27‏/09‏/2009

شهادة / عامر سلطان


حسن مطلك.. اختصر الطريق إلى الإبداع بطلاسم قريته

الجالس في الصورة هو حسن مطلك


عامر سلطان

(1)
كثيرا ما يكون المرء وحيدا في هذا الزمان رغم أن له بيت وزوجة وأطفال، وإذا لم يحصل على الوحدة يقتنص بعض اللحظات كي يكون وحيدا. وعندما يغزو الليل هذه الوحدة يؤنسها أكثر ويجعلها رومانسية لتنبعث منها أحلام الماضي والمستقبل. جربت ذلك ووجدت نفسي وجها لوجه قبالة ذاتي حلقت خلالها كعصفور حر في الأفاق. أطير بأجنحة الخيال فتضاء أمامي ازرقاقات السماء وابحث في الوجوه العديدة والغائبة من أصدقاء الماضي البعيد علني أجد زملاء الدراسة في جامعة الموصل .انفتحت خلالها ذاكرتي على مسافة زمنية عمرها عشرين عاما أو يزيد. وجوه منورة بأمل الغد. أستطيع تذكر أسمائهم: فارس سعد الدين، يحيى صديق، مروان محي الدين، ثابت محمد خضير وحسن مطلك روضان. كان وجه الأخير يسرق مني سكوني وهدوئي لأبحث فيه عن صورة الإنسان الطيب داخل أديب متجدد. كنا أصدقاء كلمة وفكر، كانت رؤوسنا الصغيرة محشوة بمشاريع أدبية كبيرة متضاربة الاتجاهات، تجمعها الرغبة في الإبداع وتقديم الجديد والمثير. متكئين على قدرات كتابية متواضعة، كانت في وقتها مناسبة لأعمارنا الفتية. ولا زلت أتذكر ذلك النهار الشتائي القصير عندما تقدمت بهدوء إلى زملائي ـ ومنهم حسن مطلك ـ بمشروع إنتاج مجلة ثقافية أدبية مستقلة عن سلطة عمادة كلية التربية والاتحاد الوطني آنذاك. عندما اجتمعنا لأول مرة فوق الثيل الأخضر لحدائق كلية الآداب. التهب الجميع حماسة وعاهدوني على خوض غمار هذه التجربة. بأقلامهم وأموالهم وحماستهم، وراح (حسن) يمجد هذه الخطوة ويعرض إضافة إلى عرض زملاءه ريشته وألوانه في التصميم والإخراج الفني.

(2)
كانت الأيام قليلة والرغبة كبيرة لإنجاز هذا العمل. هذا يذهب لفحص النصوص لغويا في قسم اللغة العربية، وأخر يدور حول الطلبة في المركز الطلابي ليعرف آرائهم في موضوع العدد الذي كان حول المرآة. وأنا كنت أتابع الطباعة على الآلة الطابعة، وصورة إخراج الصحيفة في وحدة الطابعة في كلية التربية.
في زحمة العمل كنا لا ننقطع عن الاجتماع والمناقشة والحوار ولا نخرج من هذه الدوامة إلا ونحن نقابل وجه (حسن) طافحاً بالتفاؤل عبر عينين هادئتين لكنهما متمردتين في ذات الوقت، لا نعرف منه هل هو راض عما أنجز. وراء عينيه حكاية طويلة لشاب قدم من قرية على ضفاف دجلة متجشما عناء طريق الصحراء.
لا أتذكر انه أباح لي يوماً من الأيام عن لواعج صدره أو آرائه في الناس أو المجتمع الموصلي. لكنه فرح كثيرا بالعدد الأول والوحيد لمجلتنا (المُربي) وحزن معنا على يتم هذه المجلة بعدما فشلنا في استدرار عطف الجهات الرسمية آنذاك لدعمنا.

(3)
في ممر كلية الآداب المزدحم بخضرة الأشجار وقامات الطلبة الذين يقطعونه ذهابا وإيابا هاربين من محاضرات آلفو سقامتها لأساتذة متحذلقين أو بحثا عن فرص جديدة للحب والصداقة مع زميلاتهم. من بين هؤلاء أشاهد وجه (حسن) وجها طفوليا لقروي متعطش لعوالم المدينة وأشياءها. يكتفي معي بالإصغاء ومسايرتي في المشي موزعا نظراته السريعة على جميلات كلية الآداب مستلهما جمالهن بحس الفنان والإنسان.
وأنا منهمك في طروحاتي معه أحس حضوره الجسدي بينما يغيب عني مجاله النفسي الذي يحيط به، أحسه يقتحم هذا العالم المزدحم والجميل بعذابات داخلية وهواجس متخفيا في صورة مواسم الزراعة والحصاد ولوحات الرقص الشعبية التي يعيشها مع رجال ونساء قريته. كنا جميعا نقضي أوقاتاً غير مرتبة، مرة في المكتبة المركزية، وأخرى في المطعم الجامعي. وأخرى في الكافيتريا، وفي كل اللقاءات يتعمق في ذاكرتي وجه (حسن) الطفولي بملامحه والمنفتح على الآخرين في تعاطيه. يختبئ وراءه وجه الناقد الاجتماعي ويتمنى طول المقابلة ليعبر عن حبه ومعاناته من الحبيبة والناس والآخرين، وحينما تعجبه شخصية معينة يغرق إلى أذنيه للاهتمام فيها ولا يترك مجالا حتى يعرف الأشياء التي يريد معرفتها. و(حسن) لا ينقطع عن النظر بعينيه الصغيرتين الحادتين إلينا مرة يشاركنا التعاطف مع أفكارنا وأخرى يتراجع يهما وهما تغوصان داخل محجريهما بضحكة سهلة لطيفة. كانت عيناه المغسولتين بدموع الفرح والانبهار بجدة الأشياء والأشخاص مع صوته الناعم الهادئ تعيد إلينا الرغبة في المواصلة والاستمرار قي الحديث.

(4)
تاريخ (حسن) يبتدئ من أول سيارة استقلها من الشرقاط إلى الموصل كان تحدياً كبيراً له. يكون أو لا يكون. ليس هناك من طلبه للنزال لكنه الهاتف الداخلي. فهو موجود بجسده داخل السيارة التي ستصل إلى الموصل، وخارج نوافذ هذه السيارة ارض غريبة عنه يتصورها ممنوعة منعا جعله يشعر بالحرج والخجل من مباشرتها .لم يغب الإنسان عن فكره في أعماله الكتابية أو التشكيلية لذلك جرب اللقاء مع (المواصلة القح) ونجح في بناء علاقات صداقة وزمالة معهم. أما أشياء المدينة فانه نظرها من بعيد وهو يتسكع في شوارعها ويدخل مقاهيها ومطاعمها وبعض بيوت أهلها. ووجد قلبه معلق ومتوجع منذ النظرة الأولى لناسها، وكم من المرات رجع إلى قريته أخر الأسبوع كسير القلب ومن بعد المسافة كانت عينيه ترى في واقع تلك الأيام نقطة سوداء في داخلها نافذة مملوءة بالنور.
أستطيع أن أتكلم ألان عن شعوره في لحظات صمته التي نواجهها في وجهه التي كانت عبارة عن لحظات ولادة للثورة على ذاك الواقع الذي كان يرى عدم جدوى الكلام في تغيره. خاصة معنا. وحسن المفكر القاص الفنان صفات كان يعرفها زملاءه المختلطون به إلا أن صفة السياسي لم تكن معروفة بعد، ولو أن هناك كثير من القضايا الاشتراكية والديمقراطية والعالم الثالث قد مرت في أثناء بعض الأحاديث، وقد سخر حسن لأجل ذلك فكره اليساري الاشتراكي غير المعلن حتى لأقرب زملاءه.

(5)
إذا تمثلنا طريق الشرقاط ـ الموصل المعروف لسكنة تلك المنطقة نساءً ورجالا، حتى بعد فَصل القضاء عن الموصل إدارياً، بقي هذا الطريق رابطاً روحياً للشرقاطيين يذكرونه ويحنون إلى أيامه، وكان حسن واحداً من مجموعة الشباب المثقف الذي درس في جامعة الموصل وبقي أربع سنوات في كلية لتربية. لم يجن من ورائها سوى معاقرة القراءة والعديد من الأصدقاء الأدباء. وحقا كانت رحلته هذه مليئة بألوان فرشاته التي حفظت معاناته في مرسم جامعة الموصل. وشهدت سنوات بقاءه تلك اعتلال صحته النفسية وقربه من مرض الاكتئاب. وأشهد أن ليس هنالك غير مميز كان يثقل به مسيرته وإذا أعطته الجامعة شهادة التخرج من الكلية بيده اليمنى فانه قد أخذ بيده اليسرى شهادة الرسوب في حبه وبقي الأول الذي عاش من أجله ضائعاً يبحث له عن أرض. اشعر أن كثيرين من زملائنا يشاركوني هذا الرأي، وأتذكر الآن اللقاء الوحيد معه قبل سماعي الأخبار المتضاربة عن رحيله وكيف رأيت الفرح في محجري عينيه وهو يحدثني عن فوزه بالجائزة الأولى التي أقامتها دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الأعلام آنذاك، كانت قصة (عرانيس) والتي لم أقراها. فرحة ناقصة لحسن، فعلى الرغم من فائدتها المادية والاعتبارية له إلا أنها جاءت في الحديث عن موضوع يريد أن يقول فيه بحرية أكثر مما موجود فيها.. ألا وهو موضوعة الحرب. وقصة (عرانيس) عمل من وحي قريته فمن العنوان الذي يحاكي دواخل الفلاحين وتبريراً مهماً لدخول عالم الثقافة عن طريق أدوات القرية.

(6)
كنا نجتمع صباحا، حسن مطلك القادم من القسم الداخلي ونحن الموصليون المنزلقون من بيوتنا الأنيقة في أحيائها الحديثة مع إضاءة الصباح نحمل كتبنا الجامعية ومعها نحتضن طموحاتنا الأدبية ولا يخلو (الليفكس) لكل واحد منا من كتاب أدبي أو مقتطفات لكتاباتنا المتواضعة آنذاك ونتحلق على الطاولات المستديرة لكافتيريا الجامعة ونتكلم ونتكلم مسحورين بصوت فيروز وكلمات سعيد عقل وألحان الرحابنة ولا نخرس إلا عندما تغلق أفواهنا على أكواب الشاي أو الشاي بالحليب. وفي هذا الجو الرومانسي ألاحظ بشرة حسن السمراء المصقولة والخالية من أي اثر لحب الشباب أو النمش وانظر في حركة إطباق شفتيه على كوب الشاي الزجاجي ومن زاويته على الطاولة يلاحظني، يرتد إلى الوراء ويأخذ كامل راحته ليؤكد بهذه الحركة بأنه متمدن. وما يفعله جزء من قابليته على استلهام المدينة.. وفي ذاك الوقت قد يأخذنا نقاش طويل حول قضية معينة يصبح رأس حسن بشعره الأسود أقرب إلى صورة أعرابي عائد من الصحراء الغربية واضعاً فوق رأسه الكوفية والعقال.

(7)
حينما حاول أن يعبر عن رأيه فيّ كانت كلماته نارية مصنوعة بانفعالات فنان وأديب رومانتيكي. لقد توقفت كثيراً عند عباراته العميقة التي استصرخت فيّ كل تخيلات المبدع والإنسان، وإذا ما تذكرت تلك العبارات الآن وبعد أكثر من عشرين عام، أرى فيها إعجاباً بنظارتي السوداء التي رأى حسن فيها لغزا للعبقرية، كان يتأملها في شخصيتي. وفي فترة لاحقة لذلك مع استمرار علاقتي به، وجدت حسن يضع في خياله هالة حول بعض المبدعين الذين يروقون له ويحيلهم إلى طوطم، ومن تلك الطوطم صورة أدونيس وطروحاته الفكرية والأدبية وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف. ومن عاداته القروية والتي بقيت مسيطرة عليه حتى بعد دخوله الحرم الجامعي مطالعته لكل شخص يتعرف عليه لأول مرة ويتفحص ملامحه بإحساس الطفل مستخدماً عينيه في النظر ولسانه في الثرثرة، وإذا ما كان هناك موقفا مطرباً أو مرحاً أطلق قهقهته المعروفة لزملائه.. وتشعر بالسعادة تغمر وجهه وعينيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (دنيا الرأي) بتاريخ 26/7/2006م.

ليست هناك تعليقات: