02‏/10‏/2014

قوة الضحك في أورا.. عمل استثنائي

منبر صحيفة (الرؤية) الإماراتية

قوة الضحك في أورا
«.. آنذاك تعذبت، ومازلت أتعذب»
ستعرف بعد قراءة المقدمة القصيرة في رواية «قوة الضحك في أورا» أن هناك ألماً عميقاً ستحمله لك الصفحات القادمة، ذلك أن ذكرى صغيرة لطفل في السابعة من عمره لا يمكن أن تبقى محفورة في ذاكرة الإنسان إلا لتكبر معه، وتُعاد كتابتها لاحقاً على هيئة عذاب وافر، كما فعل الروائي العراقي حسن مطلك، الذي أُعدم في العام ١٩٩٠ إثر محاولة لم تنجح للانقلاب على نظام صدام حسين.
رواية غريبة نوعا ما في بنائها وحكايتها، وحتى العوالم التي يعيش أبطالها فيها، لا تشبه المألوف من السرد العربي، لها في قراءة الألم رؤية قلما يصادفك أن تستشف مثلها، وللتفاصيل فيها زاوية تلتقطها عين غريبة، تشعرك بأن النص صورة بالأسود والأبيض، تكاد تستشعر الوجع التاريخي الذي ينساب منها، كما لو أنه اختصر أوجاع الإنسانية كلها، وكأنه كان يدرك أنه لن يعيش طويلاً، فأراد تكثيف الحزن في روايته هذه، إضافة إلى رواية أخرى «دابادا» اللتين تمثلان الأثر الذي بقي للكاتب ضئيل الشهرة والحظ.
تحكي الرواية زمناً ليس بعيداً، وتختلط فيه ذاكرة الحاكي بما قرأ وسمع، وبما تسرب إليه عبر التاريخ من حكايات غابرة، موغلة في التعامل مع الحاضر باعتباره نتيجة حتمية للماضي الذي لا مفر منه، وهو يتمثل به ليؤكد أن أي انسلاخ عما فات من تاريخ الإنسان، إنما هو كذبة لا محل لها، ويؤكد أيضاً أننا أبناء الزمن، الذين يتشكلون عبر معطيات الأمس، تتحكم بنا سوداوية لا سبيل للخلاص منها إلا بفهمها، وتجرّع مرارتها، ثم التعايش معها كما لو أنها قدرنا الوحيد، وأسطورتنا الخالدة، ونحن ولدنا لنعيشها فقط، لا لنعيش اختياراتنا، أو نبتكر رغباتنا.
ومما يؤسف له أن عملاً استثنائياً كهذا لم يحظَ بفرصة جيدة للاطلاع عليه، أو قراءته كما ينبغي، ربما بسبب الزمن الفاصل بيننا وبين زمن وفاة الروائي، وربما بسبب رداءة المشهد التجاري للأدب، الذي تتحكم فيه مافيا النشر، وتروج للبضاعة الرديئة التي تبيع أكثر، تحت تأثير التابوهات التقليدية التي مازالت تتحكم في ذهنية القارئ العربي.
---------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الرؤية) الإماراتية، بتاريخ 4 شباط/فبراير 2014

تأثرات "الصخب والعنف" عند غسان كنفاني و حسن مطلك / عبدالله الزهري

تأثرات "الصخب والعنف" عند غسان كنفاني و حسن مطلك
عبدالله الزهري

ترجم الأديب الراحل جبرا ابراهيم جبرا في مطلع ثمانينات القرن المنصرم، رواية "الصخب والعنف" 1929 لوليم فوكنر، وهي الرواية التي اخرجت فوكنر الى النور، فتحصل لاحقا على نوبل 1950، وبهذا عاد القراء الى فونكر من جديد لقراءته، كما تفعل أي جائزة مقدرة بانتاج أي كاتب يتحصل عليها. ولما استطاعت الرواية ان تصبح تحديا للقارئ ومدى جديته، بابتكارها تركيبة جديدة، مختلفة وصعبة في السرد، فقد اخذ الاهتمام بها ينصب على القارئ والكتّاب على سواء، فالكتاب حاولوا خلق انفراجات في بنى الرواية، بالسير والاستقاء من تركيبة هذا العمل. وان كان قد اُطلق على هذا العمل تسمية "رواية الروائيين"، فقد رأيت انها تمثل انقلابا على الرواية، بفهومها وبنيتها المعهودة والمعتادة. فهذا النوع من الكتابة يعتمد كما يحكي جبرا في مقدمته الرائعة أسلوبا من التداعي والمنولوج الداخلي، والذي كان قد ظهر في روايتي "البحث في الزمن المفقود" و "عولسيس". لكن أسلوب فوكنر كان صاخبا في تداعيه، متموجا في بناءه وتواليه. ولست هنا بصدد الحديث عن رواية "الصخب والعنف" أو وليم فوكنر، ولكن من المهم القاء الضوء على بعض اساليب هذا البناء. فالعمل يعتمد على طور من البث المختلط بين جزء رئيس ومحدود من العقلانية ومساحة اكبر من اللاعقلانية. ولدينا خط ملتمس بين الوعي والزمن، فمعظم الاحداث كما يقول جبرا، حين يبدأ الكتاب قد حدثت، "ولن يعود اليها المؤلف إلا مستذكرا هنا وهناك، كأن القارئ يعرفها، وما على المؤلف الا ان يرى اثرها وقوعها في نفس احد الابطال". ولذا فإن هذا العمل يحتاج بالتأكيد الى اعادة قراءته مرة اخرى لفهمه جيدا، ولا تكفي قراءة واحدة، هذا اذا اخفينا مقدمة جبرا والملحق الذي كتبه فوكنر بعد كتابته للعمل بست عشرة سنة، محاولا اضفاء شعاعا ايضاحيا لسد تلك الثغرات المعتمة جدا فيكتمل، وايضا من اجل الصبغة التاريخية المدعمة للعمل/ بسرد مادة معلوماتية تاريخية تخص الشخوص قبل وقائع العمل الرئيسة وبعد وقوعها بسنوات طويلة، وكأنها قصة نموذجية لفترة معينة من تاريخ الجنوب الاميركي، وتتعدد في تلك الفترة الممتدة مثل هذه القصص والشخوص. وكم وددت اني قرأت العمل دون الافتتاح بمقدمة جبرا، فيكون العمل اكثر احكاما واقفالا وتحديا في وجهي، ويمكن بعد القراءة الاولى العودة لقراءة المقدمة التوضيحية لأحداث وشخصيات العمل الملتبسة-، ثم اعادة قراءة العمل في صورة تامة ومتعة. واني انصح القارئ الجاد بهذه الكيفية، فلا شك ان فيها مزيدا من عراك اللاواعي ومداعبته، والعقل البشري يصل لمرحلة مذهلة من تحدي ذاته.
ان لذة التفتيش التلقائي الذهني الذي يقوم به العقل، ومن ثم محاولة ترتيب قطع هذه اللوحة المنفوضة والمشتتة، بالتقاط المتشابهات من الاحداث والصور، هو المذاق النهائي لهذا العمل، فأنت تقرأ أحداثا في فقدٍ من الزمن، ومن ثم فكلمة واحدة كـ "السيرك" أو واقعة بسيطة كحرق يد بنجي، تجذب هذه الفوضى الذهنية كما تجذب قطعة المغناطيس نشارة الحديد في وضعية محكمة، فيترتب افتقاد الزمن والوعي. وقد تنوع هذا التذبذب من البث، فهو في الفصلين الأولين اكثر تراقصا وفوضوية، بينما يخف كل هذا في الفصلين التاليين، ويأتي الصوت اكثر هدوءً وانسيابا، محملا بصخب الحديث الداخلي للشخصية، ومثقلا بنصب البوح. الحوار مثلا، هو في الفصليين الأولين اكثر تقطعا، بينما نقرأ فيما يلي ذلك نص تأملي وسرد متتابع في صيغة من التوارد والتذكر، ولذا فقد تحول الحوار هنا في صيغة تأمل داخلي، مكتوب في سطور كاملة كالقطعة السردية، لا ينتظم في صورة الحوار المنهدمة المعهودة والمرتبة. ان الأحداث الكبيرة هنا غير هامة وفقا لمعدل عدد الكلمات التي تناولتها، فتناولها جاء سريعا، بينما ارتكزت الرواية على الاطراف والحديث الجانبي الداخلي، وكذلك بث للأجواء الثانوية في عملية متعمدة لعكس بنية الرواية.
حين قرأت اعمال غسان كنفاني الروائية،- وهو اكثر اجادة كقاص متكمن وبارع، اعتبرت بأن روايته القصيرة " ما تبقى لكم" هي اجود اعماله، فقد اعجبتني تلك التقنية التنقلية بين اصوات وحوادث وشخوص العمل، ثم قرأت عزوا في مقالة نقدية للدكتور فيصل دراج ويوسف اليوسف للتقنية الحداثية في " ما تبقى لكم" باستعارتها من "الصخب والعنف"، ولما قرأت رائعة فوكنر، وجدت هذا فعلا. لقد غسان اعتمد تلك التقنية السردية واستقاها من الفصلين الأوليين من "الصخب والعنف"، فحين نفهم من بناء الرواية بأن تحول بنط أو حجم الخط الى حجم اصغر او اكبر، انما يعني هذا تحولا او انقلابا في الزمن والوعي. وتطرق الى هذا في توضيحه الذي كتبه عند العمل بقوله " ان الصعوبة الكامنة في ملاحقة عالم مختلط بهذا الشكل، هي صعوبة معترف بها، ولكن لا مناص منها أيضا إذا كان لا بد من ان تقول الرواية ما اعتزمت قوله دفعة واحدة. ولذلك السبب لجأت إلى اقتراح مطروق لتعيين لحظات التقاطع والتمازج والانتقال، والتي تحدث عادة دون تمهيد، وذلك عن طريق تغيير حجم الحروف عن النقطة المعينة". فها هو يقول بوضوح انه لجأ الى اقتراح "مطروق"، فلا شك انه قرأ "الصخب والعنف"، واعتقد انه قرأها بالانجليزية، فلم تكن قد تُجرمت حين كتب عمله. وللتو وقعت على هذا التصريح له في هذه (المقالة) فيقول " في آخر مقابلة إذاعية معه نشرتها مجلة الهدف (1973-9-15)، "بالنسبة لفوكنر، أنا معجب جداً بروايته الصخب والعنف، وكثير من النقاد يقولون إن روايتي ما تبقى لكم هي امتداد لهذا الإعجاب بالصخب والعنف، وأنا أعتقد أن هذا صحيح... أنا متأثر جداً بفوكنر، ولكن ما تبقى لكم ليست تأثراً ميكانيكياً بل هي محاولة للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات الفنية التي حققها فوكنر في تطوير الأدب الغربي". اراد غسان لـ "ما تبقى لكم " ان تأخذ هذا التركيب المتخلط، والذي يعتمد شكلا مختلفا من الوعي بالقصة، إذاً؛ فهذه رواية عربية تأثرت فنيا والى حد كبير بالصخب والعنف. ونجد المشابهة أيضا -وربما هي مصادفة- في احد موضوعات العمل، إذ كثيرا ما عني غسان في أعماله بالقضية الفلسطينية عبر تناوله الفعل الانساني وتفاصيل الانسان الفلسطيني الذي اضطره قدره للنضال، كأي انسان يجد نفسه في هذه البقعة من القدر. ومن اهم عناوين هذا النضال هو الشرف وروح الإباء. والمشابهة نجدها في مشكلة شرف الاخت، فـ "مريم" تحمل سفاحا من زكريا، ثم تضطر للزواج منه، وفي "الصخب والعنف" نجد شخصية كونتن وعلاقته المحرمة ذات التفسير الشرفي والإبائي بأخته "كادي"، وكذلك معاملة جاستن لكادي وابنتها كونتن كالعاهرات. أخيرا، في هذه القراءة الموجزة، يبقى الزمن والساعة التي تدق.. تدق، خيطا اخر استقاه غسان من "الصخب والعنف"، فنقرأ في الفصل الثاني الذي يحكيه "كونتن" الساعة التي اهلكت جمجته وهي تدق.. تك تك تك. واعتقد ان الزمن هو جوهر هذا التركيب الفني في هذه الأعمال، فتلك النسبية الزمنية، من التعاطي المتبادل بين اداركنا المتغير للزمن، وفعاليته /ديناميكيته الثابتة في الخارج تنتج لنا هذه الفوضى الممكنة والمبررة من التوصيف والخلق. ابدع غسان حين جاء بالصحراء، وبث تلك الصور المتقاطعة من الاحداث والحوار بين حامد ومريم زكريا والزمن في ساعة الحائط والصحراء والحديث الصامت مع الجندي العدو. لقد أحلّ غسان روحه ولغته وكلمته المعروفة في عمله القصير. وقد مارس مرات شكلا من التضاد مع "الصخب والعنف"، فنجد حامد البطل هو الذي يهرب وتبقى الاخت مع زوجها الذي حملت منه قبل الزواج، بينما نجد كادي هي التي تهرب مع حبيبها لدى فوكنر، وأيضا نجد هروب كونتن مع حبيبها ويبقى جاستن الأخ والخال في كلا المرتين.

أما عند حسن مطلك، فقد وجدت استعدادا فطريا في فنياته واساليبه ولغته، وقد كان اكثر مقاربة لتلك الروح العميقة والملحقة التي كتب بها وليم فوكنر بعضا من رواياته. وجاء تأثر حسن مطلك عبر شخصية بنجي او بنجامين، ذلك الطفل الكبير المعتوه الاصم الذي لا يتكلم بل يأن ويعول طوال الوقت، والذي يفتتح به فوكنر "الصخب والعنف"، فكان بنجي هو شاهين هو بطل رواية "دابادا" المطلكية. وشاهين هذا يراقب الصورة والحدث من حوله بعين بطيئة بلورية وبتأمل وقور هاجع، وكذلك كان بنجامين ذلك الطفل في الثلاثين من عمره، فاعتمد مطلك من بنجي صغره وضعف قواه ومرضه. واختلف مطلك بأن خفف من الحوار المتقطع الذي مثل العلامة الفنية المؤثرة في وعي قصة ما يحكيه بنجي، وحوله الى وعي متداعي متوالي ومكثف في جمل وصفية مثلت القالب او التركيب الاساسي. ثم أحلّ حسن مفردته المطلكية، فاستعمل التقنية ضمن حكاية عراقية مؤلمة وشاقة، كانت انطباعا للروح العراقية والعربية التائهة والمعذبة. وفي كتاب حسن مطلك "ظلالهن على الأرض" الذي نشره أخيرا شقيقه الأديب محسن الرملي، و يحوي بعضا من رسائله الخاصة وذكرياته، نجد الباب الذي نفذت اليه فكرة "دابادا" وشاهين، فنقرأ في ص 26 هذه الأسطر" كان الأجدر أن أنصرف إلى إكمال قراءة (الصخب والعنف) لكي لا يمنعني الوضع القادم من إغلاقه قبل الصفحة (60) وإعادته إلى رفوف المكتبة". وفي ص 54 يشير الى وليم بقوله " وقد حكت لي (أ) عن النكات التي تعرفها ثم صمتَت. وحكيت لها عن (وليم فوكنر) فلم تعرفه، مثلما لم تعرف أي مصدر للعزاء ذاك الذي يأتيني منه،" وهذا ما عنيته من ان مطلك وجد ضالته، حين وجد فوكنر قد مده بعزاء القالب ربما، ليكتب حسن روايته البديعة. وهو يدرج في بداية المقطع الأول عبر تلك المذكرة او المقالة التي حكي فيها عن قراءته للصخب والعنف تاريخ 1985، بينما صدرت الطبعة الاولى من دابادا 1988، فهذا يعني تقريبا وتخمينا ان دابادا استغرقت سنتين أو ثلاث سنوات لكتابتها، وربما كتابة متقطعة، هذا مجرد تخمين لا اكثر. وقارئ "دابادا" يلتقي بصور متفلتة، واحداث طرفية يتم تعميقها وتكثيفها عبر تكرار مجهد، بينما تتحول الاحداث الرئيسة لأحداث جانبية، يتم التطرق لها خطفا، كما نلتقي بهذا أيضا في "الصخب والعنف"، مع اعتبار الجودة الابداعية والصقل الاسلوبي في كِلا العملين. ولهذا كنت اقترحت في مقالة سابقة عن حسن مطلك "إنه الانقلاب يا حسن"، باضافة (لقاء اجري مع حسن مطلك عن دابادا ) و(مقالة) لخص فيها محسن الرملي معالم "دابادا" وشخوصها وأيامها ووقائعا، لتصبح ملحقا افتتاحيا للعمل في طبعاته الجديدة كما فعل وليم فوكنر من قبل حين وجد عسرا لدى القارئ في وعي المروية. وفي تعريج سريع فقد اخذت اتذكر تقنية ارتباط بنجي برائحة كادي وسكونه عند مشاهدته لهيب النار، وكذلك ارتباط رائحة زهر العسل عند الاخ كونتن بأخته كادي، فمارس مطلك هذه الفنية فعالجها ورقاها وهو يفرز رائحةً من الكلام تأتي مع او قبل ان تأتي عزيزة. وحينما نقرأ أعمال مطلك، نلامس ذلك الاستعداد للكتابة بتلك اللغة المنبعدة والصامة ربما.
كيف ينتقل تأثير تقنية فنية جمالية معينة او جزء محدد منها عبر سرب من الاعمال ؟، هذا سؤال هو سؤال بحثي مشروع. وهنا اضيف اخيرا بالقول، بانه على الرغم من ان فوكنر كتب عمله متأثرا بأعمال اخرى وبمرحلة أدبية حداثية اعتمدت فضاء التداعي والتوالي وتماس الزمن والوعي بتطويع اللغة طبعا والى غير ذلك، الا اننا نقع على هذه التقنية باستعمال اكثر تجريدا ودقة، واعني بالتجريد والدقة حين يعاد صياغة الحدث عبر منظار شخصية اخرى في العمل، كما في الرواية البوليسية عند أجاثا كريستي، سواءً كان الصوت الحاكي المؤلف او الشخصية، حيث نراقب ونتتبع مسار كشف الجريمة من قِبل ذهنية ورأي كل شخصية، ولربما حينها يتحول فعل الجريمة الى صيغة اخرى في ذهنية اي شخصية، باعتباره عملا شريفا، او واجبا او جنونا او بلاهة او حقدا قديما الى غير ذلك من التعليلات النفسية والعقلية. ولكننا نجد أيضا في الرواية العربية محاولات متطورة اكثر ربما استقت من تجربة فوكنر او من التجارب العربية التي استعرضتها بايجاز هنا، وربما كان تطويرا لتلك التقنية التقاطعية/الانتقالية في الرواية البوليسية، فمثلا، رواية "الموت يمر من هنا" البديعة، لعبده خال، اعتمدت في سردها، العودة الى الاحداث وتكرارها في أزمنة وعي مختلفة، عبر الشخصية الرئيسة "مرزوق"، حين يرى الحدث كل مرة من وجه اخر لهذه المرآة المكعبة، فمرة يمر الحدث خاطفا ومرة يبقى اطول مدة من الوعي. كم أود ان يترجم هذا العمل باجادة الى اللغات، إلم يكن قد تُرجم، فهو نص عالمي برأيي. ونلتقي بهذه التقنية أيضا في "أفراح القبة" لنجيب محفوظ، فنقرأ احداث القصة وصورها واصواتها كل مرة من خلال شخصية، وهنا يتحتم على الروائي ان يكون روائيا ذكيا، حين نقبض على كل شخصية بأيدينا ونفتتها فلا نصطاده في احداها. وتقسيم الشخصيات في "أفراح القبة" يذكرني بتقسيم الشخصيات أيضا في "الصخب والعنف"، وهكذا ربما انتقلت هيكل هذه التقنية لا شعوريا او شعوريا عبر قنوات فنية متعددة ومتشابكة، وبالطبع هذا لا يعيب بالمرة عند الاجادة. وكم اتمنى ان نقرأ أعمالا عربية يمكن لكتابها الجادين ان يخلقوا تحفة أدبية تخلف وعيا ذهنيا ونفسيا باستقائها من هذه التجارب، ثم لا توقف عندها بل تضيف لها او تضع لها تاجا جديدا.
---------------------------------------------------
*نشرت في مدونة (أكِنَّة) لصاحبها عبدالله الزهري، في نيسان/أبريل 2013م
**وفي موقع (جسد الثقافة)