22‏/09‏/2009

قراءة / د.باسل الشيخلي


دابادا . . تمرين روائي جديد في الواقعية المُطلَـقة


د. باسل الشيخلي


هل تكتفي الرواية بأنساقها المألوفة من أزمنة مستهلكة فتجتر أساليب معروفة محاها الاستعمال في ذاكرة القراء؟. أم تتخمنا بكلام موضوعات قشرية تآكلتها رومانسية الحب، الكره، النظام الاجتماعي المتعلق بآخر الخيوط العنكبوتية الواهية من (فوق) إلى ملامسة (التحت) بخجل حكائي يدّعي القبض على وضوح الواقع، وتقديمه مادة واقعية مزعومة لمستهلكين جعلناهم يمتهنون عَلك المشاهد ذاتها، وبالتالي الموضوعات نفسها بالأساليب إياها؟. أم تطمح إلى خلق (مخالفة) المعلوم واختراقه إلى (مجهولنا) بأكبر قدر من المشاكسة؟. باسل الشيخلي يقرأ ويدرس رواية جديدة، مشاكسة بنظامها/قبل أن تشاكس بأسلوبيتها ودلالاتها على أي نظام روائي آخر متحجر حتى في حدود ادعاءاته الطليعية الساذجة.

----------

لقد استطاع (حسن مطلك) من خلال سلسلة القصص القصيرة التي نشرها في الصحف والمجلات منذ عام 1979 وحتى الآن، أن ينفرد بصوته الفني المتميز وأن يبز أقرانه ويفوز ببعض الجوائز الفنية المخصصة لقصة الحرب، من خلال معرفة واسعة بالتراث القصصي العربي والعالمي ومحاولته تصوير الواقع عبر ظواهره المختلفة. ولكنه في (دابادا) روايته الأولى المنشورة في بيروت، يفاجئنا ليس باجترار أساليب معروفة، وإنما بتقديم عمل فني يسعى للسيطرة على الواقع عبر وعي فني لا يسلّم بمقولات نهائية للرواية. و(دابادا) بهذا المفهوم ليس رواية، إنما ريبورتاج حياة مكتوب على طريقة (بورخيس)، بخبرة الشيوخ المتوحدين المتأملين.
وإذا كانت هذه الرواية:" صرخة في الفراغ أو رفسة موجّهة قبل حلول الزوال لبعض الناس الذين يرفعون إنسانيتهم إلى الأعلى فيخرجون عن إطار الجذب الاجتماعي ويدخلون في صفحات الأسطورة، فهي تمرين شاق لتعلّم الخطأ، كما يصفها مؤلفها الذي يقول إنه كتبها ليحمي نفسه من القراء". وهذه الرواية تتجاوز حدود الواقعية لتدخل في إشكالية أكبر وأوسع من نمطية الكتابة المقننة التي اتفق عليها آباء الرواية، فهي محاولة لإقامة غياب النص وإثارة أسئلة متداخلة ومستقلة لا يمكن ممارستها إلا من خلال العالم السري للكتابة. فهي نص لا يحيل إلى مرجعيات معينة يمكن قراءة الرواية على أساسها، لأنها مفتوحة زمنياً بإطلاق كبير.

مــلاحــظة أُولــى:
إذا كان سعي أصحاب الرواية الجديدة في فرنسا هو البحث عن علاقات جديدة أو خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم، واشتراطاتهم بأن يتخلصوا من نسيج الأفكار المسبقة والصور الجاهزة التي تغلفه، فإن حسن مطلك يستفيد من هذه الإنجازات النظرية التي قال بها آلان روب غرييه وناتالي ساروت خصوصاً، ويطورها باتجاه بناء روائي يعتمد على إعادة النظر بمجمل الوقائع التي تحيط بالإنسان، والاشتباه بها ومن ثم إعادة تكوينها وقذفها بتناقضاتها الملتهبة في أتون العمل الفني. فـ(دابادا) ليس فيها شيء معروف قبلاً. إنها بحث عن الكيفية والتقنية المتضامنة مع رغبته في الكتابة. وإذا كانت الرواية الجديدة سميت بـ(اللاروائية) أو أنها تحاول أن تخلق من لا شيء، فـدابادا تحرص على خلق معانيها من خلال لغتها ونسيجها الفني الخاص.
لقد كان (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لألبير كامو نموذجاً للإنسان المعاصر الأوربي الخاوي من الداخل والمحكوم بجبرية مثلثة من الجوع والجنس والوضع الاجتماعي (فرويد وماركس وبافلوف)، تتقاذفه قوى معادية مما تجعله مستقلاً رافضاً متكبراً، فإن (شاهين) بطل دابادا لا يستطيع غير أن يتعلم من القوى المعادية طريقتها وأسلوبها في الفتك بالإنسان ليس من أجل التحدي، وإنما لغاية أعلى هي التماهي في كيفية الفعل الكفاحي المستمر للإنسان، في كيفية الانكسار والموت وفي معاناة الفشل الإنساني بنضج كبير. هذا هو منبع الصلة بين شاهين والآخرين، فهو الوحيد البعيد عن الشبهات لأنه فوقها أو في جوفها، ذائب في الجماعة كأحد أصوات الطبيعة المنسية أو الحيوانات الممسوخة بقدر أزلي، صابرة على الكبت والإحباط والعزلة.
وإذا انطلقنا في السؤال التقليدي عن هوية النص الروائي في دابادا، فإننا سنجد أنفسنا نخطو خطوة شاقة ومستحيلة للنظر إلى الماهية من حيث هي طبيعة الأشياء. فهذا النص يحمل هويته قبل زمن وجوده لأنه محاولة ممارسة المعرفة ونفيها معاً، محاولة رؤية الإنساني والإلهي والسحري والسري والفوقي كلها في آن واحد، ومن زوايا مختلفة وبتعاقب سريع كالغرف المتصلة بدون جدوى فهي انغمار في الكتابة إلى حد فقدان اللاوعي شذراته ونظامه، وكذلك بلا موجودات خارجية اجتماعية أو تاريخية أو سياسية، وإنما لممارسة الحضور للرؤية والكشف مع إسقاط المعنى.

زمــن الــروايــة:
الفعل القرائي لهذه الرواية يميل إلى رؤية التراكم المادي في إطار نص منشغل بذاته وبأسئلته وبتحقيق هويته؛ فالدلالات تنهض فجأة لتختفي في فضاء لا متناه، هي صناعة ولا صناعة، نفي للزمن ومن ثم تكويره وتكثيفه وقذفه في لحظات تتماهى مع السرد المتناثر الذي لا يبني اتجاهاً. إنما يحقق بنيته المتزامنة مع الوهم الروائي الذي تشع فيه الرموز والعلاقات ملتقية ومتناقضة، وملتهبة بالنشاط البشري المزمن في تاريخانية مغلقة يلتقي فيها الأول بالآخر بحسية محتدمة.
إن كشف عناصر النص السردي يتم بقطع خيالي لحركة الزمن، فـ(دابادا) متن واحد يحلق في فراغ زمني، متصلة بشكل سديمي بالنظام الفني الخاص المرسل إلى المتلقي بخشونة وتحدٍ، وحيادية صوت الراوي إطارٌ إيديولوجي قائم على التشويش وتخريب العلاقات المرئية والمسموعة في منظومة المفاهيم الحياتية المتداولة والمتعلقة بمصائر سائرة إلى أهداف عبثية تماماً.
إن الصوت الواحد في الرواية كثيراً ما ينحرف باتجاه تشكيلات مختلفة. يتحول إلى أصوات متقابلة متصارعة لخلق عالم إنساني غير منسجم؛ فالقاص يحاول عبور القول إلى الخيال عبر شريط من الكلام يفجر مستويات دلالية متراكمة كما لو أنه وضع مرايا متعاكسة على جوانب الأحداث، إنه تحويل حر منفتح على تعددية الأصوات المنفتحة تماماً كما يشير (تودوروف) على الزمن المتخيل الذي يلتقط فيه ما يحتاجه لإقامة يوتوبيا تعيد تشكيل مفهوم السعادة البشرية. و (حسن مطلك) في هذه الرواية لا يستخدم دلالة الزمن التقليدي، فالماضي منصهر في الحاضر على طريقة الأحلام الكثيفة، فليس من تسلسل زمني منتظم والزمن منطلق في تهويمات النفس البشرية، كما أن عقدة الرواية موزعة بانتظام على مساحة النص، فهي كلها عقدة كبيرة مستحكمة لا يستطيع القاريء دخولها إذا لم ينسجم. وعواطف الأبطال هي الأخرى موزعة دون انتظام وبشكل متوتر، مما يوحي بأن هذا النمط من الروايات ليس بريئاً لأنها تعيد الاشتباه بالوقائع تحت ذرائعية مطلقة غير مقيدة بإجراءات المفاهيم المحددة. إنها تجريد ما هو تصويري في الصور وما هو شعري في الشعر، فهي تبدأ من حياة قرية شمالية عراقية وتنتهي إلى نسف الجسور وإحراق السفن والعزلة في جزيرة الفن المتعالية.

حــدود المكان:
إن مكان الوقائع في (دابادا) هو المكان الأزلي لممارسة طقوس الموت، من خلال الحياة، المكان الذي تتحطم فيه كل الحقائق لتنشأ على أشلائها حقائق أخرى تلبس أردية ملونة جديدة قابلة للتأمل والزوال. لا إشارة إلا لمجموعة تناقضات تكشف نظامها في هيأة خاصة يمتاز بها الكاتب ليجد طريقاً وعرة ويرى اتجاه حركته وسحر التكوينات بلا تأويل وإنما بخضوع جمالي غاضب لكنه منسجم في تحقيق جماليات النص.
القاص يتأمل كثيراً بتشكيلات المكان الطبيعي من حوله ويعيد ترتيب بناء الأشياء المادية بلا محاولة إقناع تقليدي ومباشر، بل يلجأ إلى الإقناع الفني بانزياح مستمر لمقولات المادة والإيديولوجيا والذهاب مع الرؤية الشعرية إلى أبعد استثماراتها المطلقة في عالم غريب متدفق.
وإذا كان (ديلاكروا) يرى:" الحقيقة في السراب الذي يبتدعه في اللوحة أما الباقي فما هو إلا بمثابة رمال تتحرك"، فإن حسن مطلك يرغب في التعديلات أو الأكاذيب الأكثر ثباتاً من الحقائق المعاشة، بما يشبه الحلم الذي يتحقق عندما يستيقظ، فهو يصور نفسه ويدير ظهره إلى الحقيقة الخارجية ويحورها ويرفعها إلى مرتبة الفن.

اللــغــة فـي الــروايــة:
عموماً، لا يمكن مع (دابادا) النظر إلى ديناميكية النص لغوياً بانعزال المكونات التمهيدية، فمسار الحياة (الأخرى) التي يحييها النص يوازي حركة الحياة، الظاهر والجوهر، الما قبل والما بعد. فالأبنية المغلقة تتفتح بين الحياة والموت بعلاقة خارجية متوترة، بصورة زئبقية. لا يمكن التقاط الممكن إلا على مساحة تاريخية واسعة وبفعل تجريد المخيلة.
يقول (كاسيرر): إن الحدس المباشر لمغزى العالم ومعناه لا يتحقق إلا من خلال الوعي الأسطوري. فإن حسن مطلك يحاول أن يطبق حدوسه في بيئة تنحل تدريجياً وتتحول إلى إشكالية ثقافية نتعرف عليها من خلال الوصف الرمزي المكثف لعلاقات اجتماعية تنحل هي الأخرى وتتغير وتخضع إلى قوانين زمنية صارمة.
وإذا كان القاريء يطالب باقتناص بعض اللحظات التي نميط فيها الحجاب عن الوجود والموجود فذلك يتم من خلال ما يثيره نص (دابادا) لغوياً، لما فيه من دهشة تكشف عن إحساس عالٍ بالأشياء، بل ويبدو هذا الكلام ملازماً لوجودنا الذاتي. ففي مجال هذه اللعبة المفتوحة لا بد من الوجود الشعري لفتح الحدود بين الكوني والأرضي، والإلهي والإنساني، وما بينهما من علاقات متعالية بقدر ما هي منبثّة في ثنايا الحياة، علاقات يصوغها لسان الجماعة بشكل عبثي وغير محدد.
يحاول نص (دابادا).. ببساطة أن يعطينا لغة للفهم من خلال لغة الشعر، فهو من المنطلق الوجودي، حسب ما ذهب إليه هيدجر، يحاول جعل اللغة ممكنة كمادة يتصرف بها لأنها معطاة إليه من قبل، وذلك لأن ماهية الشعر الحقيقية لا تقوم في التدفق التلقائي للأحاسيس والعواطف، وإنما من خلال مجموعة مدهشة من النشاطات البشرية العلوية التي تجعل الموجودات معروفة من جديد من حيث الوجود المجازي الذي هو لعبة الأدب. ولغة (دابادا) هي سـر قوتها، فهي ليست آلة يملكها القاص أو الأبطال للإستهلاك المجاني، وإنما هي عالم الرواية وتاريخها. تمتلك أعلى الإمكانيات على تعيين وتغيير الوجود.

الــرمــز الأنــثـوي:
إن أول الاشتباكات التي يقع فيها البطل هي مع المرأة. المرأة المنقسمة إلى جوهر أزلي مرتبط بقصص الخلق في كتب الديانات القديمة. فالمرأة مطروحة عنده عبر نماذج تقديرها صوفي ذاتي، أو سر من أسرار الكشف، فـ(هاجر) امرأة، كالآلهة قريبة من عالم الخلق الذي تعاد كتابته ابتداءً من شخصية الأب الخالق المختفي ببطولة عبثية وسحرية، والتي على شاهين أن يميط اللثام عن ماهية هذه الغربة في البحث عن الأب في عصر العزلة الدائمة. و(هاجر) لا تعينه، شريكة في كتم الأسرار أو نسيانها كي تعيد خلق الحياة، وليس لدى شاهين من هاجر سوى صور وتراث وتأملات تجاه عالم الأمومة وتصرفاتها السلوكية الخائفة التي غمرته بتلك المودة القاسية والحب المحموم الغريب الذي يدهش ذلك الصبي ويصب على رأسه مزيداً من الأسئلة.. الحب الذي لا يمكن تفسيره وهو ذو النزعة البرجوازية الصغيرة. و(هاجر) هي الوعاء الذي يناظر الأرض البكر التي لم تحرث والتي تنبت الكثير من النبات الطبيعي حيث يكتشف شاهين بين لسعاته جسده وخصوبته.
أما (عزيزة) فهي امرأة نقشت في ذهن شاهين وشماً آخر، تطريزاً آخر ووهماً أكبر. إنه نوع من انبساط الضوء على الحشائش والأعشاب، نوع من تعليم الإنبات، حسب الأساطير الفرعونية الذي جسدته إيزيس بالهيمنة على جميع العناصر في الأرض والماء، أو حسب الأساطير البابلية؛ فإن المبدأ الأنثوي ينفعل لذكورة السماء، والأسطورة الإلهية تنتقل بين الذكورة والأنوثة... هذا التركيب للرمز الأنثوي يستفيد منه القاص ويعمل عليه في سيرته الذاتية، فهو (إسماعيل) الضحية الذي يكتشف عبر نضاله لذة الإيمان، لذة الفداء، وهي لذة مستعارة من رمز الأبوة ممزوجة بروح النبوة المبشرة باكتشاف موقع الإنسان من الوجود، ليس طبعاً وفق مفاهيم دائرة المعارف الدينية، وإنما حسب مفاهيم العصر الراهن الذي يتداخل فيه الديني بالسياسي بالعلمي وبجميع الإنجازات العقلية والروحية للمسيرة البشرية.
عموماً، لقد حاول شاهين إلغاء نفسه نتيجة تعرضه للخطر اليومي الذي لا يستطيع كشفه بسهولة، فهو في السرد الذاتي من خلال الحقائق الإنسانية المطلقة يعتبر ذاتاً ملّقة في فضاء الخلق ومصابة بالتضليل وخيبة الأمل والتدمير الفكري. لذلك فهي ذات مهتمة بضياعها وشرط وجودها الحسي والعقلي المفتوح تجاه كل شيء.
----------------------------------------------------------
* نشر هذا المقال في جريدة (الجامعة) العدد 5 الأربعاء 9 آب1989م.بغداد. وفي مجلة (اليوم السابع) العدد273 بتاريخ 31تموز1989م. بيروت. وفي مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.

ليست هناك تعليقات: