توظيف الرسم وتأشير التكرار
في (دابادا) حسن مطلك
صورة: حسن مطلك وهو يرسم، في حقول قريته / مطلع الثمانينات
أسامة عطية حسن
.. لا يخفى على أحد أن هوس العرب بالشعر والنثر أكبر بكثير إذا ما قورن بالرسم، فالعرب، على العموم، يميلون إلى الفن السماعي أكثر من الفن الصوري، وربما يعود ذلك إلى طبيعة نشأتهم وحياتهم، ولأن الفن غالباً ما يعبر عن البيئة والموروث الشعبي، ولأن العرب في الماضي امتهنوا الرعي والتجارة وهم في تنقل دائم معتمدين على وسيلة النقل المتاحة آنذاك، وهي الإبل والخيل فهم لذلك يحتاجون إلى نداءات خاصة وأشعار وأغان يعبرون بها عن حالهم ويملأون بها مسافاتهم، لذا نجد أن موروثنا من الفن السماعي هائلاً على عكس ما هو عليه الحال فيما يتعلق بالفن المنظور، إضافة إلى موقف الإسلام من التصوير والتماثيل باعتبارها وثنية، وربما أن هذا يفسر أيضاً عدم قناعتنا أو قصور فهمنا للوحة التشكيلية، بينما نجد متعة فائقة في قراءة وتذوق الشعر أو مقطع من نص خطابة قديمة.
بهذه المقدمة أحاول أن أشير إلى أن المبدع الراحل حسن مطلك وبحكم ولعه الشديد بالرسم حاول، في روايته (دابادا) أن يقدم لنا شيئاً من الرسم.. شيئاً ما يمكن أن نستسيغه، فحول، بطريقة بارعة، لوحات جميلة إلى وصف شعري ونثري، أي رسم بالكلمات، بشكل متناسق.. وكأنه يقول لنا: إنني أقدمها لكم هكذا.. فبماذا ستعتذرون عن عدم فهمها؟!.. إذاً فالتقصير قد يكمن في طبيعة تلقيكم وليس في الفن أو فيّ أنا الفنان.
كما أنه وضع جزءً كبيراً من شخصيته وقصته في تعلم الرسم وجسد ذلك في شخصية عواد الذي سافر إلى بغداد لعرض لوحاته طالباً للشهرة.
تقفز الآن إلى ذاكرتي حكاية قديمة سمعتها من الراحل حسن مطلك نفسه، وفحواها أنه قد حاول الدخول إلى أكاديمية الفنون الجميلة لدراسة الفن، إلا أن والده منعه من ذلك لأنه كان رجل دين معروفاً، ويعتبر أن الرسم حرام، والمعروف أن (الملا مطلك) والد حسن، كان شديد التعصب للإسلام.
وبهذه الشخصية، أقصد عواد، حاول المؤلف إيجاد فردوسه المفقود، على الأقل لإشباع الرغبة، هذا إن لم يكن ذلك درساً شاقاً لنا!!.
هناك بعض الأدلة في الرواية تثبت أو تشير بطريقة ما إلى هذه الحكاية، ومن ضمن هذه الأدلة: في ص43:" يقول عواد: اسمح لي بإعطائك سيجارة. المشاكل التي تعرفها مع الوالد لم تنته، لكنها تخمد تحت خدعة التجمع ثم الانفجار في أوقات متباعدة". وفي ص41:" لأنها ستُحطَّم من قبل الرجل التقي على اعتبار أنها أصنام".. ويقصد تماثيل الحمير المصنوعة من الطين.
في ص51 تقول عزيزة التي كان يرسمها في مرسمه:" ولكنني متأكدة بأنها لن تشبهني.. إيه.. العم هنا؟. ويقول: في الجامع كعادته". ثم في نهاية ص56 يقول:" كفى كفى.. آه تعبت، سنكمل غداً فقد اقترب موعد مجيء الوالد.. وأنتِ تعرفين الباقي".
المهم من ذلك كله أنه قد استطاع توظيف قضيته، المتعلقة بالرسم، بشكل جيد واستطاع، كذلك، توضيح وجهة نظره في الحياة على لسان عواد الذي تخلل صفحات الرواية، ونجده حاضراً كما في الصفحات التالية: 39، 40، 42، 43، 44، 45، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 52، 53، 56، 78، 79، 80، 81، 89، 90، 114، 115، 138، 177 كذلك يمكن أن نجده بين السطور حاضراً، حقاً كرسام.. ولو تصفحت رواية دابادا لوجدت بأنها معرض رائع للوحات وتحف فنية نادرة مصفوفة بتناسق واضح وباهر.. أو أنها، الرواية، بمجملها لوحة متكاملة لأجزاء صغيرة متكاملة أيضاً.. تقنية من هذا النوع تحيلنا بشبهها إلى حد ما لعمل الفنان جواد سليم (نصب الحرية) أي المشهد البانورامي للحكايات/ الحكاية العراقية. وحين تجول بين أوراقها ستجد بأنك وسط زحام شديد من التحف والنقوش والمنحوتات واللوحات الفنية التي تم تصويرها بشكل سماعي عبر الكلمات.
وفي رأيي أيضاً أن الغلاف جزء لا ينفصل عن الرواية فهو بحد ذاته تحد عظيم وهو الشاغل الكبير والغريب، بعد العنوان، لكثير ممن وقعت بين أيديهم نسخة من دابادا. وهو لوحة للفنانة (حياة) من المغرب، مزيج من اللونين الأخضر والأصفر، تم اختيارها، من قبل حسن نفسه، بشكل دقيق لتضيف شيئاً ما إلى الفلسفة الموجودة بين كلمات الرواية، وإني أراها هاوية عميقة.. هوّة بعيدة لقرار رمال متحركة، هاوية برخاوة المفاجأة، زلقة لدرجة تجذب إلى قرارها الكثيرين ممن لا يجيدون الرقي عنها، وإني أراها كثيراً في صفحات الرواية خصوصاً تلك اللوحات التي تصف " توحل الحظ " للبوة تسقط داخل هاوية..
تماماً مثل توحلنا في التكرار والروتين، هذه اللوحات تكررت في الصفحات التالية: 65، 84، 91، 110، 112، 134 وأنا لا أعتقد بأن مثل هذا التكرار وجد بهذه الكثافة دون هدف، وأعتقد بأن هذا الهدف هو إعلامنا بلا ستعداد للمفاجأة قبل وقوعها كي لا تنزلق أقدامنا بسهولة.. يجب أن نعتاد على عنصر المفاجأة ويجب أن نبتعد عن حالة الروتين والتكرار التي تسود مجتمعاتنا فكأن المؤلف أراد أن ينبهنا إلى تلك الهاوية التي نسير إليها بخط مستقيم، حاول أن يوجه لنا " صرخة في الفراغ " كما يقول، أو ربما رفسة، ومن لم ينتبه لذلك فليسقط فيها وليستسلم "لبكتريا التفسخ".
إن تأشير وانتقاد حالة التكرار ظهر واضحاً كما في الجمل والعبارات التالية:
ـ "كل خريف تتجدد ذكرى ضياع الأب في البراري بسبب أرنب مبقع".
ـ "مرة بعد أخرى يعيد إلى وجهه المضاء بالحزن النشيد المتقن الحفظ".
ـ "وتنفجر فجأة حين ترى بأنها عاجزة عن إيقاف حركات البندول".
ـ " كل ذلك بسبب شخص معين، بسبب مجموعة أخطاء لمجموعة أشخاص يتكرر وجودهم".
ـ " ضحك، ضحك، ضحك".
هذه المشاهد وغيرها تشير إلى انتقاد حالة التكرار الموجودة في مجتمعنا والتي تتكرر حتى على مدى الأجيال، فحتى في الأمثال نقول: "ابن البط عوام". وهناك استغراب واستهجان كبيرين عندما شاهد الناس شاهيناً، وهو ابن الصياد الصعب، يكبر بهذه الطريقة ولا يسير على خطى والده.. أو أن نجد حسن مطلك فناناً فيما والده رجل دين.. كأن ذلك لا يعقل أبداً!!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أسامة عطية حسن: كاتب عراقي، من أبناء قرية حسن مطلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق