16‏/09‏/2009

دراسة نقدية عن (دابادا) / وديع العبيدي


" إدفعوا عني هذا السواد لأرى"..
[دابادا].. "الكلمة الجامعة"
.. دلالات التأويل والبنى السردية
وديع العبيدي

تقوم تقنية حسن مطلك الكتابية على درجة عالية ومعقدة من الوعي الحرفي، يحيل الكتابة بحد ذاتها إلى عملية مزدوجة من اجترار العذاب. بعبارة أخرى، الكتابة لديه أقرب إلى تمرير منشور، ثوري داخل لوري من القشّ. ولضمان نجاح تمريره يعمد إلى تمزيقه إلى حروف وعبارات مجتزأة ، ليُصار إلى إعادة صياغتها وقراءتها في الجانب الآخر لدى المتلقي. هذه التقنية/ الغرائبية في اللغة والأسلوب، هي ما استثار الوسط الأدبي يومئذ، في إطار النزعة الشكلانية السائدة في الثقافة العربية. لعلَّ من أصعب أنواع الكتابة، تلك التي تعتمد درجة متناهية من الوعي والقصدية للتعبير عن فكرة (عبث). لأن تحويل (عبث) إلى فكرة، يمنحها معنى غير موجود في أصله. وهنا تكمن (متاهة) الكائن في (عقله). وهي المرجعية الأساسية في فكر حسن مطلك الذي صاغه في نصوص قصصية وروائية وشعرية، ليضيف إليها خاصة لغوية مميزة طغت على سواها. واستناداً إلى هذه المرجعية الثقافية يتخذ الحديث عن نص للكاتب إطار الحديث عن التجربة بسعتها وعمقها ما أمكن ذلك، دون الانحسار في داخل النص.
تمتح تجربة حسن مطلك من منابع فكرية/ فلسفية/ وجودية، أكثر من أي شيء آخر. وقد جاءت ظروف الدكتاتورية والحرب لإضفاء خطاب سياسي تاريخاني شفيف في تلافيف رؤيته الوجودية، شديد القرابة من تجربة سليم مطر في النصف الثاني من (امرأة القارورة)، مع استثناء اللغة والأسلوب. فشخصية المفكر والفيلسوف عند حسن مطلك وسليم مطر أقوى من الكاتب والروائي. لأن النص الأدبي بقدر ما هو وثيقة اجتماعية تاريخية مرتبطة بمرحلة محددة (منغلقة) زمنياً، فأن الخطاب الوجودي الإنساني منفتح في الزمان والمكان والهيولى، وهو ما يمنحه الاستمرارية أو صفة الأبدية. وهذا ما يجعل النص إزاء مستويين في المرجعية القرائية، فلسفية وجودية، واجتماعية سياسية. بمعنى آخر، أننا هنا أمام نموذج، يجمع بين كل من شخصيتي الزّهاوي والرّصافي، المعرّي والمتنبي، بين القلق والحيرة من جهة، ووضوح الغاية والوسيلة، في شخصية واحدة، وهنا سرّ الالتباس والدهشة في آن. [راجع: نزعات وجودية في الأدب العراقي ـ موضوع سابق لهذه القراءة ـ (للكاتب)]. وتعدّ التعددية التقنية (النص المركب) والتعددية الدلالية (اللغة المتشظية أو الغرائبية) من ملامح السبعينيات العراقية وتغيّر مفاهيم الحداثة النافذة. في طلاق غير رجعي مع النصوص النمطية التقليدية أو المركّبة البسيطة مثل رواية اللعبة ليوسف الصائغ أو الوجه الآخر لفؤاد التكرلي.
إن النظر إلى (دابادا) كنص وحسن مطلك كتجربة في معزل عن السيرورة الثقافية في العراق يختزل الكثير من ملامحها ويموّه على مداخلها ومخارجها المنفتحة. بينما كانت ولادتها في خضم وسياق هذه السيرورة ومنتمية إليها بأكثر من وشيجة، مع تميزها بالجرأة والتراكم النوعي ما مايزها عن السائد في ثقافة التسييس والأدلجة، فكان ظهورها رداً على تلك السياسة، وتحدياً عاليا اتخذ أنساق عديدة، كان لكل منها مرجعيته ومصادره المحلية، ورهقه الإنساني الراعف:
1 ـ نسق اللغة التي يصفها المؤلف بالغرائبية. بيد أن ما يميز اللغة لدى حسن مطلك أنها ليست ظاهرة شكلانية تحيط بالنص من الخارج، وإنما تحتفي بتعالقات فكرية ممنهجة تمفصل الظاهرة مع الوعي، وهو وعي مركب ومتداخل المستويات. خاصةُ اللغة هذه غير منقطعة عن مشروع الجيل السبعيني الذي واجه عنت المحافظين القومويين ممثلاً بقانون سلامة اللغة العربية. هذه المقاربة والمقارنة تتيح رؤية مبلغ الالتفاف والمراوغة اللغوية الذي مارسه المؤلف لتضليل القارئ/ الرقيب؛ والوارد وصفه في مقدمة روايته الثانية (قوة الضحك في أورا) الصادرة بعد عقد ونصف من رحيله، بمبادرة قيمة من شقيقه الدكتور محسن الرملي.
إن إشكالية لغة حسن مطلك أنه بينما يجهد لتحقيق معنى معين (تابو) يضاعف جهده لتضليل القارئ عن معناه، وهو ما نجح فيه بجدارة سمحت بتمرير النص. وفي نفس الوقت صرفت كثرة مغاليق النص المعنيين عن تجشم استغواره. وللدلالة على خصوصية لغته يمكن الإشارة إلى جرأته ومجازفته لتوليد مفردات وتراكيب لغوية جديدة كما في عناوين كتبه [دابادا/ أورا] ناهيك عن عشرات المفردات المولدة التي تخترق النص. إن تفكيك هذه اللغة وتبين ملامحها يقتضي دراسة خاصة لأهميتها الاستثنائية، ليس في مرجعيتها السبعينية كما سبق فحسب، وإنما باعتبارها استهلالاً لمرحلة جديدة من الاهتمام الاستثنائي باللغة القصصية والروائية، في البلاد العربية عموماً، وقد تردّدت ـ ولا تزال ـ، أصداء تلك الموجة التي أحدثها حجر حسن مطلك في (دابادا) في نتاجات عربية ومصرية حتى الآن.
2 ـ أسلوب الذهان أو التشوش الذهني الذي يتيح لصاحبه تجاوز المنطق والمعقول والممكن في ما يصدر، بيد أن ذهان حسن مطلك مقترن بدرجة عالية من (وعي) غير منظور، يقود الانثيالات المتقاصية لتصبّ في بودقة محددة. انه لا يكتفي بالسيطرة على مخارج الوعي ، وإنما يحاول إخضاع مكانزمات الوعي الباطن لأرادته، في عملية أشبه بالتنويم المغنتيسي، يجريها هذه المرة على نفسه. ضمن هذا المنظور النفساني تمثل (دابادا) نموذجاً متميزاً وجهداً خلاقاً في مضمار الإبداع النفسي. أسلوب الذهان أو الانفلات الذهني هو الإطار الخارجي لزجّ أكثر من موضوع في نص واحد، متيحاً حرية استثنائية لحركة الانتقالات السردية وبدون وضع إشارة توجه القارئ لانحراف مسار الروي، عبر تقطيع المتن إلى فصول مرقمة أو معنونة، أو وضع نجمات وفواصل، أو استخدام عبارة [قطع/ cut] السينمائية التي شاعت في قصص السبعينيات أو عبارة [إظلام] المسرحية. فتتداخل عدة نصوص وتتجاور وتتنامى متوازية فارضة نفسها على القارئ وملتبسة عليه في الوقت نفسه، مضيّعة عليه فرصة الإمساك بكل خيوط القص مرة واحدة. وهذا هو المقصود بنظرية التوازنات الأفقية ـ والعمودية في (دابادا).
إن حسن مطلك شاعر ورسام، ومتخصص في علم النفس، ترعرع على مشارف مدينة أثرية آشورية، ولد في فوضى مقتبل الستينيات (1961)، واكتمل في ظل جنون الدكتاتورية وحماقة الحرب (الثمانينيات). إن الخلاصة العامة لمجموع العمليات الحسابية السالفة ينتج أعداداً كسرية معقدة. وقد أراد حسن مطلك أن يجعل (دابادا) معادلاً لحياته وفكره، لطفولته وأحلامه، لقصص حبه واحتراقاته. أو بعبارة أخرى لكل تلك العمليات والأعداد الكسرية الناتئة والجارحة. [هل حاولت ضرب عدد كسري في ألفين]ص8.
هل تعتبر دابادا سيرة ذاتية، سيرة أجتماعية، رؤية فلسفية، رؤية سياسية؟. الجواب مفتوح. ودالة الانفتاح هو تعدد مسميات شخوص الرواية، دون تعدد الشخصيات. فعمل على إذابة خصائص الشخصيات الذكورية [محمود ـ شاهين ـ عواد ـ صاحب النظارات السوداء ـ حلاب]، والشخصيات النسائية [هاجر ـ خديجة ـ عزيزة ـ عالية] على بعضها، معللاً ذلك بالقول: [في نفس اللحظات التي ينام فيها البعض يستيقظ البعض الآخر. تلك السلسلة من البشر. كل فرد هذه اللحظة بالذات يفعل ما يفعله فرد آخر في أي بقعة من الأرض. ولذلك فأن السلسلة تخصهما، ينام عواد لكي يستيقظ شاهين فيجد حوله الظلمة.]ص43. وهو يرى أن المرأة هي النساء جميعاً حسب رأي السيد حسن مطلك وهيرمان هيسه في الرواية أو قوله: [مرة أخرى أقول عالية وأعني الآخرين..]ص18. بالنتيجة تتعدد مستويات الخطاب ودلالاته، ثمة خطاب ذاتي سيروي معفر بقراءة ميثولوجية دينية مقارنة. ثمة خطاب فلسفي وجودي فحواه [لا يوجد شيء لا يمكن لمسه أو رؤيته] والزمن فيه مفتوح منذ أول مطر على الأرض وسفينة نوح إلى هيروشيما والقرش الأميركي وعصافير بغداد وسجائر روثمان وسومر. ثمة خطاب اجتماعي مرّ، وخطاب سياسي راهني جريء.
رواية (دابادا) نص دلالي مفتوح، تتعدد قراءاته وتستجيب لكل منافذ ومداخل الرؤية القرائية وذلك ما يمنحها الحيوية الدائمة، رغم تصديها المبكر للدكتاتورية سيما في الثلث الأخير من الرواية ممثلة بحلاب والحمار وشاهين.

تفكيك "الكلمة الجامعة"..أو( تمرين في القراءة)
سرديّاً، تنقسم الرواية إلى نصفين، يركز النصف الأول على التعريف بشخصية البطل وتفاصيل سيرته الغرائبية أو الملتبسة بالميثولوجيا واللامعقول، ملقياً بكل إشكاليات الرواية في يد القارئ مرة واحدة، بينما يعنى النصف الثاني بحلّ الاشكاليات المتراكمة طيلة السرد وتكشف الخطاب السياسي وحسمه.. " قامت هاجر، يقول شاهين وهي أمه، في كل خريف تتجدد ذكرى ضياع الأب في البراري بسبب أرنب مبقع، بعد ذلك، تجيء الصباحات وراء الأقفال لتذكر الابن بوقفة ما، حفيف رداء، عشيّة عزيزة، خسارة، بكل شيء تقريباً.. باستثناء عواد واختباراته في فن الرسم، على اعتبار أن كل حقيقي جدير بالنسيان حتما. وأخيراً، أيضاً، انتهت القناعات مع زوال الفصول وأصبح رضاه شيئاً نادراً، فبدأ بنقر الغلاف مثل فرخ في بيضة. ومرة بعد أخرى، يعيد إلى وجهه المضاء بالحزن، النشيد المتقن الحفظ، نشيد حياته الخالية من شرط العاطفة. لأنه لم يتجاوز الطفولة بعد سبعة وعشرين عاماً، عيد ميلاد الناقص في الوزن.". ص1
حري بالقول؛ أن لغة دابادا مكثفة ومختزلة إلى حد مؤلم، وهذا مرهق للقارئ، كما أرهق المؤلف واستنزفه، لأن دابادا ـ الصرخة في الفراغ أو الفضاء، هي قصيدة شعر، والقصيدة قد تتكون من بيتين أو ثلاثة، ولكنها عصارة حياة وفكر، كافية أن تقود صاحبها للموت، أو للانتحار. والشعر نزيف.. نزيف مقدّس وقاتل. لا تستحقه الكرة الأرضية. التي يكرّر شاهين مقولة جلوسه عليها. أي على غلافها أو تحت غلافها (البيضة). ورغبته بالنقر عليها للانفصال. ليؤكد انفصامه عنها وازدراءه بها. "كل حقيقي جدير بالنسيان". ثمة علاقة لغوية بين هذه الكلمات [حقيقي ـ جدير= حقير= حقيق] أي أنها متشابهة المعنى ومختلفة في التشخيص. والحقير جدير بالنسيان. والمؤلف لا يقول أين هي الحقارة أو الحقير الجدير بالنسيان. لأن القارئ عليه أن يفكر كي لا يترك المؤلف وحده في عزلته أو غطسته. مع ذلك يعود المؤلف ويعطي القارئ خيط. يمكن اكتشافه عبر هذه اللغة الغرائبية التي أرهقت حسن مطلك لإنتاج ثقافة جديدة يعني عقلية جديدة، هذا الخيط نربطه بهذا الشكل [حقير (الكلمة الجديدة المولدة قبل قليل) ـ حقارة ـ حقار ـ حمار] والحمار [حمار حلاب] وهو بحاجة إلى خيط. لأن الحمار يجب أن يربط، وتستخدم اللغة العربية لذلك مفردة [يعقل] شيء مؤسف ومرفوض. لأن (يعقل) من (العقل) والعقل مقدّس، وعند المتصوفة (العرب) [الله عقل خاص]. ولأن الحمار جدير أو حقير أو حقيق بالنسيان فأنه حقيق وجدير بالقتل، فيقتله شاهين، الذي [ساقوه ـ سقوه] حليب الحمار ليشفى من السعال الديكي. لماذا قيل السعال وليس غيره. فالسعال لغة. ولغة [(سعال) هي: هأ هئ = كح خح]. فتعويل المؤلف الرئيسي على اللغة لتوصيل خطابه ليس مغامرة مجردة أو تقليد لصرعة كما استساغها الشعراء أو انجرفوا في خضمها وإنما عملية تربوية تثقيفية لخلق إنسان جديد وتوصيل خطاب سياسي واضح لم يأخذ حقه في القراءة. رغم أن الراوي الذي لم يترك شيئاً لم يقله؛ يقول وهو يشرح ويشرّح عملية توليد (دابادا): [ليس ثمة بقعة لممارسة العُري. العري والتجرد من اللغة القيد. خير دليل على مجيء الغد، هو البراءة] . وصف اللغة بالقيد [لغة = قيد] والقيد يوضع بيد السجين، فالمرء سجين داخل اللغة. والسجين بحاجة للتحرّر. والتحرّر هو التجرد والتجرد هو العري. والعري والتجرد والتحرر طريق إلى (الغد) وهذه الكلمة وردت معرّفة بأل. أي أنها معروفة مشخصة في البيت الذي تحدّث عن بنائه عدة مرات خلال الرواية. الطريق لهذا الغد (المعروف) هو (البراءة). ما هي البراءة. وما أدراك ما البراءة!. البراءة مفردة لغوية عادية وردت في سياق العبارة المتحدثة عن اللغة والقيد والغد والعري. العلاقة بين القيد والغد أو الغَيد. لا يبطل المعنى. والتبست على القارئ، الذي يمارس (القراءة) وليس (البراءة). فـتكون: (القراءة هي الطريق إلى الغد والتغيير والتحرر). هل كان ينبغي أن يقول كل شيء بوضوح تام حتى يؤمن الناس بدعوته. أم كان ينبغي أن يعمد إلى الغموض والتعمية ليقول. وهذا جانب من جوانب دابادا الخطاب. إن فقه اللغة ميدان مهم وعظيم لفهم اللغة، وفهم اللغة مهم لفهم العقلية وهو الطريق لفهم الإنسان وبالتالي التعامل مع واقع جديد (حقيقي). وقد شرح المؤلف توليد مفردة (دابادا) غير مرة في الثلث الأخير من روايته وتنفس الفقهاء الصُعَداء. فلا يحرجهم أحد الطلبة بهكذا سؤال، عن مفردة وردت في نص أدبي لا يزال النقد العربي الجمالي ينظر إليه مجرد [وسيلة للتسلية والتعبير عن العواطف]. مغزى آخر من خطابه التثقيفي يقول: [ تذهب اللغة. فيعتقد بأنه ميت. ولذلك يصرخ هذه الصرخات لكي يسمع نفسه. ويتأكد بأنه ينطق ويسمع.] [فيقول: هذا الظلام. الحق. المخيف. الجارح. الآسر.] وفي مكان آخر يعتبر [تكرار الصرخات] من خلال الصدى تحول [شاهين إلى شواهين كثيرة!] ثم يستمر قائلاً: [المفردات- تجاوزْها] انه يحادث القارئ خطوة خطوة ويكشف له حجبات غيبه صفحة صفحة. وهو مدرك أنه يلعب بالنار من أجلك كما جرّ المسيح صليبه الذي أعدم عليه من أجلهم أيضاً. ونستمر مع المؤلف. [المفردات ـ تجاوزْها.. الصعوبة كانت القوة. مرحلة المرض في المفردة الصغيرة. يمكن ذلك. عضو من الأعضاء يمكن الاستغناء عنها كالقلب المكروه. كما هو مؤلم جدير بالقذف. ستبقى على السطح. دائماً. دائماً.. دا .... إلا إذا كانت . الخوارق.] والخوارق هي التي يبحث عنها شاهين. وتحدّث عنها الدكتور علي الوردي تحت تعبير (علم الخوارق). ولولا الخوارق والمعجزات (تبقى عل السطح). [ويبقى السرّ. لحظة أخيرة من النزع. حركة سكين الذبح. من باب المذبح. باب. بابا. با ... لأجل الألم يقترن بانغراز الأصابع في فروة الشعر. لكنها تنتشر. ولا تخفف. (المقصود الألم). لأنها مباحة. دائماً. دائماً. دا... قل... وبـ… لمس… لا… لو.. فرداً.. دا.. با.. دا. تحيات العمق.] ص48 وهنا يكرر وصف اللغة بالقيد والتي يفتتها إلى خيوط (حروف) وأصوات لإعادة استيلاد مفردات وتعابير ومفاهيم جديدة. [وتذهب خيوط اللغة. هذا القيد. شكل الرداء. حالة البشر. الدمعة اكتشاف حديث. وما هو الرداء. ضد الرداء.. ادفعوا هذا السواد ضدّ الجمال نفسه. والعرب تحوّل الوجه إلى رداء… رداء… داء… دا…]. فعنوان الرواية بحدّ ذاته يوحي ويشير إلى إمكانية تفكيك كل مفردة وأخذ مقاطع صوتية من كلمات متعددة لإعادة تركيب مفردات وتعابير جديدة مثل [دابادا]. والتقطيع الصوتي ـ التقطيع الشعري، هي المراحل الأولى لتعلم النطق، أي تكون اللغة أو نشأة الإنسان ثم المجتمع. ويضع المؤلف أمام (دا) مفردات عديدة بدء من. دائماً. دائرة. داء. رداء. رداءة. وتكرارها في المفردة بعد اختزال (با) يعيد إنتاج (دادا) بمعنى الأخ أو الأخت أو الجدّة حسب الاستعمال. بينما تكرار (با) ينتج (بابا) وهي الكلمة المكملة مع دادا الأخت والجدّة لتكوين العائلة. والعائلة تشكل أحد عذابات شاهين وتوقه لحفيف ثياب هاجر أو عزيزة، أو خديجة، أو أذنه المنغرزة في فخذ هاجر أو عزيزة، ولمسات حسيّة أخرى تتكرر في ثنايا السرد لتغطي تلك البقعة المظلمة أو الحفرة أو الهوّة في داخل شاهين الباحثة هي الأخرى عن ارتواء. يمكن كذلك تأويل تكرار (دا) واختزال (با) كالتالي: إن تكرار (دا) يعني (دادا) وهي [الجدة المقعَدة، علامة احتجاج الأسلاف ضدّ الجيل] ص2، أما (بابا) فدالة الأب المختزل الغائب [ذكرى ضياع الأب في البراري] ص1. وفي النص علاقة شاهين مع النساء (دادات) مباشرة وأكثر إيجابية من ذكرى الأب الغائب أو دور الرجال السلبي المناوئ له (تقريباً). ودالة الأب سلطوية فارضة (لذلك ألغيت في النص) وتراجع دور الأم،[لأنّ شاهين لا يسير خلف أحد] ولا يشبه أباه ولا يقول لهاجر: يا أمي لأنه لا يعرف كيف يقول. بينما تكثّف دور (الدادات) دالة العلاقة العاطفية والحميمية الإنسانية. وجاء اختلاق شاهين صنوّه وندّه (عواد) فيكون كمثل أنكيدو لجلجامش، تعويضاً عن فراغ الأب المختزل:[ظلّ وفياً لعواد. ذلك لأنهما متشابهان فقط. بخاصة ندرة الكلام. وتلك الملاحظة التي لا يعرفها أحدهما عن الآخر ضخامة لوامس الحّس]ص12 . أو تلميح عزيزة للثنائية المزدوجة: [وتضحك عزيزة قائلة: هكذا إذن. لتتعذبا بي. أنت وصديقك!]ص16. وهنا يلعب ثلاثي [عالية ـ عواد ـ عزيزة] دور المعادل النفسي العاطفي الذي تركه فراغه العائلي (نقص شرط العاطفة). بل أن محاولة تفكيك هذه الأسماء الثلاثة والتقاط الأحرف الثانية منها فقط [عالية ـ عواد ـ عزيزة= أوزة] و(الأوز) حيوان طائر من جنس (الشاهين)، [ومثله السنونوة التي ترد كذلك مع شاهين ولكنه يصفها سنونوة سوداء!] أو مؤنثه مؤكداً للمعادل العاطفي له. وهو اسم صديقة أمه (هاجر) [ثم تحدثت عن وزّة ـ المرأة ذات الخوارق]ص4، فهي معادل أنثوي له في غرائبيته وخارقيته [تحول الحجر إلى كعك، إذا رغب الحجر]ص8. [كانت وزة في غرفتها تمارس طقوس الانعتاق والتملص][ومسمار عام في منزل وزة يدخل رأسه في تفاصيل المعاطف والعباءات محتفظاً بذكرى روائح مختلفة]ص5. ومن الإشارات العديدة [في هجران الحميمية العائلية كحفيف عباءة هاجر]ص5 ، التصاريح والنداءات المترددة في نثايا السرد [وقفت فجأة أمامه: أريدك. محتاجة إليك]ص5، [يقول أنه بحاجة إلى الحبّ. هكذا يقول أنه بحاجة إلى الحبّ]ص6، [أنهار من الرموز تبع من سرّ الحياة في منتصف الأنثى، منتصف الجسم تقريباً]ص7. [وكلما حثّه الحنين إلى القوة زار تلك الربوة زيارة عاجلة وأخذ يعوي ويعوي ويعوي.. حتى إذا أجابته الجروف امتلأ بحبّ التكرار فنمت دون جدوى عن شبيه يسمونه الأنثى. عواء ملتاع مثل خسارة نهائية. ]ص13. فالخطاب العاطفي الشبق مرادف للسيرة طيلة النصف الأول أو أول ثلثي الرواية وأحد هواجسها الرئيسة في تمثيل إشكالية الحياة الوجودية. وقد اختار المؤلف البدء من النهاية. أي لحظة الافتراق التي لا يستطيع الاستمرار في [أن يقبل كل شيء كما يراه]. لذلك انتهت القناعات. حياة خالية. وهذا تعبير كافٍ ومفصّل ليقول كل شيء. ولكنه تعبير قاسٍ. يعبّر عن مبلغ عذابه. بعد وقوعه على الاكتشاف. أن البشر، بغض النظر عن أصولهم، ليسوا متشابهين. أي أن طرائق حياتهم غير متشابهة. وأن حياة البشر، التي يقدرها العلماء بالملايين، منذ ظهور [Homo- Erectus] والنياندرتال، مختلفة بصورة قاتلة، إلى حد نفي شرطها الإنساني. كلمة شرط وردت هنا أيضاً، مرتبطة بالحياة. [حياته الخالية من شرط]. ما هو شرط الحياة. هل الإنسان بحاجة لشرط ليدرك كيانه. [حتما..]. هل يدرك كل الذين يدرجون على البسيطة اليوم والذين درجوا من قبلهم. هل أدركوا شرط حياتهم. هل تدرك أنت شرطك. أي شرط حياتك. هل أنت مقتنع بهذا الشرط. أو بإدراكك لهذا الشرط. ومتى اكتشفت قناعتك هذه. وماذا ترتب على اكتشافك. لقناعتك. بشرط. حياتك. هذا شيء يخصّك. ولكن شاهين. لم يقتنع. لم يقل أنه غير مقتنع. وإنما قال أنه فقد القناعة. والفقدان هنا ثيمة أخرى. من غير المؤكد أن شاهين كان يتوفر على هذه القناعة ثم فقدها هكذا. مثل لعبة بوكر. ورقة يانصيب مزوّرة. ومع التسليم باكتشافك لقناعتك بشرط حياتك.. هل هذا الاكتشاف هو نفس اكتشاف أخيك أو جارك أو اكتشاف شاهين مثلاً. ما الذي يحدو بإنسان شاب وسيم. مثقف وناجح. أديب وفنان. أن يصنع شيئاً مثل دابادا، يتعذب به في المخاض ويرهقه في الولادة ثم يقوده إلى الموت [ص55]. وهو يقول. أنه مختلف [فكّر ذات يوم بأنه مختلف لأنه يحسّ بألم المسمار. المطرقة من طرف وصعوبة الاختراق في الطرف الآخر. أو يجب أن يختلف لأنه يحسّ بألم المسمار]ص10، أين يقع الطرف الآخر؟. والمسمار يتكرر في الرواية كثيراً، في غرفة هاجر، في منزل أوزة، في خشبة الصلب، حيث تعلق (أكياس ميتة). هل يوجد كائن حيّ. حيّ لأنه يتنفس ويجوع ويبكي. كائن حيّ لا يحسّ أو يشعر. يقول أنه لا يشعر بألمه.. لا يشعر بالألم في يده. في جلدة اليد عندما يخترقها مسمار. عندما يقع عليها الردم. هوم. هوم. هوم. أو دوم دوم دوم. مثل رمي مدفعية ثقيلة بعيدة. لا. أنه يشعر بألم المسمار الحديدي الذي يتعرض للطرق. ماذا يريد أن يقول شاهين حسن مطلك. كيف شعر يسوع وهو يربط إلى الخشبة ويثبت بالمسامير في أطرافه. كيف شعر الذين كانوا يدقون المسامير. هل شعر المتفرجون الباحثون عن تسلية مجانية. كيف كان شعور أولئك الذين حدفوه بالحجارة زيادة في ترضية الحاكم. هل فعل أولئك ذلك لمجرد إرضاء خصية الأمير. الحاكم. بحركة من إصبعه. [يسحبه ليسرّ في أذنه كلمة (…) أضحكتهما حدّ الرفس] . حدّ الرفس. ماذا يعني ذلك الرفس؟. هل كان لأولئك شرط، وكانوا يعرفون شرطهم ولهم قناعتهم به وأنهم اكتشفوا قناعتهم بشرطهم؟. لماذا وصف المؤرخون المسيح بصفات فوق أرضية؟. قيل أنه الربّ نزل على الأرض في هيئة إنسان، وقيل أنهم لم يصلبوه ولكن شبِّه لهم. ماذا شبّه لهم؟. هنا تلعب العقلية العربية دوراً خارقاً. شبِّه لهم. أي شبِّه للجلادين أنه المسيح فأعدموه أو صلبوه. ولكنهم صلبوا شخصاً آخر، أما المسيح النبي أو الله فقد ارتفع إلى السموات، وهو ينتظر عودته. وهنا نلمس اختلاف الغرب عن الشرق في معالجة القصة. العقلية الغربية منحت خصائص إعجازية (خيالية) لكي تلغي صفة الألم والشعور عن جسد الإنسان. وبالتالي تلغي صفة العذاب والألم والمعاناة وفي نفس الوقت تقلل أو تختزل الشعور بالذنب أو الخطيئة. فالشخصية الغربية مادية عملية غير عاطفية. ويوصف الشخص بالعاطفي كما لو أنه غير طبيعي [Sentmental]. وأشيع أن المسيح بصلبه، أي قبوله الصلب، عن قناعة. وبعد اكتشافه لقناعته بفكرة صلبه، سار إلى الموت حاملاً صليبه على ظهره أو كتفه التي لا ينزف منها الدم، لأنه المسيح الربّ. فعل ذلك من أجل البشر، ليرفع عنهم خطاياهم. أو يرفع الخطيئة عن الأرض. ثمة أنانية راكزة في ثنايا هذه العقلية وجوانياتها. هكذا تتحول اللغة مع اكتشاف المنطق والبلاغة إلى وبال على العقل والبشر والإنسانية، بعدما كان اختراع اللغة والكتابة في ميسوبوتاميا السواد أو الظلمة والظلم [ادفعوا عني هذا السواد، لأرى!] معيار تفاضل البشر وتمايزهم عن عالم الحيوان وفيما بينهم أيضاً. فاستخدم المنطق لتضليل العقل البشري وتزوير التاريخ. واستخدمت البلاغة لمنح التعبير قدرات إضافية للتأثير على مشاعر الناس وتوجيه عواطفهم في الاتجاه الذي يريده صاحب الأمر والقوة. فكان التاريخ والفكر الإنساني ضحية اللغة والمنطق والبلاغة والتزوير السلطوي. هذا التزوير أو الاحتيال في تصوير حادث الصلب، هو سبب الضجة والاحتجاج والاستياء التي عمّت بلاد عديدة قبل ثلاثة أعوام عند عرض فيلم [PASSION] الذي صوّر الألم والنزف والعذاب الذي اقترن بالصلب. وهو الدافع وراء ما يسمى بعصر النهضة في أوربا [Renaisance] القائمة على تشجيع حركة الفنون والنحت. فتبارى المعنيون في تصوير مشاهد الصلب لتزويق القصور والكنائس، والاجتهاد في تجسيد القيم الجمالية للشكل الخارجي والتأكيد على العري، والذي لا يزال ثيمة حاضرة في الخيال الأدبي والفني في أوربا. بل أن فكرة التكرار وكثرة انتشار تمثيل وصور الصلب وحملها على الصدور قضى على فكرة الألم (التكرار يقضي على الشعور!). والتكرار مفردة وظاهرة تتكرر في الرواية أكثر من أي شيء آخر. فالتأكيد على الشكل وطابع القداسة والإعجاز مثّل هروباً من عقدة الشعور بالذنب أو محاولة مبكرة لتحرير الشعور. والألم والشعور هما الأخرى ثيمتان، تعاملت معها العقلية الغربية بحساسية مفرطة وحذر شديد. انعكس في القيم والدساتير الأوربية التي تمنع مظاهر التعذيب حتى عن الحيوان. بينما اختلفت منطلقات العقلية الشرقية في التعامل مع ثيمة الصلب، فقصرتهاِ على الجانب الديني نافية فكرة تعرض المسيح للموت. نفي فكرة الألم التي تتكرر في سيرة شاهين تتناص أيضاً مع التاريخ الإسلامي الذي لا يورد أية مظاهر أو إشارة عن الألم أو التعب أو النزيف والعوق في وصف أخبار المعارك والمقاتلين الذين يذهبون للحرب مثل تنزههم في حديقة أو تسلية أوقات الفراغ. إن الاستطراد في هذا الاتجاه، يبين لنا سرّ الميل الشرقي والقناعات الراسخة لتقبل فكرة الألم والعذاب والمبالغة في الحزن (العراقي) في جوانيات الوعي الجماعي عبر مناهج التربية البيئية والاجتماعية القائمة على خليط من الموروث الديني والاجتماعي لتسويغ جملة قناعات وقواعد سلوكية وفكرية تحمي استمرار العقلية القديمة التي ما زالت عالقة بالقمر والنجوم [وكلها مشتقات ليلية (ظلام ـ سواد)] وأثرها على حياة الفرد ومستقبله المرهون بقوى فوقية خارج إرادته. متقاطعة مع العقلية الغربية المختلفة في المرجعيات والمناهج والتعاليم التربوية والقيم الإنسانية، فلا نجد أثراً للشمس أو القمر أو النجوم في حياة الغربي وتفكيره أو في تاريخهم الفني والأدبي ولا الميل للتطرف في العاطفة الحسية أو استساغة الألم والحزن والبكاء ومشتقاتها من السواد والليل والظلم والعبودية. هذا العروج لتأويل فكرة الألم والمسمار، مدخل إلى جملة التناصات الدينية والميثولوجية التي تلتبس سيرة شاهين بدء من الولادة (ص36) والختان (ص11) والعلاقة مع الماء (ص20) وطريقة موته (ص55). وإشارات العمر[لم يتجاوز الطفولة بعد سبعة وعشرين عاماً، ميلاده الناقص.]1. وقوله: [سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة]31. وهذه هي السنوات التي كرز فيها المسيح ثم أعدم في الثلاثين أو الثلاثة والثلاثين حسب اختلافات التقويم. ومن جهة أخرى فأن السابعة والعشرين هي عمر المؤلف حسن مطلك عند نشر (دابادا) لأول مرة في بيروت [1988- 1961= 27]. وقد أعدم بعد عامين قبل بلوغه الثلاثين حسب نبوءته في كتاب حياته (دابادا) [1990- 1961= 29]. وهو أمر لم يجرِ التوقف عنده في دراسة الفقيد وتقدير إرهاصاته الفكرية والاجتماعية والأدبية. وتناصات أخرى مع قصص زكريا [ولد من مزنة بعد جفاف سنين]ص36، وإبراهيم [ويقول اذبحوا نعجة بدلاً من شاهين]ص56، وموسى [تلك السلّة التي تظهر صراخ طفل مولود قبل الأوان]ص61، والمسيح [وهو شخص مهم. كان لا يمسك رغيفاً إلا صار أربعة أرغفة بين أصابعه]ص30. ناهيك عن إشارات ودلالات دينية أخرى مثل أسماء [هاجر ـ خديجة ـ محمود]. ولا يمكن إغفال الجو أو الخطاب الديني في خلفية مشاهد الرواية. والتي تستأثر بالصفحات العشرة الأخيرة منها الخاصة بعالم ما بعد الموت الذي لا يعدو إلا استمراراً للحياة في مكان آخر منقطع الدور عن ما يجري على الأرض [وتحول المكان فجأة إلى لقاء عائلي بين الأحياء والموتى.(....) هكذا نظر إلى نفسه أمام عدد هائل من الرؤوس والعيون الرمادية المطفأة. وشعر أنه يمتد في أزمنة غابرة أو قادمة. في وجوه بيضاء وسوداء وصفراء خلف تلال الهنود الحمر وأحزان سكان التبت الزرقاء. وفي وجوه تحمل مزيج وجهين. الخلاسيين. وهو سيد هذه الخرائب الناطقة بالضحك: أعراس الكرة الأرضية. لا أعراس زحل ولا نبتون. الأرض وحدها. الأرض المثقبة بالمراحيض. وهو على كل شيء. كل شيء تقريباً]ص30. هكذا تبدو (دابادا) تمريناً في القراءة. يمكن أن ينتج جيلاً من القراء يعرفون شرط حياتهم، ويقتنعون به ويكتشفون قناعتهم في وقت غير متأخر. وليس مبالغة القول أن هذه القراءة أغفلت (دابادا)، فاعتبرها البعض تمريناً لغوياً في الحداثة والألسنية يولد جيلاً مختلفاً في قصيدة النثر، أكثر التصاقاً بجلجامش وأنكيدو والهاوية والهوة والظلمة التي خرج إليها شاهين وعواد (ليرى نفسه أفضل) من التصاقه ببودلير أو أبولينير أو حتى والت ويتمان في مراعيه البعيدة.

لغة الرواية..
استطاع حسن مطلك تمرير روايته بحذق عبر مراوغة المتلقي والإيحاء له برواية تقوم على المغامرة اللغوية. وبالتالي، الانشغال أو الاشتغال على اللغة قصراً يسقط حصة السياسي في التأويل، لصالح مغامرة الشكل الخارج على النمطية. وهو أمر صحيح جداً، بالمستوى المباشر، وصحيح نسبياً بالمستوى الثاني؛ وغير صحيح إطلاقاً في الإشكالية الفكرية الوجودية التي تشتغل عليها تجربة حسن مطلك أو الدافع الحقيقي (النفسي) للإبداع كما يوصف. ان حسن مطلك لا يبحث عن الفكرة في الرواية، لا يذهب إليها وهو خالي الذهن دون قصدية مسبقة كما يصف بعض الروائيين الغربيين، إنما العكس هو الصحيح. أي أن المادة الفكرية والسردية مكتملة ناضجة مسبقاً في ذهن المؤلف. ولا شكّ أن أصدقاءه المقربين ومن كان يتحدث إليهم يعرفون الكثير عن فكره وهواجسه، وربما لم يتفاجأوا بكتاباته، وإنما بطرائقه الكتابية. ومن هنا يبدو منشغلاً بتشكيل الوعاء السردي بالشكل الذي ـ يوهم ـ بانعدام أو عدمية الفكرة؛ ففي مقدمة روايته الثانية يصف مبلغ المعاناة من أجل اقتناص مفردة أو صورة غرائبية، هذه المعاناة تعكس قدر الجهد المبذول والوقت المستغرق لإنجاز النص. يتولى الكاتب بنفسه بناء مفردات بكر يضيفها إلى قاموسه الخاص، وعندما يقع على مفردة مألوفة يخرجها من سياقها ويضعها في إطار صورة/ جملة غرائبية حسب تعبيره المفضل. (حين أبصرني عوى بطريقة سخيفة: عدووو.. اعتقد أن شرار يعبّر عن شوق بعد غياب، لكنه هاجم، ونشب العداء بين الصديقين)ص13 [: فقه توليد]. سحر النعوت والنداءات المبهمة الموجهة إلى القطعان بقصد التحكم: تُرُش تُرُش تعني تعالي يا نعجة. هسو: اذهبي عني. ترد هُوهُوهُو: اشربي الماء. هُخ هُخ: لطرد العنزات..)ص10 [: فقه تأويل]. يضاف إلى ذلك طريقة ابتناء بعض الأسماء في النص مثل (شرار) اسم الكلب المشتق من [شرّ ـ شرير ـ شرار] وهو صديق عواد، واسم عواد التأويلي المحيل على العود (: جمعها أعواد، من الغابة) والعودة ذات الصلة ببنية دلالية سردية معينة، تتمثل بتماهيه مع (شاهين) وتكامل دورهما معاً في شخصية واحدة تتجلى صورتها في العلاقة (المزدوجة) مع (عزيزة) المرموز الجنسي في الرواية. أو كلمة أورا ودابادا كأسماء مدن ذات دلالات تاريخية. ناهيك عن تقنيات وطرائق لغوية فنية وأسلوبية متعددة يقتضي الإلمام بها دراسة لغوية خاصة. والمقصود هنا الخروج على النمط السائد، رفض ثقافة القطيع، ليس مضموناً، وإنما ظاهراً وأسلوباً كذلك. ضمن البناء التقني والدلالي متعدد الطوابق، تشكل القراءة التاريخية ركيزة لا تقل أهمية عن غيرها. المستويات المتعددة من الخطاب في نصوص حسن مطلك لا تتفاضل وإنما تتناوب وتتكامل في صيرورة وسيرورة متكافئتين متزامنتين. وتظهر هذه الملاحظة بوضوح في (دابادا) قائلاً: (في كل مرة يحاول الإمساك بلفظة تختصر الحياة ، كلمة يقولها فلا يبقى سرّ بعد ذلك، ..) أو (دابادا: الكلمة الجامعة). فالانشغال هنا يتجاوز اللغة كمستوى جمالي مجرد إلى اللغة كوعاء فكري، متخيراً (أجمل الأواني لأفضل المعاني) حسب التعبير النقدي التراثي. بيد أن غائية حسن مطلك تتقاطع مع نص المقول إلى جدلية (الغش والاختباء) السياسي في واقع فكري متزمت وسياسي إرهابي. وهنا يتم الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني (جدلية المبنى والمعنى). وقطعاً أن نزع الأغشية اللغوية ومتعلقاتها الأسلوبية الفنية عن الخطاب الرؤيوي الفلسفي للمؤلف وتقديمه في إطار صياغة فكرية مجردة، كان سيخدم خطابه أكثر ويحقق قيمة التوصيل أفضل ولكن على حساب حياة المؤلف. وهو أمر بدا بعد ذلك نسبياً للأسف. إذ حوكم بجريرة محاولة انقلابية، وكأن حسن مطلك، بالتأويل السياسي الخرونولوجي، انتقل من العمل النضالي الفكري (..) إلى العمل السياسي المسلّح.

شخصية [شاهين] المركبة، أو ملامح بطولة غير عادية..
تمتح شخصية شاهين من مصادر متعددة، أقسرها المؤلف في بودقة واحدة، كدالة على قدر صعب، قدر غير طبيعي. المصدر الأول: هو سيرة الكاتب الذاتية المتناثرة أو المتجمعة أوراقها وشظاياها على مدى السرد. والحقيقة أن شاهين ، الشخصية المعقدة متماهية مع شخصيتين أو ثلاثة، تماهي مباشر مع (عواد) وجزئي مع كل من [محمود ـ حلاب]. وبالشكل التالي: 1- تماهي شاهين مع محمود (الأب/ الصياد) في قصة الولادة/ مهنة الصيد. 2- تماهي شاهين مع عواد في فترة المراهقة والنضوج [الشباب: التدخين ـ شرب الخمر ـ الجنس] حتى مغادرة (عواد) الرسام إلى العاصمة بحثاً عن الشهرة. 3- تماهي جزئي في الخصائص النفسية التي ترويها (زكية) للنساء عن حالات زوجها الغرائبية. المصدر الثاني: الميثولوجيا وتاريخ الأديان والرسل. فاعتمد قراءة مقارنة لمعظم مراحل وتجارب (شاهين) مع مقاربات تاريخية دينية حصراً. المصدر الثالث: الأدب العالمي وتحديداً كازانتزاكي / المسيح يصلب من جديد ـ البير كامو / الغريب ـ ديسويفسكي/ الأبله والجريمة والعقاب]. ولذلك، عندما يطلب أهل القرية من الصحفي الأجنبي الذي كتب عن (حلاب) افتتاحية ضخمة لإحدى صحف الغرب، فأطلق كلمة غير مفهومة (Unexitism). فقالوا عبر المترجم: أكتب عنه يا مستر، فردّ منزعجاً: (OH, we have many of this kind in Europa.). وهي دلالة مزدوجة، تشير إلى الخصائص العصرية والمتحضرة للشخصية من جهة، ومن جهة ثانية تجاذباتها مع رموز وشخصيات أوربية. دعنا نقول أن المسافة بين القصة والرواية ليست فنية وإنما خطاباً ذاتياً سيروياً، وإذا كانت القصة الحديثة قد اقتربت من السيرة الذاتية كثيراً والرواية من الشعر، فأن الرواية كذلك، صارت أقرب إلى الفلسفة، وإذا كان حسن مطلك قد وسم دابادا بالرواية فأنه أرادها تعبيراً عن موقف فلسفي واضح وعميق من أكبر إشكاليتين في الوجود، الذات والعالم. فلا عدم، أنه ألغى الزمن أولاً ومنح الحياة صفة الرتابة والتكرار، وجعل الضحك تعبيراً عن العبث والبكاء أبدياً موروثاً. سخر من كل شيء وكل شخص، وعندما عاد إلى نفسه، تقمص (اسم حيوان) شاهين، وجعل سنواته جامدة عند السابعة والعشرين، ولكي يبرر برمه بالحياة والواقع رفعه عن مستوى الأرض فجعله (طائرا ـ شاهين)، وإذ افترض أن تكون له عائلة وبيت، جعل حجرته (مرتفعة) عن سواها. ألغى علاقته بالأب وجعله غريباً عن الأم، لا يعرف كيف يقول لها يا أمي، وهي تكرر أنها لا تفهمه، من يستطيع فهمك. لكن شاهين حسن مطلك الفيلسوف ليس منظراً محتكماً لمنطق وإنما هو يتخذ صفة أخرى تجعله أكثر تماساً مع الواقع والناس. الفيلسوف يعتكف في خلوة ويتأمل عن بعد وينظر بتجريد. ولكن قبل استسهال الحكم، لنتتبع قصة شاهين نفسه، أو قصة حياته كما يفترض. ـ في كل صباح تتجدد ذكرى ضياع الأب في البراري بسبب أرنب مبقع. إن شاهينا لا يشبه أباه، فذاك رجل مليء بالغناء. ـ (غالباً ما ينسى أي امرئ صورة رجل معين في طفولته، لكنه لا يقدر على نسيان محمود حتى أبعد يوم في الخرف لأنه) ـ ولد من مزنة بعد جفاف سنين فأخذته جدته إلى النهر ملفوفاً بمسحوق الشوك، فكان يبتسم لمشهد الامتزاج العجيب بين الماء والضوء عندما تجيء الأمواج،.. وكان النهار الأول في حياته يحمل أنباء سارة فوق ظهور حمير القرى البعيدة، وطلعت العجائز من الوديان لمشاهدة الطفل المعجزة بعينيه الداكنتين وشعره الذهبي الممشط وهو يمص إبهامه ويبتسم،.. ـ [الجدة علامة احتجاج الأسلاف ضد الجيل، تحذر وتجن..]ص10 المؤلف يصف الطفل بالمعجزة، وقد راوغ القارئ بدون استئذان أو وعي منه وجعل اسمه (محمود). لم يقل أنه ولد بلا أب أو أنه لا يعرف أباه ولكنه نسب للغريب قوله (ان شاهين لا يشبه أباه). قدم المؤلف كناية استعارية بالقول، أنه (ولد من مزنة). والمزنة هنا تعبير ضبابي عام، يمكن أن يعني كل شيء [نطفة فعلقة] [وخلقنا من الماء كل شيء حي] والذي يجمع المزنة والنطفة والماء هي حالة السيولة واختلاطها بجزيئات الـ[H2O]. وتتولى عبارة (بعد جفاف سنين) الإحالة على قصة يعقوب وزوجه عندما بُشّر[أنا نرزقك بغلام] [قال أنى يكون لي ذلك وقد بلغت من العمر عتياً وامرأتي عاقر]. فلكي تكتسب ظاهرة ما ـ عاديّة ـ ملامح إعجازية (معجزة) يقتضي إحاطتها بظروف وعوامل استثنائية ـ غير عادية ـ وهو ما اقترنت به قصص ولادة ونشأة عديد الشخصيات والرموز التاريخية من قادة وأنبياء. ولم ترد إشارة إلى أن (هاجر) هي التي وضعته أو كانت حاضرة خلال ذلك، وقد استعاض عنها أو عن العامل الإنساني بصورة (الجدة) ذات الدلالة التاريخية، حين أخذته إلى النهر. في إشارة للتعميد، ولنتذكر صورة تعميد يسوع على يد يوحنا المعمدان وتحليق الطيور حول رأسه، أو صورة الضوء الذي شوهد حين ولادته وتعميده، يمزج المؤلف الظاهرتين في [الامتزاج العجيب بين الماء والضوء]. ووصف الطفل [ملفوفاً بمسحوق الشوك] وهو تعبير معقد نابع من رغبة المؤلف بالتغريب، ولكن القاسم المشترك في كل تفاصيل قصة حياة محمود شاهين هو الخصائص فوق البشرية التي توحي بكون بطل دابادا شخصية غير عادية أو فوق أرضية أو كونية بالمعنى الوجودي المطلق لخطاب الرواية. في المستوى الثاني نتوقف لدى [جداول الأسماء] التي وسم بها المؤلف شخوص الرواية، وهي شخوص افتراضية رمزية غير حقيقية، أوردها الكاتب لاستكمال ترتيب أكسسوارات البيت الداخلي للرواية، أكثر من كونها تمثل دوراً أو حلقة رئيسة في سيرورة/ صيرورة النص. ويمكن تقسيم الأسماء حسب مرجعياتها: الدينية (هاجر/ محمود)، المرجعية الميثولوجية / الطوطمية: (شاهين / وزة)، مرجعية مهنية (عواد / حلاب). شخصيات عامة: (الجدة / الغريب). إضافة إلى كنايات أخرى غير مشخصة مثل: الثور (القهوائي)، النمل (المجنح)، الحمار، غيره. الدالة الثالثة التي تستند إليها هذه القراءة تتوقف عند أبعاد الرقم (27). ذات العلاقة بعمر السيد المسيح عندما بدأ الكرازة. حيث لا تورد القصة الدينية شيئاً عنه بعد ولادته وتعميده حتى بلوغه وبدئه الدعوة وصلبه بعد سنوات قليلة. ويذكر في هذا الصدد وجود اختلاف بين تحديد بداية التاريخ الميلادي المعتمد اليوم والمؤرخ بثلاث سنوات بعد ولادة المسيح حسب التعديلات التي أجراها الرومان تالياً لتصحيح حساب الوقت. فيكون عمر المسيح عند الصلب يتراوح بين (30/ 33) عاماً. وإذا اعتمدنا الاستمرار في موازاة القصتين، اختفاء صورة الأب في الحالتين، العلاقة غير الأموية مع الأم [نشيد حياته الخالية من شرط العاطفة لأنه لم يتجاوز الطفولة بعد سبعة وعشرين عاماً..]. حيث تنعدم العلاقة وتتحذ صورة (جحود مشع) بدل (إخلاص مشع) . إلخ.. ان الدالة الأخرى لطريقة صياغة المؤلف لقصة حياة بطله الموازية لقصة حياة السيد المسيح في الإطار العام، ليست بعيدة عن أطر حيوات عدد آخر من الأنبياء، وكما سبقت الإشارة إليه، سيما في غرائبية التفاصيل وعدم اكتمال بيانات الأبوين وسنوات النشأة الأولى. حيث يوضع النبي موسى في قفة وتتركه أمه مع مجرى النهر حتى تنتشله أميرة من الفراعنة وتتولى العناية به حتى يصبح قائداً للجيش. وليس بعيداً عن قصة إسماعيل وأمه (هاجر) بعد أن تطردهم سارة وينحدرون مع الساحل. ويمكن اعتبار ثنائي [هاجر ـ شاهين] مقابلاً لثنائي [هاجر ـ إسماعيل]. وعلى صعيد اللغة والخطاب جاء تركيز الكاتب لاستخدام عدد من المفردات ذات المرجعية أو الإيحاء الديني مما يدعم (النسق) الديني لخطاب الرواية الأول. ومن هذه البؤرة تنطلق القراءة لتوصيف علاقة شاهين بالمجتمع (القطيع الضالّ) بالتعبير التوراتي أو (الجاهلي) بالتعبير الإسلامي.
ان دابادا ليست رواية مركبة تعتمد لغة وخطابا مركبين، ولكن تشتتها اللغوي واعتمادها الخطاب الفلسفي منحها غنى دلاليا وتأويلياً غير محدود حسب نظرية الاحتمالات. ولشاهين عادات وطبائع تختلف عن البشر العادي، أو أن المؤلف عمد توصيفها كذلك.. (استفاق شاهين، وهو يستفيق مبكراً أحياناً، نوم الكلاب الحذر..) (كان يلجأ إلى النوم حين قرع خفيه على سطح الكرة الأرضية... كان يلجأ إلى النوم كي يسمع صوت شفط الخدّ إلى غرفته العالية، ثم صوت خشب البندقية مع سؤال عن المستوى الدراسي. (..) أصوات مختلفة أشياء مسحوبة أو مرمية، وكلمات ضائعة بين الأصوات هابطة عن قدرة السماع لأنها همسات، باستثناء تلك التي يصرخها فتهز الرفوف وتفلت إلى الطقس عبر الشبابيك القوسية عجباً أو اغتباطاً أو شتيمة لا تعني التجريح... ويظل يتحدث حتى منتصف الليل ويخفت صوته تدريجيا في أذن الموشك على النوم ، يخفت ويخفت، ثم ينتبه من جديد: هنا لندن. نقدم لكم أغنية حبك نار) (بعد أن ذاب الصبي بين الجذع والحائط انقطع الاهتزاز والحكّ فهجمت الظلمة..) [مجرد إشاعة مقنعة حول إحساس الامتداد. مجرد: أين الصبي؟. عيناه، أين؟ عيناه الطائرتان في ثقب منطبق على الطريق القديم لقوافل التوابل والحرير والورق الصيني. عيناه ثقب في الضوء، أين (..) عينان غائبتان كعيني القادم بعد تجربة الموت.].

تعدد الشخوص وتراتبية السرد
ان دابادا ليست روايات شخوص أو أحداث وأن بدت أو تصورت كذلك، وإنما هي رواية خطاب منساب غير منقطع، لذلك وصفها البعض بأنها أول رواية متصلة السرد غير متقطعة في فصول أو عناوين فرعية. في الحقيقة هي سرد غير منقطع لشخص (يظل يتحدث حتى منتصف الليل ويخفت صوته تدريجيا) وعندما يكاد ينقطع يتولى المؤلف عنه المهمة مباشرة أو عبر تناسخه مع شخصية أخرى. فالشخصيات أو الأسماء المتعددة في الرواية ليسوا غير زوايا أو ظلال شاهين محمود، بالمعنى الأرضي أو الكوني، السلبي أو الموجب. فلا غرو أن ينقلب الخطاب/ السرد في نهاية الصفحة السابعة لتركز حول الأنثى(أنهار من الرموز تنبع من سرّ الحياة في منتصف الأنثى، منتصف الجسم تقريبا) لتتماهى تدريجيا في الآخر، في الواحد، الراوي أو البطل الذي لا يوجد غيره (هنا، الآن).. وتقول [لم أنس، ولكنني كنت غير قادرة على المجيء / ليست مهزومة تقريباً وإنما متعبة تقريبا / ليست خائنة بل مسكونة بمرض الحواس أحياناً] ثم تستوي دفة السرد [الأمور لا تبدو كما هي عليه لأنها تُرى بأعين متباينة الحدة. لا تستطيع لفظ بعض الحروف، بعض حروف العلة وليس الحروف الصحيحة، أبداً، أبداً، متحدثة عن قدرتها في إيقاف بعض السيارات على عجلاتها الخلفية، ورؤية رداء الجدّ بإشارة واحدة من عصاها. توزع الحلوى على المارين وتبعثر زبائن سوق الهرج في المدينة. ومرّ زمن طويل، طويل تقريباً، وهي مأخوذة بأحاديث مبهمة، لم يدرك الحاضرون ../ سبباً لوجودهم هناك..]. فالتناسخ أو التماهي بين شخوص الرواية وبينها وبين ذات المؤلف هي عماد هذا النوع من الكتابة القائم على سيلان متصل من التداعي الذهني والنفسي والعاطفي، تتماهى فيه الحدود بين الفيزياء والجغرافيا والفلسفة والأدب والدين والمنطق وبنفس المستوى بين الإنسان والشيء، المخلوق والخالق، بين الأبدية والسكون. وفي الصفحة الثالثة عشر يبدأ فصل جديد مفتاحه سرّ تجاذب شاهين وعواد وما بينهما من شبه للدخول في عالم آخر،[ولكنه ظل وفياً لعواد حتى نيسان الماضي وقت ابتداء غطسته الأخيرة.ذلك لأنهما متشابهان فقط، بخاصة ندرة الكلام، وهي إحدى الخصائص، فيما عدا ذلك فلا يلتقيان في شيء غير تلك الملاحظة التي لا يعرفها أحدهما عن الآخر، ضخامة لوامس الحس.] حيث تبدأ سيرة (عواد) ، الذي تعود ذاكرة المؤلف لتأريخه أو تسجيل خلقه منذ البدء وتوزيع إحالاته على طبقة واسعة من الاحتمالات، والغاية في ذلك توفير مساحة جديدة تدعم حركة شاهين. ولماذا لا يكون عواد هو شاهين في استحالة أخرى وولادة مختلفة، مثل بطل (امرأة القارورة) المنفصم في شخصيتين [آدم وكامل] تتكاملان وتفعلان الشيء نفسه ولكنهما مختلفتان أيضاً حسب رأي المؤلف، وكما يصف الشاعر الفقيد عبد الأمير جرص في مجموعته (قصائد ضد الريح) بالقول: وقفتُ ضدي، وكان الكلّ يحفرُ لي.. فهل رأيتَ وحيداً ضدّه يقفُ أطعتُ نفسي على نفسي وأعترفُ أني معي دائماً في الرأي أختلفُ فالشخصيتان هنا توأم سيامي متكامل وغير متطابق. من يقول: غير متطابق؟. والتمعن في ملامح قصة عواد كما يسجلها المؤلف تحمل إشارات مشفرة تتعالق مع ميثالوجيا اجتماعية قديمة قريبة من أجواء أنكيدو ابن الغابة وعلاقته جلجامش وتأثير أشخارا، فربط بين عواد والطبيعة وصلته الحميمة مع (شرار) الكلب في تعالقاته الغرائبية، [كان عواد منشغلاً طوال الفترة السابقة بعلاقة غريبة مع الكلب شرار. يقول اسمه شرار، يحبّ لحم البط ولا يحبّ شمّ التين..] ثم عزيزة بنت القطان ووقوعه تحت تأثير الأنثى [جهاد متواصل بين فترات مجيء ابنة القطان لكي تمتدح محاولاته بإعجاب خفي وتحجم عينيها.. وهي مهتمة بحياته لتؤكد اختلافها عن النساء] التي تمنحه عوالم جديدة يرمز لها بالرسم، دور المرأة الحسي مفقود في حياة شاهين/ جلجامش، وغير بعيد عن البعيد السيروي للمؤلف في التمييز بين شخصية الوجودي المتفلسف أو الشاعر حسن مطلك وشخصية حسن مطلك الرسام. فالمؤلف هنا نتاج شخصية مركبة يتولى تحليل نفسه وتجزئتها على الورقة لمدّ كل شخصية إلى الحدّ الذي يستطيع، حسب وصف هاجر (الأم) عندما تراقب قدميه لترى متى تصلان حتى الباب أو مراوغة الجدة ضوء الفانوس ليستطيل الظل على طول المكان. وينقطع التجوال في عوالم عواد وتفاصيله الذاتية والعائلية فلا يبدو أقلّ أهمية أو مختلفاً عن اتجاهات شاهين، أو هوية الخطاب الروائي في دابادا. لقد وسم المؤلف كل شخوصه بسمة الاختلاف: شاهين وعواد ومحمود وحلاب ومسعود، عزيزة مختلفة عن كل النساء، شرار الكلب مختلف عن الكلاب، والحمار قندس تقريباً. وبالنتيجة أن (دابادا) عموماً مختلفة في المدونة الأدبية والثقافية العراقية والعربية.

معمار السرد
أقام مملكته الذهنية على أنقاض مستوطنة آشورية على حافة دجلة بالقرب من قريته [سُديرة] إلى الجنوب من نينوى. (منحدراً إلى جنوب القرية حيث وادي سدرة. ساحة الطفولة، مدرسة الشتائم... ثمة سدرة وحيدة في قعر المكان الجدب، وقد أعطت المكان شرف التسمية... كانت السدرة بمثابة مخزن لتلك الاختراعات، لأنها ستحطم من قبل الرجل التقي على اعتبار أنها أصنام، فيضطر الصغيران، عواد وشاهين، إلى الحلم بدخول سلك الشرطة)ص11- 12. لكن الإشارة إلى دالتي المكان والتاريخ، هنا، لا تعني بحال تاريخاً أو نفساً تاريخياً في السرد، وهي في روايته الثانية أكثر وضوحاً من الأولى. نصوص حسن مطلك افتراضية فنتازية أقرب لأفلام الـخيال العلمي [Fiction] . ميزة حسن مطلك أنه يقدم نفسه مؤلفاً وليس سارداً، وكما سبق، مفكراً منظراً أكثر منه أديباً وروائياً. وحسب النظرية الكلاسيكية في العمل الفني فأن حسن مطلك وإن سوّّغ صيغة المضارع في زمن السرد، فأنه (الخالق) العارف المسبق بكل مجريات النص. ودابادا.. صورة أخرى عن قصة الخليقة التي اجتهد مؤلفون كثر في توصيفها، أبطالها آدم ونوح وشاهين، وزوجات وعلاقات نسب. ليس من المهم هنا معرفة درجة العلاقة بين (سديرة) القرية البسيطة الفقيرة ومملكة حسن مطلك القائمة على المدينة الآشورية المجاورة لها. المهم هو رؤيته الفلسفية/ التاريخية/ الفكرية لصورة المجتمع الإنساني في تمرحلاته واستحالاته ونزعاته. ومن جماع تلك الرؤى ، تتكشف خيوط الخطاب السياسي للنص. وهو الذي يكون أكثر وضوحاً في روايته الثانية (قوة الضحك في أورا) عبر شخصية الإنجليزي (سارق الآثار)، متجهاً من العام إلى الخاص، ومن المحلي إلى العالمي (شرق ـ غرب)، ومن الفلسفي إلى التاريخي، ومن الوجودي إلى السياسي. لغة حسن مطلك لا تطرح أسئلة ولا تدعي تقديم أجوبة. لكنه في مكانة الخالق الذي يعرف كل شيء، يمرّ أمامه كالبدهيات، التي تصفع القارئ في سلسلة متصلة من سرد غرائبي يقطع النفس. بالتعبير المعماري اتخذت البنية السردية للرواية شكل زقورة، الممثلة بقاعدة عريضة مرتفعة عن الأرض، تتراكب عليها مستويات بنائية تالية أو طبقات لاحقة تعطيها شكل بناء متعدد الطبقات أو الطوابق يأخذ بالتصاغر مع تعدده وارتفاعه دون أن يخرج عن إطار البناء أو لغته المعمارية. وغير بعيد منه، يمكن تصوير البناء الروائي على هيئة باب رئيسية تنفتح على أبواب داخلية متداخلة يقود كل منها للآخر، حسب تعبير الشاعر الشاعر الشعبي نائل في قصيدته الشهيرة [زغيرة وما تعرف تحب] : دك باب الشعر تنفتح منه أبواب/ كل باب التفكهه بيه ألف كتاب/ جرّ اكتاب شوف شتكتب الكتاب/ ال يون تالي الليل هلبت إله احساب. وقد وردت الأبواب المتداخلة هذه في صورة أخرى لدى الشاعر عدنان الصائغ كناية عن تعدد التابوات أو العراقيل التي حالت وتحيل بين الشاعر/ الإنسان ونفسه في هذا الزمن. أطرقُ باباً / أفتحهُ / لا أبصرُ إلا نفسي باباً / أفتحه / أدخُلُ / لا شيءَ سوى بابِ آخَرَ / يا ربِّ / كم باباً يفصلُني عني . ـ مجموعة (تأبّط منفى) ـ إذا كانت (دابادا) رواية غير عادية، فأنها تقتضي قراءة غير عادية. قراءة مركبة متعامدة وأفقية، متحررة من أية أفكار أو قناعات مسبقة للدخول في عالمها واستيعاب صورة العالم والمنطق كما تجسده هي وليس كما تعارف عليه القارئ من قبل. (دابادا) مدرسة لتخريج قراء غير عاديين، وبالتالي عقل عراقي متحرر ومتجاوز، لا يقع تحت ـ (أو) في شراك أي سلطة أو منظومة فكرية أو اجتماعية خاوية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تم اعتماد النسخة الإلكترونية الموجودة في مكتبة (أفق) الإلكترونية في هذه الدراسة.
*صدرت الطبعة الأولى من (دابادا) في بيروت عام 1988 والطبعة الثانية في القاهرة عام 2001. والطبعة الثالثة في بيروت عام 2006.
*عبد الأمير جرص، مجموعة (قصائد ضدّ الريح)، د. ت. بغداد.
*عدنان الصائغ، مجموعة (تأبط منفى)، السويد 2001.
*حسن مطلك (1961 ـ 17/7/ 1990)، بكالوريوس علم نفس (1983)، عمل مدرساً، له روايتان [دابادا/ قوة الضحك في أورا]، ومجموعة قصص وديوان ومقالات ورسوم. اعدمه النظام لاشتراكه في محاولة انقلابية.
*تمثل هذه القراءة استمراراً، وتطبيقاً، لما ورد في [نزعات وجودية في الأدب العراقي] للكاتب نفسه، وغير منقطعة الصلة بالفصل الخاص [من الثورة إلى الحداثة.. مدخل إلى قصيدة السبعينيات العراقية]، [نظرية التوازنات الأفقية والعمودية في رواية (دابادا) لحسن مطلك]، خدمة لتكامل القراءة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (العرب) بتاريخ 25/12/2006م لندن.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

تحياتي للأخ الأديب محسن الرملي...ودعائي بالرحمة والغفران للشهيد الأديب حسن مطلك......عرفته زميلا وأديبا شابا مليئا بالوعي والثقافة... رحمه الله..ثم شاءت الصدف بعد عشرين سنة أن أكون عضوا مناقشا لرسالة جامعة لأخ عبدالرحمن عن أدب حسن مطلك...وكم كانت فرحتي عارمة وصادقة بالمناسبة... فنال مني الموضوع والباحث الآستحسان والتقدير...