نائم والعشب ينبت بين أصابعه
حمزة الحسن
* الإهداء: إلى الروائي الشهيد حسن مطلك الذي أعدمه الفاشيون في العراق.
حين قرأت شهادة قاتل لوركا في رواية فيلالونغا وهو يروي بالتفصيل كيف ساقه إلى الموت ثم أطلق عليه الرصاص، بلا قمر، شعرت بعجز الجريمة عن قتل المغني أو قتل النشيد أو الروح أو الأمل، فلوركا لم يعد ملك نفسه، بل هو ملكنا نحن الذين نقف كل صباح على حافة أمل جديد وفي صلاة خاشعة من اجل انتصار الإنسان على الوحش.
يقول القاتل: "ذهبت في طلب لوركا في منتصف ليلة التاسع عشر من ـ انهض .. هذا هو الوعد.
قال: متى شئت. أنا جاهز.
نظرت إلى ساعتي: على مهلك.معنا وقت.
قال لوركا:
ـ أحب ألا يحدث ذلك في المقبرة. المقابر ليست ليموت فيها الناس.إنها فقط للصمت والأزهار والغيوم. ولا أحب الموت على مرآى من القمر.
وحين وصلنا، ساده فرح غامر فهمت معناه. لا يوجد قمر.
توقفت السيارة. نزل منها رجال الفصيل السبعة. كما ترجل قس طرز على ثوبه الكهنوتي قلب يسوع المقدس. وضعت إصبعا على كتف الشاعر وقلت له:
ـ تقدم وأنا أدله على الطريق.
سار راكضا في الطريق المحاذي لمجرى ساقية جاف. وبعد عدة دقائق من المشي توقف. ظهرت أمامه في الأفق جبال لاسييرا وقد غطاها ضباب الليل الأزرق. وقربها وراء غابة الحور السوداء، قرية الشاعر ومسقط رأسه. سمعته يتمتم مرتين: لماذا يا ربي؟.
كان أحد رجال الفصيل يمشي إلى جانبي ومسدسه في يده. أدخل فوهته في صلب الشاعر وانتهره بجلافة:
ـ امش وألا بقرت بطنك.
استأنف لوركا سيره متعثرا بالحجارة وسقط ثلاث مرات على ركبتيه. فجأة توقف وسألني:ـ قل لي الحقيقة. هل هذا مؤلم كثيرا؟.
فجأة ندت صرخة. صرخة لا يبدو أنها ندت من حنجرة إنسان. توقف لوركا عند حافة الجرف. أخدود عريض طويل حفر في باطن الأرض، كاشفا عن جذور الأشجار. على مرمى أبصارنا منظر فاحش فظيع: ساق امرأة عارية ظلت خارج القبر فوق التراب المحرك منذ وقت قريب.
أجهش لوركا في البكاء.
تقدم الكاهن وفي يده صليب. قال للشاعر:
ـ اعترف.
تساءل: بماذا أعترف؟
قال الكاهن:
ـ بما تريد.
مد لوركا يده وابعد الكاهن. عبأ رجال الفصيل سلاحهم. قلت له:
ـ أركض.
قال : بأي اتجاه؟.
قلت: على خط مستقيم. إلى أمام.
ركض عشرين مترا بشكل يثير الشفقة وتوقف.
ـ أركض أيضا!
استأنف الركض ويداه تهتزان ورأسه يتداعى كأنه تمثال لا حياة فيه. وأصدرت أمري:ـ نار.
ولما اقتربت منه رأيت وجهه معفرا بالدم والتراب الأحمر. وكانت عيناه جاحظتين.قال بصوت خافت:
ـ أنا مازلت حيا.
حشوت مسدسي وصوبته إلى الصدغ. انطلقت الرصاصة ونفذت من البطن.
ودفناه عند جذع شجرة زيتون...".
قتل قرب نبع ماء جوار غرناطة وفي قرية فيثنار أو تل الفخار من قبل الفاشيست.
كان لوركا قد انتظرهم طويلا وقد تأخروا عليه، بل كان قد كتب عن هذه اللحظات كثيرا وخاصة في قصيدة شهيرة يقول فيها:
"عرفت أني قتيل
فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاثة هياكل عظمية لينتزعوا أسنانه
ولم يعثروا عليّ
ألم يعثروا عليّ؟
نعم لم يعثروا عليّ."
دفن بلا قبر في مكان مجهول.
إنه يخيفهم حيا وميتا.
في شهادة قاتل لوركا الفاشي يقين ساذج أنه يقود هذا الشاعر إلى الموت والنسيان والقبر إلى الأبد، دون أدنى شعور أو حس أو وعي أنه هو الذي سيمضي إلى النسيان والتجاهل والاندثار ويظل هذا الموسيقي الشاعر حيا عبر العصور.
لكن لماذا كان لوركا لا يريد الموت تحت القمر؟.
ربما نجد الجواب في قصيدة رثاء صديقه مصارع الثيران إغناثيو الذي قتل هو الآخر في حلبة لمصارعة الثيران:
"لا أريد أن أراه
قل للقمر أن يأتي
لأني لا أريد أن أرى دم
إغناثيو فوق الرمل."
قتل الشاعر لوركا تجسيد، كما يقول محمود درويش في تعليق له على رواية مقتله المريرة( لعجز الدكتاتور القابع في القصر، وصغار المندسين في الشعر عن الحيلولة دون انبثاق أغنية لوركا من كل أعضاء الجسد ومن جميع مجالات الروح).
أيتها الأيائل
لا توقظي هذا الأندلسي النائم على التراب
والعشب ينبت بين أصابعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في موقع (الحوار المتمدن) بتاريخ 12/3/2003م.
*حمزة الحسن: روائي عراقي يقيم في النرويج. hamzaalhassan@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق