تراجيــــــدي
إلى / حسن مطلك شهيداً
زيـد الشهيد
( 1 )
على نحوٍ مباغتٍ انقطع هديلٌ الحمام، وكركرات العصافير توقفت.. وحدها شمس الضحى استمرت تنثرٌ ثرثراتها العسجدّية فوق تفاصيل الغابة دكينة الشجر.. والبركة المحتفية بدفيق مائها كانت على موعد مع القادمين: وعول وأيائل / فيلة وزرافات / أبقار وحمير وحشية تفتضٌّ شرنقات برية تتوقف عطشى! لكنها لا تردٌ (إنها تنتظر.. تنتظر !!) تنقصفٌ يناعةٌ الزرعِ مٌداسةً بقدمين يطآنها بوثوقٍ.. قدمان لمخلوقٍ ضخمٍ – عاري الصدر والذراعين، إلاّ من شعرٍ غزير يغطيهما - يتخذ هيئة البشر الممتزجة بصفات الحيوان... الزروعٌ تهابهٌ، تبجله الحيوانات؛ تباركهٌ الشمس… يدنو. يثني ركبتيه بجوار نصاعة الماء، وينحني ليرد بامتلاء... تتهاطل خصلات شعرهِ طافيةً.. قليلاً وينهض لتحاكيه المخلوقات المحيطة في الورود.
ولوهلةٍ أقرب إلى خطيف الومض يتناهى صوتٌ رجولي خفيض – من خلف جذع شجرة دانية – بمثابة أمرٍ:
ـ هيـا..
تتمثل على نبرةِ النداء صورةٌ امرأة مغناج تجفل لظهورها الموجودات.. أمّا البشري المهاب فتقتحمهٌ الغرابةٌ. وقبل أن ينطلق نداء السؤال: " من أنتِ ؟! " تروح تتحرك على إيقاع نغمة الغواية.
تخلع أستار عريها.. تقترب منه / تلتصق به.. تهبٌ المفاتن بلا ثمن فتتهاوى جبروتية الدواخل لديه، ويغيب في حومة العناق ( ستة أيام، وسبع ليالٍ).. ينهل عاطفةً؛ وفي عيون أتباعهِ يفقدٌ مهابةً.. ينهلٌ ويفقد!! ينهلٌ فيضيع.. وفي الانتهاء تنضبٌ ثقةٌ المخلوقات به فتنفضٌّ عنه... تنتهي غوايةٌ المرأةٍ.. يفيق.. ينهض للحاق بالربع، لكن القدمين تخذلانه.. يصرخ بهم / يستغيث.. ومن تخومِ الفضاءِ تشرعٌ تهاطلات همسٍ كأنه التأبين:
" تركتَ خلفَكَ قواك! حومةَ الوعي دخلتَ! ماذا جنيت؟!
هالةٌ رغويةٌ عتّمت لديه منظرَ الأشياء..
نهضَ على استفاقة السؤال..
طارت فقاعاتٌ اللحظة..
(2 )
يومَ ولدته أمه رأت في ما يشبه الإعجابَ والتعجب هالةً نورانية تحيط به.. لم يصرخْ كما الأطفال المولودينَ توّاً ؛؛ فقط فتح عينينه ليلتقط ما يستطيع احتواءهُ.. ثم اهتزَّ نافراً، مطالباً المولّدة بالهبوط من يديها الصُلبتين وهما تقلبانه.. ما أتجه لألعابٍ جهّزها له الأبوان، هبطَ يطوف غرفَ البيت باستطلاع هميم كأنه يبحث عن شيءٍ موصى به من عالم آخر.. حتى إذا دخلَ غرفةً اعتاد أبوه زماناً ولوجَها رغبةً في مطالعة كتبٍ يأتي بها، ثم يرصفها على أرففٍ عملها عبر السنين حفاظاً توقّف.. اندهشت الأم والقابلةُ؛ كذلك النساء اللائي تجمعنَّ حولها يقللّنَّ خوفها ، ويبددَّن رهبة تحتّمها الولادةُ ( إذْ هي أقرب لرهبة الموت)... لحظةً وأبصرتهُ يغلقُ البابَ خلفهُ، ولم يسمعنَ له صوتاً سوى قضماً متواصلاً أحالهنّ إلى تخيُلهٍ فأراً وسط بيدر قطنٍ.
أبدتِ الأمُّ تطّيراً من ولادةٍ غريبةٍ ومولودٍ غامضٍ.. ويوماً؛ فيوماً اعتادت الأمرَ.. صارَ دخولُهُ الغرفةَ وصوت قضمه المستمر من عداد الأشياء المألوفةِ.. لكنَّ الذي تجاوزَ المتوقعَ وأغرق الجميع في يمَّ الغرابةِ هو ما اكتشفهٌ الأب مصادفةً حينَ فتحَ كتاباً ثم كتاباً فكتباً سحبها من على الأرفف ليفاجأ بالصفحات وقد خلت من الأحرف والكلمات والأسطر.. صفحات ليست سوى بياضاً عميماً… ابتسم ـ هو ـ للأب الذهيل بينما راودت الأبَ خشيةُ صادقةُ لحظةَ تفرّسَ بولدهِ، ناظراً إليه بحنانٍ وخوفٍ متنامٍ / جارفٍ من جملةِ مجاهيل توقعها ستواجههُ وتتعقبهُ لاحقاً.. (ولقد أجبرَ الأب على تلبية متطلبات الحاجة يقدم له الابن قائمة الرغبات فيسعى جاهداً للتحقيق.. ولم يكن الذي يبغيه الفتى تنوع طرازات ملابس تحفلُ بها معارضُ السوقِ؛ بل مكتبات فخمة / زاخرة بالفحوى.. ولم يكن ما تريده الذائقةُ طيوبَ طعامٍ، بل أطباقاً متنوعةً من كتبٍ: عصائرَ متفاوتة من صحفٍ: حلوى وفيرة من مجلات.. بنهمٍ يندفع يلتهم.. وبانجراف غامرٍ يشحذ قلمهٌ ليدوَّن مسارات البوح)..
في مخدعهِ المعرفي تتجسد اهتماماته مثل فيوضِ رغبةٍ تدعوه إلى الطفو في مياههِ العذبة الرقراقة؛ أو كسماء تنفث في عيونهِ رغاوي التحليق المتناسل.. ينتشي عائماً حاثاً ذائقتهٌ إلى عتبات الاغتراف بلا إشباع (إنَّ إنغماراً من معرفةٍ تٌشيَّدٌ بمرورِ الزمان تدفعهٌ إلى الإفضاء!).
المخيلةُ ضجيجةُ.. المشاعر محتدمة... الحياة ترمي على قارعة التكوين متطلبات التصوير.. على أرصفةِ الأحاسيس يلتقيها فيسعى لارتكاب فعل التدوين الحثيث ، يغويه الإبداعُ / تنقلهُ أصابع الملكةِ إلى جنان الاحتراقِ العذب كالمسحور / كالمخمورَ / كالهائم / كالمسلوب الرأي يتجه ليخرج من سهوبهِ الغّناء داخلاً محنة الوعي المهيمن، غير مٌبالٍ بتبعات الأمر؛ غير هبّاب لفحوى محفّّات الانتهاء.. وفي أوقات التخفّي / خلفَ الباب الموصد يستمدُ موار الحركة.. تتبادر إلى السمع حوارات تترى، يصاحبها الهمس / المناجاة /الهتاف / الضحك الصارخ مع البكاء الصاخب.. تتعالى أسماء وتهمدُ أسماء.. وإذْ تنجلي الساعات ويُفتح الباب بعدَ تمطّي لحظات الانتظار يخرج إليهما – الأب و الأم – مُحاطاً بهالةٍ من نشوةٍ عميقةٍ أو تقاسيم ألم ممض.. يسعد الأب لحاله مرةً ويصرح بالكآبة مرّات... ويوم تتولى الأمّ مهمة ترتيب غرفتهُ تواجه – وجلةً – بالأوراق تتراكم على سطح منضدتهِ وقد ازدحمت بالكلمات المبعثرة أو الخطوط المبتورة فتحسب ذلك من باب العبث والتسلّي مُمنيةً النفس بالطمأنةِ سلوكاً هادئاً في مخدعٍ على فوضى طفولية مع أقران يمتهنون المشاكسة في الطرقات.
( 3 )
تتراقصُ حفنةُ الأسماكِ الشذريّة الصغيرة في بحيرةِ العينين المنفتحتين بابتهاج غمير.. ويزداد البريقُ اللاصفُ جرّاء صعودها لسطح الماء فينتجُ سهاماً فضيّةً تهاجمُ الحدقتين وتدفعانه إلى الاستعانة بالرموش اتقاءً بينما ترتخي عضلات الوجه عندما يتم التخلي عن التحديق.. يسحب النظرات لتمسح خارطةَ البحيرة الضاحكة بعذيب الماء... تدعوه مخلوقاتْ الأعماق فتختفي احجبةُ الرفض... ورويداً، رويداً يَلجُ حضنَ الماء تلبيةً للدعوة غاطساً عائماً.. وفي لحظة يتقاسم الاثنان ـ الماء والجسد ـ زهوُ الجذل.. ويرى إلى حيوانات مائية ودودة فيضحك ابتهاجاً لازدهائها.. يدنو فتجابهه بالرقص الموحي... يترك أعضاءه تتشرب السكون فيفاجأ بالمخلوقات الموّجية تحفّ جسده وتداعبهُ... تطنُّ عند أذنه بنبرات منغمة تنقله إلى حيث الأماني المتحققة... في العُلا يرفلُ بين زهو التَّبرك السماوي، وهبات الحبور حيث العيش لمنْ هم فوق الانوجاد البشري أولئك: مالكو مصير الأرض بما حوت، والسماء بما أتت: مغدقو العطايا / واهبو فيوضَ الحنين، الذين أصابعهم إذا أومأت انفرجت دروب الهناء؛ ورموشهم إذا رفّت تكللّتْ الأرواح برغاوي السلام؛ وشفاههم إذا نطقَتْ غرفت الجموع المتطلعة بانبهار أشذاء الدَّنى الأبدية.. يترافق ذلك مع لذاذات مدغدغة أحسّها تتصاعد متضافرةً بفعل ازدياد مداعبة المخلوقات له والتي آثرت تضئيل عذوبة النبرات لئلاّ يأخذه الثملُ إلى عتبات الغرقِ فتحركت الأعضاء وتولّت صعوداً إلى السطحِ... وهناك؛ في الهواء الطلق / عند الحافةِ، أو على العشب أو فوق الشجر لمح مهرجان حيوانات الغابة وطيورها تمارس الجذل قفزاً أو رقصاً، أو تحليقاً استكمالاً لسيمفونيةِ السرور التي تُعزَِفُ باوتارِ دواخلهِ.
عامَ سابحاً واندفع رشيقاً، وصولاً للغزارةِ العشبية، استلقاءً على يناعةِ الأرضِ الخضراء..لا يريد لما رأى أن يذهب.. لا يروم للمتعةِ أن تتبدد. أحب استرجاع هنيهات الرحيل الجميل التي عاشها قبلَ قليل، فاغمض العينين تاركاً الضواري: أسوداً ونموراً ونسوراً وصقوراً؛؛ جميعاً تحميه من غدرِ الأرواح الشريرةِ ثم الأيائل مع الغزلان تتقافز؛ تقدم استعراض الاحتفاء بارتياحهِ فيما تنطلقُ الطيورُ راعشةَ الألوان مرفرفةً تدنو من صفاء المآلات لتغنّيهِ أنشودةَ المتعةِ والحبورِ والجذل.
( 4 )
سحاباتُ الأفكار تقترب... يتجاسد النسيمُ المعرفي مع إنثيالات ما تهبهُ انشراحات الفيض الإلهامي، وسعة المتُجلّي تتواشجُ فيجد نفسهُ يُكثر التواجدَ في المخدع الُمرتجى جاعلاً وقتهُ المحبب يقاسُ بشساعة إبحار ما وراء الباب، عائشاً مواقفَ تفاعلٍ إنصهاري أقرب إلى دائرةِ التماهي... في رأسهِ تتزاحم أسماء وتتناسل حالات كذلك المشاعر تتفاقمُ.. يرى إلى ما حولهُ فيأنس مجسداً ذلك بانشراحٍ ضارٍ وتطلُعٍ لأحلامات مُضاءةٍ.. وفي لحظةٍ بارقةٍ من عنف الذوبان والهياج الاستدراكي للمواقف التي تهبُ بغتةً تحركت المجلداتُ ثم تهاطلت! فاحت رائحةُ القرون تملأ فناءَ الغرفةِ وتكتسحها.. ورويداً رويداً تفرغُ الرفوف تتعرى ساحبة الهواء.. سالت الأوراق وتمازجت سرى هسيس وهمهمات ندَّت.. الأشياء تراكمت آخذةً بواكير تشكَّل قوامات بشريةٍ... ظهرت رؤوس تعتليها عمائم وأخرى مكشوفة حسيرة.. بانت الوجوه ملساء وأخرى بلحى غزيرة.. عيون برقتَ وخفتت عيون... أكتافُُ تجاورت، واكفُ تصافحت. الوقتُ لقاء.. والودّ عناق تداخلت آهاتُ الشعر مع خلجات الخطابة، مع أبنية القصّ وجدران المقاربة؛ مع ضربات أزاميل واحتكاك مشارط. تفاعلات عناصر كيمياء جوار انبثاقات إشعاعيةٍ روحيةٍ متقاطعةٍ.
فِرحاً / دهِشاً وقف يترجم تقنيات الموقف!! عرفهم!!.. عرفهم سريعاً: قامات متوهَّجة ترفل على إيقاع نوراني،، كلَّ له هيئة الهالةِ المتماوجة تشقَّ أستار الهمود، تدحر جيوش العتمةِ يؤثر النهوض بغية اللقاء.. يجد ودّهم لا يسع لهفتَهُ!! عرفوه!!.. عرفوه من احتراقات أصابعهِ / من لهيبِ حدقتيه / من اضطرام أعماقهِ / من رعشِ الروح.. لا يدري إنْ كانوا دعوه أم هو الذي أدّى ذلك؟! إذْ ما أنْ أوقف قلماً يدوَّن بهِ ونهض عن كرسيَّ يتّخذهُْ مجلساً حتى تخلخل الفناء؛ وجدران الغرفة تراجعت.. توارب دربُ، واتسعت آفاق... دخلَ وإيّاهم أجواء الانفتاح تسوقهم أنسامُ الخلق باتجاه وادٍ يعمر بفنون الإبداع.. وادٍ يحتشدُ فيه المتميزون عمَّن تناقلت عنهم الألسن ورسمتهم المخيلات.. أسماء أرّخت وجودها بأفعال تدخل من باب الاستثناء واستبدلت مسراتها بالأثر حافرةً بأزميل التضحيات.. شخوص انبرت تهندس؛ وأخرى تتكلم مجاهرةً بلا استئذان، مهرقةً سني عنفوانها سعياً لتحقيق آمال باذخة تمنحها للآخرين… يصافح الغزالي، ويشدُّ على يد التوحيدي.. تنتشي كوامنه لرؤية المتنبي مثلما يفرح للحبّوبي. يفرد ذراعيه لمايكل أنجلو احتضاناً، تماماً مثلما يطبع قبلة على جبين الواسطي.. يقال له ذاك ديستوفسكي وهذا ديكتر؛ وهذا هوغو، وهذه مدام كوري وتلك أحلام مستغانمي… ذلك الذي على الربوة خوان رولفو مع ديلا كروا، وكازنتزاكي، غوغول ومحمد خضير، ونجيب محفوظ وسيلانبا وحسن مطلك [ حسن مطلك يسأله: لابدَّ أنك قرأت روايتي اليتيمة " داباد ".. لم يسعفه الوقت ليقول: نعم؛ وشغفت بها أيمّا شغفٍ ولم يقدر أن يقول: روايتك تلغي الإرث الروائي العالمي بأكمله، وتسمو عليه ].. مأخوذاً بالهدير البشري وموجات الأصوات الرخيمة الهابطة عليهم ( كأقواس السحاب)؛ تشبيهات السياب وفخامة قول الجواهري: ( أطبق دُجىً، أطبق ضباب).. يهمس له الطيب صالح؛ ويومئ علي حرب.. ومن بعيد يبتسم فرويد وآلفرد آدلر كذلك هيتشكوك يلمحه محاطاً بالطيور.. يرى إلى الخنساء الجريحةِ مثلما يلتقي زينب الطعينة يجمع همّيهما ويترجم دموعهما.. يتذكر صخراً ويستذكر الحسين.. يصافح ليلى ويفوه بسؤال أين تكون بثينة. يحصد الشوق، أبجديات العشق ويبقى على وشك السؤال عن قيس وجميل وجرير (لولا الحياء) الذي أجفلّه.. يبصر (التوباذ).. يمرر عينيه على ( يذبل ).. يستنطق (الدخول) فتتمثل له جسور قسنطينة وبويب" جيكور"..يسير في أزقة "السكرية" ثم يطوف على محلات "خان الخليلي"... يُنتزع من نهل الأسماء.. يلقي الجموع تحيا خلقاً مؤآنساً.. لم ير بينهم نيرون ولم يسمع عمّن يفوه باسم هتلر، ولا ستالين، ولا الحجاج ولا شارون ولا ميلوزوفيتش.. وحين سأل عنهم تحركت النظرات تشير إلى جهةِ ما وراء تلَّ نكير... وجهةٌِ لا يقربها المفعمون بالخلود.. يُنصح بعدم الدنو لكنّه يصر سعيّا لتلمس خاتماتهم.. يخطو وقبل اعتلائه التلَّ وإطلاله تداهمه موجاتُ عطَنٍ؛ وتياراتُ عفونة؛؛ ثم أصوات هوجاء من زنوخة فاغمة تدفع به إلى تخوم التقزز والقيء؛ ولفظ الأحشاء.
( 5 )
لم يكن الذي شهده مألوفاً. ولم يدنُ من خاطره إطلاقاً لكنّ الخبز الذي أكله (هو الذي ما ذاقَ من قبلاً؛ ودنُّ الخمر الذي زقّه (وما كان قد عرف لسائل كهذا من قبل)، ، ثم الثياب التي غطّت جسده وغيرت مظهره وما انجلى ضباب سحرها بعد) جعلوا منه مخلوقاً ينأى توالياً عن براءة البدء… وعندما التفت وراءً بخطفةٍ لم يلمح (ها) المرأة الرافلة إلى جانبه.. يتوجس حنيناً إلى الغابةِ وتضاريس الأحراش التي خلّفها... داهمته خشية أن تستحيل محط طمع لمن سيجدها خالية من أنفاسه فيستحوذ عليها بلا عناء.
هم بالعودة والتخلّي عن جبروت المرأة المهيمنة عليه بدهائها بَيد! أنَّ المدينة التي قصدها غدت أقرب من تنائي خطى. فالسور تتابع علوّاً؛؛ والباب الخشبي المحفور بنقوش نخيل وسلال وأقداح النبيذ المقدّس ازداد ضخامةً. مخلوقات من جنسهِ كشفتها مواربة الباب صارت مثار فضول لعينيه المفترستين..
بانفعال داهشٍ دخل...
ما كان وحدهِ من يرتدي ملابس الغرابة بل الجميع تسربلهم متنوعات الأقمشة وتفاوت التفاصيل.. أبصر أبنيةً تهندسها ذائقةُ مثيرة؛ وهياكل سلّمية تتدرج صعوداً.
هامسة أسرّت المرأة في أذنِهِ:
ـ هي ذي المعابد / الزقورات / بيوت الآلهة ومراتب حضور الخاشعين.. هنا ستلتقي غريماً لك.. كنّ ندّاً له.
لا يأبه للغريم؛؛ ولن يخشى المجاهيل لكنّ لهفة للعودة إلى الغابة تنامت مهيجة في قلبه طيور الأشجان.. نبال الحنين إلى الربع والربوع تفتك ببقايا جَلَدهِ.. ضجّ صدرهُ بغيوم الشوق!.. كاد أن يطلق شهقة الإعلان بالتقهقر، لم يقدر فبكى!.. بكى بمرارة.. سالت الدموع سيولاً على الوجنتين.
وإذْ نهض مقرراً تلبية نداء الأحراش خذله العقل.
سمع نداء المرأة يُعيب عليه رغبة القرار، متهمةً إياه بالتخاذل… حيالَ ذلك تصلبت ساقاه وتوتر الذراعان.. شرر نافر/ زاخر قدح من الحدقتين فأنطلق الفم يبعثر رذاذ اللعاب، ممزوجاً بمفردات التحدي:
ـ إذاً هيّا.. دعيني أقابله.. أين من تزعُمين؟!
( 6 )
توالت الأعوام… وشرنقات التبصّر تتالت!! استحالت الأيام أبجدية من دروب تمنحهُ مفاتيح المسار؛ ولوجاً إلى عوالم مجرّات بشكل متواليات معرفية يراكم أكوام أسئلة عمّا يرى ويحدث كيف ولماذا هل وأين استفهامات بهيئة مقارنات وهو الحائر المأسور بالسهوم والشدهَ يتلمس معادلات مقلوبة / منطقاً زائفاً / شعارات رمادية / أفعالاً شائنة هي تراكمات غدر محسوب وسلوك عنفي مُقنن؛ مثلما هي شغف لارتشاف دماء برواء؛ وسادّية تُعلن هتافها.
يدخلُ مدناً شبحية بشوارع باهتة؛؛ أرصفتها تجفوها الأقدام المستحبة / تهجرها الظلال النديّة فيما لأجواء متكدرة لا تبشّر باطمئنان / لا توحي برضا. يخطو فتذهله القامات المتحركة بآلية مبرمجة تحيرّهُ الوجوه الشمعية المفرغة من التعابير الأنسية.. يقلقهُ انتقاء دماثة الوجود.. الخفافيش تأخذ أمكنة العصافير: الجرذان تعتلي أعشاش الصقور رافلة على خمائل هجرتها: غربان تضاجع غرباناً على أسلاك الكهرباء الميتة… ترادفات نعيب تبتر بقايا نبرات منغمة ـ هي ما ترشحت من مسارب النهارات البعيدة ـ .. صفير يُسمع من مسافة تنأى كأنه اختراق ريح لتشابكات أغصان عجفاء يجاهد الشجر في إبقائها منتصبة ولو بشيء من الإرادة على البقاء.. البيوت تاركة نوافذها جروحاً فاغرة تترف عصارة ذاكرتها وذكرياتها.. محلاّت واجهاتها المزججة بالفراغ تقدم معروضاتها أحلاماً مجففة؛ وأمان معلبة ، وأفكاراً تَعِدُ بالفراديس الغائبة.. وفي زوايا غبارية: ثمة جماجم مصفوفة باتساق على أرفف التشفّي / أكفّ مبتورة الأنامل معلقة بصنّارات الوعيد / سيقان بأقدام مهشمة مثبتة بقنابي ثقب المؤخرات، بينما هياكل عظيمة متفاوتة الارتفاعات تتراصف كخلفية لمعروضات إبادّية جماعية مرتبة بإتقان وحفاوة احتفالية.. [ وفي ركن آخر لمنفذ يقود إلى شارع مفتوح تتناقض الصورةُ؛ ويعطي الموقف تفاوتاً بيّناً: إيقاع راقص لضاربي دفوف غجريين ، وراقصات غجريات يتجملنَ بالمساحيق وبالأحزمة المشدودة حول الأردف إظهاراً لاهتزازها المثير.. متطلعون بشبق يلغي الشعور بالمواطنة ، يلاحقونَ أقدامهنَّ تدوس الأوراق النقديّة التي ينثرونها بلا اعتبار ولا حشمة.. أحذيتهنَّ تقصف النسر الشامخ على جدار العملة فتلوى عنقه وتكسر الأنف الصقري للوجه الذكوري المنتصب بشموخ يعلي راية المدينة فتحيله عجوزاً مطعوناً... تترافق انثناءات الأوراق مع شعور بانخذال ذليل لمن جاءوا بهنّ يمتعن حفنة غرباء جُلبوا لزيارة جنسية بناءً على دعوات متتالية لعرض يفاعة المدينة وإظهارها فتيّة ما زالت تحظى بطمع المنتفعين ].
يخرجُ مطعوناً بالتفكّر / مكبلاً بأصفاد الجزع؛ فإذا القلب يكفهر: وإذا الشمس تنكسر: وإذا غزالات الروح المؤمل لها الانطلاق جموعاً تنفرط: وإذا الدموع سواقٍ تقصُّ بانوراما الآلام والعسف: وإذا به براءة حييّة وسط إعصار جارف من التجنّي!!.. يتسمر كالعاري أمام أنظار الأسئلة الكبيرة / الثقيلة.. لا سلاح لديه يتقي به شرور الوعي سوى قلمه… يلاحظ احتدامَه وبركان أعماقه ورغبات إفاضته .. يتحرك مستجدياً الأوراق ليوشم بياضها بآهات التمزُّق.. يلتقي الأقران المحبيّن فيستنشق جوهر الهم وذات البوح.
الكلمات لا تشي بافتضاضاتها الناجزة..
الأشرعة لا تبغي التعرّي إزاء أعاصير التبعثر..
السفر طويل.. والبحر بلا منتهى..
يحصد تعاطفهم مثلما يمنحهم مواساته.. يطمئن لرؤيتهم ينهلون من ساقية واحدة، وماءٍ مشترك، مستانساً لسماع أسماء يرددونها (هي ذات الأسماء التي يعيش ويغترف فيض معرفتها).. تتناسل لتغدو أفواجاً من العذاب المستديم، ومنابت الأحزان تتراكم كسود الغمامات.. بائحاً بمرارة _ يتحدث إليهم _ عن صديق له لوحِقِ، وآخر اعتقل، وآخر آثر الانعزال؛ وآخر ابتلعته المنافي، وآخر أكتشف في الماحول شراكا من إخفاق، وآخر جسَّ فخاخاً تتعاقب فطفق يتحرك حذراً / مشذباً أية عبارة يقولها أو لمحة يفوه بها...
بعدما استعرض الوجوه الحميمة التي سعى ليستحيل أحدها شرع يتأمل ـ على ركام التذكر ـ تداخلات الأسئلة مجُاهراً بأبجديات الشك: هل عليه شراء الأقنعة ليضمن بهجة الاحتفاء؟… هل يخنق الكلمات الصادقة الصريحة بكاتم البوح ليخرجها متوافقة واذرع الدخان؟.. هل يحيا الكذب المستديم؟.. هل يصبر ويصابر استعانة بدرع التقيّة ضماناً للسلامة المذلّة؟.. إذا كان ذلك من عداد اليسر فما هي تجليّات الحقيقة؟.. وأنىّ له قول الواقع بريشة الرائي المقيَّد؟.
بودَّ وتعاطفٍ نظروا إليه.. ثم بعين السؤال فاهوا:
ـ وماذا فعلت؟
يركن إلى الصمت مُسربلاً بالذهول / متشبثاً بأظافر الحفر كي تبحث عن جواب يرضي اللهفات.. أخيراً ولد الرد:
ـ كان عليّ أن أعبر جسور النار وأطأ جمر المستحيل تماماً كما فعلتم أنتم.. أقبض شمس الحقيقة لأرميها ساطعة في عيون الظلام.. اقتني فلذات الصبر وارتدي معاطف العزيمة.
فانبرى يكتب بلا مواربة، عما يشهد وما يدور / ممزقاً ومعرياً حجب المخبوء / صارخاً بأعلى صوت قلمهِ... الواعون من الناس يسمعونه / يقرأوه... مدوّناته تتلقفها الذائقات تلتقطها الألسن... يرونه لسان دواخلهم.. قاموس انفعالاتهم.. السماء يحفلون بصفاء أثيرها والغد الذي يبغون.
يغدو علماً / يغدو مؤثراً.. ثم يغدو مخيفاً، يعدو متجاوزاً حدود المسموح به... تكثر الآذان / العيون تتناسل.. الأكف الرمادية تتكاثف، متكفلة بمهام التحجيم.. بات المتضررون يبُصرون سهام أفكاره تخترق أنس مجونهم، ورماح الكلمات تترصد حبور موائدهم (ما لهذه الريح العتيّة تقصف جدران إنتشاءاتهم وتسعى للإطاحة بسقفِ هيمنتهم.. ما لها؟)
وينبثقُ القرار حاسماً ..
( 7 )
أصيلُ المدينةِ يتناغم بأنسامه.. وأريج طلع النخيل يتعالى، ثم يهبط نثيثاً لا مرئياً فوق الدروب والمنعطفات المزدحمة بحركةِ القادمين صوبَ الزقورة البيضاء، المطعمة جدرانها بأقراص الطين الزرق أو البنّية المفخورة بلمعان باهر ( إنها لحظات التقرب من مهابة الآلهة ) غير أن الخطى سرعان ما خفّت، واستحال انتقالها وئيداً.. ثم توقفاً آن تصالبت الأنظار على مخلوقٍ برّي ـ أبعد من إنسان أدنى من وحشٍ ـ صحبة امرأة يعرفونها.. ملامحه تنمُّ عن اندهاشات تترى.. ما ابصروا مثله من قبل؛؛ وما ذهلوا كما هو عُظم الذهول الذي يعتريهم الآن... فقط كانوا يسمعون جملة حكايا عن مخلوقٍ يعتنق الحب الدفين لغابة يحيا في تشابكاتها وربع غفيرين يرافقونه.. لا أحد يجرؤ على الاقتراب من سطوته ولا هو آثر يوماً التطلع لمدينتهم.. تساءلوا بفضول عمّن يكون؟ وأين كان؟!.. بيد أنّ حضور حاكم المدينة تحركا صوب الزقورة غيّر اهتمام نظرهم، وحوَّلهم إلى الاغتراف العميق من طلّته [ لمظهره صفاتٌ تخيف.. ولسطوته رعب ُيميت.. ثلثاه إله وثلثه بشر.. هالك الرجال ممزقهم / فاتك بالنساء... مفتضُ البكارات / مبيح العذارى!].. حين همَّ بالدخول عبر الباب الرئيس فوجئ الناظرون بمن يقطع عليه الطريق ويمنعه!!!
ولم يكن الفاعل سوى القادم الجديد الذي انبرى يتفرّس بعينين وحشيتين شرستين..
تشابك الاثنان وتصارعا...
تصايح المتطلّعون وتصارخوا...
تعانقت القوّتان ثم تنافرتا... قوتان تتقاربان في جموحهما / تحتدمان..
تلاحقت الأنفاس.. أنفاس تعجُّ بالصراع؛ وأخرى تصطدم بالتوقف ابتغاء معرفة المآل..
ولقد علا الهتاف / الصامت.. وتصافحت النظرات بتشفِّ غامر عندما وقع الاثنان أرضاً وانقضّ هو على الحاكم مقترباً من إعلان انتصاره عندما دنت منهُ – خِلسِةً خناجر معقوفة كانت مندسَّة خلف أردية الغيلة، أنزلت فتكاً في ظهره وسط طعن أنظار ، وانكفاء رأي ؛ وخرس ألسن.. مع كآبة برقية خاطفة سرت في أعماق المتحلقين الذين تمتموا بنبرات منكسرة: آ آآآآآآ....
( 8 )
حين أهالوا ختام كفوف التراب ـ في ليلة هامدة يكتنفها السكون ـ انطوت آخر صفحة من سِفر حياته.. صار وجوده علواً ترابياً اسمه "القبر" في مقبرة هي تكتلات جثومية وشواهد حُفرت على رخاماتها بضع كلمات.
لم يكن المشيعون سوى قلة اتخذوا الركون بعد الهمهمة؛؛ مؤبنين وراثين.. قلة ممّن كانوا شاركوه ساعات المحن وانسحقوا تحت أحجار طواحين المشاعر راحوا يستعيدون واحدة من مدوناته:
"عندما تتلاشى الأنفاس ويتبدد الروح ليس الفرد الذي يموت إنما العالم الذي يتوقف"
عندها شرع أحد مريديه يكتب على قرطاس الذاكرة:
"إنَّ أمة تقبر رجالاتها صمتاً لهي من الفناء أقرب. وإنَّ حاكماً يحيا الغد ببشارة ازدياد موتى اليوم لهو من الشيطان أدنى"
فيما كتب ثالث في مشروع كتاب يلخص حقبةً من خواء الزمن ويفضح المتشدقين بالفروسية وبيارق الكرامة واستطالة الألسن:
"كلُّ يبحث عن سلوى.. كلٌّ في التمادي يمور.. الزمن فصلوه حذاء وطفقوا يطأون به كواحل عيون الأرض ورفل ميس الندى.. يطمرون نداء الهواء الطليق غير آبهين بالفحوى؛ غير محتاطين لصوت العرض... تراهم عُراة يلجَّون ميادين الخديعة – المعدة لهم _عُزَّلاً يقتفون خطى العهر.. العيون الساخرة تلاحقهم.. الكفوف الممتلئة تلطمهم على أقفيتهم.. هم في الغي يعمهون.. منكسون... أذلاء... خنوعون... ضائعون.."
( 9 )
في الصباح قُرِء خبر الوفاةِ حسيراً؛ يحتل زاوية ميتةً بعرف التنضيد الصحفي!!
في المساء كانت الأطعمة والفضلات تلف بأوراق جرائد ـ ذلك اليوم ـ … ثم تؤول مقذوفةً إلى أكوام المزابلِ.
30/5/2001
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في موقع (كيكا) في أكتوبر 2003م.
*زيد الشهيد: كاتب وناقد عراقي. zaid532000@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق