حسن مطلك .. صديقي الذي رأيته ولم ألتقه
زيد الشهيد
تطوف رؤى الأحبة ممّن فقدناهم عنوةً كما الفراشات. هائمةً؛ مستأنسةً أو متوحشة تطوف لأننا نريد لها البقاء قاب نظرتين أو أقرب.. هي المُعنّاة ونحن المتشوقون.. هي لم تنهل من فيض الضياء ما يشبعها؛ ونحن لم نرتوِ من دفق ألقها.
أسوق هذا البوح مسترجعاً منتصف التسعينات من القرن الماضي كذكرى ترتبط بمفجِّر اللغة ولاوي عنقها؛ المبدع قطعاً حسن مطلك يوم قدّمَ (دابادا) على مصطبة الخلق الإنساني.. أعود لألتقي في صيف العام 1995 – وكان ذلك في عمّان وكنت قادماً من العراق ومتوجهاً إلى صنعاء لأني تعاقدت فيه كمدرس للغة الإنكليزية قبل عام وقضيت العطلة الصيفية في السماوة مدينتي لألتحق مرة أخرى بعملي.. وصار إن التقيت في (مقهى العاصمة) في عمّان القاص كريم شعلان؛ قدّمه لي الشاعر نصيف الناصري فأحتفيت به كونه كان أحد القصاصين الشباب الخمسة الذين فازوا بمسابقة القصة التي أقامتها صحيفة الجمهورية في العام 1992 كما أظن. وكانت قصته (عوانس) هي الفائزة وقد حملت اسم مجموعته في ما بعد؛ نشرها في عمّان على حسابه الخاص وأهدى نسخة منها لي حملتها معي إلى صنعاء ونشرت تعريفاً لها في صحيفة (الثورة) اليمنية... إلى هنا و(دابادا) الرواية لم تقترب مني، ولم أسمع بها. ولم يكن حسن مطلك إسماً يمكن أن يثير إنتباهي رغم أني قرأت قصته (عرانيس) كإحدى السرديات الفائزة من قصص الحرب في الثمانينات.
تمر عدّة شهور أصرفها في قرية (بلسن)؛ إحدى قرى ريف صنعاء. وفي إحدى زيارات العاصمة ألتقي كريم شعلان ليحدثني عن حضوره لصنعاء مجبراً كي يطير منها إلى كندا حيث المتَّفَق مع حبيبةٍ أنجزت له معاملة الإستدعاء بغية الزواج هناك في مواطن الحلم..
بقي كريم ما يقرب من عشرين يوماً كنا خلالها نخرج نطوف الشوارع حيث إغراءات جو صنعاء الجميل وحسن تعامل أهل صنعاء مع الغرباء... عرّفني كريم خلال ذلك على رئيس تحرير مجلة (السفير). قال عنه أنّه كان في عمّان يصدر مجلته عندما أبعدته السلطات الأردنية لأسباب عرّشت في دواخلها. كان كريم قد آوى عنده في المجلة يساعده في العمل ويرقد في إحدى الغرف... يقودني الحديث إلى دخولي غرفته مرّةً وسؤالي عن كتاب متوسط أخضر داكن، وسطه زهرة برتقالية وحشية سيفيّة الأوراق طويلةً. في الأعلى قفزت الحروف المكررّة تقرأ (دابادا).. سألت كريماً: ما هذا..؟. أظهر دهشةً كأنه يعاتبني كيف لم أعرفها؛ قال: رواية؛ ألم تقرأها؟.. قلت: لا..
قال: هذه رواية غريبة.. لكاتب أعدموه وهو في قمّة تألقه..
صمت لوهلةٍ ، ثم قال: أتعرف إنها المطبوع الوحيد الذي أخرجته معي من بغداد؟…
أخذت منه الرواية استعارةً. وفي الطريق إلى الفندق الذي أسكن رحت أقلب الصفحات وأقرأ.. كلمات وأسطر.. وكانت رؤية كريم في محلِّها. ففي غرفتي وأنا أطلُّ من شرفتها طفقت أقرأ الرواية باستهلالها.. قرأت الأسطر/ قلبت الصفحة الأولى نحو الثانية فالثالثة فإذا بي أدخل في تهافتات رغبة القراءة والتواصل. أجتاز الصفحات تلو الصفحات وسط بلبلةٍ وتشظّي وقفز في هواء من متعة غامضة.. خفت أن يتآمر الوقت عليَّ فيسرق (دابادا) من بين أصابعي. لذا نهضت من فوري؟ ارتديت ملابسي؛ وتوجهاً لمكان واحد لاغير تلكم هو محل التصوير والإستنساخ حيث تعودت الذهاب لصاحبه الذي يعرفني لتكرار حضوري إليه وطلب إستنساخ هذا المقال من جريدة أو تلك القصة من مجلة. طلبت منه تصوير الرواية من أولها حتى النهاية.. وفي اليوم التالي أعدت (دابادا) المُختلَسة إلى كريم دون أن أخبره بما فعلت… ولأنَّ القراءة المعمّقة والرغبة المفتوحة على سعتها وغرابة اللغة الموظَّفة في العمل إستحوذوا عليَّ فقد عدت إلى كريم أطلب رأيه في قصة قصيرة جداً قلت له أنني كتبتها بالأمس… كانت لغتها شبيهة بلغة (دابادا) فما إن سمعني وأنا أقرأها ( وفي ذات الوقت أتابع ردّة فعله) حتى اتسعت عيناه اندهاشاً وكاد أن يسألني كيف كتبت قصة كهذه!. لكنه تراجع لأنَّ كتاب (دابادا) لم يبق عندي أكثر من يوم، فمن غير المعقول أن أتأثر به هذا التأثر الذي يصل حدَّ كتابة قصة تحمل أسلوباً مشابهاً لأسلوبها.. أعتقد أنَّ هذا هو السبب الذي أسكت كريماً فلم ينطق سؤاله الإستغرابي؛ ولربما حدسَ فعلتي لكنه آثر ألاّ يثر شكّاً يعبر عن إتهامي بسرقةٍ من وراء ظهره خشية أن أرد عليه ردَّ البنيويين من أن النص لن يكون لصاحبه طالما خرج من يديه.
سألت كريماً إنْ كانت له صلة بحسن مطلك فأبدى إيجاباً.. قال أنني راسلته لكنني لم ألتقه.. وقال أنّه كان في الأردن وسمع بأن لحسن أخ موجود في عمّان وأنّه سعى للقاء به وأنّه حصل على صورة شخصية لحسن.. أخرجها من حافظةٍ في جيبه فإذا بها صغيرة الحجم لشاب حليق الشارب؛ سرعان ما قفزت إلى ذاكرتي صورته.
أتذكّر أننّي إشتركت في قصة ضمن وفد المحافظات الذين جاءوا إلى الموصل في العام 1989 للمشاركة في مسابقة القصة العراقية التي أقامها إتحاد الشباب هناك؛ وكان على رأس لجنة التحكيم الناقد باسم عبد الحميد حمّودي.. أتذكّر إنَّ استراحة تخللّت ما بين قراءة النصوص عندما دخل شاب قصير القامة، (مربوع )؛ معتدّاً بنفسه (كشّاخ باللهجة العراقية) توجّه إليه العديد من معدّي المهرجان وبعض الجلاّس يستقبلونه. لحظتها أنا الجالس في مقعدي مع أعضاء الوفد تساءلت: من يكون هذا حتى يستقبلونه بهذا الإهتمام والحفاوة؟ (هل كان ذاك حسن مطلك؟…. وجهت سؤالي ـ الآن ـ إلى الأخ محسن الرملي ليجيب إنْ كانت الملامح التي وصفتها له ذاتها أم لا؟.. فصلت له أكثر.. فكان ذلك حقّاً.. وهكذا.. فإننّي أكون قد رأيت حسن مطلك مرةً واحدة وإلى الأبد.) .
طار كريم شعلان إلى كندا لكنّي سرقتُ منه ذكرى وذاكرة.. كانت معي دابادا – مستنسخة – أنيسة في ريف صنعاء.. هزّتني هزّاً عنيفاً محطّمة لدي إعتزازاً بما قرأته طيلة حياتي من قصص وروايات. وضعني هذا الجهد الروائي على مفترق دروب مع الأدب.. لا، بل همّشَ عندي كل الأعمال الروائية العالمية والمحلية.. طغت عليَّ طغيان الجنون فاستحالت هاجساً لا يفارقني.. أذهب إلى كتابٍ لأقرأهُ ولكن ما أنْ تمر عدّة صفحات حتى أرميه لأعود إلى (دابادا) مملكتي القرائية الأثيرة وعالمي الجميل الذي أبغي.. صارت دابادا كتابي الأثير الذي ذُهلتُ به فدفعني إلى كتابة رواية (سبت يا ثلاثاء). بدأتها في اليمن وانتهيت منها في العراق بعد عودتي صيف 1997، حاملاً إياها معي. ومعي رؤى ونصوص تحمل طابع العبث قدّمت واحده منها إلى مجلة (الف باء) العراقية ونشرت يوم الأربعاء 25/3/1998 بعنوان "أسفل فنارات الوقيعة" أعطيت كما يبدو للقاص (............ ) لإبداء رؤيته النقدية فقدّمَ كلماته وجمله الملغومة بالفخاخ ( بعدها بثلاثة أسابيع نشر القاص محمد اسماعيل مقالاً حمّله عنواناً مستعاراً من الشاعر الفلسطيني محمود درويش يقول: أفكلّما نهدت سفرجلةٌ نسيت حدود قلبي.. تنبأ القاص محمد بسوء العاقبة لي مديناً القاص ( الناقد ) على ما احتوته كلماته من شراك ومكائد.. فعلاً!.. وعلى إثر ذلك طفق رجالات الدولة الأمّية والمخابراتيون بوسائلهم القذرة.. التلفون يرن في البيت يومياً ما يزيد عن مئة مرّة ولا من أحدٍ يجيب عندما نرفع السمّاعة / إنبوب الماء خارج البيت ننهض صباحاً لنراه مكسوراً وقد غمرت المياه الشارع ولا جدوى من إصلاحته العديدة / الملابس المغسولة التي تُنشر على حبل الغسيل في الحديقة يسرق بعضها / طاقم شرطة الحراسة لبيت مدير الشرطة الذي لا يبعد غير أمتار عديدة عن بيتنا أستُبدِلً أكثرهم بعناصر شابة أحدهم كان يتابعني ولم أفقه حينها السبب.. رئيس عرفاء الشرطة العجوز يعرفني ويقدّر أمّي العجوز على حسن صنيعها عل ما تبعثه اليه وإلى طاقمه من ( ثواب الجمعة) عشاءً مثلما توفّر لهم الثلج يومياً في لهيب الصيف، كنت ألمح التأسي عليّ في عينيه لكنه غير قادر على البوح بما يجري وما سيحيق بي ( تذكرتُ كل ذلك بعدما جاء من يخبرني سرّاً بضرورة الهرب خارج الوطن وليس داخله لأنّ قرار القاء القبض علي اتّخذ وبقي التنفيذ، وما عليَّ سوى تدارك الأمر سريعاً........... خرجت أنا واسرتي صيف العام 1998 وتحديداً نهاية تموز لأُلأحق في شوارع عمّان بعد أيام بوجوه كلبية مخابراتية دفعتني إلى الذهاب لـ( مكتب الأمم المتّحدة ) طالباً اللجوء والحماية.. على يساري هاجسي وقلقي، وفي يميني (دابادا) كتاباً هذه المرّة بعدما وجدته مهملاً في إحدى رفوف مكتبة منزوية؛ أنقله بعد ذلك إلى ليبيا لأكتب قراءةً للرواية تحمل عنوان (الرحيل على كف الدهشة).. ثم نص " تراجيدي " استيحاءً من شخصية حسن مطلك.. أدعو قارئي للولوج إلى فضائه.. وهناك / هناك سيلتقي بحسن قمراً يرفل مع كوكبة الخُلاّق الذين احتوتهم عوالم النص ونواصيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*زيد الشهيد: كاتب وناقد عراقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق