يوخنــا مرزا خامس
تعد رواية (دابادا) للروائي العراقي حسن مطلك سمفونية من سمفونيات الموسيقار العالمي (بتهوفن)، من حيث الإيقاع؛ فإيقاع (بتهوفن) في ارتفاع وانخفاض رهيبين دون أي عبء بالزمان. وهذه الرواية – أيضاً – ذات إيقاع مرتفع ومنخفض في فراغ لا زمان له، والتي ستنسج بعد ذلك لنفسها زمانا غير هذا الذي نتعامل معه. تريد الرواية أن تقول إن الزمان لم يعد زمانا ساعاتياً عليه أن يتوقف، حركته خاطئة، أنتجت الأوجاع والبؤس، ثم أن علي الإنسان ابتكار زمان آخر يصنع من خلله حياة لا يمكن أن تنتج إلا فضيلة بأخلاقيات تتعارف هي عليها وتصيغها دستوراً للعالم.
إذن حبكة الرواية تحدث في فراغ يفصل بين زمانين، زماننا هذا، والزمان الذي سينسج، برزخ فراغ، وهو لا محالة متوقف، فإما النكوص الذي يؤدي إلى التلاشي، وإما الزمان الجديد – كعمل جديد – الذي سيقودنا إلى الولوج في الحياة الجديدة من خلل تلك الصرخة في الفراغ.
إن لفظة (دابادا) ليست لغزاً، وليست مهمة النقد البحث عن الألغاز، ولكن مهمته البحث عن تفسير النص ومكوناته وتأويله تأويلا أدبيا ناضجا بمستوي نضوج النص المقروء. فلفظة (دابادا) تتمفصل إلى ثلاث حركات تتكون صوتيا من صوت الدال والباء الانفجاريين وصوت الألف اللين؛ يولد هذا صرخة تبدأ بقوة (انفجارية) وتنتهي بلين، واللين في الصوت لا يعني الضعف، وإنما يعني الاستمرار، فكما هو معلوم فيزيائيا أن أصوات الانفجارات القوية تكون غير مسموعة تحتاج إلى صوت لين لتسمع وتفهم، وهذا هو حال هذه اللفظة.
إن التوازن بـين القوة واللين جعل من البرزخ الزماني أن يتوازن، والتوازن قاد إلى وجود تلك المساحة البرزخية بين المنزلتين منزلة الفناء ومنزلة البقاء. وبنية (دابادا) تبحث عن رموز في حياة غير هذه الحياة التي نعيشها، حياة بلا زمان، وبلا واقع، وبلا وجود، حصرا هي موضع للانتقال من حالة إلى حالة أخرى، بثلاث حركات – كما أسلفنا – هي:-
حركة (دا) :- قبل أن نلج في دراسة الحركات الثلاث لابد أن نؤكد أنها – أي الحركات – شفافة تدعو إلى المحبة ونبذ البغض مهيئة للولوج في عالم الأبدية فهي إذن حركات انتقالية تهيئ الأجواء إلى أمور خطيرة.
حركة (دا) بصوتيها تقود بنية المعني إلى سطح النص إلى الشفافية؛ لتنزع كل الضغائن والأحقاد، وتنزع القلب إذ ما دعاه الكره، ودفع السواد الذي يقاوم الجمال.
(( عضو من الأعضاء يمكن الاستغناء عنها
كالقلب المكروه كما هو مؤلم جديـر
بالقذف – ستبقي دائما علي السـطح
دائماً دائما .. دا ....)) الرواية ص 160
(( ادفعوا هذا السواد ضد الجمال نفسه
والموت تحول الوجه إلى رداء...
رداء ... رداء... دا...)) الرواية ص 161
وإذا تابعنا النصين لوجدنا أن الأول يدعو إلى نبذ الكره من القلب والثاني نبذه من الوجه، فالبراءة لا تظهر إلا علي الوجه وفي القلب، ومما يعضد هذا أن القراءة في المدارس العراقية (الخلدونية) تبدأ بـ(دا) والطفل بــ(دادا)، وهذا يضيف ويؤكد علي ما ذهبنا إليه من معني البراءة لحركة (دا).
وثمة تمازج بين لفظتي (دائماً) و(رداء) اللتين كونتا لفظة (دا) في الحركة الأولى، فانهما قادتا الحرية بعد أن قادتا البراءة؛ الحرية التي تصلح لكل إنسان، فهو ( رداء ) يستطيع أي منا أن يتقنع به علي وجهه. فكثرة استعماله تحول الرداء والقناع إلى كل الوجوه والأجساد، ولكن (دائما) علي السطح، مكان الوضوح.
حركة (با) :- تبدأ حركة (با) بالهبوط بعد أن كانت في الحركة الأولى علي السطح (الوجه والقلب)، تنزل إلى أعماق النفس لتتعرف علي الأسرار الكامنة تكشف الثعالب والأصدقاء، وتميز بينهما في اللحظة الأخيرة عند نزع السكين علي باب المذبح. تميز هذه الحركة بين ثنائية الثعلب بكل ما يحمله من مكر وخبث، وبين الصديق وما يحمله من حب وود وبراءة؛ فهي ممارسة للعري والتجرد من اللغة في حياة البرزخ التي صنعها الكاتب والتي توقف فيها الزمان وانمحى المكان، وخرج من الكل؛ ليقيد نفسه بمجيء الغد، الغد الذي يختلف عن كل الأيام الماضية لتصبح الحياة براءة قطرة عذرية الرجل في ذهن رجل آخر وتكون صوتا بشريا جميلا تحت الشجرة: -((إلا إذا كانت الخوارق شيء كثيف هابط
ممتزج بوجوه الثعالب والأصدقاء ويبقي السر
لحظة أخيرة من النزع حركة سكين الذبح في
باب المذبح، باب بابا – با...)) الرواية ص 160- 161
((ليس ثمة بقعة لممارسة العري و التجرد من اللغة
القيد خير دليل علي مجيء الغد هو البراءة قطرة
عذرية الرجل في ذهن رجل آخر صورة جميلة من
صور التفاني اليائس – احتضن البشر تحت الشجرة
... البشر... البشر.. البـ.. با...)) الرواية ص 161
عندما نقرأ النصين في هذه الحركة نحس بان المرحلة القابلة هي مرحلة: البراءة،
العذرية،الجميلة، التفاني، الشجرة، الباب، المذبح0 كل هذه العبارات تدل علي الطهارة والنقاء، وتهيئ الإنسان للولوج في حياة جديدة، لا مرارة فيها ولا شقاء، ففي هذه الحركة تحاول دلالة النص أن تنسف مقولة (نيتشة) : ((لا شيء خارج الكل))
نعم فضاء هذه الرواية هو خارج الكل، ولا يهتم بالقيود المطلقة، ودليل النص علي ذلك: إن حركة(با) تتكون من (باب) الذي يعني الخلاص والفرج، ومن (البشر) الذين يشكلون مادة التغيير في الحياة القابلة.
حركة (دا) :- تعود البنية الدائمة مرة أخرى لتطوق الدورة الدموية للنص التي بدأت بـ(دا) وانتهت ب(دا) أيضاً0 فقد عادت (دا) ثانية لتعلن عن نهاية الدورة الكونية في الوسط الفاصل بين عالمنا والعالم الجديد، ولتؤكد أن (دا) هي صرخة بين صوت (ع) وصوت (ك)، فالمسافة قريبة بينهما، لا مجال للتفكير والمشاورة، أما أن تكون في الحياة القابلة المرسومة، وإما أن لا تكون فتعود من حيث أتيت لتشعر بالعودة، بالفشل، وبالارتداد المحبط0 فالعين صوت حلقي والكاف صوت طبقي، والمسافة بين الحلق والطبق جدا قريبة، فيا أيها الناس لا تتركوا فرصة للعودة فالفردوس لا طريق له إلا مع التقدم، والتراجع يعني التلاشي والضياع0 فالصراع قائم بين الزمان الفيزياوي، واللازمان الفلسفي لتكوين معادلة زمانية جديدة لا نعلمه ولم نستخدم أدواته لكنه موصوف بالأفضل والأكمل:-
(( لأجل الألم يقترن بانغراز الأصابع في فروة
الشعر لكنها تنشر ولا تخفف لأنها مباحة دائما
دائما – دا... )) الرواية ص 161
(( سيلان الممكن في الجامد كالحديث الجارح
عن الرمل والهواء و النميمة عن الجبل رفض
الفكرة لأجل الآخر.. الآخرين – الاخر..
صرخة هي إسكات من ع حتى أقاصي ك
دائرة .. دائرة.. داء.. دا... )) الرواية ص 161
نستشف أن علاقات (دابادا) الداخلية هي علاقات (دائرية) وليست (هرمية)؛ وعلي هذا فإن المذكورين في الحركة السابقة ستكون علاقاتهم دائرية متفاهمة لا تسلطية في الحياة الموعودة؛ أي إن مبادئ الحاكمية لا تجمعهم ولا تدخل ضمن أفكارهم وايديولوجياتهم. الحركات الثلاث (دا) و(با) و(دا) لا تلتقي في الرواية مرة واحدة، بل أن وحدتها تصطدم بعثرات التمنيات حتى تصل وبصعوبة إلى وحدة الأصوات في كلمة واحدة لتحدث ثورة ضد الواقع:
نري أن محاولات الالتقاء بين أصوات (دا) و(با) و(دا) لا يتم بسهولة، وهذا اللقاء يعني لقاء القارات الخمس وتوحدها، فكما أن لقاء القارات هو أمر صعب، ولكنه ليس بالمستحيل، فكذلك هو حال (دا) و(با) و(دا):-
((ولكنه نادرا" (!) ما يصل إلى الاغماء. يمد ذراعيه فلا تصلان، إذ ليس ثمة حائط أو خزانة أو عمود أو زفير.. ويصرخ صرخة بلا حبور ولا صوت: دابادا)) الرواية ص 161-162
يمد يده نحو الوهم فلا شيء يستطيع التشبث به، هو بحاجة إلى هذا التشبث للوصول إلى الحياة الدابادية الموعودة، ولا يجد إلا جسر (دابادا) ليعبر إلى الضفة الأخرى ضفة الفردوس.
وبعد كثير من الصرخات والمحاولات تمتد اليد لتشعر بشيء وكأن الجسر الفاصل
بين المنزلتين قاده إلى الدائمية التي كان يبغيها:-
(( وتمدد فوق الكرة الأرضية شاعراً بزيت الأجنحة،
بالغطس حتى أحجار القاع . لجة النهر . الفيضان.
اللبوة الجريحة. الباذنجان علي الجريدة حيث الموضوع
المكتوب عن مجاعة السود. الطيور الأصوات الطيور
الأصوات الطيور الأصوات، الهديل الدائم الداء الدا... دا - با – دا... ))
----------------------------------
*نشرت في جريدة (الزمان) العدد 1963 بتاريخ 2004 - 11 -10
*يوخنا مرزا خامس: كاتب من العراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق