04‏/10‏/2009

احتفاء / هلال العبيدي

قرية حسن مطلك تحتفي بذكراه

" ما الأسد إلا مجموعة خراف مهضومة "

هلال حمود العبيدي

إحدى العبارات التي طالما كان يجيب بها الكاتب الروائي "حسن مطلك" قد تم استذكارها ضمن الكثير من عباراته، نتاجاته، مواقفه من النظام السابق، وذلك في حفل جدد فيه مثقفو قريته (سديرة) التابعة لقضاء (الشرقاط) ذكرى رحيل المبدع "حسن مطلك" الذي أُعدِم في بغداد بتاريخ (18/7/1990) لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم، هو وكوكبة من الضباط والأكاديميين والمثقفين من أبناء سديرة حيث تم الحكم بإعدام (سبعة عشر) وبالحكم المؤبد على (عشرة) خلف جدران "سجن أبي غريب"، وغالبيتهم ممن ينتسبون إلى عشيرة "الجبور" التي تشكل (90%)من سكان قضاء الشرقاط.
وقد أقيم الحفل التكريمي في دار المشرف على "منتدى سديرة الثقافي" عبد محمد جرو الذي طوى سنين السجن بالحكم عليه "مدى الحياة" من قبل "محكمة الثورة" إلى جانب ثوار حركة السادس من كانون، أقيم إحياء الذكرى في مساء (18/7/2006) لمرور "ستة عشر عاماً" على غياب هذا الإنسان الحاضر بنتاجه، والذي لازال نجماً وهاجاً في سماء الإبداع، وتكريماً للروائي "حسن مطلك" ولما ترك من إرث ثقافي محاولاً فيه "تحدي قدسية التراث الروائي بأكمله" من خلال رواية "دابادا" التي يصفها بأنها "تشبه قصيدة غليظة مشحونة بحس الفجيعة المضحك، غائرة في التراث الاجتماعي لسكان وادي الرافدين حتى عصر أشور بانيبال". وربما "كانت تمريناً شاقاً لتعلم الخطأ" كما يصفها كاتبها الذي يقول أنه "كتبها ليحمي نفسه من القراء" حيث تم تناول نتاجات "حسن مطلك" ضمن أطروحة الدكتوراه للطالب (عبد الرحمن محمد حمود الجبوري) المسئول الثقافي لمنتدى سديرة، وتم إطلاق اسم (قرية حسن مطلك) كأسم آخر لقرية سديرة، بعدما تم تسمية مركزاً للشرطة باسم "مركز شرطة الشهيد حسن مطلك" إضافة إلى تسمية العشرات من المولودين حديثاً باسم "حسن". وقد استعرضت مجموعة من أعضاء منتدى سديرة الثقافي سيرة حياة المبدع "حسن مطلك" ونتاجاته الأدبية والشعرية وأهم لوحاته الفنية التي رسمها ومعارضه الشخصية التي أقامها وحبه للقرية، وقد وردت عبارة طالما كان يجيب بها "حسن مطلك" مشجعا وداعياً للقراءة المستمرة والمواصلة في قراءة المطبوعات،أي أن موقفة ثابت بكون الكاتب هو نتاج لما يقرأ ويطعم الذهن برفده من خلال القراءة المستمرة.
قص عبد محمد جرو على الحضور "أن حسن مطلك كان شجاعاً ومؤمناً بضرورة التغيير حتى ونحن في زنزانات الموت التي جردت من النور والرحمة والماء والهواء، والتي أخذت موقعاً تحت الأرض لعدة أمتار، وأن المبدع لم يغير موقفة من حتمية التغيير وأن النظام السابق قد حطم العراق وأهله، وكمّ على أفواه الجميع ووثق الأيادي وقيد حرية القلم. ودفاعاً عن حرية قلمه راح مضحياً بأغلى ما يملك ليعلن تحديه بوجه أعتى نظام عرفة تاريخ العراق".
رحل حسن مطلك تاركاً أصدقاءه ومحبيه وأهله وبناته "مروة وسارة" وأخواته" ملكة وكاظمية وربية وحسنة وحمدية" وإخوانه أحمد وحسين و د.محسن الرملي المقيم في أسبانيا منذ أكثر من عشر سنين. وصاح "بوم الحزن" في ذلك اليوم "التموزي" الذي لم "تقيل" أحزان النائحات فيه، حيث توافدت "العجائز" إلى "مقبرة القرية"، وتحف الموجودين عناصر "المخابرات والأمن" التي منعت أهل الشهداء من إقامة مجلساً للعزاء، وإنهم قد دفعوا ثمن الرصاصات التي أُطلقت على صدور الضباط والعسكريين عند تسلم جثث الضحايا من "سجن أبي غريب" القسم الخاص بـ"السياسيين"، أما المدنين فكانت طريقة الإعدام شنقاً حتى الموت.
قرأ الكاتب إدريس حسين إسماعيل نصوصاً منتخبة من رواية "دابادا" على الحاضرين ومنها:
"يقول الأحياء أن الحياة صعبة. ما أروع أن تكون صعبة!! وهم الأحياء في كل مكان من الكرة الأرضية، يعرفون أسماء بعضهم بعضاً: البشر، الناس، الآخرون. كلهم آخرون بالنسبة لبعضهم. المرء. الإنسان الذي يفتح عينيه صباحاً فلا يجد غير بخار الشاي فيُصعد إيماءاته اللامجدية مالئاً الفراغ بتنفس مسموع لكي يعترف لنفسه بملكية الشهيق".(ص58 دابادا). واصفاً نساء في قريته "ثمة نساء، ذكريات نساء تقريبا. نساء ميتات يحتضن أطفالاً موتى تحت المطر وعواصف الغبار ومياه البطيخ المسروق كل يوم بفضل الشموس الحارة المسروقة أيضاً من الاستواء".(ص98 دابادا).
عبارات جادت بها أنامل المبدع حسن مطلك والذي يقول أيضاً: "منذ عشرين عاما، تصعد إليه يوميا: ألا تفطر؟. فينزل إلى اللبن وبخار الشاي، ويسمع نشرات الأخبار الأولى: "زلازل أمريكا اللاتينية. فيضانات الهند. عمليات الفدائيين العرب. محادثات نزع السلاح النووي. قرارات مجلس الأمن. الإرهاب العالمي. مخدرات. تجسس. انقلابات. حوادث عنف. مجاعات السود. فضائح سياسية. تمييز عنصري. إرهاب. إرهاب. فساد….الخ" (ص95 دابادا) مضيفاً، على مسامع الحاضرين ومحبي الكاتب، فيقول:"يتوقف الصوت فجأة، وتتوقف الأسئلة، أو تضمحل تقريبا. يمد ذراعيه فلا تصلان. ليس ثمة حائط أو عمود أو خزانة جسد أو بقرة.. لا شيء تقريباً. ظلمة. سواد. هوّة خانقة، لذا فكر بان تجربة اليومين الماضيين… أية تجربة؟ فكر بأنه ميت. أين الباب؟ هل من سقف لهذا السواد؟ أسئلة ضائعة. يسال من؟ ومن يجيب….؟...... كان الصوت يضمحل ـ انتهاء الشاي.. يضمحل ـ جفاف الغدران.. يضمحل العمر.... أين عظام البشر؟. يقول: هذا الظلام. ويرى الظلام. الظلام. انطفاء الضحك، وعد بلا إثارة ـ مجرد دعابة جافة تؤدي إلى الثقوب مغلقة حيث مستنقع البرد والسكون. تأتي جميع الصور والذكريات والأحلام والمخاوف والمشاعر والأفكار في لحظة واحدة. وتذهب اللغة فيعتقد بأنه ميت ولذلك يصرخ هذه الصرخات لكي يسمع نفسه. ويتأكد بأنه ينطق ويسمع. فيقول: هذا الظلام الحق المخيف الجارح الآسر المفردات ـ تجاوزها... الصعوبة كانت القوة مرحلة المرض في المفردة الصغيرة يمكن ذلك، عضو من الأعضاء يمكن الاستغناء عنها كالقلب المكروه؛ كما هو مؤلم جدير بالقذف ـ ستبقى دائما على السطح دائماً دائماً..دا ... إلا إذا كانت الخوارق شيء كثيف هابط ممتزج بوجوه الثعالب والأصدقاء ويبقى السر لحظة أخيرة من النزع حركة سكين الذبح باب المذبح، باب.. بابا.. با... لأجل الألم يقترن بانغراز الأصابع في فروة الشعر لكنها تنشر ولا تجف لأنها مباحة دائما دائم.. دا...قل... وبـ...عسى...لا... لو... فردا...دا..با..دا تحيات العمق... داف.... دابادا... دابادا.. تأتي صور أخرى. صرخة بلا حبور. وتذهب خيوط اللغة: هذا القيد شكل الرداء حالة البشر ـ الدمعة اكتشاف حديث. وما هو ضد الرداء ضد الرداء... ادفعوا هذا السواد.. ضد الجمال نفسه والموتى تحوّل إلى الوجه إلى رداء...رداء ...رداء...دا..."(ص161 دابادا)
وانتقل بالحضور القاص صالح حسن سلامة، إلى مقاطع مما كتبه حسن مطلك في قصته (عرانيس) الفائزة بالجائزة الأولى عام (1983) حيث قرأ عدة مقاطع جاء من بينها:"الناي يناديه وينسرب صوته في مسامه، تنتابه بين الحين والآخر لحظة ولحظة رعدة خفيفة كلما أوغلت الأنغام في الرقة. الفوانيس الحمراء في حقول الذرة لفلاحين لم يرجعوا بعد إلى البيوت.. والقرية تغرق في سكون تام، نام بعض الناس ومازال بعضهم يشرب الشاي أو القهوة وينثر الأحاديث له. القرية آمنة عند أقدام جبل "مكحول" تسلم نفسها لحبه دون مقاومة، والظلمة الفضية تهرول بين الأشجار وعلى حوافي نهر الزاب الأسفل، هجعت العنادل والحمائم واستفاق الدود والصراصير من سبات النهار فراش الحقول القريبة وبراغيث الأحراش وحشرات غدران الري ترتمي على ضياء الفوانيس الحمراء الراقصة.. تهرب تلك الكائنات بينما يدخل هو مملكتها.". مضيفاً فيما يقرأ بصوت عال وعيون دامعة على فقيد محبي الأدب: "كانت تنظر إلى رؤوس العرانيس بجذل، أنها تعرف أن الحصاد وفير هذا العام أوفر من أي عام مضى وإنها لابد أن تخفف عن أبيها بعض العبء. مازال يزحف بحذر جهة الصوت بدأ يراها فوق الصخور، تمنى لو يتعرى جسدها، لو تسبح في الغدير مثل بطة، لو ينسكب الجسد الأبيض كالحليب في الماء.. لكنها حذرة حتى في وحدتها. فكر لو يغرق نفسه أمامها، غير أن سرعان ما استخف بالفكرة. نهضت بخفة ففزعت بطيطات الماء ونثرت قطرات صافية فوق الغدير ثم حطت من جديد. طار سرب العصافير محدثاً عاصفة رمادية في الفضاء. نظرت سليمة باندهاش إلى صفاء السماء كأنها تراها لأول مرة. انفرج ظل ابتسامة فضاقت العينان السوداوان.. صعدت فوق كومة الصخور منصبة على أطراف أصابعها وأرسلت ببصرها باتجاه القرية بعد أن وضعت كفها فوق الجبين مظلة، أبصرت صويحباتها ينحدرن من بين التلال. صاحت بفرح ثم قفزت إلى الماء. خاف الذي كان يرقبها وخمن أنها ستكشفه أثناء عودتها إلى قدم الحقل.. أراد أن يهرب فماجت رماح الذرة بعنف محدثة صوت تكسر وقرقعة، مكث منطرحاً على الأرض الموحلة وقال لنفسه:ـ يا الهي.. هل رأتني؟.
زحف إلى الأمام مسافة قصيرة فاصطدم بشيء صلب، تلمسه.. انه ساق بشرية. نظر إلى فوق، تراجع مرتبكا ثم جلس:ـ سليمة؟!.
كانت تهزأ به ونظراتها تنوي التهامه، ابتسامتها تقطر سخرية به. لم تنطق في البداية غير أنها وضعت يديها على خصرها.
ـ عفوك يا سليمة.. كـ.. كـ.. كنت أمر من هنا.. عفوك..".
وقد اختتم الحفل التأبيني الخاص بذكرى رحيل الأديب "حسن مطلك" الكاتب نجم ذياب رمضان من خلال مقاطع وكلمات أخرى انتخبها من رواية (قوة الضحك في أورا) لحسن مطلك.
--------------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (المدينة) العدد 26 سنة 2006م ـ العراق.

ليست هناك تعليقات: