"قوة الضحك في أورا".. رواية غير مضحكة!
د.السيد نجم
صدرت رواية "قوة الضحك في أورا" للروائي "حسن مطلك" عام 2003م، بعد وفاة صاحبها عام 1990م، عن دار "الدون كيشوت" للنشر بسوريا. تقع في 144 صفحة، وقد سجل الكاتب تاريخ الانتهاء منها عام 1987م. وهى الرواية الثانية له، بعد رواية "دابادا" التي نشرت عام 1988م. قام شقيقه "محسن الرملي" على جمعها ودفعها إلى الطبع، وهو ما يفسر الفارق ألزمني بين الكتابة والنشر الذي تجاوز ست عشرة سنة.
أما والرواية تعد من الأعمال الشاقة في القراءة والمتابعة، ربما بسبب المزاوجة الزمنية إلى حد التوحد بين القديم والجديد في الزمان والمكان.. حيث "أورا" عاصمة الآشوريين، هي نفسها مسرح أحداث طفولة وحياة "البطل". وكما وحد بين الراوي، والروائي، وشخصية "ديام" حيث يقول الكاتب: "ديام" هو أنا..كيف أنكر؟.. وآدم هو أنا.. وأوليفر هو أنا..!. "أورا".. تاريخ مفتعل أو هو كل مكان لم أره.. القبر/الموت.. أو الهرب من مكان لآخر.. أو ذكريات تحولت كوابيس (هذا ما قاله الروائي في كلمات قليلة قبل الفصل رقم 1).
كما يقول الروائي : "لن أكتب رواية، لا أريد إرضاء أحد.. لست بحاجة إلى من يصفني بالبطولة في مسألة الانتصار على الألم".. أننا إذا أمام "حالة" في رواية، وليست رواية تقليدية تسرد حالة على النسق الأرسطى. كل ما نسعى إليه هو الولوج إلى عالم مغاير بين دفتي كتاب، يحتمل التأويل، والكذب، والشفقة. وفى كل الأوقات عليك أن تصدق الكاتب وتسعى لأن تتحمل الألم المتولد سطرا بعد سطر. "ألم" شفيف راق وعزيز، ألم يحمل داخله العزة والكبرياء والأماني الطيبة.. يحمل الحلم.
.." الطفل مع أبيه، وأدم الحداد أو العم، في حضرة الرجل الإنجليزي.. الطفل مع العم القوى العفى، يخرجان، يتركان "أورا".. سرعان ما تآلف الطفل مع المكان الزاخر بعظام البشر والجماجم التي دفعتها مياه الأمطار الغزيرة من تحت الأرض إلى سطحها.. مملكة أشور من حوله.. تقفز الأحداث هنا وهناك. الرجال حول الإنجليزي في حوار زاعق، حيث تغوط أحدهم عمدا في حضوره.. والصغير يلهو مع "مطلق وياسين" صائدا الخنازير في البيداء، ومع "ديامة" الجميلة التي تنضج يوما بعد يوم.
لكن "سيل المطر، الفيضان الكاسح، فعل فعلته.. قسم الناس إلى قسمين، منهم من نبت من أنقاض مملكة أشور، ومنهم من سقط وغرق وحملهم النهر إلى فم البحر. تماما كما قسمة السنة إلى نصفين، وحيث اخترع الناجون – في سنة واحدة - اختراع الملعقة والحذاء.
صحيح الجد الأول أو الأكبر "دلهوث" لم يفقد ما في الذاكرة كليا، فهو صاحب الأسماء كلها.. أما الجدة أخبرتهم أن "دلهوث" قال:" كلكم أبنائي فما الذي جعلكم تنقسمون إلى عشائر وأنتم من ظهري"؟؟
وكان المطر والأم تمنع ولدها من ترك الدار، وكان الفيضان الذي يحفر في الأرض ويخرج الجماجم، التي شعر الطفل أنها ستغزو حوش دارهم. أمام الخطر الجاثم، بات الطفل روح تاريخ، تذكر أقول جده الأكبر "دلهوث" الذي يرى بأن الإنسان لا يكون إنسانا عندما يخطئ، أما الذي لا يخطئ فهو من البشر. "لقد جئت مسلحا بيقين الانتباه والغفوة معا، حاضر من منطقة الظل...". كان منهم من يمشى على الماء، ومنهم من خاف مقدم الحيتان مع الماء/الطوفان، فأغلقوا الأبواب.. مع ذلك كانت الأموات أكثر من الأحياء. وكان كل حرص الأم ألا يصل الطوفان إلى صندوق الثياب.
تماما كما حرص "أوليفر" الإنجليزي على سرقة التمثال أو الثور الحجري، بمعاونة العم "حداد ومع رفض الأب الذي اشترى ثورا حية يرعاها ليلقح أبقار أورا كلها، لعلها تخصب ثورا حجريا. يعد نفسه بالأمان ويعد أولاده. أما الأم فلم تحلم أن تكون روحا تاريخيا، بلا أية فكرة عن الشر، لذلك لم تكن من الممثلين لسلالة دلهوث، وفق مقاييس الجدة التي تقول نقلا عن دلهوث:" باشر بإزالة الشر ستجد نفسك قد باشرت الخير.. مجرد إزالة الشر هو عمل خير". فيما ينسب الأب الأمر كله إلى جزاء العقاب على ذنوب لا يتذكر أنه ارتكبها.
"الكوابيس" لها دور فاعل، جعلته ينظر إلى النافذة معترفا، وقد امتد بصره نحو الغرب :"أنت أفضل شخص عرفته يا ديام، لأنك مثقف بثقافة غربية". ويأتي ضوء الغروب ويلون كل شئ. فيما تنشغل ديامة في الحفر لأجل شق ممرات لضوء الغروب، حتى كانت لحظة الاكتشاف.. عثرت على العلبة التي نقلتها إلى البيت. دفعها الألم أسفل بطنها أن تطوى ألمها ونفسها داخل الحجرة وحدها، لم تكن تدرى أنه الخصب يشق طريقه إلى جسدها.
كان العم الحداد يعانى من تضخم خصيته، وكان الولدان يبشران صيد الخنازير ومتابعة النساء اللاتي يدخلن على الحداد، بينما اهتمت "سارة" الابنة الصغرى للحداد بحث الرجل على متابعة إنجاز طلبات الناس وصنع أشيائهم. لم الحداد حلا سوى أن يقطع خصيتيه.
"تفاحة" ابنه الحداد الكبرى تعرف حكاية أبيها، فتقتل زوجها لتعود إلى أورا. أما "سارة" فلم تخرج إلى الناس لشهور طويلة. فلما خرجت منحت نفسها له.
كما كان للطوفان من اثر واضح على أورا، كان الحال بعد قطع خصية الحداد. تحول الرجل من العنف إلى الرقة، وتحول ولداه من مطاردة الخنازير إلى إذلال أبيهما, فيما كافح ديام إلى إخراج "تفاحة"، لأنها أرادت أن تراه لاخلاصه بعد أن قتلت زوجها.
تماما كما كان لحادثة الغوط أمام الإنجليز من أثر، فقد خرج الرجل يحفر حفرة هنا وهناك كي تغيط فيها الناس. فشل، فسرق ثور حجري مجنح بمساعدة أولاد الحداد. وحل ديام في العمل مع أوليفر مكان أبيه، وكان ضائعا بين أكداس الفخار، ورفوف الكتب، في الهواء المشبع بالشمبانيا.............
فلما تبدأ المواجهة بين ديام والإنجليزي, فيكون بسبب العلبة التي وجدتها ديامة وأعطتها لديام..إنها علبة الملكة الآشورية، تستحق الصراع لروعة جمالها.. وتبدو الأرض وكأنها على وشك زلزال قوى, تراقصت التماثيل في حديقة البيت، كادت تسقط.. بل سقطت بالفعل, وسقط سور السياج، وسقط كل شئ، حتى اوليفر.."ورأى أوليفر يزحف بسرواله الأبيض ذي العلامات النحاسية، ويبتسم بوداعة، ثم ينحني ليقطف العشب بأسنانه" ص144
حالة كابوسيه تعيشها، تغوص فيها أو تغوص فيك، فلا تتوقف عند السؤال: ما مصداقية هذا الحدث أو ذاك.. تتوقف طويلا أمام المنمنمات الكثيرة، الملقاة بعناية وقصدية، وراء موقف، جملة، وربما كلمة.. ثم تتساءل: هل كان يعنى الروائي بعمله رصد تاريخ البشرية كلها، وآلا ما هي دلالة "الماء/ المطر/ السيل/ الفيضان / النهر /البحر"؟ ثم "أورا" الآشورية المحطمة الذابلة.. أو لنقل المنهوبة، فلم يبق منها سوى العظام والجماجم والصندوق الملكي؟ ثم قطع الخصية، والثقافة الغربية، وضوء الغروب؟.
وأخيرا "الزلزال" الذي لم يرد لفظا صريحا، عاش القارئ أعراضه ونواتجه.. فقد غاص "أوليفر" الإنجليزي على الأرض يقطف العشب بأسنانه؟؟
هناك بعض الأعمال يفسدها التفسير المباشر، أو الشرح المتفلسف، لأنها ببساطة "حالة" فنية عاشها الفنان صاحب العمل، نقلها بمنجزه اللفظي والخيالي، ولا حيلة لنا أمام مثل تلك الأعمال إلا التأمل، والاستمتاع الذهني والوجداني بها.. ورواية "قوة الضحك في أورا" للروائي "حسن مطلك" منها، لعلنا نضحك من الألم وتتحقق نبؤه العنوان!!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د.السيد نجم: كاتب وناقد مصري. mb-negm@hotmail.com
هناك تعليق واحد:
رحم الله الروائي المبدع حسن مطلك - لوركا العراق.. لقد مات واغتيل حلمه في الخلاص والتحرر ..
لكن الغريب ان اغلب الذين وقفوا ضده من ازلام النظام مازالوا في مناصب ومراكز أدبية وثقافية وسياسية في الجامعة والمؤسسات؟؟؟...واعجبي
إرسال تعليق