25‏/09‏/2009

شهادة (2)/ رشا فاضل

حسن مطلك ..عنوان جراحي القادمة

رشا فاضل


كنتُ أقتفي أثرهُ فوقَ صقالةِ الورقِ ..
في عيونِ الأصدقاءِ الألدَّاءِ ، والأعداءِ النبلاءِ ..
حتى انعطف الوقتُ ليأخذَني نحوَ الباهرِ والحاضرِ (نوري الظاهر) ذاتَ أمسيةٍ خارجةٍ عن قانونِ الخوفِ وزمنِ انكساراتِنا العظيمةِ ، ليقفَ أمامي بقامةِ علمهِ وخلقهِ النبيلِ ويقرئَني بابتسامتهِ _ ابتسامةِ من يكتشفُ المكنوناتِ _ سرَّ ملاحقتي لهُ بالأسئلةِ عن قريةِ (سديرة) التي لا يفصلُها عنِّي سوى زمنٍ قصيرٍ .. هكذا يقرؤني، النوريُّ الظاهرُ بوضوحٍ كدفوفِ الأولياءِ الغائبين في باحةِ سطوعِ المعنى المزدحمةِ بالنداءاتِ ، إذ يقولُ لي :

_ ( تريدينَ أنْ تذهبي لبيتِ حسن مطلك؟ )

وأفردَ القلبُ أجنحتَهُ ليطوي المدى تحتَ بهجتِهِ السوداءَ وهي تلاحقُ أثرَ روايةٍ لم تكتملْ سطورُها بعدُ ، ليبقى المتنُ مهمّشاً وتائهاً ، وتبقى النهايةُ مفتوحةً على كلِّ احتمالاتِ الجرحِ ..

كان حسن مطلك شخصية روائية خرجت من متن الحكاية ليكمل حياته المقتضبة فوق أرض لم تنتظر طويلاً حتى أعادته إلى رحمها من جديد تاركة لنا أثره المضمَّخ بالحبر ورائحة البياض والكلمات التي تبحث عن المعنى في قواميس الأجيال القادمة ..

نعم إنهُ (حسن) الابن الـ_أكثرنا_ شرعية للـ(مطلق) .. ابن معانيه وما يبتكرُ من دلالات لا تنتمي إلا له وهو يتلو بآيات الغياب السرمدي أمام مدافن (مكحول) الذي يئن بأرواح الملوك الآشوريين وروائح المعابد التي تحتفظ إلى الآن بكثير من الدعوات غير المستجابة ، وبتنهدات الجواري المعذَّبات بحبِّ ولاتهنَّ ، كل ذلك كان يطوف بـ(حسن) وهو يصنع من عجين لفظهِ مناراتٍ من المعنى الذي لا يكفُّ الحمام عن التحليق حولها على أمل الحصول على قمح البقاء في حضرة الغناء.

إنهُ (حَسَنَّهْ) كما أنا متأكدة من لفظ أهاليه له، ونحن بالطبع كذلك حين ننجذب _ دروشةً _ في موج رحلة (شاهين وعزيزة)، وفي متابعة درسهِ في (الركض على الحائط) ، أو حين يدعونا لحفلة جمع الـ(عرانيس) المحنية الرؤوس من ثقل المعنى.

ستظلُّ (دابادا) كلمةً أسطورية تتغير بكل تكرار قرائيٍّ لها فهي من صنيع هذا الثائر على نفسه ، إنها العمل الروائي الذي ينبئ للمختص بأنه عمل روائي كُتب عدة مراتٍ أو انه عمل هضم بمعدة متجاوراته مشغلاً روائياً عربياً وعالمياً ، فالقارئ يستمع لأصوات شخصيات كُثر في هذا الواقع الروائي الخاص _ دابادا _ إذ نتصادف مع شخوص (لجويس) و(هرمان هسَّا) والقائمة تطول بطول المدِّ الدلالي العصيِّ على التحديد والتسمية والاجتياز في المتن الدابادوي.

كان الدكتور الحميم (نوري الظاهر) أحد أعظم مكتشفاتي الفاتنة التي قادني إليها (حسن مطلك) وإنني حين أتحدث عن (مطلك) لا يمكنني إلا أن أذكر (الظاهر ومحمود جنداري ومحسن الرملي وحمد الدوخي) كسلالة لم ينقطع نسل إبداعها الذي يكتب تأريخ (الشرقاط وسديرة) بحروف من وجع ..

ولم أكن أعرف أن دهشة الاكتشاف الباذخ الذي جرَّني إليه (حسن مطلك) سيتحول إلى جرح غائر في النزف يجتاح كيان لغتي ويأتي على آخر قطرة فرح في غيوم الحبر .. فحين أكون على مشارف اللقاء بحسن مطلك ـ الروايةِ ، مستعينةً بنورٍ ظاهرٍ لينير درب اللهفة إلى تلك القرية الصغيرة التي شددنا إليها رحال حلم تحوَّل فجأة إلى لعنة توخِز ذهولنا بالرحيل الفادح العصيِّ على التصديق أو النسيان وإذا بنا نشدُّ الرحال لمدن الرمل من جديد ..

الرمل الذي دفن فرحي المؤجَّل ولقائي المؤجَّل لتتحوَّل دموعي المقدَّر لها أن تسفح على قبر (حسن مطلك) إلى غيمتين ماطرتين فوق قبرين يقتسمان رفات قلبي الذي يطالع خيبته وانكساره في مرايا حروف رسمت على شاهدتين كلاهما تحملان اسمي المنقوش بقهر عظيم : حسن مطلك .. نوري الظاهر.

--------------------------------------------------

*رشا فاضل: شاعرة وإعلامية عراقية.

*كتبت هذه الشهادة بتاريخ 10/10/2008م.

المقبرة التي يرقد فيها حسن مطلك في قريته سديرة

ليست هناك تعليقات: