دابادا . . الرحيل على كف الدهشة
المعالجة الشعرية والبناء السردي في النص الروائي
زيـد الشهيد
" كل ما أٌريد أنْ أفعلهُ هو أنء أٌنتجٌ كتاباً
جميلاً حولَ لا شيء، وغير مترابط إلاّ مع
نفسه وليس من عوالم خارجية ".
غوستاف فلوبير
التعطر بالشعرية
يقترب مفهوم الشعرية من مفردة " الشعر " كمصدر لغويٌ يبنى على ثبتِ الأحرف المشتركة بين المفردتين.. وفي الوقت الذي يختص الشعر على ما يشكل ويؤسس من تراكيب هندسية ثابتة [ وحدة تفعيلة، ووزن، وقافية ] فإنّ الشعرية تنأى تدريجياً عن بنية الشعر، ساعيّة للتمثّل بطابعٍ خاص يحددّها وحدها ولا يقرّبها من الشعر سوى التداعي بنظرته الموحية إلى استذكار شيءٍ بعيد بشيءٍ ماثل فنرى إليها ـ الشعرية ـ شذاً ينثر موسيقاه، أو نغماً يٌبعثر أرائجَهٌ بين ثنايا المفردة وعطفات الجملة.
وإذا كانت (الحرية) قد استدٌعيت في الشعر لتدخل جسد اللغة و " ظهرَ الشعر كظاهرةِ حرّية"** على حد قول باشلار فإن الشعرية أولجت دهشة التحليق في نسيج اللغة النثرية، وأظهرت النثرية رحلة مُتعوية هادفة تؤكد جوهرها من متواليات التتبع القرائي المستمر والحثيث، والذي لا تنتهي الرغبة منه بمجرد اختتام صولة القراءة الأولى إنّما تتوالد رغبة رغوية لإعادة المطالعة والبدء من جديد في بحث وخوض قرائي ـ يقيناً ـ سيمخضّ متعةً جديدة متوالية، ويفرز رؤى أكيدة متعالية؛ وهكذا …. لكنّ الشعرية التي هي حاجة يتطلبها النثر خصوصاً في فن القص المأسور بالحبكة الصارمة المبنيّة على الشد والإقناع وجمع الخيوط التي ابتدأت منفرطة ومفترقة ـ كما ألفنا ذلك في روايات القرن التاسع عشر، وروايات النصف الأول للقرن العشرين ـ لا تتجاوز الشعر بل هي تنهل من منهله حيثٌ الشعر مملكة مفتوحة يستطيع صانع الفن القصصي الدخول من أبوابها لأنه كلمّا اقترب القصص من شرط الشعر ازدادت دقّة كلماته*** فالاستعانة بفاكهة الشعر الخيالية لتغذية الشعرية وجعلها تعيش الحيوية الدائمة أمر لا مناص منه إنّما هي ضرورة…. وهذا التصوٌّر يقرّب المسافة بين الشعر والشعرية.. وقد تدفعنا الرغبة المتطرفة في تناول ذلك ـ بعض الأحيان ـ تخبطاً إلى توصيف جهد مادة نثرية ما ـ قصة أو رواية ـ على أنها رحيل شعري ليس بدافع التقييم الموضوعي ولكن باندفاع التأثر العاطفي، وحب وتوددَّ العمل المقروء … وتناولي ( دابادا )، هذا الإبداع الروائي المهمل قصداً هو ما قادني إلى التطرّف، وساقني إلى تأكيدات / استنتاجات بعد عديد المطالعات والقراءات هكذا منجزٍّ أثير، ودفعني إلى إعلان:
1- أنَّ " دابادا " رواية أدبية بمثابة قصيدة بانورامية / دائرية لا تنتهي.
2- وأنَّها متوالية من الشعر العذب أو الشعرية المفرطة بالاشتهاء ما أنَ تنتهي من صفحة حتى تساورك دهشة العودة للسابقات من الصفحات.
3- المُغري في " دابادا " الرواية أنّك تقرأها من أيمّا صفحة تهطل عليها عيون شغفك القرائية، فتهب لك متعة التواصل تجاوزاً على ضرورات الفكرة وحتمية حركة الشخوص وانفعالاتهم لأنّ "دابادا" خطاب يهشم التسلسل المنطقي للأحداث وانعدام الصعود العمودي، كذا تعثر وتوراي المسار الأفقي.
4- في " دابادا " السخرية تفوح من بين الأسطر؛ تهاجم مملكتك الروحية فتنفرج أسارير النفس لفكاهة الصورة وبلاهة المشاهد المصورة بأسلوب غير مألوف، لكأن المعروض وجود سريالي يجسد أبجدية تثير البلبلة الذهنية وتهرب من بين الأصابع شعلة الحيازة التي ظننت إنك ماسكها فيما يندلق من فم الفحوى يقين أنك في حالة افتقاد شيء احتوته؛ توارى منساباً / متسللاً عبر دروب المتعة، واختبأ مخادعاً / متحايلاً ما وراء الرغبة.
5- و " دابادا " هي ( صرخة في الفراغ … تشهد نضال الإنسان ضدّ الموت التدريجي … وإنها رفسة موجهة من قبل حِلول الزوال لبعض الناس الذين يرفعون إنسانيتهم إلى الأعلى فيخرجون عن إطار الجذب الاجتماعي ويدخلون في صفحات الأسطورة ).. هذا مقطع من رأي الدار التي نشرت هذا الإبداع النصيّ، وهذا ما ورد في الغلاف الخلفي المطبوع.
6- والمقطع الثاني المتمم يسترسل في القول " إنّها تتحدَّى قدسية التراث الروائي بأكمله" أمّا المقطع الأخير فيقرٌّ بأنَّ " دابادا " تشبه قصيدة غليظة مشحونة بحس الفجيعة المضحك.. ويستعين رأي الدار بقول صانع الخطاب يوم قدّم اشتغاله الروائي إلى مؤسستها ـ أي الدار ـ معتبراً إيّاه " تمريناً شاقاً لتعلم الخطأ " وبأنه " كتبها ليحمي نفسه من القراء ".
العنوان .. تفكيك بنيوي
بدءاً تتحدد بٌنى العنوان من تلاحم مبهمٌ يفضي إلى بناءٍ سيروري متعدد الاحتمالات، فالتفكيك البنيوي هنا يقود لثلاث بنيات صوتيه ( دا .. با .. دا ) مولدّا ثلاثة إيحاءات:-
1- إيحاءاً بتمتمات النطق لدى الطفل ذي الأشهر القليلة قبل اكتمال عامه الأول: " دا.. با.. دا".
2- إيحاءاً بتعلّم القراءة والكتابة في الصف الأول الابتدائي حيث المنهج الدراسي لوطن الروائي (العراق) يحوي ( دار ـ باب ـ دار ) تحيل إلى ذلك مهنة الروائي ـ مٌعلم.
3- إيحاءاً ببناء يوتوبي يبني عالماً خاصاً يحمل اسماً ككل الأسماء: لقرية تجترح لها موقعاً مثلاً ـ سيما وانه لم يعطِ اسماً للقرية التي حملت فضاء خطابه ـ أو تجمعاً بشرياً حاول التشبّت بالتعبير إثباتاً لهوية.
الروايـة الفحــوى
يشرع الخطاب الروائي باستهلال تقليدي، يجعلنا نحسبها ستستمر على هذا المنوال حيث نتعرف ـ من الفقرة الأولى لا غير ـ الشخصيات الفاعلة (( وإنْ لم تكن كذلك )) لأني وحسب اليقين والتقدير أقر أنّ بطل الرواية الأول في هذا العمل الفذ هو مؤلفها..
بإمكاننا إذاً التعرف على الشخصيـات بتقديم لا يخلو من ذكاء ولا يبتعد عن براعـة:
1- هاجر: الأم المبتلاة بعدوى الثأر لمقتل زوجها.
2- محمود: الأب المقتول غدراً.
3- شاهين: الابن المنتظر لقيام لحظات الزغاريد بجدوى تطمين الأم بأداء الفعل بعد عشرة أعوام من التلقين الرابض خلف تلال إعادة الهيبة للرجل القتيل والزوجة الطعينة.
4- عواد: الرسام؛ الولوع بالتشكيل ـ رسم البورتريت ـ نحت الأفكار الآتية من نحت الطين سنوات الصغر، وتفاوته مع الأب ذي اللحية المدببة المرتبة، الغارق في العبادة والناظر لهذه الممارسات على أنها أفعال شيطانية تكرس عبث الابن وترسخ لهوه ومجونه.
5- عزيزة بنت القطّان: أثيرة عواد وإحدى محبطاته في مضماره الفني، لاهيةً في نزقها؛ لاعبة على وتر اهتمام عواد بها وهيامه " بعراك أجزائها أثناء المشي "..
يَلمٌّ فضاء الرواية بتفاصيل قروية صرفة: مطبخ/ عروق الشوك/ قربة اللبن/ البراري/ الأرنب المبقع.. مفردات ترسم جزئيات العالم الريفي: [ بحلول الخريف تجاهد الأشجار للتخلص من أوراقها الميتة قامت هاجر اتجهت إلى المطبخ المتفرّد لكي توقد ما تبقى من أحطابها وتعد أصباغاً من عروق الشوك لقربة اللبن.. قامت هاجر يقول شاهين وهي أمه.. وفي كل خريف تتجددّ ذكرى ضياع الأب في البراري بسبب أرنب مبقع.. بعد ذلك تجيء الصباحات وراء الأقفال لتذكرّ الابن بوقفة ما، حفيف رداء، عشيّة عزيزة، خسارة بكل شيء تقريباً باستثناء عّواد واختباراته في فن الرسم ]ص5.
هذا الاستهلال التقليدي المتصوّر سرعان ما تتكسرَّ آجراته عبر عبث مارسه صانع الخطاب في تفتيت البناء الروائي المعهود باستخدام لغة مراوغة خرقاء وشعرية حشدَ أرائجها وجحفَلَ شذا مفرداتها لتتولى مهمة السرد بغواية ساحر مٌغَالط يمنحك شيئاً ولا تستلم شيئاً فجاءت الشعرية لتحقق المعادل الموضوعي لتهشيمـة السرد وتضئيـل صدمة قارئ اعتاد على إرثٍ حكائي يعتمد الحبكة (plot)… إنَّ ممارسة تهشيم السرد الحكائي وتغييب ترابط أجزائه ارتكبها الناص بقصدية وتعّمد قتل رتابة موضوع الحكاية وتفتيت وحدتها الدلالية، سيما وأنها حكاية مألوفة ومطروقة في واقعنا العربي وأقصد بها طلب الثأر اعتماداً على ولدٍ يكبر وسنين يٌراد لها العدو الحثيث لتجسيد الفعل وتحقيق الثار هدفاً لإرضاء الذات المكلومة والدواخل المحتشدة التي صرفت الأزمنة تحت ظلال انتظار اليوم الموعود؛ فنرى إلى أن التشظي والتبعثر هما المسيّران/ المهيمنان على امتداد نهر الصفحات؛ يفتتان سيل اللذة الناتجة عن تتبع الأحداث وما ستؤول؛ يولدّان لذاذة أخـرى من شعرية اللغة التي ستصبح صولجان الأخذ بالخطى القرائية صوب التواصل.
الشعرية والمرتكزات
ترتكز الشعرية كمفهوم يتداخل والساردّية المتبعة في بناء النص وجهوزية الخطاب على مرتكزات، لعلَّ أهمها:
1- الصورة: حيث التوجّه لرسم اللوحات الصورية اعتماداً على مهارات تنتجها الموهبة وتقدمها المقدرة الإبداعية… لوحات مٌستلّة من معرض الحياة اليومية لتفاصيل واقع مٌعاش، أو بورتريات لشخوص جسّدوا جهودهم المغايرة لجهود الآخرين وعرضوا هوياتهم الانفعالية المتمايزة للهويات… شخوص نزلوا إلى حومة السرد ليٌحكى عنهم بصورٍ أمّا أن تتلفع ضباب السخرية فتأتي فضاءاتها معطرة بروح الدعابة وباعثة على الابتسام؛ أو أنْ تعرض شرائح تنوء بأثقال الكمد ويتمسرح على سحنات وجوهها رماد المرارة.. ولقد مالت كفّة " دابادا " الرواية للتوصيف الأول وغدت نصّاً خطابياً يقطر فكاهة ملغّمة بالمرارة، إذْ نتعرف على (هاجر) المرأة التي ترّملت بفعل اغتيال زوجها عندما كان في رحلة صيد الأرانب؛ فغدت كمدةً حزينـة تعدّ للثأر المرتقب ولدها المسمى (شاهين) هذا الذي تدلّنا الكلمات راسمة الصور على بناء إنساني ضجيـج بالبلاهة المعادلة للبراءة الطفولية في النظر للناس والأشياء؛ وهو [ لم يتجاوز الطفولة بعد سبعة وعشرين عاماً، ميلاده الناقص في الوزن يتعلم كيف ينسى الكلام حين امتلأت أواني الطبخ بأجنحة الفراشات ونبتت الأعشاب ذات الاخضرار الفاقع في شقوق أرضيات الغرف وهو يسمع جملة واحدة مٌذْ كانت الأشجار أكبر من حجمها الحالي؛ إنزل يا بٌني على مهل… درجة…درجة. تراقب تنفسه المرتفع وهو ماضٍ في الاستيلاء على نفسهِ عابراً غرفته بين شقوق الباب من الرف إلى الرف المقابل فيتملكها القلق على صحّتهِ وهزِاله اليومي ويهزّها الخوف: إنه يذبل هذا الولد ] ص6.
2- استخدامات اللغة: يلعب الثَراء اللغوي دوره الفاعل في أنشطة الجهد الكتابي شعراً ونثراً.. والخطاب الروائي حاضنة وسيعة وعميقة تتطلب هدير هذا الثراء وتستوعب دفقَهٌ.. وتبقى اللـغة التي هي (مسكن الوجود) على رأي هيدغر في حالة تفاعل إرهاصي دائم داخلة بوتقة المسار الزمني تفتح أذرعها للتغير.. تتوافق مع هذه التي كالعقار الذي يمنع اللغة من الاضمحلال.. فلا يجب أن تكون اللغة مغلقة // منغلقة تعتمد التركيبة المعتادة والشكل المتوارث.. هذه النزعة الأبدية ـ واقصد بها النزعة التغييرية الحداثية ـ قادت إلى تطور الوعي وتفجيره (في الأدب خصوصاً) باتجاه حداثة فردية يمكن تلمّسها من أوجه عدّة ومستويات متفاوتة تتقدّمها اللغة التي هي أداة فعّالة في تحديد مسار الحداثة لزمننا الأخير لأنْ الموضوع بات متداولاً يسيراً لدى المبدع جرّاء ما يشاهده عبر الشاشات المواربة أبداً على مدارات المعرفة الإنسانية؛ وما يقرأه من منشورات غدت من البساطة إدراكها وحيازتها، ولقد نحا الكثير من الروائيين إلى الاهتمام باللغة وجعلها تتقدم على البنى الهندسية لمشروعه الخطابي، استحال هذا التوجّه ضرورة بالنسبة إليه ختمت السعي الدائب لتطويرها وصقلها ممّا فرضت عليه تراجع اهتماماته بالتفاصيل (… وميزة "دابادا " وفرادتها هو هذا المنحى اللغوي الغريب في الأسلوب وغير المألوف في رسم الصور)… لم تعد اللغة وسيلة حيادية غرضها إيصال وتجسيد المضمون إنما غدت تشارك وتساهم مساهمة فعالة في إنجاح الخطاب الروائي وإيصال مؤثراته إلى ذائقة المتلقي.. أن لغة " دابادا " مراوغة وخادعة تختط مسلكاً خاصاً لم نقرأه في مجمل الإرث الروائي إنما تختص بـ (حسن مطلك) الذي مارس العبث في تدجين اللغة لصالحه خالقاً فوضى تنتاب الصور، واجداً حالة من الرغبة في إعادة القراءة قصد إيقاف التشرذم في رسومية الذهن، وهذه ممارسة نشر نفوذها على امتداد ماراثون خطابه [ سمع صراخاً في أقصى القرية فخفّت قدماه، ثم تباطأتا هذان القدمان بالتحديد، تجرّان شخصاً إلى جهة الصوت ثمة أقدام أخرى تجر ظلال أشخاص إلى جهة الصراخ الذي في أقصى القرية جلبة ضجّة، حياة الآخرين جاء رجل مسرعاً وتوقف بالقرب منه على أمل أن يسأله شاهين: ما الذي يحدث هناك؟ فلم يجبه.. ضجة… جلبة.. لا مناص.. أناس يفور فيهم الدم، وهو أيضاً يبحث في الصراخ لكن الأمر لا يعنيه لأنه مليء بالغبار، مليء وملفوف.. الليل في جانب العالم وحده في هذا العالم، مع ذلك فهو وحيد تقريباً غير متأكد بأنه سمع صراخاً وأنّ رجلاً ما، ظل رجل سأله: ما الذي يحدث هناك؟.. يأتيه الصراخ فيشعر بالأحشاء مجرّد أحشاء من ألياف دافئة لحم شفّاف ودم أحمر، يضع كفّه على جبينه، يقول: ساخن تنزلق الكف فتمتلئ قبضته بأنف فيقول: أنفي، ربّما كان أنفى يستمر المشي ويرتفع الصراخ كشيء إلى الأعلى لا كصوت يزداد ويصير بعيداً جداً.. هناك ]ص20.
قد نقرأ فقرة كاملة فنحسها لا تمت إلى الحدث نلقّن ذاكرتنا بإهمالها بيدَ أننا نفتقدها بعد القراءة فنندفع رغبةً في إعادتها، مكتشفينها داعمة ومكرسة وليس من الجودة إغفالها.. هكذا نصاب بحالة من الترددّ وتنتابنا لحظة عدم اتزان يضعنا فيها السارد قلقين غير رابضين ثباتاً كما لو كنّا نقف على صفيح يغرينا في السير عليه ويحذرنا في الوقت نفسه من تتابع رفع القدمين.
3- الخيال وتوظيف المخيلة: تلعب المخيلة دوراً ذا أهمية في مضمار الكتابة السردية، فإليها تعود فائدة تنشئة الخيال وخلقه وترويضه بحيث يبدو ـ هذا الخيال ـ فعّالاً بأبهى تجسيد وأتقن.. تتولى المخيلة مهمة صهر الموضوع ـ شخوصاً وأماكن وأحداث ـ في بوتقة الذات يدخل إليها كيما يٌعاد تفصيل تشكلّه وإعطائه توصيفاً تبغي له المخيلة الاستحالة والظهور ( وتقسم المخيلّة حسبما يٌراد لها التصنيف إلى مخيلتين: الأولى مخيلة المؤلف الذي تناط به عملية البناء من خلال السرد والوصف وهي مخيلة تنتج خيالات خاصة تحتّمها المرتكزات الأساسية في القص وأقصد بها طبيعة الشخصية/ المكان/ الزمان/ ظروف التجسّد، وخيال كهذا لا يتعدى أنْ يكون مقدماً بعين المؤلف وباصرته حسبما يريد وكيفما يرتئي، فيما المخيلة الثانية تختص بالمتلقي الذي سيرسم الصورة ـ صورة خاصة به.. ينسحب ذلك على كل متلقّ يتوجه بالقراءة وهنا يعود فضل تخيل الثاني إلى فعالية ومحفزات تخيلّ الأول وهذا هو ما يدفعنا إلى إجراء الفرز وأداء حكم التقييم للخطابات المعروضة والتي نتابعها تارة بعين القراءة البسيطة ـ واعني القراءة قصد المتعة ـ وأخرى بعين القراءة المعقدة ـ وأقصد بها عين القراءة النقدية انطلاقاً من أنّ الناقد قارئي مركب ـ والقراءتان تسبران غور مخيلة المؤلف وتقدّران قدرتها على الخلق والإبداع)… إنّ بهاء المخيلة ورونقها يشعّان ألقاً بفعل التوظيف السردي المفعم بالذكاء والاستخدام الأمثل للوصف الوصف الذي يتلقىّ شأناً كبيراً من المخيلة إذْ يشكل المعين الأمثل في رسم الصورة عبر أدوات التشبيه والاستعارة… وفي "دابادا " تتدفق شلاّلات العطر الوصفي لتشكل متوالية من الفنون البصرية ودفق متأجج من التخيل البصري.. لوحات تفيض بالألوان الساخنة المجنونة تارة، وبالهادئة المتهادية تارة أخرى.. وصف يعلو على الممارسة التقليدية التي تنتج صورة بأسلوب " البورتريت " إلغاءً لكلاسيكية الوصف المعهود، وأحسبه " أنا " تحديثاً لأسلوب الرسم بالكلمات [ عينا عزيزة أي لون لهما؟ ليستا بعينين، وإنمّا كائنين حيوانين مستقلّين عنها لم يعرف مقدار اتساعهما لأنها تحجمهما حسب الموقف، وكيفما تشاء ولكنّ الانطباع الذي لا يمكن إنكاره ذلك النزول أو الانحدار في طرفيهما البعيدين، التوافق الفضيع مع موازاة الحاجبين في لحظة الاستفهام دهاء منبثق عن توتر القوس باتجاهه الضوء العميق حتى زاوية الأنف بحيث لا يمكن إنكار الذل الذي أصابه بعد التحديق فيهما، أي لون.. أي لون لهما؟ كشف له السواد الغائر شيئاً من الذكاء والاستدراك السريع لأنه أبصر الظلّ الشفيف لصورته في لحظة الاستفهام والاتساع العسير بحيث تضطره إلى نسيان جميع الأجوبة الممكنة نظراً لخيبة اللغة في التعبير عن المشهد]ص 51.
إن وصفاً كهذا يزرع بذور البلبلة لحظة القراءة، لكنه يستنفر المخيلة القارئة ويدفعها إلى التمهل في الرسم والتشبث بالكلمات، مثلما يؤكد الخروج عن المألوف من الوصف المتوارث ذلك الذي تعودنا أن نسمعه مبنياً على تشبيه طبيعي من مثل: " عيناها كالبحر " أو " رموشها كذٌبالة الغروب " أو " حاجبها كقوس صياد ".
هندسة الاشتغال
اعتادَ صٌنّاع الخطابات الروائية استخدام الفصول كظاهرة شكلية، وفي داخل تينك الفصول قد تتوالد إجتزاءات رقمية أو حرفية أو نجمية كتثبيتات لمقاطع منفصلة تكرّس التقطيع الزمني لسير الأحداث وحركة الشخوص، وقد يعمد صانع الخطاب إلى تثبيت عنواناً موحياً في استهلالات فصوله، أما حسن مطلك فلم يرَ ضرورةً لذلك ولم يجد بدّا من جعل خطابه سيراً تواصليّاً لا يروم لهٌ التوقف؛ لكأنه يبغي ترك العنوانات استنباطات تتولى تشكيلها ذائقة المتلقي أو أنه تقصدَ ذلك لإظهار فعل استحالة تجزئة الاشتغال منطلقاً من ضرورة عدم قطع انسيابية القراءة وإعاقة لذاذة القارئ التي تشيع داخل فناءات روحه المشبّعة بالمتعة.. يضاف لهذا وهو الأهم كما أستقرئ ـ عدم وجود قوالب تحدد حركة الشخصيات بسبب فعل خاص يسعون لتأديته… فحركة الشخوص متداخلة ومشتبكة ولن تمسك وأنت تقرأ خيوط الأفعال لأن السارد في خطاب " دابادا " متقلّب لا يهدأ ومنعطِف في اللحظة التي تظن مع نفسك أنه سائر في خطى السير المستقيم أو منكفئ في ساعة احتسابه يخطو بوثوق.. إنه سارد مراوغ يباغتك بما ليس في الظن.. ( وفي مضمار الروي الذي تظن أنه انتهى في الصفحة " 199" حيث تنتهي الأحداث ويكمَل البناء الروائي تفاجئك الصفحات المتواصلة المستمرة حتى " 221 " الصفحة الأخيرة من الرواية ـ وهذا بعض ما أشارت إليه نظرة الناشر التي وردت في الغلاف الأخير عندما قال عنها ( أي الرواية ): تتحدى قدسية التراث الرواية بأكمله. إذْ تستحيل الصفحات من " 199 _ 221 " رؤية تستمد أسرارها من فحوى الرواية؛ كأنها قراءة تعرض لحال الإنسان الذي جاء إلى الحياة محملاً بغيوم البراءة غير أنّ البغض الجمعي وأعاصير الكراهية يسعيان إلى حلبات القتل (وهو لا يرى إلاّ وفاء الطبيعة بأبجديتها ويسرها) .. يٌراد له حملَ الأمانة (وهو يعلن بسذاجة الماء طهره عدم المقدرة).. إن السارد الذي هو الروائي بالقناع يعلن عبر الصفحات المؤشرة وقوفه إلى جانب " شاهين "، هذه الكتلة المفعمة بالبراءة والوداعة المغلفة بالسذاجة الذي توجّه إليه النبال بمختلف تنويعاتها: نبال الأم الساعية تحت وطأة العرف الاجتماعي القميء لدفعه لأخذ ثأر أبيه/ نبال عزيزة التي ترى فيه الشخص الوحيد الذي لا يطالبها بشيء/ نبال حّلاب ( المختار ) قاتل أبيه "غيلة والذي يبغي حصاد السخرية ولم يحسب له حساب الانتقام المضاد/ نبال شعبان عازف الربابة الساعي لكسب رضا حلاّب عبر التهكم على شاهين وإدارة المقالب..
الرواية الموضــــوع
ينصب موضوع الرواية على شخص شاهين الذي ولدَ حاملاً صفات البَلدَ مع أنّ أباه محمود كان سوياً، وأمَّهٌ " هاجر" ربّة بيت ناجحة.. قتل محمود غدراً على يد "حلاّب " مختار القرية بالرصاص أثناء رحلة صيد مثلما قَتَل عبد المجيد أحد رجال القرية الموثوق فيهم بـ "سم الفئران " فعهد الزمان لهاجر مهمة تنشئة شاهين ليكون أداة تنفيذ الثأر كيما يعيد روح الأب أنفاس الطمأنينة ولقب الأم جنان الارتياح والوفاء بالوعد.. لكنّ هاجر بين شعور الأم بالخوف عليه والإحساس بعدم تساويه مع الأقران تنسحق [ لأنه لا يعرف كيف يقول لها صباح الخير، مرحباً، كيف الحال، ولا متى يقول ذلك] ص 6، و[هي تجهل عنه الكثير لأن لا يعرف كيف يقول: أمي ولا ترى إخلاصه المشعَ كإخلاص الأبناء عندما يسألون عن طبخة اليوم، بل على العكس، ترى الجحود المشعَ في مرور السنوات] ص14.
لا يحسن شاهين التعامل إلاّ مع الطبيعة، ولا يرى في الأشياء سوى مكمّلات لإشباع حاجاته أما الوسط الاجتماعي الذي يعيش بين أجرات تكوّنه ـ وهو وسط قروي ـ فأما أن ينظر إليه ـ إلى شاهين ـ بتعاطف على أنّه مخلوقٍ بليد لا يؤاخذ على تصرّفٍ يبدرٌ منه أو سلوك يمارسه ـ مع أنّه لم يرتكب فعلاً عدوانياً ـ [ تقول زهرة أن عوّاداً في المقبرة، فيسألها متى حدث ذلك؟ يجب أن أتألم تقول: أنه على قيد الحياة ولكن ذهب لزيارة المقبرة] ص98، أو أن يٌعتبر كينونة هي منبت للتندر ومَثار للسخرية وكثيراً ما قوطع وجوبه بعبارات التفكّه من قبل نساء القرية على وجه الخصوص رٌغم التعطف [ انظري إليه يا زهرة ـ تقول عالية أمّها ـ أليس وديعاً ككبش نحيف بفعل الفيء.. لماذا لا تتزوج؟] ص65.
إن الانغمار في التعرّف على شخصية شاهين وتتبّع سلوكياته والتصرفات توجد نزوعاً وتولدّ دافعاً من الإحالة إلى تذكرّ شخصية " بنجي " في رواية " الصخب والعنف " لـ وليم فوكنر تحت تأثير نظرية " التداعي بالمعاني " لـ أرسطو تلك التي تشير إلى استذكار شيء ينبثق بغتة داخل ثنايا الوعي نتيجة سماع أو رؤية شيء مقارن فلو سمعت من يقول " برج بيزا " الإيطالي يقفز إلى الذاكرة "برج إيفل " وإذا قال لك أحدهم " قلم " تمثلت في الذاكرة "الورقة" وإذا قيل نهر " دجلة " تذكرت رديفه " الفرات ".. وقراءة شاهين وملاحقته لا يمكن إلاّ أنْ يبعث صورة " بنجي " فوكز رغم أنه لا يتناص معه في ذكر الأشياء وتفاصيل الأحـداث إنمّا يتشابه وإياه في طابع الشخصية ويتقارب معه في خطى السذاجة والعته.
تربط شاهين علاقة عمرية مع عواد الرسام.. وعواد يرى في شاهين العين التي تندهش لإنجازاته الفنية لأنه محارَب من قبل الأب ومهمل من لدن أهل القرية بحكم أعماله أنهم لا يقدّرون موهبته ولم يروا في ما ينتج سوى عبث وملهاة لا طائل منها وانشغال لا ينتهي بمنفعة تنتج قروشاً فليس لعواد إذاً سوى شاهين.. ومثلما أشرنا من قبل فأن المودّة المتبادلة يعرضها السارد بأسلوبه الداني من الفكاهة كما لو كانت تعبرّ عن نظرة شاهين تجاه صديقه عوّاد [ هناك وجدَ شاهين صديقه القديم ـ عوّاد ـ فلم يعرفه للوهلة الأولى لأنه كان يعض سنونوة سوداء، فقيل له ليست سنونوة سوداء وإنّما شارباً أسودَ يا شاهين!! شاهين صديقي.. لقد جعلك النوم أصفر.. أصفر.. وأنت أصفر كالمغول.. ويضحك لأنه أكتشف الضحك النابع من مربع الشبّاك المضيء و: اقعد يا صديقي أرى أنك تحب الشاي وإنْ لم تتبدّل، لقد فعلت الكثير بغيابك بعض الطموح رسوم أخيره رسوم شرار ـ شرار كلب عوّاد ـ في حالتي الجري والوثوب لأنني لا أحب امتداد البوز مع اليدين الأماميتين]ص42.
ومن إحدى إجادات السارد التي لا تحصى في هذا الماراثون اللغوي وحمىّ التوصيف، هي صورة ختان شاهين.. توصيف يتوافق وخفة السرد الذي يليق بتصوير شاهين يوم ختانه [ يوم جاء الأب مائلاً مع السفح فاستطاع أن يميزّ البهجة في عينيه رغم بعد المسافة بينهما، ولوّح له بالكوفيّة "أترك عنزّاتك يا بني.. تعال يا شاهين" وتردد في البدء لأن وقت العودة لم يحن مقاساً بالظلّ تحت القدمين لكنّ الأب كانَ جادّاً فلن يعاقبه إذا ما عاد مبكراً هذه المرّة واحتضنه هذه المرّة.. تلك المرّة البعيدة وأحبّه هذه المرّة لأنهم يوزعون علباً ملوّنة مليئة بحلوىَ ملوّنة…. حيث كانت الزغاريد تخرج من أنابيب البنادق، أما النساء فيطلقن الرصاص من أفواههن بهجة… واقفون.. ألوان… روائح محضّرة من أندر الأعشاب… وصراخ أطفال، فلن يستطيع الهرب لأنه محمول بذراعين قويين.. عندها فقط، علمَ أن لا جدوى من الرفس ـ لأنهم ساقوه بالقوة في مرّة سابقة، حليب أنثىَ الحمار لأجل الشفاء من السعال الديكي فاحتاج لرائحة السوس.. أحياناً ذلك السوس الذي يستدعى البكاء…آه السوس! الرعي المتواصل بلا عودة لكنهم أجلسوه أخيراً منفرج الساقين تحت عمامة صفراء وكلمات تركية مبهمة ومنخرين كثقبي فأر مليئين بالدغل فقال: ( هخ.. هخ ) وأفرجوا ساقيه أكثر، وقال التركي: ما شاء الله… بال على المخدة وانتهى كلّ شيء ثم حمٌلَ ركضاً في الألم أو ركضاً في السر بين العيون التي استطالت حتى الآذان ] ص 37.
وفي اليوم الموعود للثأر ذلك الذي انتظرته هاجر الأم بعين الأمل في كبر الابن الذي غداً مؤهلاً لتحقيق الفعل فارتدت ما يليق بالزغاريد، وما يجب أن تكون في يوم الوفاء لتقول لزوجها الطعين غداً: ها قد تحقق اليوم الموعود، لقد غدا عمره سبع وعشرين عاماً [ حين خرجت من غرفة نومها صوب التعرف عليها لأنها بدت امرأة أخرى في عيون المدعوّات، بعدما دّلكت وجهها ببلوّرات الشب لغرض إزالة التجاعيد ولبست ملفع الحرير الأحمر وغطاء الرأس المنمنم، وقسمّت نفسها بحزام فضي عريض لإثبات فعالية الخصر فهتفنَ بصوت واحد: ياه!! لم يبق إلاّ العريس.
ولكنها تلمّست قلادة سن الذئب الذي أهداها لها زوجها يوماً ما ـ بخجل لتذكرهنّ بها تساءلت العيون عن صاحب الشرف بهذه الدعوة فصعدت هاجر مصطحبة امرأة أخرى كان أسمها زهور على الأغلب، أو أي أسم آخر من المنخفض في محاولة لطبع كفّه على السخام ]ص122… تسلّمه هاجر البندقية وتطلب منه التوجه للقاتل الطليق بغية إيقاف أنفاسه وجعله يلتقي ومحمود الأب أمام وجه الله، هناك ليتم القصاص الأكبر، ولكن هل يحقق شاهين أمل الأم وطلبها! [ يحس وهو يرفع البندقية بطعم الشاي بلا سكرّ، طعم المؤامرة لغرض سرقة الاسم أسمه هو شاهين أبن البقرة الحلوب سبعة وعشرين عاماً من المؤامرات لأجل هذه اللحظة الذكية ويسقط طعم الجحيم النقيقي في أسفل الهاوية والساعة الأخيرة من العيش والذهول والرعب والمؤامرة مرّة أخرى، حيث المذابح الصفراء التي نادراً ما تصل إلى درجة القتل ـ مذابح الأخوة البشر.. ويقول أنّه يشتاق كثيراً إلى شبّاك الضحك وبرميل الابتسام ووشيش السكون والامتداد والفراغ والعرى، ثم الركض الحرّ بلا توقف، والسقوط الحر بدون اصطدام.. وهو شاهين أبن هذه الأسماء بلا قيود، يشعر أنه يبتعد عن نفسه فلا يعرف إلى أين سيأخذونه؟ وماذا سيفعلون به؟.. ويريد أن يهرب فيجد الباب محاصراً بزهور، والنقيق ينتظر… فأخذ يضحك ويضحك ] ص123.
وفي لحظة تفاقم الأحداث ـ التي لم تكن أحداثاً تستدعى الأهمية وتتطلّب التتبّع الجاد ـ كذروة متعالية للنص حيث انهيال شاهين بسكيّن يمسكه على " قندس " حمار حلاّب المفضل وتناثر الدم الذي يؤدي إلى هرب شاهين خشية غضب حلاّب وعقابه وعبوره إلى الضفة الثانية من النهر تتبدّى الذروة في نقطة تنوير باهتّة، مليئة بالسخرية والهزء عندما يكتشف أن الدم النازف بغزارة لم يكن دم الحمار إنما دمّه هو، ذلك أنه كان يمسك السكين من نصلها بينما قبضتها هي التي تضرب صدر الحمار.
وبالتوازي تظهر شخصية "عوّاد " سائرة مع توافد حركة شاهين ولم يقتصر تقاطر روح دعابة السارد على شاهين إنمّا تتعداه إلى عواد ليس بدافع تضئيل شخصه والهزء من دوافعه أو التقليل من مراميه بل البقاء في ظل روح السرد وعدم الخروج من الفيض السردي المتمثل طابعاً خاصاً به؛ وحتى رؤيته للفن وتطلعاته لعزيزة.. عزيزة التي تعيش بذخ الرَفَل والشعور بالازدهاء على أساس استنتاج ولع الآخرين بها وعواد أحد الأحباء المحتملين في نظرها حيث تتقصّد اعتباره صديقاً وليس محباً بينما يعتبرها حبيبة بلا تردد، فكان يتألم من حياديتها معه [ وبدأ الألم منها عزيزة لا بديل عن المرأة الشيطانة، الضحكة النادرة، البياض الهلالي في العينين، الالتفاتة الذكية لأنثى الرجل تلك قالت "لك عالم خاص… أما أنا فلا أستطيع" عندما كان يبني أحلامه على أمل وجود امرأة تضع العاطفة فوق واجبات المطبخ وتقول مباشرة إنها عاجزة عن فهم جمل ما بعد التأمل بمعزل عن الحس، وقد عبّرت له مرات عديدة كفرصةٍ للانتباه، عن تعبها في محاولات بلوغ الأطراف الدنيا لحلمه مرّة من خلال هدّية تمثّل تقويماً مزيناً برسوم عصر النهضة، حيث كتبت بعد يومين من التفكير باختيار العبارة المناسبة: " إلى أعظم رجل عرفته في حياتي و… " وتحت تأثير العجز نفسه والبراءة الخبيثة ذاتها أكملت جملتها: "….. واعز صديق" واعز صديق واعز صديق .. إلخ ] ص82.
في النهاية يفشل عواد في إيصال فنه إلى الآخرين داخل القرية ويخيب ظنّه بعزيزة مثلما يتقهقر أمام عدم إقناع الأب بتمايز موهبته فلا يجد بدّا من المغادرة إلى العاصمة كي يبدأ حياة فنية هناك.. هناك إذْ تستطيع شباك إبداعه ـ هكذا يعتقد ـ صيد الإعجاب فيقرر ركوب القطار توجها إلى العاصمة [ حيث تأتي من هناك روائح الألوان وأخبار المعارض ونجاحات بعض المغمورين…. كان الانكسار الأخير يدفعهٌ لمواجهة اللوحة بعد الوقوف ساعات طويلة، يعد مكاناً مناسباً، مثل دجاجة تستعد للبيض، بين عشرات الأسماء الشهيرة، لأنّ عزيزة لم تعد قادرة على عذاباته بها، وهو تبرير ملائم لأجل البحث عن امرأة أخرى مع الاعتـراف بوجود الرفض تجاه كل جنس مغاير لجنسه لكن الوقت كان ضيّقاً دون أن يلجـأ إلى الإحراق ينصت إلى صفيـر القطـار عندما يمزّق هواء المحطة ]ص136.
وبلحظات التوالي السردي كثيراً ما نجابه بانفلات ذهن السارد / المؤلف وتخليه ـ جهاراً واعترافاً ـ عن هم الكتابة ومتابعة الشخصيات، حتى أنّه يتبرأ من الواجب الذي ابتدأ به ليرميه إلى الفراغ، متخلياً عن مهمته وكأنه يحمل صفات شاهين أو يتماها به.. شاهين الجزوع/ الملول الذي يواصل سيل كلماته السويّة نراه يخرج عن طوره ليهرب إلى اللا التزام، كما لو كان يٌعلن براءته من عمل ورّط نفسه في الارتقاء إلى أعاليه، أو الغور باتجاه منابته [ فمنذٌ سنوات وهو يحب الصيد ـ يقصد محمود أبا شاهين ـ الصيد وليس القتل أبداً.. أقول: إنّهٌ مجرد انطباع وفق طريقة؛ إملأ الفرغات التالية….. لكي تصير هذه الرواية أكبر حجماً لأنني لا أعرف محموداً معرفة دقيقة كما لا أعرف شاهيناً ولا عالية ولا هاجر ولا عواد.. لا أعرف أي واحد منهم تقريباً..] ص135.
إذاً لا بد لنا ونحن نخرج من لّجة القراءة الاعتراف بأن " دابادا " ليست رواية أحداث بقدر ما هي مختبر شعري تفاعلت فيه اللغة الشعرية وتمازجت بغية خلق فضاءات رغوبة وبقدر ما بدت الفكرة الجامعة للاشتغال بسيطة ومكررة بقدر ما كان العمل نفسه تجربة غريبة تفاوتت مع التجارب الكتابية الروائية المعهودة ولربما سيحالفنا الوقت مستقبلاً لتناولها في مضمار تفكيكي بنيوي نرحل فيه مع اللغة المتوحشة التي حلّقت بنا على كفّ الدهشة؛ أثملتنا بالعذوبة، وسرقت منا الاستقرار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*دابادا، رواية، حسن مطلك، إصدار الدار العربية للموسوعات، بيروت ـ لبنان 1988.
**أنظر " جماليات المكان " تأليف غاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، إصدار المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان 1984.
***أنظر " السيمياء والتأويل " تأليف روبرت شولتز، ترجمة: سعيد الغانمي، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1994.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الزمان) العدد 2282 بتاريخ 12/12/2005م.
*زيد الشهيد: كاتب وناقد عراقي. zaid532000@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق