09‏/02‏/2009

قَص / إبراهيم آل إمحمود


حسن مطلك .. واقفاً،

ما ضَر لو كان جلس!

إبراهيم آل إمحمود


واقفاً وجامداً وبارد كقالب ثلج، لكنه يأبى أن ينحني في حفرة القبر. الخوف يملأ المكان لان ثوار المقاعد والجرائد خائفين يلحون أن نسرع في ردم الحفرة وهو لا يقبل الانحناء ويضحك رغم أن الموقف محموم ومخيف وربما مرعب. علت الأصوات للإسراع بتلافي الموقف. كان يضحك ويسأل عن سيفه الذي نشره على حبل الغسيل كي يجف. جاء صوت أحدهم هامساً: لن تستطيعوا أن تجبروه على الانحناء فهو عنيداً كجلمود صخر حطه السيل من علي، لكني أدلكم. وأشار بإصبعه تجاهي فتحركت العيون والتفت الرقاب... والتقت العيون. كانت عيوني دامعة، حزينة، منكسرة لكن عيونه.. كانت حادة وملتهبة وقوية. وخرجت كلماته من سبابته المرفوعة باتجاه المنطقة الوسطى ما بين كبد السماء والأفق قائلة:
ـ راقب سيفي الذي نشرته على حبل الغسيل، فإذا جف ارفعوا دابادا واحتكموا عند دلهوث كي يتوقف الضحك في أُورا.
قال ذلك وانسل إلى الحفرة لكني لم أعد أرى شيئاً لأن الظلام غطى المكان، ولا أدري؛ هل لأن الدمع ملأ عيوني أم أنه غبارهم وهم يهيلون التراب في القبر، أم أني دخلت القبر معه!.
كان نقاشاً عاطفياً محموماً وأنا منفعل وغاضب على إشكالية ضياع المصطلح، لكنهم غادروا، وأنا أودعهم معتذراً عن الانفعال وعن تجاوزي لحدود الاحترام باستخدام مفردات قد تُفهم غايتها المساس بالشخوص وتوحي بغاية التشهير والإهانة. وهم يدّعون أنهم يفهمون قصدي ولن يذهب فكرهم شططاً. شكرتهم لحسن ظنهم ونسيت جسدي واقفاً ولم أفطن للوقت.... تناولت مغيّر القنوات ويدي المنفعلة تضغط الأزرار، لكنها توقفت. يرتدي سترة زرقاء وقميصاً عسلياً وربطة عنق رمادية، لم يكن شعره ممشطاً لأنه قد قصه كثيراً فبدا كفروة أرنب منزلي. كلماته مختارة بعناية لكنه منفعل، يحاول إشعارك بمظلوميته رغم أنه متماسكاً ولديه دراية ثقافية فيما يطرح.. الآخر أطال شعره فغطى أذنيه، أزال شاربيه ولحيته فبدا فمه ممطوطاً قليلاً، يرتدي قميصاً كحلياً من غير أكمام، جلسته محدودبة ينظر إلى الأعلى قليلاً كأنه قط يتوثب. كان يصنع ابتسامة بين الحين والآخر، لكنه يجيد الحوار بموضوعية. بقيت مشدوداً إلى حوارهم، لكن إشكالية المصلح بقيت هي السائدة. وفجأة حل الظلام كون التيار الكهربائي قد انقطع. والوقت قد جاوز منتصف الليل بساعتين. سحبت جسدي، حيث الوسادة والغطاء، وحاولت أن أنام. وسادتي كانت مُفَخَّخة.. فانفجرت. كان واقفاً وسبابة يده اليمنى تشير إلى زاوية السقف، ولم أفهم قصده.. هل أنه يقول الشهادتين كي أقولها بعده؟.. أم انه يشير إلى شيء ما في زاوية السقف؟.. أم أن سيفه الذي نشره على حبل الغسيل قد جف؟.. فيا لي كسبابة .... صوته جاء واضحاً رغم الظلام يقول:
ـ شممت رائحة الدم في القبر فتحسست رقبتي. لا زال أثر حبل الشنق عليها، لكن لا دم، فتحسست صدري، مضخة القلب لا تعمل. حاولت أن أتحسس أقدامي، لكن حفرة القبر ضيقة وتحول دون ذلك. أحسست بدم بارد يدخل أنفي. لم يكن أي سائل آخر لأنه لزج ورائحته تزكم أنفي، لأنه بارد. أخذ يضيق القبر عليّ فنقضته وخرجت، لكن لم أنحني ولن أنحني ثانية حتى لو تخاصمنا أنا وأنت. كانت الأرض ملطخة بالدماء ومملوءة بأشلاء محروقة، رائحتها تزكم الأنوف. وأنا مبهوت فيما أرى أرضاً قاحلة، عيون مذعورة ودامعة. أقدام تضرب الأرض بغير هدى، أصوات عجلات ثقيلة تسحق الأرض، انفجارات تصم الأذان، نافورات من الدم باتجاه السماء المكفهرة بالغبار والغيوم.. لكنه ظهر وسط هذا الضياع يرتدي قميصاً ملطخاً بالدماء، شد على وسطه حزاماً علق فيه حبلاً وقنبلة يدوية ومسدس، علق على كتفه الأيسر سلاحاً لم أتبين نوعه لأنه وراء ظهره، يحمل في يده اليمنى مدية طويلة يلمع الشر منها كونها حادة ولامعة ومسننة كالمنشار. وقبل أن اسأله ردد آية: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }التوبة9. ملثماً بكوفية متربة.
قلت: ما هذه الدماء ؟
قال: دماء العملاء.
قلت: العملاء مَن.. ومِن أين جاءوا !؟
قال: عملاء الكفرة والأمريكان.
قلت: هل أنت منهم ؟
قال: حاشا لله أن أكون من الجاهلين.
قلت: أنت مع مَن ؟
قال: مع المجاهدين.
واختفى.
قلت كان واقفاً وسبابة يده اليمنى تشير إلى زاوية السقف، وأن صوته كان واضحاً رغم الظلام عندما سأل عن سيفه الذي نشره على حبل الغسيل.
فقلت: هل لا زلت تمسك مديتك من النصل؟
نشر أصابعه الخمس وهو يقول: ألا ترى الجراح تنزف من راحتي وأصابعي؟
قلت: منذ أن نزفت راحتك ونحن ننزف ونعاني من إشكالية المصطلح، فهل أنت خائن أم مناضل؟ هل هو مجاهد أم عميل؟ وهل أنا وطني أم انتهازي؟ وهل هي مدعيّة أم صادقة؟ أجبني يا فيلسوف الإشكالية؟. لقد ضعنا بين هذه وتلك.......!!؟!
قال: هل احتكمتم إلى دلهوث؟
قلت: إن سيفك لم يجف على حبل الغسيل لأن عبوة ناسفة زرعت تحته فاحترق وأصبح رماداً تذره الرياح
قال: عليكم أن تركضوا خلف أرنب..... مبقع يأخذكم إلى دلهوث كي ينقل الكرة الأرضية إلى قرنه الآخر.
وغاب.. ومؤذن الصباح يقول (الصلاة خير من النوم).


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* * *

قبر حسن مطلك في قريته

إضاءة لنص (حسن مطلك .. واقفاً، ما ضر لو كان جلس!) :

إشكالية المصطلح



إشكالية المصطلح أو ضياع المعنى هو الخيط الذي يربط القصة لكنها استذكار للأديب حسن مطلك متكئة عليه كونه فنان تشكيلي وقاص وروائي وفيلسوف . بدأت بموقف واقعي بعد إعدامه في عام 1990 من قبل الدكتاتور وفي لحظة إنزال جثمانه في القبر حيث سقط من الأيدي وبقى واقفا مما اربك الموقف والحضور. حيث أخذت هذه الإشكالية وبدأت القصة عنوان القصة طويل ويتكون من مقطعين ويقصد إثارة إشكالية هي في القراءة حيث ان بعض القراءات تشوه المعنى ان لم يكن اللفظ وإكمال الجملة والوقوف وإخراج الحروف من مخارجها بشكل صحيح متكئا على القران الكريم وتأكيد على الوقف خلال القراءة . فعنوان القصة يجب قراءته بـ(حسن مطلك واقفا)، (واقفا ما ضر لو كان جلس) استخدمت القصة جملا جاهزة أي استخدام التنصيص وذلك لإثارة المتلقي وجعله يشارك في إكمال نواقص القصة أو إضافة صور أخرى تجعل من المتلقي فاعلا مع العمل لا منقادا وراءه. العنوان يطرح قدم هذه الإشكالية عند العرب وخاصة الأدب وبما أن أغلب الأدب العربي في عصر ما قبل الإسلام هو الشعر وانهم كانوا يلزمون الشعراء وهم الناطقون الرسميون باسم العشيرة هؤلاء الشعراء كان لديهم إشكالية الوقوف على الأطلال عندما يبكون الأحبة والديار وكأنها طقوس وثنية وكمثال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول وحومل
لكنهم اكتشفوا أن هذا الإلزام بالوقوف عند البكاء هو إشكالية تشوه الاستهلال من كثرة تكراره قالوا كمثال:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس
ولان العرب أمة ارتجال وارتحال وحروب وكلام كان لمفردة الوقوف تداخل في دلالات المعاني فمرة يعني الصبر والجلد وأخرى يعني الموت بعز وأخرى يعني التحدي فلو تتبعنا معاني كلمة الوقوف في الشعر والموروث لوجدناه لغة بحالها وكمثل:
وقفت وما للموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
لذلك سنلاحظ تكرار واقفا في القصة وخاصة لحسن مطلك مستعيرا جميع معانيها ودلالاتها واعتبارها رمزا من رموز القصة وسلاحا لحسن مطلك ضد الآخر بكل صوره المنبطحة والمائعة والهاربة.
القصة تبدأ بالوقوف حيث يكون جثمان حسن مطلك واقفا وجامدا وبارد. هذه الكلمات الثلاث تسحب المتلقي إلى الصور الفيزيائية في الجسم وخاصة بعد الكاف في قالب ثلج لكنه سوف يصطدم بعد إكمال القراءة من أن هذه الصفات ليست فيزيائية ولا حتى كيمائية لكنها تعطي الضد في المعنى أو المرادف للمعنى يكون كذلك من خلال الصورة اللاحقة (يأبى أن ينحني في حفرة القبر) إذاً فهو لم يكن جمودا فيزياوياَ كونه يأبى والإباء من الفروسة وامتلاك الحياة.... صورة الخوف الذي يملأ المكان وهو لا يقبل الانحناء.... ويضحك.. الضحك هنا دلالة على برود الأعصاب أي انه ليس بموقف عاطفي عاجز بل انه بوقف عقلاني يتحكم به ولأنهم (ثوار المقاعد والجرائد) وهنا تنصيص آخر مستعار من سميح القاسم شاعر فلسطيني حيث يقول:
"وأخاف يا أمي / أخاف يا أمي من ثوار المقاعد والجرائد والمقاهي."
هنا إشكالية في المصطلح وإشكالية في الوقف في هذا الموقف المحموم يطرح حسن مطلك إشكالية فنية وهو يضحك هذه الإشكالية في سؤاله عن سيفه الذي نشره على حبل الغسيل . لقد وضع إشكالية للموقف عند رفضه الانحناء في حفرة القبر وأثار إشكالية أخرى هي نشر السيف على حبل الغسيل ليقول أن عدم تحقيق أهدافه ليس لخور به بل لإشكالية كانت في الوسيلة أما هو فلا تنقصه الشجاعة والإرادة وكي أوضح هذه الإشكالية الفنية هي ان حسن مطلك كان يحدثني في حياته عن لوحة فنية ويرسمها لي على الورق يتحدث بها عن استعارة المعاني بين الأشياء ليصنع منها رمزا فيذكر مثلا أن الحبل لا يمكن ان يقف كالسيف في الهواء ما لم يكن مستندا على شيء . حائط شجرة أو عامود أو أن يدا ترفعه مثلما لا يمكن أن نضع الرمح أو السيف أو الأشياء الجامدة على الحبل كونها تتأرجح . فكان حسن مطلك يرسم لي الحبل واقفا في الهواء كأنه أفعى. ويرسم السيف معلق على حبل الغسيل مثل قطع القماش الأخرى. فهذا قميص منشور وجورب وسروال وكوفية وسيف.
في هذا الجو المليء بالإشكاليات والأحداث ينبثق صوت راوي جديد في القصة وهو غير الراوي الأول (وجاء صوت أحدهم هامسا) ورغم ان الصوت كان همسا لكنه استطاع أن يسمع الجميع عندما قال (لن تستطيعوا أن تجبروه على الانحناء) كون الراوي الجديد يعرف حسن مطلك هو الآخر من خلال قوله (فهو عنيد) واستعار عجز لبيت جاهلي وعلى المتلقي ان يسارع في البحث عن صدر لهذا البيت من هنا يدل على ان القصة قد رسمت كل الأشياء كي تصل إلى نهاية مرسومة وان المتلقي عليه أن يتوخى الحذر وان يبحث في الدلالات في هذا العجز والمعاني في ذلك الصدر (كجلمود صخر حطه السيل من علي) ولو قرأنا كامل البيت:
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من علي
الشاعر يصف حصانه ونفسه في ساحة الحرب. الراوي الجديد أراد هو الآخر أن يقول مثل حسن مطلك أن الوسيلة هي المسؤولة عن الفشل أما الفرسان فهم مثل الفارس وحصانه. وان هذا الراوي قام بتأبين الشهيد حسن مطلك بشكل رمزي أسطوري عبر عجز البيت وهو يستحق هذا التأبين لأننا إن استعرنا معاني القصيدة فهي تصلح لتأبين حسن مطلك لكن إشارة الراوي بإصبعه نقلت الموقف إلى إشكالية أخرى أولها عودة الراوي الأول لان العيون تحركت باتجاه المشار إليه والرقاب التفت إلى حيث الإشارة. لكن المشهد قد توقف كون العيون قد التقت عيون كل الحضور بما فيها عيون حسن مطلك. ويروي لنا الراوي الأول قائلا (كانت عيوني دامعة حزينة منكسرة لكن عيونه كانت حادة وملتهبة وقوية) هنا صورت عيون الراوي منكسرة وعيون حسن مطلك (عيون الراوي دامعة حزينة منكسرة) أي أن الموقف قد اخذ منه فبدا واهنا ومغلوبا وربما ميتا لكن الصورة الأخرى لعيون حسن مطلك هذه الصورة الفيزيائية للعيون حيث الحدة والالتهاب والقوة تعني أن حسن مطلك قد امتلك الحياة ولم يذعن للموت ولو حولنا الصورة الفيزيائية إلى صورة رياضية فكل الأشياء الحادة تبدو حية بينما الأشياء المتكسرة تبدوا ميتة كل الأشياء الملتهبة هي حية كونها متقدة إذا اكتملت الصفات الفيزيائية والصفات الرياضية في عيون حسن مطلك لتعطي الحياة.. أما خروج الكلمات من السبابة المرفوعة باتجاه المنطقة الوسطى ما بين كبد السماء والأفق فلها دلالات رمزية كثيرة تبدأ من الاتجاه إلى المنطقة الوسطى لتعني تشهيد الحضور بمراقبة السيف المنشور على حبل الغسيل وتكليفهم بالأمانة أمام الله برفع دابادا فوق السيف عندما يجف والاحتكام عند دلهوث كي يتوقف الضحك في أُورا لأن (شر البلية ما يضحك).
عبارة (ارفعوا دابادا واحتكموا عند دلهوث) هي تذكير بإحدى الإشكاليات في تاريخ الأمة الإسلامية وهر رفع القرآن على أسنة الرماح والبحث عن الحقيقة بواسطة التحكيم (العقل) وفشل دور السيف لكن ذلك فقط لكسب الوقت ثم عادوا وتلك هي حرب صفين والجملة وماشيه الليلة بالبارحة إنها صفين جديدة.
لكن الراوي ينهي المشهد بالظلام ولم يعطي سببا واحدا بل انه اعتقد انه بسبب الدمع الذي ملأ عيون الراوي حال دون رؤيته بقية المشهد. ومن ثم تدارك الموقف وقال ربما أن الغبار قد دخل في عيونه وهم يهيلون تراب القبر وعندما لم يستطع أن يجزم في أن أي السببين قد حال دوت إتمام مراقبة المشهد اعتقد انه قد دخل القبر مع حسن مطلك لذلك لم يتمكن من إكمال المشهد لكن الراوي يعود مرة أخرى ليروي لنا نقاشا عاطفيا وانه منفعل وغاضب بسبب إشكالية المصطلح أو ضياع المعنى وانه خلال توديعه لضيوفه كان يعتذر عن انفعاله ويخشى من انه قد تجاوز حدود الاحترام. وعند ذهاب الضيوف قد نسى جسده ولم يفطن للوقت ولا ندري كم من الوقت قد استغرق نسيانه لجسده واقفا. لكن يبدوا أن ذلك لم يستغرق أكثر من خمس دقائق والدليل على ذلك هو أن يده كانت منفعلة خلال تغييرها القنوات وضغط الأزرار لنفاجأ به يوقف اليد المنفعلة عن ضغط مغير القنوات لتنقلنا إلى حالة جديدة أو إشكالية جديدة بان يبدأ بوصف شخص بشكل دقيق من الملابس إلى فروة الرأس والانفعال والأفكار وكأنه يعرفه قديما أوانه كون عنه صورة تحليلية قد تبدوا خيالية ولها علاقة كبيرة بما طرح خلال المناقشة والتي لا نعرف الزمن الذي استغرقته واغرب ما في ذلك هو (كلماته مختارة بعناية لكنه منفعل) إشكالية نفسية وعدم وضوح في الدلالة (يحاول إشعارك بمظلوميته رغم أنه متماسك ولدية دراية ثقافية بما يطرح) هناك تناقض شديد بين الطرح الأول والطرح الثاني فهذا (شعره طويل ويغطي أذنيه أزال شاربه ولحيته) وصف شكل الرأس أولا ثم انتقل إلى وصف الملابس (جلسته محدودبة كأنه قط يتوثب)، (كان يصنع ابتسامة يجيد الحوار بموضوعية) من خلال قراءة الشخصين يبدوا الأول غامض فكريا وعمريا لكنه واضح قد لاذ بالفكر الديني لحل كل إشكالية دون أن يظهر. أما الشخص الثاني فكان واضحا من حيث الشكل أعلن انتمائه العلماني وانتمائه العمري حيث يعرف المتلقي الذي لديه دراية بأنه ينتمي إلى جيل السبعينات من خلال أمور ظاهرة هي طول شعر رأسه وحلاقة الذقن والشارب وكذلك من خلال أفكاره. فهو يجيد الحوار بموضوعية يصنع ابتسامة بين الحين والآخر ولن الراوي قد تعاطف معه رغم قول الراوي من أن (إشكالية المصطلح تبقى هي السائدة) ولاذ بالظلام لينهي مشهده رغم انه بين سبب حلول الظلام هذه المرة كون التيار الكهربائي هو السبب وحدد لنا الزمن في هذه القصة هذه المرة بشكل دقيق عندما قال قد جاوز منتصف الليل بساعتين. وانه سحب جسده والوسادة والغطاء وحاول أن ينام لكن انفجار الوسادة المفخخة جعلت حسن مطلك يعود واقفا وسبابته تشير إلى منتصف السقف في إشكالية جديدة هي لماذا يشير حسن مطلك بسبابته إلى زاوية سقف الغرفة تحديدا وليس إلى مكان آخر ليعود الراوي إلى القول هل انه يقول الشهادتين وهما (أشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمد رسول الله) وهنا يعتقد الراوي أن حسن مطلك يذكره بقولها لأنه يحتضر لكن الراوي يتدارك ليقول ربما أن سيف حسن مطلك قد جف لكنه يتدارك ليحس أن ما يراه هو ليس سبابة حسن مطلك بل سيفه... وهنا الراوي يلوذ بالظلام كي يتخلص من الإشكالية لكنه يبقي خيطا إشكاليا آخر عندما يقول (جاء صوته واضحا رغم الظلام). فاحدث إشكالات حسية فقد استبدل الرؤيا بالسمع ونقل الحواس وهذا ما سنلاحظه في لاحق القصة وهنا يستبدل الراوي دوره ليكون متلقي ويتحول حسن مطلك إلى راوي فيبدأ حديثه بحاسة الشم ليقول (شممت رائحة الدم في القبر) ليخبرنا انه يعي انه مات شنقا عندما تحسس رقبته ووجد اثر حبل الشنق عليها ليقول (أحسست بدم بارد يدخل انفي لم يكن أي سائل آخر لأنه لزج ورائحته تزكم انفي لأنه بارد) هنا سبب تكرار كلمة بارد هي إشكالية ستظهر عندما نرى الدمار والقتل وهي استعارة لعبارة (يقتل بدم بارد) أي بدون أي سبب يستمر حسن مطلك في الروي (أخذ القبر يضيق علي)، (فنقضته وخرجت) ونقض القبر هو شقه من الداخل على خلاف النفض والتي تعني إزالة ما علق في الشيء وما أن ينقض حسن مطلك قبره حتى يبدأ بتذكير الراوي من أن انحناءه في القبر كان طاعة ومحبة واحتراما للراوي ليعود إلى تذكيره بالقول (وخرجت لكن لم انحني ولن انحني ثانية حتى لو تخاصمنا أنا وأنت) ثم يعود حسن مطلك إلى روي ما قد رأى (الأرض ملطخة بالدماء ومملوءة بأشلاء محروقة ورائحتها تزكم الأنوف) واستمر بالروي معطيا بان الصورة قد تغيرت عما تركها يوم دخل حفرة القبر مضطرا.. وليزيد غرابة التغيير عندما يوصف الشخص الذي ظهر في وسط هذا الدمار ليفاجأ بضياع المعنى واختلاط الألفاظ وبروز إشكالية المصطلح بشكل جلي وواضح عندما يقول (ظهر وسط هذا الضياع يرتدي قميصا ملطخا بالدماء. شد على وسطه حزاما علق فيه حبلا وقنبلة يدوية ومسدس. علق على كتفه الأيسر سلاحا....... يحمل في يده اليمنى مدية طويلة يلمع الشر منها) ويوضح أن لمعان الشر كان واضحا من خلال كونها (حادة ولامعة ومسننة كالمنشار وفي وسط هذا الذهول يفاجأ بان هذا الذي يتأبط الشر وقبل ان يسأله يردد آية {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. تبدأ إشكالية المصطلح واضحة ومتداخلة كل يدفع باتجاه المعني الذي يريد ويؤول الأشياء ويطوعها لخدمته ويلغي الآخرين من خلال استخدام معنى بعيد عن المعنى المحدد للمصطلح وخاصة هذه الآية كونها ممكنة التأويل وان الجميع يلوذ بالمقدسات كي يصنع له غطاء يمنع الآخرين من اختراقه أي استغلال قدسية الأشياء ويكتمل ذلك في حالة الالتباس هو (ملثما بكوفية متربة) خلط كل المقدسات الوطنية الدينية كون الكوفية أصبحت رمزا وطنيا للقضية الفلسطينية. هنا يتساءل حسن مطلك قائلا ما هذه الدماء؟
ليأتي جواب الملثم وبشكل جازم قائلا دماء العملاء.
ليعود حسن مطلك متسائلا العملاء من؟… ومن أين جاءوا ؟!؟ ليرد الملثم بجواب غير واضح وفيه إشكالية قائلا عملاء الكفرة والأمريكان وهنا الواو قبل الأمريكان أظهرت الإشكالية ليعود حسن مطلك لسؤال بإشكالية أيضا وربما خبيث قائلا: هل أنت منهم ؟؟ ليأتي رد الملثم بغموض تام وإشكالية واضحة قائلا: حاشا لله أن أكون من الجاهلين. ليتأزم الموقف اكثر عندما يسأل حسن مطلك الملثم قائلا: أنت مع من؟!!!؟ ليرد الملثم بشكل سريع ويختفي عن الأنظار كونه لا يستطيع الاستمرار بالحوار بالقول: مع المجاهدين... ويختفي ليتنهي دور حسن مطلك في كون راويا للحدث لتعود القصة إلى راويها الحقيقي بقوله (كان واقفا وسبابة يده اليمنى تشير إلى زاوية السقف وان صوته كان واضحا رغم الظلام سائلا عن سيفه الذي نشره على حبل الغسيل) لكن الإجابة تكون بطرح سؤال مخالف لما سأله حيث يرد الراوي قائلا: هل مازلت تمسك مديتك من النصل؟ هنا عودة إلى رواية حسن مطلك (دابادا) وبطلها شاهين الذي حاول اغتيال (قندس) حمار المختار لكنه اكتشف بعد فوات الأوان أن يمسك بالمدية بشكل مقلوب من النصل وبدل ان تقتل المدية (قندس) جرحت يده ونجى (قندس) من الموت. لذلك نشر حسن مطلك أصابعه الخمس وهو يقول: ألا ترى الجراح تنزف من راحتي وأصابعي؟ ليرد الراوي بالقول (منذ أن نزفت راحتك ونحن ننزف ونعاني من إشكالية المصطلح.
فهل أنت خائن أم مناضل؟.. وهل أنا وطني أم انتهازي؟... وهل هي مدعية أم صادقة؟... اجبني يا فيلسوف الإشكالية.
ليختم حسن مطلك القصة بنصيحة مأخوذة من أعماله الروائية وهي أن علينا البحث عن الفكرة لأنها أشبه بأرنب بري مبقع أي أنها اقرب إلى الأسطورة تحتاج من يحل رموزها لأنها تأخذنا إلى الأسطورة التي هي (دلهوث) والتي استعارها حسن مطلك من الموروث وادخلها في روايته (قوة الضحك في أورا) لتكون رمزا للحكمة مع أنها أسطورة شعبية تقول أن (دلهوث) يحمل الكرة الرضية وربما هي مأخوذة من الفكر اليوناني التي تصور(أطلس) على شكل ثور يحمل الكرة الأرضية على قرنه وعندما ينقلها إلى القرن الآخر تحدث الهزة الأرضية ولا ادري لماذا وبماذا كسر أحد قرنيه وما الحكمة في الكسر. ولكن الذي أدريه أن القصة انتهت بعبارة (الصلاة خير من النوم) وربما هي دعوة للمواجهة ورفض النوم وربما إعادة وتأكيد البيت الشعري الذي يقول:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إبراهيم آل إمحمود: كاتب من العراق، صديق حميم لحسن مطلك ومن أبناء قريته.

مقبرة قرية حسن مطلك (سديرة)

ليست هناك تعليقات: