04‏/10‏/2009

ذكرى ومرثية / عبدالله الرمضان

ذكرى عن مفردة دابادا

ومراثي لـ حسن مطلك

عبدالله محمد الرمضان
دابادا تشبه معركة، كان بطلها ومنفذ عملياتها ومروض حروفها حسن مطلك الذي وافانا بكل شيء فيها. وعن مفردة دابادا أعتقد، ووفق ذاكرتي، بأن منبعها من ( داه .. باه .. داه ) وهي كلمة كان يعرفها ذلك المجلس القروي المزدحم صباحاً، عصراً لاحتساء القهوة. وقائلها هو ذلك الشيخ الجليل الكهل ( الملا مطلك الروضان ـ والد حسن مطلك ) الذي نذر حياته في بناء وإمامة مسجد سديرة وفي فض النزاعات العشائرية وكان عالماً بأمور الدين، فإذا ما تحدث أحد الحضور أمامه كان يصغي بكليته، حتى وإن لم يكن يتفق مع محتوى القول، ويتحسس الكلام من نبرة الصوت فيشخص اللغو والزلل واللغط ويبقى صامتاً حتى يتم المتحدث كلامه ثم يعقب الملا مطلك الروضان دون تردد: " باه.. داه.. باه.. داه.. داه.. ". كان الملا يحترمني رغم صغر سني لأنني كنت ملازماً للمسجد. تطفلت مرة وبجرأة غير عادية مستفسراً عما يعنيه بلفظة: داه.. باه..؟. فقال: لتكن إذاً، سر بيني وبينك ولا تخبر بها أحداً حتى أفارقكم بلا عودة. فكلمة (باه) هو مطلع أو إيجاز لكلمة (باهت) التي تعني في أصلها العربي البهتان وفي العامية تعني الذي بلا ملح، تطلق على الطعام وعلى الأشخاص مجازاً أيضاً تعبيراً عن خلوهم من الطعم والمعنى. وكلمة (داه) تشير إلى (الدهاء ـ داهية) وخاصة في المراوغة أو الخداع. وكان الملا يرددهما بشكل متواصل مستمراً دون انقطاع حتى يأخذ الاحمرار وجنتيه، ويواصلها بحجم رفضه للحديث المراوغ والكاذب، فيعيدها: داه.. باه.. داه.. إلى عشرة مرات أحياناً.. أي، وبأسلوب مهذب يلمح ولا يصرح قاصداً: يا هذا لا تكثر من هذا الكلام الذي نحن في غنى عنه.
قدِم الشهيد حسن مطلك، ذات مرة، إلى المجلس عصراً مبتدءاً بالسلام. كنت حينها أجلس في طرف المجلس لأنني دون سن البلوغ، فرمق المرحوم الملا مطلك ولده بنظرة لا رضاء فيها. كان الشهيد حسن لحظتها قد صفف ودهن شعر رأسه بالطيب وعطر زيتي، ويداه نظيفتان بلا آثار عمل ما، فصاح به والده:" باه.. داه.. باه.. داه.. يَوَل ما يصير منّك شي.. يمشيط العرايس ". أي ( يا أنتَ لا يُرتجى منكَ شيئاً.. يا مشيط ـ مصغر كلمة مشط ـ العرائس). فقفل حسن راجعاً يحمل معه الخجل الذي صبغ وجهه. وبعد أيام التقيت بحسن قرب ( زَل ـ حقل قصب ـ البو حلاب) فقال: يا عبدالله سأجعل من كلمة والدي هذه بمثابة نقطة.. بل خط بداية وسأحتفظ بها حتى أهيئ كنانتي وأضع فيها سهامي معلقاً قوسي في رقبتي.
مضى الزمن وراحت نواعيره تأسر المياه عنوة.. فتمخضت الأعوام عن الرواية الكبيرة دابادا (الداه باه داه) تحمل في مضامينها الكثير من الماضي والمستقبل.

---------------------------------------

مرثية لـ حسن مطلك

"الرثاء بعد الفاجعة.. جُبن الراثي"

عبدالله محمد الرمضان

منذ صغري.. من وكر مهدي الأول.. سالت دمعتي من جفنيك يا حسن.
أحبَكَ الآلاف.. لك واحتضن.. من حنان أبويك.. من سُديرة.. فصرت عنوان المحن.
ازدان عقلك.. غاو دربك.. راح اسمك.. وأبى قلمك إلا أن يُصّن.
إيه.. يا سُديرة.. يا ملاذي.. يا هواي.. أنتِ ستري فيكِ يُنسج لي كفن.
أنتِ دمعي.. أنتِ جرحي.. أنتِ كلي.. أنتِ صبحي في الظلام.. في فضاء الكون ولم أكن.
غاب.. غاب.. غاب عن عينيّ حسن.
كم كتبتَ.. كم رسمتَ.. كم هزجتَ.. كم.. وكم.. وكم دُفِن.
هالني صمت رهيب، عندما حل المغيب، وجرحت من دموعي تربة كانت وطن.
حسن أي ذنب قد جنى.. هل.. هل قتل.. هل دنا.. الجاني الفاعل إذاً
في ربيع العمر راح.. يلعق سيل الجراح.. هل خاف منهم؟.. هل ناح. لا.. لا.. باسماً.. هازئاً من هذا الزمن.
أهلُك.. محيطك.. بحرك.. نهرك.. تُبحر فيه بواخر، ناقلات، سُفن بلا سَفَن.
إيه يا روع حلمي.. راح يُدمي.. كل عقلي صار وهمي.. والفكر مني قد وهن.
إيه دابادا.. عنادا.. دادا.. فنادى.. حرف ضادا.. فتصادى.. راح يحدو للضعن.
بين شطيك دجلة.. ضاءت الأمواج شعلة.. هذه الأجساد تبلى.. وتبقى أنت ثروة يا حسن.
بكيت.. تمنيت بين أقراني حسن.. لم أكن أعلم أن هكذا يغدر زمن.
قال لي من زمان.. يا ابن جدي رمضان.. فات الأوان.. أصبح الموت مجان.. طالما الشيطان سكن.
يبقى القلب يحتويك.. القبر يأويك.. الله يحميك.. عندما الميزان يَزن.
يا وادي الضباع.. يا نبرة الوداع.. غاب عن أذني السماع.. من يتكلم، إذاً، سوف يُجن.
من مد الحبل إلى عنقك.. معصميك، رجليك. من عصب عينيك، رصاص، بارود.. أيكفيك؟.
الكل يعرف.. أنا.. أنتم.. هم.. والجبنُ لثأرك بلا حدود.. لا تستغث بنا.. لا نستطيع.. لا.. ولن.. ولن..
لكن حكم القدر.. لا يبقي ولا يذر.. غداً قصاص البشر.. والقاتل للقتل امتهن.
حسن.. محسن.. هذا زمن فِتن.. وطن.. فن.. يكن.. سَفَن.. طعن.. الكل ملفوف في كفن.

---------------------------

يا حسن.. أخاطب أخيك من خلالك

يا حسن أبكيك ولكن.. كيف أبكي يا حسن
يا حسن جرحي عميق.. كيف جرحك من يظُن
كنتَ للكاتب قراءة.. كنت بحراً للسُفُن
كنتَ يوماً للحياة.. كنتَ عطراً للزمن.
كنتَ كفاً للمصافِح، كنتَ سيفَ ذي يزن.. كنت صبراً للمصائب عندما الموت يكن
كنتَ صوتاً للمنادي، كنتَ للسامع أُذن.. كنتَ ابناً للجميع همكَ الأول وطن
يا أبا مروة.. عزيزي.. هل بقى اسمك حَسَن ؟!.
جئتُ أحدو للأمل.. وصلتُ قبل أن أصل.. والحضور على عجل.. فخجل الصوت بحضرة بطل
إن هذا الكون ملفوفاً في كفن.
وجوم، سكوت، لا أمل.. لن يعود لن يصل.. نجمنا الساطع أفل.. حكَم الأجل.. وجيادٌ عارمات
كيف في السوح بكن.. كبن.. كبن..
أنا في مثواك أنادي.. يا ربيعاً للبوادي.. يا حسن أنتَ مُرادي.. أنتَ لبٌ في فؤادي.
تبقى .. وتبقى.. وتبقى نبراس عزمنا في المحن.
أنتَ رمزٌ.. أنتَ للكل كتاب.. أنتَ درع مَن يهاب.. يا حسن.. ما ذا المصاب!.. بعدك الكل خراب.
محسن .. حسن.. زمن .. فِتن.. من..؟.
يا سُديرة ابكي على .. لن يعد حسن فلا.. الكل يبقى مبتلى.. يا ويح من نادى العلا.. قلى.. قلى..
في باطن الأرض اندفن.
كنتَ للكل صديق.. يا سباتاً لا يفيق.. صغتَ للضفدع نقيق.. في الماء شب الحريق
موتكم غالي الثمن
الصمت يلف الليل.. بلا ويل.. لا تضليل .. يا حسن أنتَ الزميل.. تبقى للعين جفن
يا حلة الأحزان .. يا طعنة الميدان .. يبقى الجرح زمان.. برتقال.. أسبان.. لابد أن
يظهر حسن .. من صورة الماضي يكن..
حياتك كانت كحرب.. وسط.. على.. فرٌ وكرب.. نهب.. سلب.. ضرب.. وحسن في قرى بلا مدن.
تماسيح تلتف حول الفجيعة.. حسن نشتريه.. لا نبيعه.. يا محسن أين الوديعة؟.. الكل يشدوا للشجن
محسن كيف أناديك؟.. والماضي بين يديك.. ستعود يوماً.. أراك ويُريك.. وتقول: البعد جنة عدن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عبدالله محمد الرمضان: شاعر شعبي وسَجّاع عراقي من أبناء قرية حسن مطلك، من أعماله: ديوان المدائح، زهيري، مساجلات جلسة سمر.

ليست هناك تعليقات: