31‏/01‏/2024

الكتابة وقوفاً.. عمل فريد/ غيداء السعدي

 الكتابة وقوفاً .. هذا العمل فريد 

غيداء السعدي

بداية من العنوان، إذ يطرح حسن مطلك في هذا الكتاب؛ فكرة جريئة حول الكتابة، مقترحاً أن الكتابة في وضع الوقوف ليست مجرد تغيير جسدي، بل هي ثورة في كيفية التعامل مع الكتابة نفسها.

يناقش الكتاب بعمق، تأثير الوضع الجسدي على الإبداع ويستكشف كيف يمكن لهذا التغيير أن يفتح آفاقاً جديدة في التفكير والتعبير. يركز مطلك على أهمية تجديد النظرة للكتابة والرواية، متحدياً الأفكار التقليدية ومشجعاً على إيجاد صوت فريد لكل كاتب.

تناول مفاهيم مثل الزمان والمكان في الرواية وأولى أهمية كبرى للزمان، وكيف يمكن أن يؤثرا بشكل كبير في بنية وتطور الرواية.

يبحث مطلك في العلاقة المعقدة بين الواقعي والخيالي في الأدب، وكيف لهذين الجانبين أن يتداخلا ويثريا السرد.

يتحدث عن قوة الأدب وعلى كيفية تشكيل الأدب وتأثيره في هويتنا وفهمنا للعالم من حولنا، وكمثال استذكرت رواية "لمن تقرع الأجراس" لإرنست همنغواي. هذه الرواية، التي تدور أحداثها خلال الحرب الأهلية الإسبانية، تقدم ليس فقط صورة معقدة للحرب وتأثيراتها، ولكنها تستكشف أيضًا موضوعات عميقة مثل الحب، الفداء، والتضحية.

في الرواية، يتم تصوير الشخصيات بطريقة تجعل القارئ يتفاعل مع مشاعرهم وتجاربهم الشخصية بشكل عميق. من خلال تجارب الشخصية الرئيسية، (روبرت جوردن)، يتم استكشاف مفاهيم مثل الواجب والحب في سياق الحرب، مما يدفع القراء إلى التفكير في معنى هذه المفاهيم في حياتهم الخاصة.

تأثير “لمن تقرع الأجراس” يتجاوز القصة المروية ليتمدد إلى الطريقة التي يفكر بها القراء حول الصراعات الإنسانية، العلاقات الشخصية، وأسئلة الأخلاق والوجود. هذه الرواية تدفع القارئ إلى التأمل في هويته الخاصة ومكانه في العالم، وكيف تتأثر هذه الجوانب بالتجارب والعلاقات الإنسانية.

بهذه الطريقة، يمكن للأدب أن يكون أداة قوية للتأثير في طريقة فهمنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، وذلك عبر تقديم تجارب ومشاعر وتفكير شخصياته بطريقة ترغمنا على التفكير في مواضيع عميقة وأساسية في حياتنا.

"الكتابة وقوفاً" ليس مجرد كتاب عن الكتابة؛ إنه استكشاف للأدب ككل، ودعوة للكتّاب والقراء للنظر إلى عالم الرواية بطريقة جديدة ومبتكرة.

يجعلك هذا العمل (الكتابة وقوفاً) تفكر ملياً في القوة الكامنة في الكلمات والسرد، وكيف يمكن لهذه الأدوات أن تشكل وعينا وتجربتنا الإنسانية.

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=10222997533239155&set=pb.1604131335.-2207520000&type=3

06‏/10‏/2023

عن كتاب الحب لـ حسن مطلك / ورود الموسوي

 «كتاب الحب» لـحسن مطلك

.. «ظِلالهن على الأرض» 

ورود الموسوي

أيُّ يدٍ اسْتطاعتْ خلق هذا الشعور الغريب المرهف القاتل الذي نسمّيه حبّاً؟ أيُّ يدٍ استطاعت أن تدسّه برفقٍ في شرايين البشر وتوزعه على أوردتهم بجرعاتٍ مميتةٍ أحياناً ومنمِّلةٍ أحياناً أخر؟ كيف يمكن فهم هذا الشعور النادر وتلك اللحظة المارقةِ كسهمٍ يخترق قلبك ليستقر في دمك وتشعر بسريانه وارتعاشه المُتَكَرّرِ في كيانك العصبيِّ كلّه؟!

هذا الكائنُ الرقيقُ الشفيفُ اللطيفُ الخفيُّ الذي لم يستطع أحد من الفلاسفة القدامى بما فيهم أرسطو، ولا فلاسفة العصر الحديث، ولا حتى علماء النفس - الذين راحوا يضعون أنماطاً وأشكالاً للحب – إيجاد تفسيرٍ أو تعريفٍ واحدٍ له غير تسميته بكل تجرّد «حباً»، وأنّه «يُشبه الأسطورة التي يعجز الفَهمُ البشريُّ عن إدراك كنهها أو ماهيتها، إذ لا يستطيع أحدٌ التعبير عنها إلا مَن صدّقها في معناها» بحسب قولِ أرسطو.

المولّد الأول

لكنّي حين أمعنُ النظرَ بالحبِّ محاولاً إيجاد تفسير له أو معنىً، أجدهُ يُشبه الى حدٍ كبير في سِرّانيّته ونورانيّته وكُنهه المبهم «الرُّوح» وكيف لا، وهي مسكنه الأول وموطنه الأمّ ومنها انطلاقته البكر ومنها تجواله في قلوب الناس وملله منهم أيضاً!

فالروح هي المحرّك الأول والمولّد الأول للحب وبعد استعداده لقبول روح أخرى سيهبطُ الى النفس التي بدورها تبدأُ بتوزيعه على الحواس والخيال والذاكرة ليتفاعل معها جميعاً ويبدأ بلعب دوره المقدّس! بينما تظلُّ الروح شاهدَةً على ما أبدعته وأنتجته ووزعته.

ولأني أتبنّى هذه النظرية بقوّة - أعني - القائلة بارتباط الحبّ بالروح ارتباطاً مباشراً ووثيقاً، فإنّ الحبَّ يتبعُ وعاءه بكل صفاته وتجلياته. ولأن الروح عصيّةٌ على فهمنا حتى يومنا هذا رغم محاولات الفلاسفة بشرحها وتحديدها واتفاقهم على أنها «جوهرٌ وكمال أول»، لكننا ما زلنا عاجزين عن تحديد كنهها وماهيتها والردُّ الإلهي واضحٌ بأنها من أمر الله «ويسألونك عن الروحِ قل الرُّوحُ من أمر ربي وما أوتيتم من العلمِ إلا قليلاً» (الإسراء: ٨٥). وبناءً على الفرضية التي أطرحها هنا بأن الحبّ متعلّق بالروح ولا يتجزأ عنها فهو إذن «من أمر الله» أيضاً ولا يمكننا تحديدَ ماهيته ولا كنهه لأنه يتبع حاضنه الأول.

مفاهيم مغلوطة

وعدمُ قدرتنا على تعريفه أو تفسيره لا يمنعنا من التعرّف على تمظهراته بعد أن يدخل النفس مستعدّاً لاحتضان روحٍ ونفسٍ أخرى، بل يمكننا تتبع إشاراته للحواس والعقل والقلب وأفعاله في الإنسان. كما يمكننا التعرف على الأعراض التي يُحسّها ويشعر بها المحب حين يُصابُ بالحب؟

لكنْ، أين نحن اليوم من كل ما تقدّم؟ قد يُلاحَظُ في السنوات الأخيرة التصاعد المبالغ به لكل ما هو حسي ومادي على ما هو روحاني وما ورائي، بطغيان موجة كبيرة من المولّد الأول حول مفهوم الحب حتى صار مُعرَّفاً بصفاتٍ حسّية بحتة وخرج من ارتباطه الروحي الى ارتباطه الجسدي، وأصبح بعض الشعراء والشاعرات وبعض الأدباء يتغزلون بالحب حتى يصبحَ الحب سلعةً وموضوعاً مرتبطاً في ذهن أغلبية الرجال برفيقة فحسب.

المتن

كان لا بد من الهامش كي ندلف بهدوء الى «كتاب الحب - ظلالُهن على الأرض -» لحسن مطلك الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون - عام ٢٠٠٩ - الذي أعادت طباعته دار المدى لاحقاً، وهو يحملُ رسائل ومذكراتٍ جمعها الروائي المقيم في إسبانيا محسن الرملي، مختصراً فيه تجربتين في الحب عاشهما «حسن مطلك».

أقول ندلفُ بهدوءٍ وروية كي لا نجرحَ أحداً من أبطال الحكاية التي راح يرويها البطل نفسه، المُحبُّ نفسه وهو يعيد تشكيل فلسفته لمعنى الحب من خلال البرهان وأعني - تجربته الخاصة -. فبدا لنا كقراء أن التجربة الأخيرة هي الأقوى والأصدق في حياته القصيرة التي انتهت بإعدامه عام ١٩٩٠ في ذروة عطائه.

يطالعنا الجزء الأول من الكتاب بعنوان «ظلّ الباشق على الأرض»، ليكون الباشق الجارح رمز الحب السام الذي لا يحمل الوعي الكافي ويتجسد باللوعة والحسرة والتدفق الشعوري بالحرمان والإحساس المرّ بالخسارة، وذلك بعد أن تزوجت حبيبته «ميسلون والتي كان يرمز لها بـ م» من «ثابت صديقه الذي كان رسول الحب بينهما والذي يرمز له بـ ث»، وما بين تجربته مع «م» وسقوطه في تجارب عابرة وصولاً الى حبيبته الأخيرة التي جاءت في الجزء الثاني آخذةً عُصارةَ ما تعتّقَ في جيوب «حسن» من حبّ ووعي ونضج ومسؤوليةٍ كاملة الرجولة أمام كلمة «أحبكِ» ليمنحها عنواناً مضيئاً ولْتكون «ظلّ القمر على الأرض»، بل ظلهّا عليه هو، وهي مرآته التي محت بإطلالتها كل مَن عرفهن من النساء قبلها بحسب ما نقرأ في الرسائل، فـ«هاشمية التي أسماها هدى ويرمز لها بـ هـ» تتجلى بحضرتها العواطف والأحاسيس والمشاعر الجياشة. ينزعُ عنه صلابته ليكون عارياً أمام حبه إلا من رقّته ككاتب وشغفه كمبدع فتراه يتخلى عن كل شيء إلا أناه الباحثة عن أسرار «السعادة» المفاجئة هذه!

هو الذي قد تكون القسوة والصلابة من سماته التي اعتاد عليها واعتادها الناس منه، إلا أنه لا يخجل من تحوّله أمامها وحدها وهي - الرمز المطابق والمعادل للحب - طفلاً يود الانتحاب.

اكتشاف المعنى الحقيقي

في كتاب الحب يعيد حسن مطلك اكتشاف المعنى الحقيقي للحب ليس له فحسب بل لحبيبته ذاتها وللمجتمع ولكل من سيقرأ هذي الرسائل - التي لربما امتنع عن نشرها لو كان على قيد الحياة وقيد القرار - لكنها لم تكن رسائل شخصية بحتة، بل تحمل بين طيّاتها الكثير من همومه هو كفنان وكاتب مبدع وإنسان واعٍ بكل ما يدور حوله، يملك تطلعات وهموماً جمالية وفلسفية خاصة. فالحب في حياة حسن مطلك ليس ترفاً وجودياً بل هو الوجود بحد ذاته، مركز وجوده هو وانتماؤه للحياة بكل تفاصيلها، فهو لا يرى الحب معنى بسيطاً تجود الحياة عليه بامرأة جميلة فقط بل الحب لديه «مركز القلب» «كنز الحياة» «روحه هو» التي تحلّ بروح محبوبته، فينصهران معاً روحاً واحدة في جسدين (بحسب نظرية أرسطو)، فالحب أعلى درجات الوجود السامي، وحين تسنحُ الفرصة بأن يتجسَّد ويحلّ في جسدين، فإنما هو يتجسد تلبية لنداء الروح ليصبحَ جسدا المحبوبين ترجمانَ لما أمْرتهما به الروح:

تُرى من منّا - أأنا أم أنتِ - سيقدّرُ جلالة اللحظة التي خلطتنا؟

لحظة كنا فيها جسدين لشخص واحد....

تُرى كيف يمكن أن نخونَ هذه اللحظة؟

تُرى كيف يُمكن أن نفترق لمجرّد أن تعرّض أحدنا للقسوة من قبل الآخر؟

ومَن مِن بعدنا سيقسو علينا هذه القسوة اللذيذة إذا قلنا.. «وداعا».. وذهبنا). ص ١٠١

رسائل إنقاذ

وأنت تقرأ كتاب الحب.. سترى علامات الرفعة والأصالة والشغف والكبرياء وعزة النفس التي يتحدث بها عن نفسه كإنسان رغم اعترافاته الكثيرة بإخفاقاته كشخص لديه محدودية في قدرته على مواجهة المجتمع وتحمّله.

لم يلبس حسن مطلك قناعاً وهو يكتب لحبيبته التي هي - نفسُه وروحه - والمرء لا يلبس أقنعة أمام «نفسه وروحه»، لذا كان يعيد نفخ الروح بهذا الكائن المسمى - حبّاً - بحسب فهمه هو ووعيه هو، وكأنّ هذي الرسائل، رسائل إنقاذٍ موجّهةٍ لجيل العصر الحديث من الكتّاب والمشتغلين في حقول نشر المعرفة الذين يغضّون الطرف عمّا يُكتَبُ ويُنشَرُ ويروّجُ له ويُعلَّبُ ويُصدَّرُ للناس باسم الحب بهيئته الحديثة الفارغة! وكأنّهم يتعمّدون تفريغ الحب من نواته الأولى وطاقته الكبرى التي من أجلها خُلق بأن يكون مصدر قوةٍ لا ضعفاً وأن يكون مصدر وعي لا جهلاً وأن يكون له ملامح يعكسها على قلوب المحبين وأشكالهم أيضاً، خصوصاً «المرأة» التي كان مشغولاً بها حسن مطلك من خلال تعجُّبه واعتراضه ونفوره من المرأة التي ترضى لنفسها أن تكون آلةً ولعبةً بيد الرجل وتابعة له.

روح الحب الكريمة

أخيراً، وأنتَ تغلق «كتاب الحب» لحسن مطلك لن تملك إلا أن تتأسف على فقدان هذا الرجل بعمرٍ مبكر وهو يملك وعياً عالي التفاصيل. يملك احتراماً واعياً للذات لا غروراً فجّاً، ويملك احتراماً عالياً للكتابة وأسئلتها. هذا الرجل الذي يصفُ نفسه بأنه «لا يهدأ أبداً» بفرادته وطيبته وأصالته تَجَسّد حيّاً نابضاً ومتوّهجاً لحظة إعلانه لحبّه. ظلَّ حيّاً ونابضاً حتى وهو يحاول الموت مراراً ليفهم سرّ بقائه، وهو يجيبُ لاحقاً على كل لعناته برسائله الضاجّة بالحياة والتي لم تهدأ أبداً مذ لحظة كتابتها وتفريغها على الورق مروراً بكل هذي السنين التي تكاثر بها المحبون ما زالت كلماته صاخبة، بيّنةً، واضحة ومشتعلةً، بأن يصبح المُحِبّ و- خصوصاً المرأةَ - إنساناً واعياً لحظة الكشفِ وتجليه أمام الحب، وألا نكون أذلاءَ، عديمي كرامة باسم حبٍّ مزعوم لا يُرادُ منه غير آلته.

فالحبُّ روحٌ كريمةٌ ترفعُ قَـدْرَ صاحبها لعالم أعلى ولا ترضى له الهبوطَ لعالمٍ أسفل!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة (القبس) الكويتية، العدد 30 مايو 2023م

*ورود الموسوي: شاعرة عراقية تقيم في لندن، من أعمالها: (وَشْمُ عقارب)، (هل أتى...!)، (لا أسمع غيري)، (مقام البنت والعاشق) و(ما قالته الرصاصةُ للرأس)

https://d.alqabas.com/archive/1683139191702_hFSEz.pdf

https://www.alqabas.com/article/5911979--%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D9%85%D8%B7%D9%84%D9%83-%D8%B8%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%B6

20‏/09‏/2023

حسن مطلك.. الأديب الثائر/د. حميد العلاوي

 

حسن مطلك.. الأديب الثائر 

د. حميد العلاوي

ذلك الفتى الذي عبث بأوراق التاريخ، وغير شفرات الجغرافية.. ثم مضى إلى أبديته، حاملا معه كلمة السر ...

إنه الكاتب والروائي حسن مطلك، ذلك الشاب الوسيم، والشاعر المرهف، والرسام الهادئ، والروائي المختلف.

الكاتب المتفرد الأسلوب، عندما كتب روايته المثيرة للجدل (دابادا) والتي كانت فلسفية المنحى، عصية على الفهم، وكأنه أراد لها أن تكون لغزاً محيراً من بعده، فكانت كما وصفها: صرخة في الظلام، وانتهاء بالنهاية اللا متناهية.

استخدَم أسلوب التعقيد المركَّب، مجسداً علاقته بالميتافيزيقيات، أو ما يُعرف بفلسفة البراهين الدامغة.

بحيث أنك في كل مرة تعيد قراءتها، تكتشف أشياءً جديدة.

كيف لا يكون نتاجه كذلك، وهو القائل الرواية: خطأ مقبول؛ يعطينا شكلاً بديلاً عن الواقع.

ويقول في موضع آخر: الرواية هي أن نُعبر بكل دقة ووضوح عن عدم فهمنا للعالم..

حسن مطلك يُعبر عن نفسه في دابادا، في أكثر من موضع، برمزية فريدة، فمشهد الخريف وضياع الأب تائهاً وراء الأرنب المبقَّع اللون، والضحك غير المبرر، وهو نفسه شاهين؛ ذلك الشاب التائه الذي فقد البوصلة، لذلك قرر العزلة، شاهين.. صرخة حقيقية ساخرة في وجه الفراغ.

رحل حسن مطلك وهو في عز شبابه، وفي قمة عطائه، تاركاً لنا الفجيعة في الساحة الأدبية، وهي بأمس الحاجة لهكذا خيال فلسفي واسع... ومن أشعاره:

عشتار

"عشتار... يا ابنتي

...  من المنفى البعيد

أكتب القصيدة المحطمة

إليك يا سيدة الشواطئ الجميلة.

وبابل القديمة تحاصرها الرياح والعساكر.

إليك يا صغيرتي اشتقتُ."

وقد رثاه شقيقه محسن الرملي قائلاً: "منذ رحيلكَ وأنا مكسور الجناح، مكسور الظَهر، مكسور القلب، مسكوب الدمع، مسكوب الروح، مسكوب العُمر، تائه وسط الخرائب العامرة بالأوهام.".

أُعدِم حسن مطلك لأنه انتفض ضد الظلم، عندها قال للثائرين؛ أنا معكم وهذا دمي زيتاً لبنادقكم. رحل حسن مطلك كما رحل حمد صالح، ومحمود جنداري، وإبراهيم حسن ناصر.. رحلوا قهراً، وكمداً، رافضين واقع القمع والظلم والحرب والخوف والخراب ...

"قل لهم إنني مازلتُ حيّاً، حدثهم عني كي لا ينساني أحد، لأنني أخاف النسيان، أكثر مما أخاف الموت".. من مؤلَّفه: (الكتابة وقوفاً).

"لا حرية في العراق، إن المرء هنا إما أن يكون مجرماً أو ميتاً". حسن مطلك، من يومياته (العين إلى الداخل)، طُبعت بعد رحيله..

ووصف قريته الجميلة (إسديرة) في روايته (دابادا) بقوله: "قمر وربيع وموت قليل".. وهو القائل: "أغار على وطني، الذي كلما قارنت أدبه بآداب الشعوب اكتأبت "....

"أخبرني عن الأهل والمنزل القروي، وأخبرها عن خطيئة هذه البلاد التي مزقتني".

وعندما دُفن حسن مطلك في مقبرة (اسديرة)، لأنه كما يقول الطغاة؛ تآمر على النظام آنذاك، رثاه أحد الشعراء من قريته، حيث قال:

"أريد اسأل ترابك وادري ما ألكاك .

بس كلي المشانق ما استحت منك!

واسديرة بحزن لبست هدوم السود.

واشتاكت لصوتك ولضحكك وسنك".

 

كُتب على شاهدة قبره:

"أغار على وطني

اِشتقت إلى الحرية، من أجل الذود عن الحرية.

 (دابادا)

اسديرة 14/9/1961

بغداد 18/7/1990" 

https://www.facebook.com/photo?fbid=3520673171479458&set=pcb.3520673271479448

30‏/05‏/2023

في ذكرى حسن مطلك / د. حكمت الحلو

 

اِيييه يا حسن.. يا قيظ الروح الموغل في يباس أيامي

 

الدكتور حكمت الحلو

ها أنا ذا أتلمس الذكريات ...

أفتح ثلاثين نافذة على جرحي وبي شجن معتق مكتوم

فيجيء الفتون على فتونه القديم

وينسل التذكار مثل جسر الألم بين الموت والحياة

فما زال الشط تثقله ظلمة طافية، وأنا أرقبه وهو يتفجر بنشيجه الدامي مذ ماتت كل الأحلام والرؤى الصادقة، وغارت في طيش دجلة المتمرد...

اِييييييه يا حسن

وحدك أنت الذي ما غيّبت لوعتي بك السنين، فما زلتُ عاكفاً على ذلك الرواء الظامئ

أترعُ من كأسه الجريحة بقايا الذكريات الفاتنة

وومضات الوجد التي ما زالت تتسيد عالمي المطرق بصمت ووجوم

بالأمس وقفت على سطح (اسديرة)، فسحّ دمعي مع الشط المكفن بأرخبيل من الأغوار الطافية على ركام أوجاعي الذاهلة وهي تستجدي سراجها وقنديلها وفنارها من عيوني.

أيها الطفل الشاحب المطلُّ من ظلمتك المنيرة..

أيها العابث بحثاً عن أسرار الخرافات والأساطير والقرابين وآلهة الموت والصولجانات

إلى أين مضيت؟؟ وأنا ما زلتُ بانتظارك.

أجلس على الرصيف أقضم أظافري بانشداه وحيرة، مأخوذاً وأنت أمامي رهين الوحشة والهلع الكابي،

وهذا الشيء الأسود الغامض يكبر ويتنامى بلا حدود في أعماقي، مثل وحشٍ ضارٍ ومخيف،

فأنزلق على وجه النهر مثل جزيرة صغيرة من الطحالب والاشنات، وأنا أتذكر الدار الطينية ورائحة الدفلى والزعتر والنعناع على ضفتيه...

أما روحي؟؟ فما زالت مسربلة بك، ومطحونة بنعناع الموت.

ويوم جئتني ذات ليل داهم موغل الكوابيس.. خِلتُكَ مخنوقاً، رغم قلادتك الكوكبية، التي كنت تضعها على صدرك بازدهاء وانتشاء.

لقد كنتُ ألمحُ محارها الجريح يتناثر بين شجيرات الغَرَب والعوسج والطرفا، مثل شظايا نيزك طائشة

كنتَ – يا جمرة اشتعالي – منطفئاً.. كشيء قديم، يابساً مثل عشبة أرهقها أُوامُ ظالم، رغم أن قدميك كانتا مغروستين في النهر.

وحين مددتَ يدك إلى النجوم، غارت هي الأخرى، وانطفأت وعاد كفك يابساً محترقاً.

كنتَ يا حسن.. ثملاً فرط العياء، تستروح قليلاً، وتسترد أنفاسك، وأنت متشبثٌ بشيء مبهم، غامض،

لكنني كنتُ أعرف ان الذي ألقى بك لتنبش في قاع المجهول، هو ضراوة الوجع الناغل حد اللعنة، فرحتَ تندَسُ مثل شعلة تسبق أُوارها، كاشفاً عن بطش العذاب الذي يقتحمك بصمته وغدره،

وعن ينبوع الدم الساخن الذي يتفجر في رأسك..

اِيييييه يا حسن

يا قيظ الروح الموغل في يباس أيامي

يسألني عنك البيت الطيني، والشاروك، وهمهمات النهر المخنوقة

وتسألني أعقاب السجاير المبعثرة على رصيف الجامعة وتل قوينجق

تسألني دابادا، وميّ، والرسائل، وبقايا الألوان التي جفت فرط الانتظار

تسألني نوارس اورورا الباكية عن سر انطفاء القنديل الواعد

تسألني نجيمة سحيقة البعد خابية الضياء

يسألني الوقت الكئيب وهو يمر متثاقل الخطوات

تسألني جمرة الوَلَه الخامد في أعماقي

ويلفني الصمت، وتكتنفني الحيرة، ويخنقني عليك البكاء.

حكمت الحلو

18/9/1990

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر الدكتور حكمت الحلو، هذا النص المرثية لصديقه حسن مطلك، بتاريخ 17/7/2020 على صفحته في فيسبوك

https://www.facebook.com/photo?fbid=1403973716464175&set=a.163900043804888

ومن ردوده على تعليقات القراء:

صديقنا حسن - كما تعلم - فريد المزايا والخصال، ويوم افتقدناه؛ عرفنا حجم خسارتنا فيه، رغم ما تركه فينا من عذوبة تتضوع كلما ذكرناه.

كان حسن أديباً مطبوعاً، مزدحماً بالكتابة وبكل فنون الابداع، كان شعلة ضارية، انطفأت بصمت.

يرحم الله أخانا حسن، كان مبدعا بحق، مكتنزا ومكتظاً بالكتابة، غير ان الموت أخذه منا، وهو في قمة عطاءه.

رحم الله حسن وأكرم نزله. كان بحق، يملك قلب طفل بريء، يملك من المشاعر الجياشة ما يفوق الوصف، فضلاً عن دماثة خلقه ونبله، أما إبداعه، فالحديث عنه يطول، كان يقرأ بنهم وشغف، وحينما يكتب، كان يسوّد بياض الورق بما يشبه السحر، كان غرائبياً يعجن الفن بالأدب والفلسفة والسياسة وكل ألوان المعرفة بطريقة عجيبة، رحل عنا مبكرا رحمه الله.

لم يكن حسن، بالنسبة لي، زميلاً عابراً أو صديقاً رمته الأقدار مصادفة، أو بفعل ظروف آنية محضة، بل كان صنوي وخلّ روحي، وبعض وجداني، وما ان عرفته، حتى تلبسني هاجس غامض مُقلق عليه، كثيراً ما كاشفته به، ألا هو خوفي عليه، دون أن أعرف لهذا الهاجس سبباً أو مبرراً.. وهذا ما وقع!! كان حسن مشروعاً إبداعياً كبيراً، وبصمة واعدة بحق، انبثق مثل نجمة وامضة متوهجة.. وانطفأ مثل نيزك محترق.. وجعي عليه كبير يا صاحبي!