30‏/05‏/2023

في ذكرى حسن مطلك / د. حكمت الحلو

 

اِيييه يا حسن.. يا قيظ الروح الموغل في يباس أيامي

 

الدكتور حكمت الحلو

ها أنا ذا أتلمس الذكريات ...

أفتح ثلاثين نافذة على جرحي وبي شجن معتق مكتوم

فيجيء الفتون على فتونه القديم

وينسل التذكار مثل جسر الألم بين الموت والحياة

فما زال الشط تثقله ظلمة طافية، وأنا أرقبه وهو يتفجر بنشيجه الدامي مذ ماتت كل الأحلام والرؤى الصادقة، وغارت في طيش دجلة المتمرد...

اِييييييه يا حسن

وحدك أنت الذي ما غيّبت لوعتي بك السنين، فما زلتُ عاكفاً على ذلك الرواء الظامئ

أترعُ من كأسه الجريحة بقايا الذكريات الفاتنة

وومضات الوجد التي ما زالت تتسيد عالمي المطرق بصمت ووجوم

بالأمس وقفت على سطح (اسديرة)، فسحّ دمعي مع الشط المكفن بأرخبيل من الأغوار الطافية على ركام أوجاعي الذاهلة وهي تستجدي سراجها وقنديلها وفنارها من عيوني.

أيها الطفل الشاحب المطلُّ من ظلمتك المنيرة..

أيها العابث بحثاً عن أسرار الخرافات والأساطير والقرابين وآلهة الموت والصولجانات

إلى أين مضيت؟؟ وأنا ما زلتُ بانتظارك.

أجلس على الرصيف أقضم أظافري بانشداه وحيرة، مأخوذاً وأنت أمامي رهين الوحشة والهلع الكابي،

وهذا الشيء الأسود الغامض يكبر ويتنامى بلا حدود في أعماقي، مثل وحشٍ ضارٍ ومخيف،

فأنزلق على وجه النهر مثل جزيرة صغيرة من الطحالب والاشنات، وأنا أتذكر الدار الطينية ورائحة الدفلى والزعتر والنعناع على ضفتيه...

أما روحي؟؟ فما زالت مسربلة بك، ومطحونة بنعناع الموت.

ويوم جئتني ذات ليل داهم موغل الكوابيس.. خِلتُكَ مخنوقاً، رغم قلادتك الكوكبية، التي كنت تضعها على صدرك بازدهاء وانتشاء.

لقد كنتُ ألمحُ محارها الجريح يتناثر بين شجيرات الغَرَب والعوسج والطرفا، مثل شظايا نيزك طائشة

كنتَ – يا جمرة اشتعالي – منطفئاً.. كشيء قديم، يابساً مثل عشبة أرهقها أُوامُ ظالم، رغم أن قدميك كانتا مغروستين في النهر.

وحين مددتَ يدك إلى النجوم، غارت هي الأخرى، وانطفأت وعاد كفك يابساً محترقاً.

كنتَ يا حسن.. ثملاً فرط العياء، تستروح قليلاً، وتسترد أنفاسك، وأنت متشبثٌ بشيء مبهم، غامض،

لكنني كنتُ أعرف ان الذي ألقى بك لتنبش في قاع المجهول، هو ضراوة الوجع الناغل حد اللعنة، فرحتَ تندَسُ مثل شعلة تسبق أُوارها، كاشفاً عن بطش العذاب الذي يقتحمك بصمته وغدره،

وعن ينبوع الدم الساخن الذي يتفجر في رأسك..

اِيييييه يا حسن

يا قيظ الروح الموغل في يباس أيامي

يسألني عنك البيت الطيني، والشاروك، وهمهمات النهر المخنوقة

وتسألني أعقاب السجاير المبعثرة على رصيف الجامعة وتل قوينجق

تسألني دابادا، وميّ، والرسائل، وبقايا الألوان التي جفت فرط الانتظار

تسألني نوارس اورورا الباكية عن سر انطفاء القنديل الواعد

تسألني نجيمة سحيقة البعد خابية الضياء

يسألني الوقت الكئيب وهو يمر متثاقل الخطوات

تسألني جمرة الوَلَه الخامد في أعماقي

ويلفني الصمت، وتكتنفني الحيرة، ويخنقني عليك البكاء.

حكمت الحلو

18/9/1990

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر الدكتور حكمت الحلو، هذا النص المرثية لصديقه حسن مطلك، بتاريخ 17/7/2020 على صفحته في فيسبوك

https://www.facebook.com/photo?fbid=1403973716464175&set=a.163900043804888

ومن ردوده على تعليقات القراء:

صديقنا حسن - كما تعلم - فريد المزايا والخصال، ويوم افتقدناه؛ عرفنا حجم خسارتنا فيه، رغم ما تركه فينا من عذوبة تتضوع كلما ذكرناه.

كان حسن أديباً مطبوعاً، مزدحماً بالكتابة وبكل فنون الابداع، كان شعلة ضارية، انطفأت بصمت.

يرحم الله أخانا حسن، كان مبدعا بحق، مكتنزا ومكتظاً بالكتابة، غير ان الموت أخذه منا، وهو في قمة عطاءه.

رحم الله حسن وأكرم نزله. كان بحق، يملك قلب طفل بريء، يملك من المشاعر الجياشة ما يفوق الوصف، فضلاً عن دماثة خلقه ونبله، أما إبداعه، فالحديث عنه يطول، كان يقرأ بنهم وشغف، وحينما يكتب، كان يسوّد بياض الورق بما يشبه السحر، كان غرائبياً يعجن الفن بالأدب والفلسفة والسياسة وكل ألوان المعرفة بطريقة عجيبة، رحل عنا مبكرا رحمه الله.

لم يكن حسن، بالنسبة لي، زميلاً عابراً أو صديقاً رمته الأقدار مصادفة، أو بفعل ظروف آنية محضة، بل كان صنوي وخلّ روحي، وبعض وجداني، وما ان عرفته، حتى تلبسني هاجس غامض مُقلق عليه، كثيراً ما كاشفته به، ألا هو خوفي عليه، دون أن أعرف لهذا الهاجس سبباً أو مبرراً.. وهذا ما وقع!! كان حسن مشروعاً إبداعياً كبيراً، وبصمة واعدة بحق، انبثق مثل نجمة وامضة متوهجة.. وانطفأ مثل نيزك محترق.. وجعي عليه كبير يا صاحبي!

05‏/05‏/2023

قراءة في الكتابة وقوفاً / خلف حسين

وقفة مع الكتابة وقوفاً لحسن مطلك

خلف حسين

"قل لهم إنني ما زلتُ حياً، حدثهم عني كي لا ينساني أحد، لأنني أخافُ النسيان أكثر مما أخاف الموت".

حسن مطلك/الكتابة وقوفاً، ص٤٤

.. كأنها وصية أو صرخة لحظوية آتية من قبر حسن مطلك!

يجتاحني شعور عارم.. هو مزيج من الشغف واللذة واللهفة والغبطة، وأنا أمّزق غلاف النايلون مرتعشاً كعريس في ليلته الأولى. أول شيء فعلته عندما أزلتُ الغلاف، أنني فتحتُ منتصف الكتاب ثم حشرتُ أنفي بين أوراقه، واستنشقتُ رائحة كلماته وأوراقه بلهفة.. كمن يخرج رأسه من الماء، وكنتُ أفعل ذلك كلما انتهيت من قراءة صفحة من الكتاب، حتى يُخيل إليّ أن للصفحات المكتوبة رائحة تختلف عن الصفحات الفارغة، وكأن رائحة كلمات حسن مطلك لها عبيرها المتفرد، بل هي كذلك. شرعتُ أقرأ ويعتريني القلق من إنهاء الكتاب.

كنت أراقب أرقام الصفحات كما أراقب مرور الزمن، لأطمئن نفسي أن الكتاب لم ينته بعد أو لم يقترب من النهاية. استوقفتني الكثير من الجمل المحنكة بتعقيد مُركّب، إن جاز التعبير، وذلك هو أسلوب حسن في الكتابة، فأُغلقُ الكتاب على إصبعي، وأركز نظري في الفراغ محاولاً جاهداً استيعابها ولملمة دلالاتها المركبة، وكأن الكاتب يضعني في تحدٍ ونزال ويتعمد إرهاقي. إنه يتعمد تعقيد أسلوبه الكتابي لكي يجبرنا على إعادة قراءته مرةً بعد أخرى.

قد يتصور القارئ أن القصد من العنوان (الكتابة وقوفاً) هو أن نكتب ونحن بوضع الوقوف الفعلي، لكن في الحقيقة يقصد أن ننظر إلى العالم ونحن واقفين ثم نكتب عن تلك التجربة -النظرة- وبذلك فهو يربطها بالمفهوم الذي نادى به وهو (الواقعية المُطلقة) التي ترفض عملية النظر إلى العالم من منظار واحد، وعلى حد قوله: "أن نتلقى العالم بشكل طولي".

إن هذا الكتاب هو الخلاصة المعرفية المتراكمة لدى حسن مطلك، فهو زاخر بالتأملات المستفيضة في فن الرواية وعناصرها من شخصيات ومكان وزمان وحدث وشكل، إضافة إلى محاولات التجريب والتنظير في عملية الكتابة، مليء بالتعريفات الأدبية للأدب والرواية، والمنهجية التي يجترحها حسن لنفسه في كتابة الرواية.

يطرح قضايا جوهرية كبرى، منها إشكالات الرواية الحديثة وعلاقتها بالميتافيزيقيا، والتطلعات الميتافيزيقية للروائي. وفي كل مرة تنتصر الرواية على الفلسفة بالبراهين الدامغة التي يطرحها حسن مطلك.

وكذلك يتناول جدلية العلاقة بين الشِعر والفلسفة والرواية فيمثلها كالآتي:

"أحدهم حوّل خياله إلى واقع، بعدما حوّل الواقع إلى الخيال، وقد طاب له أن يمزج بين جسدين: وحش وبلبل، فصار شاعراً، وآخر أعطى للهجين معنى كونياً فصار فيلسوفاً، أما الثالث فقد تحدث عن كليهما وما صنعا، فكان روائياً".

ويمزج بين تحويل الواقع إلى خيال ونشوء اللغة وتطورها فيقول:

"وغابراً، في لحظة ما، أراد أحدهم أن ينقل الصورة لصخرة رآها، إلى شخص آخر، بالإيماء والصوت، غير أن الآخر قد تخيلها وحشاً.. وحتى بعد أن رآها، فقد استخدمها كوحش، كأداة لقتل الوحوش، وربما نحتها بصورة وحش فعلاً.. وبذلك لم تعد الصخرة كما هي، بل صارت شيئاً مغايرا".

حسن مطلك لا يُقرأ مرة واحدة، كتابته تتجدد، هذا الكاتب الشرس المحنك، هذه الظاهرة المتفردة، يجعل من الكتابة كائن حي، إنك في كل مرة تعيد قراءته؛ تكتشف أشياء جديدة لم ترصدها في المرة السابقة.

اقتباسات موجزة:

*"الرواية هي أن نعبر بكل دقة ووضوح عن عدم فهمنا للعالم".

*"الرواية هي خطأ مقبول يعطينا شكلاً بديلاً عن الواقع".

*"الأسلوب هو طريقة لرؤية العالم".

*"بالحس يحيا الإنسان."

*"إن اللحظات التي تمضي من الحياة دون أن يرصدها الأدب، هي لحظات ميتة".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في موقع (الأنطولوجيا) بتاريخ 6/5/2023م

https://alantologia.com/blogs/67776/?fbclid=IwAR3pv9YkAzGZE4DATb2z8ZsSm-m-CDUmvwxkFe62cArGgIJwFrb5zCvgxUI

*خلف حسين: كاتب عراقي، من أعماله، مجموعة قصصية بعنوان (نزهة في مقبرة)، الفائزة بمسابقة الاتحاد العام للأدباء والكتـــَّــاب في العراق 2023م.

https://www.facebook.com/photo/?fbid=3173442956288118&set=a.1386809398284825