10‏/09‏/2020

شهادة عن حسن مطلك / فهد عنتر الدوخي

 

الجديد في ذاكرتي عن صاحب امتياز (دابادا) 

الراحل حسن مطلك..

    حسن مطلك 1975       

فهد عنتر الدوخي

الكثير ممن تناول سيرة الراحل حسن مطلك، الذي أحدث صرخة مدوية في فضاءات السرد على المستوى العربي، بروايته الشهيرة (دابادا) حتى ظلت أبواب التحليل والمكاشفة مشرعة إلى يومنا هذا، ومن خلال تجربتنا المتواضعة في هذا الشأن، فقد تسنى لي الاطلاع على الكثير ممن خاض غمار الكتابة عنها، والبعض نصب نفسه شاهدا على فصولها، وأقصد من الجيل الذي واكب غزارة الإنتاج القصصي في تلك الفترة، الذين اعتمدوا في دراساتهم على وسائل التواصل الصحافية والأدبية كالصحف والمجلات والإذاعات والقنوات التلفازية، كمصادر بحثية آنذاك، إذ لم يكن لديهم سبق المعرفة بهذه الشخصية الشرقاطية الآشورية، بعكس الذين جالوا معه وطافوا بظروف هذه البيئة، والذين تختزن صدورهم بذكريات خالدة ومواقف إنسانية متنوعة قريبة إليه، بحكم عوامل عديدة، أهمها المزاملة والصداقة وصلة القربى، ابتدأت، على الأقل، من رحلة الدراسة في إعدادية الشرقاط في العام1977 من القرن المرتحل وحتى رحيله مغدورا بتهمة التخطيط لإسقاط نظام الحكم في السنة المشؤومة 1990 التي غيرت مفاهيم الجغرافية والتاريخ لهذا البلد، لما شهده من أحداث وكوارث وخاصة بعد أحداث الكويت، والحصار الاقتصادي الذي جثم على خارطة الوطن لسنوات عديدة، وقد نسجت أول خيوط المعرفة به من خلال ابن عمه، صديقي وزميل الدراسة الأولية عبد سطم الروضان، وبيت عمه، الذين سكنوا مبكرا في قصبة الشرقاط، بعد أن غادروا قرية إسديرة وسطى، وفتحوا متجرا للمواد المنزلية في سوق الشرقاط القديم، وكان الراحل يسكن معهم لغرض الدراسة، إذ لم تتوفر مدرسة ثانوية في الساحل الأيسر من نهر دجلة أنداك، الأمر الذي جعل أغلب التلاميذ الذين ينهون الدراسة المتوسطة في القرى المحاذية للنهر، يواصلون رحلة الدراسة في ثانوية الشرقاط، ومن بينهم أيضا الراحل الروائي إبراهيم حسن ناصر، مؤلف رواية(شواطئ الدم شواطئ الملح) التي فازت في مسابقة وزارة الثقافة والإعلام العراقية في العام 1988 كأفضل رواية تجسد وقائع الحرب العراقية الإيرانية، وخاصة في معركة الفاو الخالدة.

حسن مطلك الذي عرفته، كان رساماً انطباعياً ماهراً حد الدهشة، وبحكم انتخابي رئيسا لمكتب سكرتارية الشرقاط، الاتحاد الوطني لطلبة العراق، الذي يشمل الرقعة الجغرافية الممتدة من قصبات وقرى حمام العليل والقيارة وحتى مشارف ناحية الزاب الأسفل جنوب شرق مدينة الشرقاط من الضفة اليسرى لنهر دجلة، فقد تطورت صلتي به، وأصبح صديقاً ماهراً في علاقاته مع زملائه، يواكب أنشطة الاتحاد الاجتماعية، الفنية منها، كالرسم والتمثيل. في هذه الفترة، برزت مواهب حسن مطلك الفنية، حتى كان له حضوراً مميزاً في معارض الرسم، في المناسبات الوطنية والاجتماعية، يزين ذلك كله، شخصية هادئة ومحبوبة، تجده متفائلاً، مبتسماً، خجولاً نوع ما، تبدو ملامح وجه الحنطي المشرق، وترتيب شعره وهندامه الأنيق.. وكأنه قادم من مدن لم تطئها شموس الجفاف والتصحر الذي اعتاد عليها سكان القرى والقصبات الريفية، وعندما نشحن ذاكرتنا البعيدة.. أذكر أن الهيئة الإدارية للاتحاد الوطني لطلبة العراق، أجرت مسابقة لتصميم شعار فني لمناسبة ما، وقد عممت شروط المسابقة إلى الجامعات والمعاهد والمدارس لمحافظة نينوى، فسارعت إلى زميلي الراحل حسن مطلك، ووضعت على طاولته هذ الأمر، وبعد بضعة أيام، جلب لي مشاركته في هذه المسابقة، بتصميم مبهر جداً، وفيه مواصفات الرسم الهندسي الحديث، وحتى استخدام الألوان، كان بأقلام غاية في الجودة، تضاهي أعمال كبار الفنانين في بغداد ونينوى آنذاك، ومن فرط إعجابي ودهشتي بهذه اللوحة، حزمت حقائبي وحملت اللوحة إلى مقر الهيئة الإدارية للاتحاد، الكائن في شارع الدواسة الفخم، إذ استقبلني الزميل العزيز مؤيد عيدان كاطع اللهيبي، رئيس الهيئة الإدارية للاتحاد، والذي كان يدرس في كلية التربية، جامعة الموصل قسم التاريخ، إذ نال بعدها شهادة الدكتوراه بهذا الاختصاص، وأصبح استاذاً وعميداً للكلية التي تخرج منها... أبدى ذهوله عندما رآني بحالة انشغال، وحضوري في وقت متأخر من نهار نيساني، ودون دعوة منه للقدوم إلى مدينة الموصل، ولما عرضت التصميم عليه، صُعِق من مهارة هذا الفنان، وأصابته الدهشة والفخر في آن معا، بقدرة وموهبة طالب إعدادية من قرية ريفية اسمها (إسديرة وسطى) التابعة لقضاء الشرقاط، وهو يدرك أن هذه الموهبة كان مبعثها حضارة مدينة آشور التي تجاوز عمرها الثلاثة آلاف سنة، وسرعان ما اتصل بالهاتف الأرضي، بمدير مطبعة جامعة الموصل، التي كانت رائدة في نشر رسائل الماجستير وأطروحات طلبة الدكتوراه، والبحوث العلمية للأساتيذ، وطبع الكتب المنهجية، وهي دار نشر وتوزيع لمعظم النتاجات الأدبية والإنسانية والعلمية، والتصاميم الهندسية والجغرافية... وبعد مداولة هاتفية ونقاش ساخن مع مدير المطبعة، أبدى الأخير أسفه لانتهاء المدة المقررة لاستقبال المشاركات، لأن النتائج حُسمت واختيرت النماذج الفائزة، وهي قيد الطبع والإنجاز، الأمر الذي جعل الزميل مؤيد في حالة امتعاض وأسف شديدين لما آل اليه حالنا، وفي ضوء ذلك، تم تأطير (البوستر) اللوحة، وتعليقها في واجهة مقر فرع الاتحاد، ومكافأة قدرها عشرة دنانير للزميل حسن، الذي تبرع بها هو الآخر لنشاط اللجنة الفنية في اللجنة الاتحادية لثانوية الشرقاط، والغريب في الأمر، أن الزميل الراحل حسن مطلك لم يعر اهتماماً للموضوع، وقابل فشلي بابتسامة هادئة كروحه..

وفي واحدة من نشاطاتنا الطلابية، فوجئنا بزعل عريف الحفل في وقت حرج، لإقامة أمسية كان يحضرها قائمقام القضاء وبعض المسؤولين وضيوف آخرين، حتى عالج حسن مطلك المشكلة، وقف على خشبة المسرح، وكان بارعاً في تقديم الأمسية، وخرجنا بصدور يزينها الانشراح... مع كل ما أسلفنا، لم نعلم ولم نكتشف ميوله الأدبية وعنايته الفائقة في السرد، والتي ظهرت فيما بعد تخرجنا من الإعدادية، هو قُبِل في كلية التربية جامعة الموصل، وأنا قُبلت في كلية الإدارة والاقتصاد، الجامعة المستنصرية، وفي خضم هذا الوقت، أخبرت أخي الكبير سامي عنتر الدوخي، الذي كان يدرس في قسم الكيمياء، كلية التربية، جامعة الموصل، ويعمل في المكتب الطلابي الحزبي للجامعة، أعلمته بمواهب زميلي حسن مطلك، وسرعان ما احتضنه ليملأ باحات الجامعة بتصاميم وبوسترات، وقد طُبعت بتقنية عالية، بنفس المطبعة التي كان يخامر إحساسنا وصولها كهدف عظيم، تتوج برسوماً خالدة يشهد لها التاريخ... ورغم ضعف التواصل بيننا خلال بداية ثمانينيات القرن الفارط، بسبب الدراسة حتى تناقلت وسائل الإعلام فوز القصة القصيرة في مسابقة وزارة الثقافة والاعلام العراقية، قصة (عرانيس) للقاص حسن مطلك، ونشرتها مجلة (ألف باء) الناطقة بلسان الوزارة، والتي نالت عناية النقاد والكتاب الكبار، لغرابة الحدث وجمال اللغة والتقنية القصصية التي كتبت بها، علاوة على واقعيتها، وهي تلبي متطلبات مرحلة حرجة من حياة العراق، وعندما تصفحت أحداث هذه القصة، وطريقة كتابتها والأسلوب المبتكر الذي وثقه فيها، أدركت أنني لم أكتشف مخزوناً إضافياً من الإبداع والمواهب الجديدة لزميلي، الذي عايشته وزاملته لأعوام عديدة.. أما رواية (دابادا)، التي قال لي عنها(أنها سوالف أهلنا، وتعاليلهم وضحكاتهم وهرج مجالسهم.. وهي دابادااااااا.. إلخ)، وذكر لي أن أحد الكتاب المصريين الكبار، والمشهود له بالعمل الروائي، نصحه أن لا يقدمها للنشر، لأنها ستكون مغامرة خطرة، و(أخشى عليك من الفشل والإحباط)...

وكانت لي آخر زيارة له في العام 1989، في قرية إسديرة، تناولنا طعام الغداء في منزله، وكان الأخ الروائي الدكتور محسن الرملي، الأخ الأصغر له، الذي كان يدرس في كلية الآداب جامعة بغداد، قسم اللغة الإسبانية حاضراً، يستمع إلى أحاديثنا عن الرواية وظروف كتابتها والنجاح الباهر التي حققته.. وكان رحمه الله، مسرورا بهالة المجد التي صنعته هذه الرواية….

 

*نبذة عن السيرة الذاتية، من موسوعة ويكيبيديا:

حسن مُطلك (1961 ـ 1990) كاتب ورسام وشاعر عراقي. ويعد واحداً من أهم الأصوات الأدبية الحداثية التي برزت في العراق في ثمانينيات القرن العشرين. ولد سنة 1961 في قرية سُديرة التابعة لمدينة الشرقاط في شمال العراق. أنهى دراسته الجامعية سنة 1983 حاصلاً على شهادة البكالوريوس في التربية وعلم النفس من كلية التربية في جامعة الموصل. أقام عدة معارض للفن التشكيلي وأصدر مع مجموعة من أصدقائه في الجامعة مجلة (المُربي) نشر فيها مقالتين إحداهما عن الفن التشكيلي والأخرى قراءة لرواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال). وبعد أدائه للخدمة العسكرية الإلزامية عمل أستاذاً في معهد المعلمين في كركوك ومديراً لعدة مدارس إعدادية. تزوج وله ابنتين هما: مـروة وسـارة. حاز على الجائزة الأولى لقصة الحرب سنة 1983 عن قصته (عرانيس) والجائزة التقديرية سنة 1988 عن قصته (بطل في المحاق). ثم نشر روايته (دابادا) التي تعتبر قمة أعماله الأدبية. أُعدم شنقاً بتاريخ 18/7/1990 الساعة السابعة مساءً، لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم. حيث راح يصفه بعض المثقفين إثر ذلك بأنه (لوركا العراقي). خصصت مجلة ألواح ALWAH الصادرة في إسبانيا عددها 11/2001 عنه بالكامل، 300صفحة. كما خصصت عنه ملفات في صحيفتي (المدى) و(الزمان) العراقيتين. وكتبت الكثير من الشهادات عنه والدراسات عن أعماله، من بينها رسالة دكتوراه أنجزها عبدالرحمن محمد الجبوري في جامعة الموصل بعنوان (الخطاب الروائي عند حسن مطلك.. دراسة تأويلية). وحسن مطلك هو شقيق الكاتب العراقي محسن الرملي.

---------------------

*فهد عنتر الدوخي: كاتب عراقي، من أعماله: (انتهاء المواسم)، (آدم لا يشبه جده)، (المرأة الجدار) و(للضوء وجه آخر).

*نشرت في مجلة (صدى الريف) العدد الثامن، كانون الأول، سنة 2019م

*وفي (الناقد العراقي) بتاريخ 6/12/2019

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/70566.php







08‏/09‏/2020

إهداء إلى حسن مطلك / قصة: عبد حمد

 

قصة قصيرة

سقوط نيزك

.. مهداة إلى حسن مطلك 

عبد حمد

في إحدى ليالي الشتاء الباردة المليئة بالثلج والضباب، وعلى ضفاف نهر دجله في قرية مليئة بالسدر عند حافة الوادي... فتح الصغير عينيه، وقد ولد توا على يد إحدى عجائز الشرق... عمائم... هلاهل... يلف بصره خمول داكن... لم يستطع تمييز الأشياء... امتد بصره نحو الحقول الخضراء المحشوة بالبطيخ والزغبيب... علقت في رقبته خيط أخضر تتدلى منه رضاعة مطاطية... وبشّرت والده، بان سيكون له شأناً بين أقرانه، على الرغم من أنه ابن سبعة أشهر.. إلا أن أوراقه مليئة بالسواد.

قال الوالد: كيف عرفتِ ذلك؟ قالت صاحبة العمامة السوداء: أما ترى يا بني وجهه الندي الوضاء وجبينه الناصع البياض! رأيته أمس، في المنام، يحمل أوراقا وأسميته (حسن). يحاول أن يزيد من حدة بصره... مسامير على الحائط الطيني، مشنوقة عليها سبعة عشر ملعقة... ثقوب في السقف، باضت وفقست فيها العصافير، وطيور السنونو تتدلى من على عامود يتوسط الغرفة ذات السقف الأحدب... خوف من العالم... حزن على الراحة والاطمئنان اللذان غادرهما قبل قليل... شعر بالحاجة إلى البكاء، فبكى... شعر بالحاجة الى الحليب، فرضع... قالت العجوز لأمه: سيبكي وستبكين... قالت أمه:(اذكري اسم الله).. هذه مجرد أحلام، ربما أكلتِ البارحة بصلاً قبل نومك.

وجد الوليد نفسه.. يتأمل حبل الغسيل المشدود على السواري في فناء البيت... واستسلم لنوم عميق، على إيقاع صرير الحبال وزقزقة العصافير وخرخشة الفئران ومستقبل مجهول... لقد لُفَّ في خرقة بيضاء وتم تحكيمها بحبل من القماش.. حتى أقصى قدميه... استسلم لضغط الحبل.. لأنه يذكره بضيق مكانه الأول.. ولم يحاول إخراج يديه من اللفافة... غادرت العجوز المكان..  وكأنها تودعه إلى الأبد....... سقط النيزك.. وتدلى مشنوقاً بحبل الغسيل... وكثر الضجيج في بيوت القرية وأزقتها.. وتبخر الهدوء من صدر الجبل وسفح الوادي وشوكة البحر التي تحك أوراقها على قارعة الطريق.

----------------------

*عبد حمد علي: كاتب من أبناء قرية (سدير) قرية حسن مطلك