30‏/09‏/2009

قراءة / سهام الدهيم

سنابل من دهشة!

كتاب حب حسن مطلك

سهام الدهيم

عندما تكون بعيداً عن الأرض، أعني بقرب السماء تماماً، فإنك تتخلى بسهولة عن كل مايمت الأرض بصلة وتخلع ذاكرتك وترمي بها من هذا العلو، فلا يهمك إن سقطت على رأس شخص فتكون ذاكرة أخرى تُقل عنقه، أو تسقط في البحر فتغرق بثقل الألم اللامنسي والمتكور في بلورات ترسلها للأسفل دائماً، لا يهمك إن سقطت في أرض للتو قد حُرثت، فتنبت حياتك مرة أخرى بهيئة جذر يمتد لينمو شجرة شوك أو يقطين وفي أجمل الاحتمالات ياسمين!
من الطائرة ألقيت ذاكرتي من علو آلاف الأمتار، لأطهرني من كل شيء إلا قراءة كتاب " كتاب الحب.. ظِلالهن على الأرض" / كتابة حرة ومذكرات لحسن مطلك .
كنت أريد أن أعرف كيف يُحب رجل معقد وصعب كحسن مطلك، أريد أن أعرف نساءه، وكيف يبذل روحه في نزيف الحب وفاءً وإخلاصاً.. ثمة رجال دون أن تكون إحدانا حبيبتهم الخاصة إلا أنها تحدس بوفائهم وصدقهم وإخلاصهم، رجال لا يصلحون إلا لمرأة واحدة فقط، ومن بعدها يعطبون بدافع البقاء على الأطلال، وحفاظاً على الجمال المكتنز بأرواحهم.. رجال هم من الصلابة بحيث أن الحب وحده يجعل أرواحهم تمتلك حساسية عالية، فتغدو أرواحهم شفافة كثغر طفل فرحه يعني الكثير وحزنه يعني الدمار، رجال لا تُلهيهم تجارة عن ذكر الحب !الكتاب مقسم لفصلين تبعاً لمرأتين أحبهما حسن مطلك الفصل الأول بعنوان "ظل الباشق على الأرض" عن حبيبته ميسلون، التي يرمز لها برسائله ومذكراته بحرف "م". ورمزية العنوان بمعنى:
الظل= الحب
الأرض= حسن مطلك
الباشق= م
فهي كانت مرحلة ممتلئة بالتوحس والترقب، الخوف والتردد، كانتظار انقضاض الباشق على فريسته، أظنها كانت مرأة مليئة بالتوتر، حيث ميسلون لا أراها شخصية قريبة من حسن، فهي قد تعرف إليها في الجامعة بدراسته معها في ذات القسم، امرأة لا تحضر إلا لتغيب، لا تقول صدقاً إلا لتملأه شكاً.
كانت بعيدة عن عوالمه فقد قالت لصديقه ثابت الذي تزوجته فيما بعد:
"أنهيت علاقتي بصاحب النظار السوداء، ولازلت مصرة على قول ماقلته من قبل عن حسن مطلك، هذا الرجل مرتفع عني كثيراً، لذلك أشعر بأنني مجرد صفر. وكيف تريدني أن أقول: نعم أرغب أن أكون صفراً؟!.. مع الشعور بالخزي أمام الرجل. لايمكنني أن أقدم له شيئاً سوى الفراش البارد. حتى أنني لا أجيد صنع الطعام باستثناء سلق البيض. لا أستطيع أن أشبع رغبة عشرة رجال، وهو يجمع هذا العدد في شخصه، ورغباته المتعددة والمتبدلة، وانفعالات الفنان فيه، حزنه الذي لا يباح لأحد.. لا أستطيع"
فكتب في السطر الذي يليه يعلن خيبته:
"وعلمت بعد هذا التصريح ، بأني منخفض جداً عن مستوى إرادتي بحيث أصبحت ألمس العدم اللانهائي وأتحسس الفراغ المديد..الخ. قرأت في كتاب رامبو: " لم تعد ، ولن تعود أبداً تلك المعبودة التي جاءت إليّ. حقاً، لقد بكيت في هذه المرة أكثر من جميع أطفال العالم".
انتهت علاقتهما دون تفاصيل معلنة، انتهى كل شيء فحسب واظن البادئ في البُعد هي "م" إذ لاحظت الفرق فكانت أكثر جرأة في اعلانه!
ولكن في الصفحات الأخيرة جاء بهذه الفلسفة التي تؤطر العلاقات ، وأظنها تلائم سبب فراقهما أثر اختلافهما، فهو لم يكتب عن فكرها وعقلها كما سيكتب عن هدى فيما بعد، لذا فإنه كتب عن صداقته مع ثابت ما يُدلل على طبيعة علاقاته بالآخرين:
"ولكن تلك العلاقة التي خمن الآخرون، أنها ستنتهي بالإشباع أو فاجعة عدم التفاهم، قد دامت بفعل الكشف المستمر للخفايا. لقد تكون لدي مفهوم دقيق حول نجاح أي علاقة بين شخصين، بأنها تعتمد على الكشف المستمر من قبل الآخر. مما يعطي انطباعاً على شكل يقين , بأن نوعية هذين الشخصين تعتمد: أما على عمق كل منهما بحيث لا يمكن أن يعطي ما لديه وينتهي ـ وكان هذا حالي مع ثابت ـ، أو أنها تعتمد على سطحية الاثنين معاً، بحيث لا يحتاج أحدهما إلى كشف الآخر، بل يكتفي بقراءته من السطح، ولما كان السطح يتغير بعوامل الطبيعة شأن تغير وجه الأرض في اختلاف الفصول، فإن ذلك كافياً لاستمرار العلاقة حتى لحظة الكف عن مشاهدة الآخر" !
ليجيء الفصل الأخير بعنوان:
" ظل القمر على الأرض"
إلى هدى :.. اعتراف بقوة العِشرة
فُتح بتاريخ 18 شباط 1987 م
سمِع عنها كل سوء قبل أن يلتقيها في قرية كان يُدرس في ثانويتها وهي في ابتدائيتها، وكان هذا ينعكس حتى في تفكيرهما إذ هو يسبقها بمراحل عدة ويحاول أن يأخذها إليه، يملؤها ثقة واطمئناناً.
ولكنها المرأة الصائبة في الوقت الخاطئ ، حيث كان متزوجاً وأباً لطفلة تسمى مروة. أحب جسدها وروحها، إنها المرأة الأكثر ندرة وقرباً وتوأما لروحه:
" زرعتنا السيارات على مفرق الطرق، أنا وهي، نتجاذب القلوب ونشتكي من متاعب السفر وصعوبة الحياة وسط الدغل. نتجاذب أطراف الحديث بينما يخفي كل منا كلمة سرية توشك أن تطفر على اللسان. كلمة نقولها ونستريح. عندما طلبتُ أن ترفع يدها أمام السيارات، لأنهم يستجيبون لإشارة المرأة ولا يستجيبون لإشارة الرجل، أخذتنا سيارة بيضاء صغيرة، وجلسنا في المقعد الخلفي، تفصل بيننا الحقيبة بينما احتل المقعد الأمامي رجل ذو شارب غليظ، كأنه أحد القراصنة إلى جانب السائق. وكان منظرهما يُذكر المرء برجال البوليس السري، غير أنهما كان لطيفين حين تكلم أحدهما وأعطانا برتقالتين.

كنت قد أخبرتها عن الانطباع الذي خلفه في نفسي كلام الناس وقلت: " لقد تخيلتك سمينة". وضحكت فذهب خوفي !كنت أنظر إلى يديها الصغيرتين تقشران البرتقالة بطريقة تدعو إلى الخَبَل. تلك الطريقة البسيطة دائماً، وأظافرها المصبوغة دائماً، وشفتاها المصبوغتان دائماً، وعطرها دائماً دائماً. فقالت "تفضل".وقلت لنفسي: آه .. لقد تذكرت الخطيئة الأولى: التفاحة الحوائية التي أخرجت آدم من الجنة، فلا بد أن تعيده الرتقالة إلى الجنة مرة أخرى! "
كتبت على هامش هذا الفصل [واااوو]، فعندما يقول العراقي لشيء ما "يخَبَّل" فتأكد بأنه فائق الجمال!
استمرت اللقاءات بينهما، كل لقاء يقرب روحيهما حتى سألته يوماً: هل أنت متزوج ؟، فأجابها: لا، لقد تزوجت الكتابة. لقد كذب عليها ، وعندما عرفت من الناس أنه متزوج " جاءت مرة أخرى بعدما دعاها زميلي (بهنام) إلى الغداء، وأعرف بأنها جاءت لأجل معاتبتي فقط. لا أذكر التفاصيل، لأن الذي حدث فيما بعد أنساني ما أردت أن أكتبه.قالت: لماذا كذبت عليّ وقلت أنك...
قلت: كل الرجال يكذبون على النساء لأجل الحب. وذهبت"

هذا المقطع قرأته في بداية إقلاع الطائرة فجأت شهقة دهشتي محفوفة بألم في بطني.. فعندما تكون عاشقاً ستفهم جيداً ماتعنيه كلمة "الحب" عندما تكون آخر ما يُقال، وأول الحكاية الآتية!
إنه يكتب عن الحب، والحبيبة، ويصف لذة اللقاءات السرية والنقاشات الطويلة التي تنتهي بقُبلة خاطفة.. يشكو من الغيرة فيُحاول أن يُعقل محبوبته، يفكران معاً " هدى هل نفكر معاً بمعنى العالم؟ لأنه من غير المعقول أن أكتشف شيئاً لاتعرفينه. لأنه من غير المعقول أن تكوني حبيبتي ولا تعرفيني" إنه لا يغرق في العاطفة فحسب، بل هو كأي رجل مفكر يبطن رسائله ومذكراته اليومية بأفكاره حيث تكون المركز لكل ماسيأتي من عاطفة عميقة. ففي الكتاب يعبر بصراحة عن رأيه وموقفه من المرأة، فهو لا يُعمم الغباء والسذاجة على كل النساء، فحبه العظيم جعله يجسد تاريخ الرجل منذ البدء ضد المرأة، جعله يشفق عليها من سطوة رجال كانوا. فيشعر بعظيم الذنب لأنه رجل فقط :
" ياله من اختناق!!.. أيها الإنسان ياصديقي المنكسر. لقد جعلتني هذه المرأة أتذكر أخطاء الرجال وظلمهم للمرأة على مدار التاريخ الإنساني. وضعتني مباشرة أمام الجرح لأعترف لها باسم جميع الرجال، وأتوب إليها عن خطايا جميع الرجال. فلابد أنها أصبحت أصغر حجماً بفعل الطَرق والمحاصرة. ولابد أنها صارت (أصغرعقلاً) بفعل التفوق الأهوج، والقسوة.. لقد وضعتني في مستنقع التاريخ لأرى العالم منذ البداية: الدماء، وتطور شكل السيف وشكل الأرض "من صورة قرص طاف على المياه".. حتى زمن اكتشاف فكرة الدوران، ومن العراء والمطر الدائم ومشاعية الرزق والتكاثروسياط الأقوياء والنوم على الشواطئ، ومهازل الحملات الجماعية لاصطياد الوحوش، وعصر الحجر والنار والبرونز والطيور الخرافية التي عبرت بقوة أجنحتها الفضاء ثم احترقت في غاز الهيدروجين.. رأيت شاهد الذبح وعفن الفضائح حتى زمن البارود وانشطار الذرة .
يكفي أن أغمض عيني: أنا مذنب بما أنني رجل".
أي حب عظيم هذا الذي يستحضر الذاكرة الجماعية من مكامن النسيان والتجاهل للأعتراف بذنب قديم بقدم ذنب حواء ؟!.. إنها حسرة حقيقية ، ووجع يفتق القلب فقدان رجل كهذا الحسن الذي مات إعداماً في عهد صدام الذي أرتد موتاً بذات الطريقة.. ربما هي دعوات هدى المسكينة التي عرفت رجلاً يندر أن يتكرر في روحه وعطائه.. رحماك يا اله بقلب أحبته هدى وميسلون وأنا!.
-----------------------------------------
*سهام الدهيم: كاتبة وإعلامية سعودية.
*عن موقع منتدى (شظايا أدبية) بتاريخ 26/9/2009م.

ليست هناك تعليقات: