05‏/10‏/2009

قراءة / عبد عون الروضان


قوة الضحك في أورا للقاص الراحل حسن مطلك

توظيف الأسطورة وتحريف المتن

عبد عون الروضان

بعد روايته الأولى (دابادا) الصادرة عام 1988 التي اعتبرت نقلة نوعية في الكتابة الروائية العراقية، كتب الراحل حسن مطلك روايته الثانية (قوة الضحك في أورا) عام 1987 أي قبل أن تصدر روايته الأولي لكنه لم ينشر تلك الرواية الثانية أو لم يتسن له نشرها إذ رحل بعد وقت قصير من صدور روايته(دابادا) تاركاً مخطوطة (قوة الضحك في أورا) وراءه وقد استطاع أخوه الكاتب محسن مطلك الرملي قراءتها وتتبع (إشاراتها ومخططاتها التي كان المؤلف يضعها أثناء إعادته المتكررة لكتابتها) وأن ينشرها عبر دار الدون كيشوت للنشر والتوزيع، في سوريا وقد صدرت طبعتها الأولي في دمشق عام 2003 وتقع في مائة وأربع وأربعين صفحة من القطع المتوسط.
سنتناول هنا جانباً واحداً من جوانب الرواية وهو استثمار الموروث الشعبي والأسطوري.يعد هذا الاستثمار والتوظيف اتجاهاً واسعاً في الرواية العربية والعالمية وقد تراوح هذا التوظيف والاستثمار بين الإجادة وعدمها وعلي درجات متفاوتة فالاشتغال علي استثمار التراث أو الأسطورة في الرواية وحده لا يعد كافياً لتقديم منتج روائي عالي الجودة يستطيع أن يفرض نفسه وأن يسحب المتلقي إلى منطقة القراءة الواعية، أي بإنتاج نص بفضاءات مفتوحة ومديات رحبة تتيح الفرصة لكشف رؤية الكاتب بعيداً عن النمطية شرط المحافظة علي القيمة العليا للنص كجنس سردي متماسك.
إن محاولة نسخ الأسطورة أو الموروث وإلصاقهما بالعمل الروائي دون تمثل أو إغناء، أي الاكتفاء بالتلقي دون الوصول إلى قراءة جديدة مستندة إلى جهد معرفي، إن محاولة كهذه ستكون لا شك عقيمة لا تخلق رواية مكتملة الأبعاد ذات رؤى واضحة المعالم وهذا يعني بالتالي أن على منتج النص أن يتعامل مع الأسطورة أو الموروث علي أنهما مواد خام ولا بد أن تكون في أي مادة خام كنوز لا تعطي نفسها إلا بعد تعرضها ربما إلى حرارة عالية أو جهود مضنية من البحث والتنقيب من أجل الكشف عن تلك الكنوز ومن ثم إعادة تشكيلها وصياغتها وإثرائها وتقديمها داخل النص برؤى مغايرة حيث لا يتبقى منها إلا الجوهر المستخلص بعناية ودرجة حرفية عالية عبر عملية التمثل للمتن الأسطوري أو الموروث نحو إنضاج المعرفة بوعي.
لقد استفاد حسن مطلك في روايته (قوة الضحك في أورا) من الموروث نحو خلق نموذج روائي متميز من خلال المثول الأسطورية والشعبية في عملية تداخل وتماه واعية لم تخلف ورائها إلا رموزاً وعلامات دالة تشير إليها ضمن حالة إنتاجية هي الاقتباس البعيد عن عملية الاستفادة الآلية من المقروء.
كان أول ما لجأ إليه الروائي هو أسطرة المكان، أي خلق مكان أسطوري مؤسس على متن سابق متمثل في الذاكرة عبر تراكمات وترسبات (أورا). هي لا شك (نينوي) عاصمة الآشوريين حيث عاش الروائي الراحل في مدينة الموصل القريبة من أطلالها وآثارها. لكن (أورا) ليست هي (نينوي) فهي تختلف عنها كثيراً، لم يبق منها في المكان الأسطوري الجديد سوي إشارات ورموز ومسميات ظلت حاضرة في الرواية. لكن هذا المكان الجديد بدوره تجرد من أبعاده المتعارف عليها وتحول إلى فضاء يختلط فيه الزمان بالمكان فهو زمكان.. حيث يعرف حسن مطلك أورا في توطئته بقوله:(أورا هو كل مكان لم أره، تاريخ مفتعل، بل رقعة ألم تأخذ شكل القبر لأن المعادل الكلي لما قلت هو الموت المخيف والرفس ومحاولة الهرب إلى مكان بلا ذكريات وليس(أورا) إلا ذكريات جارحة كبرت فتحولت إلى كوابيس..) الرواية ص5. فأورا إذن تاريخ = زمان، رقعة ألم تأخذ شكل قبر = مكان، وذكريات = زمان (ملاحظة اعتراضية: في توطئته هذه يعرف الروائي أورا بقوله: هو.. ثم وليس (أورا) أي يحيلها إلى مذكر، لكننا نراه لاحقاً يحيلها إلى مؤنث: انفتحت أورا أمامي ص9) أورا ليست كغيرها من المدن بل هي أسطورة تقع بين المخيلة والواقع التاريخي الذي لم يبق منه سوي المعبد الآشوري ودكة العرش التي تغوط فوقها أحدهم ممن جلب نقمة المستر أوليفر الآثاري فجمع رجال أورا وراح يعنفهم وصمم على أن ينقلهم من حالة التغوط في أي مكان إلى إتمام العملية في حفر خاصة معدة لهذا الغرض رغم سخرية زوجته وضحكها منه. وأورا (وقعت من السماء عبر السحب الخضراء المتجلدة علي رأس أحد صيادي الأسماك فلم تتحكم بشكل كلي لأن بعض بيوتها قد انغرست في رمل الحافات اللدن) الرواية ص 26. وديام الراوي العليم عاد إلى أورا من البرية حيث القحط ثم تآلف (مع المكان مع انه مسكون بعظام آلاف الجنود، تلك التي يستخرجها سيل المطر) الرواية ص 12. ولأورا قانونها الخاص (كي تكون رجلاً عليك أن تسعي إلى تصغير رجولة الآخرين لتبقي الرجل الوحيد فتصبح وحيداً في المجابهة) الرواية ص75. وهي (بقعة مناسبة للموت) الرواية ص74.
هذه هي أورا التي يدهمها الطوفان القادم إليها من منطقتي الباز والبغاز، وهي كما أظن، مكانان حقيقيان في الموصل لكن الروائي رحلهما في المخيلة وحولهما إلى رمزين للخراب والتدمير بفعل الطوفان الذي يكتسح أورا مثل طوفان نوح، لكن المؤلف انحرف بالمتن، فالطوفان هنا لم ينشأ عن فوران التنور كما في القرآن الكريم بل كان المطر هو السبب، المطر الذي سقط بلا انقطاع وقد تسببت الأمطار في أن (تستيقظ أورا بصرخة ملأت أنحاء المكان علي مشهد مروع لجماجم تتدحرج وعظام آدمية في الطرقات وأفنية البيوت غير المحمية بأسيجة من جهة الآثار بما في ذلك بيتنا الذي كان نصيبه ثماني جماجم) الرواية ص25. ثم انحدرت المياه من منطقتي (البازل) و(البغاز). لكن الروائي وهو يستعير أسطورة الطوفان البابلية وقصة نوح في القرآن الكريم لم يعمد إلى ذلك مجرداً من وعي مسبق وبدون قراءة متمعنة بل فعل ذلك عبر قراءة وتمثل ليعطي منتجاً لا يمت إلى المتن أو المتون إلا من خلال رموز مشتركة وإشارات بعيداً عن مصادر المتن في عملية تخليق واعية للأسطورة والنص القرآني، فعمد إلى تحريف المتن، فنوح إذ أرسل الغراب فعاد إليه بعد أن لم يجد أرضاً ثم أرسل الحمامة فعادت وهي تحمل غصن زيتون علامة على عثورها على اليابسة، بينما الأم في قوة الضحك في أورا أرسلت القطة (لمعرفة مستوي الماء في الظلام لكن القطة قد عادت وما كانت لتعود لو لم يكن الطريق مغلقاً بالماء) الرواية ص33. وديام يقول: (هذا نوح وأبي معصوم من الماء عند أوليفر)الرواية ص32. تناصاً مع الآية الكريمة: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، بعد أن دعا نوح ابنه ليركب معه في السفينة لينجو من الغرق.
ويواصل الماء ارتفاعه وتحديه ويكتسح كل شيء (بلغ الماء حافة السماء فرفعنا أيدينا إلى الماء ثم تراجعنا خطوة نرفع أيدينا تراجعنا خطوتين فصرخت أمي: ويلي.. سنتحول إلى طين)الرواية ص28. وتحاول الأم بمساعدة ديام أن تقوم بعملية إنشاء سد في وجه الفيضان، ويتكرر رمز القطة مرة ثانية حين تنادي: (اسمعي يا قطة قومي لنصنع سداً حول البيت) الرواية ص34. فينبري ديام قائلاً: (ميو يا أمي... فقمت لأصنع معها سداً حول البيت من جهة الفيضان) الرواية ص35. والسؤال هنا: هل القطة هي لفظة تدلل بها الأم ولدها ديام فأرسلته ليعرف مستوي الماء وعاد بعد أن رأي اتساعه في كل مكان وقالت عنه القطة أم أن القطة حقيقية في مجال الأسطورة؟ والسؤال المتولد هنا: لماذا أرسلت القطة ولم ترسل الدجاجة أو الكلب أو البقرة مثلاً؟ ربما لأن القطة هي الحيوان الأكثر التصاقاً بالعائلة في البيت وربما ذلك تأسيسياً على أسطورة أخرى متداولة ضمن الموروث الشعبي بالقول أن القطة لها سبع أرواح فهي إذاً الأقدر علي القيام بمهمات خطرة كالكشف عن مدي اتساع الماء أو القيام بإنشاء السد، وربما أن الأم أطلقت هذا الاسم على ابنها من هذا المدخل.
وتعمل الأم وحدها دون ديام الصغير غير القادر علي حمل المعول، لكن الفيضان لم ينحصر ولم يفض الماء هنا يولد الجد في الصباح (وسلم نفسه قائلاً: خذني يا ماء... خذني ما....) الرواية ص 36، لقد ولد الشيخ في الماء ليضحي بنفسه حتى يتوقف الفيضان تناصاً مع الأسطورة المصرية القائمة علي التضحية بفتاة للنيل الغاضب لوقف الفيضان المدمر، لقد ضحى الشيخ بنفسه بصورة تراجيدية حيث يقول ديام: (وأضفت من عندي: إنه بدأ يرقص وهو عارٍ ثم سلم نفسه للنهر ضاحكاً) الرواية ص 37.
الرواية بعد ذلك مشحونة بالرموز والإشارات المتناصة مع أساطير وميثولوجيات مختلفة لعل أبرزها أسطورة الفحل التي يمثلها أدهم الحداد الذي قام بإخصاء نفسه بنفسه، ربما احتجاجاً علي إصابته بمرض أدي إلى تورم خصيتيه وخوفاً من الفضيحة إن هو عرض نفسه على طبيب، لذا قطع خصيته بنفسه وكان لهذا الإخصاء أثره في انقلاب معادلة علاقته مع ولديه ياسين ومطلق الذين كانا يهابانه ويخافانه ولا يجرئان علي مواجهته، كذلك كان الجميع يفعل، إلا أنه بعد أن قام بفعلته تلك تمرد عليه الولدان وراحا يستهزئان به حتى أنهما كانا يضعان قدح الشاي علي صلعته دون أن يجرؤ علي الحركة خشية أن ينقلب القدح.
الرواية زاخرة بما يغري بالكتابة عنها.. وربما نعود في فرصة أخري لنتناول جانباً من جوانبها الكثيرة والمتعددة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في جريدة (الزمان) العدد 1796 بتاريخ 2004 - 4 - 29
*عبد عون الروضان: كاتب عراقي يقيم في الأردن.
Abdawnarodan@yahoo.co.uk

هناك تعليق واحد:

saminkie يقول...

شكراً لهذه المدونة التي لا غِنى لقارىء أعمال حسن مطلك عنها، ففيها أجد مكتبة خلفية تفسيرية تساعدني على اكمال القراءة الصعبة، لكن الممتعة والمفيدة في نفس الوقت، لرواية "قوّة الضحك في أورا" التي لم اصدق بان كاتبها عربي، عراقي وذلك بسبب بقايا شعور النقص الذي يعتريني من هويتي بين فينة وفينة.
حالياً أنا في بغداد، في ال31 من عمري، واقوم بأكتشاف هذه الرواية ويبدو انها من الروايات التي تغير من لون النفس السائدة لتضيف عليها بعض أصالة لهويتها وبعض روائح أصيلة لكتاباتها... ستكون رواية أورا نقطة بدأ لي لأكتب بالعطور وأقرأ بالطين

شكراً وآسف لشطحاتي