدساً، قهر الحبكة، وعلق النمو الدرامي، واستعاض عنها بتوتر يجعلك ترتجف داخله طوال (كلمات الرواية) ولا نقول أحداثها، وكل الملامح تكاد تختفي ما عدا (شاهين) ضحية توتر الكاتب وقلقه،" ومن أقصى الأخدود لمح أيدي النساء تشير إلى شعره المبعثر وعقفته في السير: شاهين!! شاهين!! شاهين!!". وفي كل المساحات التي ملأها الكاتب بالتوتر كانت هناك كلمات تتحرك داخل إطار الرؤيا، التي تشكلت نتيجة صراع الذات مع الكون، ونشوء الجدلية بينهما التي قادت إلى رؤيا الفنان الذي بدوره خلق كوناً كانت كلماته تسبح في فضائه بصورة تبعث على الإعجاب والسمو:" كان الزمن ضائعاً في فراغ المكان، كافياً لكي يستعرض كل منتظر أسماء الوجوه العـمـيقة المطعمة بيباب الحصاد، هناك آثار كلمات ذاوية على الشفاه السـفلى الـمتدلـية"!.
والفراغ هنا لن يكون هلامياً، إنه معادل روحي للأرض الأولى، التي تمثل طموحات الفنان المعاصر. ألم يقل محمد الماغوط:" إذن سنموت على أرض أخرى، ولن تلمحوا دموعنا وأسمالنا"، إنها شهوة العودة، ذات العودة التي جعلت السياب يصرخ وهو على فراشه المحدودب في مستشفى الأميري بالكويت طالباً الانسحاق في ثرى (جيكور)، وجعلت الماغوط يقول:" لا تصفعني أيها القدر، على وجهي أمتار من الصفعات"!!. إنه إذن ضحك أو بكاء علني، لا تقدر عليه سوى "دابادا" التي تتقيأ قبوراً وهياكل إنسانية!.
--------------------------------------------
* نشر هذا المقال في جريدة(الأنباء) بتاريخ 16/2/1989م الكويت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق