رسالة لصاحب (دابادا) الروائي حسن مطلك !
عبدالهادي سعدون
لهذه الرسالة قصة لا بد أن أقدم بها هنا قبل أن نمضي بقراءة ما جاء فيها.
وصلتني في ذلك العام نسخة من (دابادا) رواية حسن مطلك الأولى، المنشورة في بيروت، بعد أن رفضت لجنة وزارة الأعلام العراقية آنذاك السماح بنشرها بحجة مضحكة "بسبب من طليعيتها"!. هي النسخة نفسها التي تنقلت معي حتى مدريد والتي أعيد قراءتها على الأقل مرة واحدة في السنة. حمل لي نسخة الرواية، صديقي محسن الرملي ـ شقيق حسن ـ حيث كنا ندرس سوية في كلية اللغات وتعارفنا أساساً كان عن طريق الأدب والقصة على وجه الخصوص.
كان الكتاب الأول الذي يصلني بإمضاء صاحبه، لم يكن لي علاقة متينة بالوسط الثقافي العراقي، رغم معرفتي الدقيقة بأجوائه وكتابه عن طريق القراءة الدائمة، وعن طريق الصحافة التي اشتغلت فيها بوصفي مترجماً لمواضيع أدبية عن اللغة الأسبانية، وكنت أتجرأ في أحيان أخرى على نشر قصة لي هنا أو قصيدة يرضى عنها محرر هذه الصحيفة أو تلك المجلة. كنا نعرف بعضنا بشكل كبير ـ محسن وأنا ـ ونقرأ لبعضنا، ولكنني حتى اللحظة لم أكن قد قرأت لحسن مطلك غير قصة واحدة أو اثنتين.
ذكرت في مقالة سابقة (العدد الخاص عن حسن مطلك/مجلة ( ألواح)11 سنة 2001) بان قراءتي الأولى للرواية جاءت بلا فهم، وشكّل مسك خيوط تتابع أحداثها وشخصياتها صعوبة كبيرة، لم تواجهني شخصياً، بل واجهت أغلب الأصدقاء الذين قرءوها عن طريقي. بل أن العودة اليوم لقراءة المقالات التي كتبت عنها في فترتها، يكشف لنا سذاجة وضحالة وعدم فهم العديد من النقاد لها. ما يؤلم حقاً أن (دابادا) وبعد مرور هذه الفترة الطويلة، ما يزال يكتب عنها وبحقها مقالات سطحية، لا تمس سوى القشرة منها ولا تتطرق لعمقها وتفردها الروائي المتقدم. وهو نفس الألم الذي شعر به حسن مطلك عندما لم يجد من يتصدى لروايته الفريدة ضمن روايات فترتها والفترات التي تلتها، ليس في النتاج العراقي فحسب، بل على مستوى الرواية العربية. لعل من المناسب هنا الإشارة لما قلته في حوار سابق معي بأنه "من الأفضل البدء بتقويم الرواية العربية من فترة ظهور رواية دابادا" وهذا ما أصر عليه اليوم ونحن نقترب من ذكرى مرور عقدين من الزمن على كتابتها، وهي الفكرة التي تتجدد اليوم مع قراءة شاملة للمشهد الثقافي العراقي والعربي، ومع مناسبة صدور رواية جديدة لأسماء معروفة أو مبتدئة.
من مصادفات القدر أن يعاد نشر رواية (دابادا) بطبعتين جديدتين في مصر وبيروت، دون أن تحظى ولو بطبعة واحدة في بلده العراق، لا عن طريق دور النشر الرسمية ولا دار نشر أهلية، بينما نرى عشرات الكتب الضحلة تنشر ويحتفى بها، بينما في الواقع لا تصل لإبداع صفحة واحدة من كتابة حسن مطلك. ولكن اليوم لا مجال لتجاهل كتابات حسن مطلك، بعد أن أعيد نشر قصصه وأشعاره القليلة، وتم إصدار روايته الثانية المخطوطة (قوة الضحك في أورا)، وهي الرواية التي تجيء مكملة لمشهد (دابادا) الروائي، صياغته النثرية وأسلوبه التجديدي في طرق أكثر المواضيع قرباً من العراق بمغايرة حقيقية، وتؤكد بشكل لا مجال للشك فيه بموقع حسن مطلك في قمة روائيي العرب اليوم.
الحديث عن أدب حسن مطلك، يتطلب دراسات مطولة، وهنا ليس موضعها. بل ما دعاني للعودة لها هو اكتشافي لرسالة غير منشورة وجهها الروائي لي في عام 1988، رداًَ عن رسالة تهنئة بعثت بها بيد محسن الرملي أثناء نزوله نهاية الأسبوع لقريته (إسديرة الوسطى)، وكان أن استلمت إجابة عنها، تماماً بعد يومين من تاريخ رسالتي. لا بد من التأكيد على أن نشري لرسالتي ومن بعدها إجابة حسن، لا يأتي سوى للتوثيق لا غير (فرسالتي من تعابيرها وأسئلتها الساذجة وطريقة كتابتها المخجلة، لا مجال للالتفات لها، ولم يكن لي من عبرة في نشرها، سوى أنها كانت الدافع لرد حسن مطلك برسالة قيمة ذات جدوى كبير لدارسي أدبه ومتذوقي فنه الروائي، ومنها لفك بعض رموز روايته وتفحص آرائه في الكتابة والحياة).
نلاحظ من خلال قراءة كلمات حسن مطلك في رسالته ما شغل الروائي في فترة كتابة (دابادا) وبعدها. همه الدائم بكتابة الجديد بعيداً عن أسوار الرواية التقليدية التي وقع في شركها أغلب كتاب الفترة (كان قد شرع وقتها بمخطوط رواية الثانية (قوة الضحك في أورا) والتي يشير لها في الرسالة دون تسميتها). فهمه واختلافه مع الآخرين، رؤيته الحدية لمفهوم الأديب والكاتب، رغبته الصريحة بجدية الكتابة التي تحولت لمسرح سهل الدخول لأي شخص لمجرد كتابة نصوص بلا معنى.
إن قراءة كلمات حسن مطلك بعد كل تلك الفترة، تحيلنا للتمعن بها بوصفها نصوصاً جدية، عميقة حتى وهو يكتب بصورة شخصية لآخر. أنها فرصة التمعن من جديد لأثر أدبي قلما يصادفنا في الحياة الأدبية العراقية، ولعلها تذكرة لتناول أدب حسن مطلك بشكل أكثر عمقاً قبل أن تمر الذكرى العشرين لكتابه الأول، مروراً عابراً، مثلما مرت به رواياته وآثاره الكتابية المتعددة.
* * *
الرسالتان :
1ـ رسالة عبدالهادي سعدون:
" الأخ المحترم حسن مطلك.
إنه لمن دواعي سروري وفرحي أن أجد كاتباً عظيماً بأسلوبه وصنعته الأدبية يهديني روايته القيمة ألا وهي دابادا..
كما أكن لك كل التقدير لأنك سبقتنا واقتحمت بجرأة سياج الرواية الواقعية التقليدية، وصرنا بديهياً نجد من نستند عليه بعلو هاماتنا حين نطرق أساليب جديدة، أسميها مع نفسي "القصة اللا إنتمائية" وروايتك بأسلوبها التفكيكي والغرابة التي تحيطها بالتأكيد واحدة منها.
أكتب لك باقتضاب وإن شاء الله سيكون لنا لقاء قريب، ولكن هناك سؤال يحيرني أرجو أن تجيب عليه بوجهة نظر خاصة ومطولة!.
طالما كانت صرخة "دابادا" تعني اللاشيء بالنسبة للأبله شاهين والذي هو في الحقيقة أعقل الجميع.. فإنها كانت تعني الكثير.. أرجو أن تطلعني يا صديقي: لماذا اخترت "شاهين" أبلهاً.. هل هو بالتأكيد سيتكلم بصراحة.. أرجو الشرح لأجواء الرواية.. وهل أن الحمار هو القدر أم الحياة المنتهية طالما أن صاحبه هو السلطة التي تحكم؟.
كلها أسئلة وعندي الكثير لكنني سأكتفي وأنتظر جوابك القيم.. لك تحياتي القلبية على هذا النجاح وتحيات جميع أصدقائي ممن قرأوا (دابادا) بإعجاب..
يا رب؛ إنني لا أستطيع كتم ضحكي الهستيري المليء بالبكاء على شاهين وهو يعرف أنه لم يقتل الحمار بل ضرب نفسه لأنه لم يستخدم السكين بصورة صحيحة.. لقد شهقت لروعة التصوير.
وأخيراً لك كل التقدير والإعجاب ".
الصديق
عبدالهادي سعدون
8/11/1988
* * *
2ـ رسالة / رد حسن مطلك :
" الأخ عبدالهادي السعدون المحترم.
أفضَل تعريف سمعته للقصة "أنها تجربة عزلة". وأعتقد أنني لو تمنيت حقاً أن أفرد لك توضيحاً لـ(دابادا) لاحتجت لرواية أخرى سأسميها مثلاً "ميتا دابادا" فالمعذرة إذن.
ولكن.. أسمع. أعدك في يوم ما عن شيء سماه أحد الأصدقاء "الواقعية المطلقة" إشارة إلى كتاباتي، وهي فكرة مفصلة، إصبع ديناميت في جسد الموروث الأدبي، ـ أنا متعَب وقلق هذه اللحظة ـ ولا أرغب في الحديث عن (دابادا) بالذات، لأنها أتعبتني.. أريد أن أستريح يا أخي، هناك بعض التطور الذي أسميه تراجعاً عن (دابادا) في بعض الأحيان، تجربة روائية جديدة ستذبحني، أكثر عمقاً.. العقدة هذه المرة ليست في الشكل بل في الفكرة، لا سيما أنني مهووس بتاريخ الحضارات القديمة، وأشعر أنها ليست مجرد أحداث انتهت، بل هي طفولتي أنا، طفولتكم.. وأننا نحتاج جميعاً إلى وعي تاريخي، لا إلى وعي في التاريخ.
أنني لعلى ثقة بأنك أنت وجميع الكتاب الشباب يجدون في (دابادا) باباً للأدب القادم. إذ لم يعد من السهل أن نبدأ بكلمة "كان" كاستهلال قصصي، وهذه أول خطوة للنجاح../ قتل "كان".
حسناً: الحمار "قندس" هو الأيديولوجيا. أو لنقل الروح الخشبية المدللة لكل سلطة.
هناك إشارة لا أملّ من تكرارها على الأصدقاء: يا عبدالهادي لسنا جادين أبداً، لا في قراءتنا ولا في كتابتنا.. فلنجرب الكتابة في وضع الوقوف. لنكن جادين مرة واحدة وإلى الأبد.. وعلينا أن نفرق بين الأديب والكاتب، وذلك سهل لمجرد أن نجلس في اتحاد (الكتاب) العراقي.. ولا بأس أن نصاب ببعض الغرور، وليذهب موظفو الأدب إلى الجحيم ما دمنا نكتب بألم ونتعذب ونحترق. لنجرب أن نعطي أقصى ما لدينا في كل قصة مهما كانت حتى لو كانت طاقتنا ستفرغ نهائياً في قصة قصيرة واحدة، ولننس أسمائنا. فلتكن قصة واحدة عظيمة ثم نعتزل.. لنصرخ قبل أن يصل الطين إلى أفواهنا. قرأتُ في بعض كتب الأنثروبولوجيا عن قبيلة تعطي لكل لحظة حقها. في الحزن يهلك بعضهم من البكاء، وفي الفرح يهلك آخرون من السعادة، وفي العمل تنهار أجسادهم.. ولكن هناك، سينشأ في الداخل، داخل كل شخص، قوة عجيبة ورؤية واضحة للعالم.. فلنجرب.
المعذرة.. سنلتقي في يوم ما ".
حسن مطلك
10/11/1988
------------------------------------------
*نشرت في موقع (جذور) بتاريخ 13 أكتوبر 2006م.
هناك 4 تعليقات:
يااااااه
اختصر سر الابداع في سطرين فقط
صدق والله لنغدق على كل عمل أدبي كل مانملك من طاقة فكرية وروحية
لنكتب بنبض القلب بدمع العين وحتى بأنفاسنا العالقة مابين حياة وموت
حسن ترك من بعده ارثا لايقدر بثمن لكل من يحمل قلما ويحترف اللغة لتكون لاحساسه عونا
.
له ولك حدائق من ورد
تحية طيبة
أولا أشكر الروائي محسن الرملي الذي وجهنا إلى مدونة القيمة و أتاح لي شخصيا التعرف و لو بالملامح على أدبين يتألقان وهجا للإبداع المتمرد.وهذا ما نصبوا إليه، فالقلم العربي لم يكن أبدا منغمسا في طينة التقليد الأعمى ، بل كان سباقا للابتكار و التجديد مما أدهش العقل الغربي.
أتمنى أن تصلنا أعمال حسن مطلك ولو بوجهها الرقمي لأن الورقي أمسى بعيد المنال في بلدتي.
شكرا للقائم على هذه الهداية الأدبية.
http://alfannan.blogspot.com
منذ زمن طويل وانا اعرفك من المعجبين جدا بحسن مطلك وكثيرا ما اهديت ما تكتب له او تشير اليه في كتاباتك 00اكيد هو يستحق اكثر من هذا فالكاتب الجيد والمبدع قليل في هذا الزمن الذي فرض علينا كتاب لا يمتون للادب بصلة 000 اكتب يا هادي فاكيد هناك (( قلب حي )) يفهم ما تكتب وما كتب حسن مطلك 00000 تحياتي
إرسال تعليق