أوهام قبلية
نجم ذياب رمضان
اختلط العويل بالصياح والنباح. وضجيج مكبرات الصوت التي تعلن أنباء الموتى. وانتشر الخبر من فم إلى إذن فعرفت أن عمتي ماتت، رحلت عن عالمنا. تسارعت خطى المارة واكتظت الطرقات، بعضهم يحمل الخبر وتفاصيله وآخرون يحملون المعاول وعدة الحفر، فوقفت لتسري رعشة في أوصالي وتصل إلى قلبي الذي تدفق الدم منه مسرعاً إلى شراييني وقمة رأسي، وتقريراً مصوراً وشواهد من أرشيف ذاكرتي للعمة المسكينة أثلجت حرارة اللقاء الذي كنت أرتقبه مع الحنونة ذات الوجه الذي تملأه التجاعيد. حنطي مثل حنطة حقلها على التلال القريبة من بيتها الطيني المسقف بأعواد الغرب والسلماس.. أي قانون يجعلك تدفعين ثمن أخطاء الآخرين عندما كنت تحلمين بشاب يسعدك وليلة عرس مثل كل الفتيات، وكنت يافعة كنبته أشبعها شتاء دافئ بالمطر الغزير وتزهين بالنضوج وبليلة رسمت معالم قربها تلك العلاقة الشريفة وعهداً بالخطوبة والزواج وجاءت فرصة الواشي... إذ استنتج بالحقد وبالضغينة والسواد خلطة ممزوجة بدم العناكب وسبعة ألوان من خيوط ذيول الحمير النافقات، تمخضت عن ليلة اظلم ليلة من ليال المحاق وكانت جثة الوعد المكلل بالزواج تغطيها دماء على بعد اذرع لم يستطع أن يصل الطريق كي يستغيث من طعنة بين أضلاعه.
… وأخذوك أيتها العمة في عنفوانك عنوة نحو بيت اعتبروك أسيرة وبغيضة وعليك أن تصمتي، صمتاً ذليلاً لا تذكريهم بابنهم المقتول ولا بالثأر وتنسي عمومتك وأخوتك وعشيرتك... ماذا جنيتي يا ذليلة بجمالك الأخاّذ وسحر عيونك المكحلة في طبيعتها وقد سلبت من عيون الشباب كلهم أن يناموا ليلهم دون حلم بالعيون الفاتنة وسواد شعرك الفاحم الطويل ولد ليلاً داكناً مثل ليلة عرسك الكئيبة، حزناً تكشف صفحاته عيشة كأداء مرير حين أصبحت موضوع صلح بين العشيرة والعشيرة وتلك الفاجعة أن تكوني أسيرة في ظل وضع لا يلائم وضعك وزوج لا يساوي حكة إذنك وتعثرت بذيل ثوبك إذ سمعت القوم يهمسون باسمك قالوا نُضحي بواحدة لسد أبواب فتنة تأكل أبناء القبيلتين وبعضهم يرفضون حيث اقفل حكة إذنك نحو الجميلة الفاتنة هي.. هي لا غيرها ولا بدلاً عنها مقابل أخيه أو عشيرة من أبناء القبيلة يصرعون وبعد يومين سيعلن أسمائهم وتكون مجزرة أخرى.. جرحى وقتلى لم يقطفوا من ثمار المجزرة السابقة ساق شعيرة أو سنبلة....
أو انك يا خاسرة تدفعين عمرك كله وسعادتك وأحلامك لزوج ترتضين يسعدك، شاب جميل يافع من غمزة عينه قد لامس شغاف قلبك. وكنت يا خائبة أنت الضحية لا غيرك. الزوج يرى في وجهك الحنطي احمرار وجه أخيه حين اخترقت الحربة ظهره وقطعت قلبه ليتهاوى صريعاً.. وتصرعين يا عمتي المفجوعة بهذه ألف صرعة لا تريدينها ولم تخطر لك على بال وأنت العفيفة الغالية النظيفة ابنة العشرين عاماً عشرون، ألفا من الخطاب حلموا وضموا وسائد الصوف في ليلهم الطويل.. الطويل بطول خصلات شعرك المسربل الحزين.
وراحوا يحلمون ويحلمون.. حتى جاءت الفاجعة.. الفاجعة أن تصبرين وتدفعين السنين بالسنين بانتظار قبر يضمك ويريحك من عناء العمر المكبل بالحديد ثمناً لعشيرة لا تساوي دمعة تنحدر بين أهدابك نحو صحن خدك الذي أشبعته تلك الزيجة لطمات وأثار أصابع الثأر الدفين وما ذاق قبله وسمعت إذنك همسة ناعمة حنونة سوى اللعنات والسباب وكان عليك أن تسكتي ولا تتوجعي كأنك سبيّة وعندما تتألمين وتقولين ظهري.. لقد دمرتني ضرباتك المبرحة.. يقول:ـ وظهر أخي.. أتذكرين طعنة كسرت أضلاعه وفقراته..؟؟ هل نسيتي أخي يا فاجرة..؟؟ أكنت تحبينه حقاً..؟؟ ماذا جنى من حبك..؟؟ ويصرخ قائلاً:ـ ماذا جنى من حب لم تستطيعي الصمت عنه..؟؟ فعليك أن تصمتي الآن حتى تموتي...
وتسردين قصصاً أخرى كلها ظلم وقسوة، وذلك الشاب القتيل، الفرق بينه وبين أخيه كالفرق بين التفاح والحنظل....
وما كان كفرا بدين آبائي حين عشقته ولم يرتكب جرماً كي يقتلوه... كان يحمر خجلا حين يقول أني أحبك. علاقة شريفة صفحاتها بيضاء... ما ضمني ولا عقبت ظهري يداه ثم استطاعوا باللوم تغيير الحقيقة حتى صار العشق جريمة تهد أركان العشيرة... ولا ضير أني خائفة وكنت أرى النجوم والأرض تصفر فرقا من المجهول.. يا ليتني تركت الأمر يمشي في طبيعته وتركت أحلامك الوردية (يا لبيبة) واخترت عرسا قَبَلياً.
مات الفتى وغطى دمه الحقول وغاب الحلم في أفق الحقيقة.. أغمضت عيني على جمرتين حتى جرى منهما دما.. وما جدوى الدمع إذا وقع القدر، وما يجني العشق حين يداهمه الخطر.؟!
أضناك المرض وكنت طريحة الفراش، أمراض عديدة: كالسكر والتهاب الكبد وغيره من الأمراض الخبيثة. تصارعين حلمك القديم ولم تنسي إذ قال أحبك تظلين ترددينها.. وكان صادقاً.. وأنت الآن على فراشك الرديء بعد الأعوام الثقيلة… طعنة في ظهرك وأخرى في صدرك وقلبك طعنة أخرى وأخرى.. وأمراضاً تنهش لحمك ودمك. عذرا عمتي يا أنيسة وحشتي عن سنوات ظلمك الخمسين، لن تزوريني بعد هذا اليوم ولا حتى شبحاً مكسر الأضلاع، ضلعا يئن وقربه يتوجع طالته اللكمات وأصابعاً من الحقد الدفين رسمت خطوطا شوهت زهو جمالك وتحملين نعشك فوق ظهرك إذ كنت ضحية أوهام قَبَليّة.
2006 أيلول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نجم ذياب رمضان: كاتب وصحفي عراقي، من قرية سديرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
القصة الفائزة بالجائزة الثانية
حقيبة الدولار
صالح حسن سلامة
ناس تتلعثم بالرذائل ولسانه يتلعثم بالدولار.. بل كيف تعثرت أيامه بالدولار ونحن مثل أرتال نمل سود أو حمر تحمل حبات غذاء تدحرجها إلى كهف حيث مغارات سراديب. غرف متشعبة لتستقر في جوف الأرض عند رائحة رطوبة الأرض المألوفة.... كفانا خوفا كفانا صمتا كفانا جوعا. نصمت وبطول الصمت ولا نتمنى أن يطول الليل إذ يطول اليأس. أ الليل اليائس يا عماد؟ كل شيء في الليل وفي كل نهار ساعة خطرة أكبر من النهار. تنفجر عبوة هنا وأخرى هناك وعبوة وعبوة وأخرى عبوة وحرب هنا وهناك وجوع في كل مكان وحزب في كل مكان. هذه يا محمود هزلية الغرب النتنة التي رقصت على مزابل الشرق. ما أكثر مزابل الشرق وما أزكى رائحة العراق وجوع العراق وموت العراق. نائم أنا يا عماد وإن لم أكن نائم، لكني نائم وأتحسس لذة الخوف القريب وإلا بخصوص من جاء هذا الدولار هذا الخوف. لأجل من أرهقه السفر ومتى يرحل الذي اختطف جرحاً من سجل جراحاتي؛ سَحر التي فيها من كل أنواع الجمال نوعاً حتى قدميها التي اعتبراهن أقدام الزنبقة النادرة التي كانوا في العين يقيدون قدمي الطفلة بقوالب صلبة تحول دون نمو هذين القدمين لأن القدمان الصغيران شرط أساسي بجمال المرأة في الصين وكنا نتغامز رغم أنف الجراح، اختفت مثلما اختفت السيوف في أغمادها، مثلما اختفى عادل وابتعد عني نحو الغرب وتركني ملثماً.
أين نلتقي..؟ في أي اتجاه..؟ لا يرد. إلا انه قال لا جراح بعد هذا بل آخر يأس هذا كل الطرقات تحاصرني مرفوض منبوذ من كل أشيائي، حتى الدثار لا أحد يقبلني في الكون ونظراتهم تمزقني من خلف زجاجات (الهمر) المظللة، المصفحة حيث الكلب خلفها واضح مسترخي يلهث ممل من لاشيء يحلم، يحرق كل شيء، ينهب كل شيء حتى الأعراض...!! وفي زمان كان فيه قمر غير هذا ووجوه لا تشبه تلك الوجوه بل هواء غير هذا الهواء أبطال تحمل الوطن ترفع الوطن الممزق، المنخور، أبطال تلم موائد الحصار المدمر الذي امتد صداه ويمتد للأبد. ألا يمكن أن تنسى شكل أبيك وجه أمك شكل العراق أتنسى العار؟ هذا هو الحصار. ولا ادري لماذا يحاصرني الدولار يا عماد؟ الدولار مولاي بلا شك هو الأقوى هو الذي اظمأ أحشائي هو الذي أثلج أحشائي بكل رتابة ونعومته الملساء. مرات العنه وأقول هو الحيوان المفترس وأكثر المرات يدغدغني دون اللجوء إلى طرافة يسعفني ضحك داخلي أكاد أطير بل أحس اختطاف أحشائي وخفت أقدامي فتنتظم الضحكات شهقة شهقة. هل الدولار في خزائن الريف؟؟ هل ألام هي التي ترفد العالم بالدموع؟؟ هل هناك مستحيل؟؟ هل هناك عجز؟؟ وكيف كنا نتسلق الجدران الطينية دون ثياب..؟؟ من اجل ماذا كنا نختبئ تحت أكمام الحطب..؟؟ هل من اجل الاستدفاء..؟؟ هل من اجل التلذذ بنعمة الشهوات..؟؟ كانت الأطفال تحتفل بأشياء بسيطة بتفتح أول زهرة في الخريف هناك زهرة في الخريف في بداية الخريف حيث تبدأ الدراسة وكم هي الآن تصرخ الأطفال تشوه. تنفلق. تحترق آلاف المرات دون أن نقف من العد. واختفت الحفر التي كنا نعمل فيها أشياء لا تذكر في أطراف القرية الخرابة بلا غضب لا تذكر وأنا انزف شوقا مرارا آلما لوعة إلى تلك الأيام وتلك العلاجات البسيطة كعلاج المقص من الكمون والإسهال من الزنجبيل المدقوق والسكر الأبيض والشاي يخفف التوتر ويساعد الاسترخاء. والآن بات في كل قرية لغة خاصة لغة عيون إشارات لهفة قلوب لغة غدر رذائل ودعائر. الجريمة نائمة ولكن هنا في بلدي لا نعرف النوم. وألا لماذا عبدالله قتل أبيه صباح الأحد بخنجر بثمان طعنات انقله إلى جوار ربه وحمادة صديقه بصق بوجه أبيه بصقات قبل طلوع الشمس وكثير ضد الآباء وحقا كان أحمد يريد سقوط عدنان. بالتحديد كان يعبث بعدة محاولات لسقوط عدنان الذي لم يكن إنسان عادي يمكن مسايرته كباقي الناس. بل هو أسطورة التاريخ لم يلثم التاريخ بطل مثله. حيث سيطرت الأقلام العريضة على أبطال التاريخ دون أبطال. إلا أن جاء عدنان وبرى الأقلام الحقيقية وكتب من جديد على صفائح البردي وجلود الغزال. مرحبا أيها التاريخ أيها الضيف الحزين مرحبا أيها السيف المتين الذي أقطع أمزق فيه كل الصحف المزورة.
هكذا هو كما عهدناه صخرة الجبل المستقرة في أعلاه الذي أطفأ النار التي أحرقت المدينة شتم أمريكا وجواسيس الاحتلال يا لهذا البطل الذي صنع تاريخ من جوع. مرار. تعري وقهر وألغى كل تراتيل المجاملات كما ألغى تراتيل العائلة واصفح عن كل هزل وتأخذني الأفكار في مدينتي كل شيء معلن. قتل جماعي معلن جنون معلن وحكومة تنهب خيرات وتسرق شعب معلن وسوق سوداء ورشاوي وتهريب معلن بل حتى تصاهر جماعي معلن. أسراب بشر تحمل توابيت كل يوم في مدينتي. ألا يمكن أن تكون مدينتي بلا تاريخ..؟؟ الجلادين هم الذين كتبوا التاريخ الرديء. كل شيء يكبر في مدينتي الحقد. المزا بل وطوابير الوقود وحكامنا وملوكنا والعرب ترسل القوافل والتبرعات المليارية إلى إعصار (تسونامي وسومطرة ) وفقراء أمريكا. ألا يستحق الشعب العربي الذي يلتقط أنفاسه الأخيرة أن يرفه ولو أيام قليلة في العمر..؟؟ ولماذا تريد سقوطي يا أحمد؟ لان اليأس والحزن التوأمان اللذان أينعا في ربوع الرافدين. ولان هند وأيسر افترقا للنهاية. ولان هند وأيسر تبادلا الأحزان. أحزان الوطن وفراغ اعز الأشياء ولان الصغير هو الذي اخذل الكبير ولطخ وجه الكبير بوحل الطريق. أكره كل ما يحيط بي يا أحمد أكره أبنائي وأخواني وأعز أصدقائي أكره أمي وأبي والعن نفسي كثيرا إذا طات لهؤلاء الأنذال وسأطلق النار على الماضي فلم يبقى لي شيء في الدنيا غير التاريخ.. كل الناس تائهين في هذه المدينة مرعوبين غاضبين صارخين جائعين إلى حرية أمان ما زالت نائمة ولن تصحا. فتجردت عشائرنا من القيم وتخنثت تنحت للذل والعبودية ولم يبقى إلا البطل عدنان الذي امتص كل قيم العرب وشجاعتهم وتحطمت تكسرت تحت سيفه كل السيوف كل الأنذال حيث انه ترك البكاء منذ الرضاعة لم يبك على شيء ولد علية الغضب والقوة الخرافية تقممت الجبل ولم أر الجبل أكبر مما تصورته ولم أر قمته اكبر من قمتي. هكذا قالها عدنان الذي امتلأت حباته كبرياء عزة رغم احترامه كل الطوائف كل المذاهب وتألمه السري الشديد إلى العزوف عن هذا الشموخ الذي نمى بداخله ولو لمرة واحدة في الحياة تساءل. أيكون الوطن بالوعة دماء..؟؟ أيكون نافورة دماء..؟؟ ترهلت الحريات وشابت الأماني وسيطر القحط الشديد هنا في هذا المكان من الأرض حيث اختنق الحب والغزل. هل الوطن هو الغزل..؟؟ ونكتب عن زيف الحياة في هذا الوطن دون أن ندري كيف تنقلب السفينة. ليكون الحب والغزل النكتة الخرافية الأسطورة الخيالية في هذا الوطن. هل لان الموت هو الوطن. في كل ركن موت وبكل ثوان الوقت موت. لا تسخر ولا تتطاول على همجيتي هذا اليوم حين تعصرت توجعت أقدامي تجاه بيت سحر التي ما زال حظها يتلوى بألوانه اليائس وتلوذ بهمساته. تلوذ بأذياله ومرات يفرغ صدرها من الأنفاس عندما يأتي مساء الحب حيث يبدأ خجل الأطفال يسري بين أهداب عينان غريبتان لا تفهم الطمأنينة والسعادة في عالم اليوم عالم الخوف والدم.
اختلطت الغيوم فحجبت الشمس وسيطر الضباب الذي حد الرؤية فغرفت سحر في غابة النرجس المنزلية الحقيقية ومنذ زمان واحلم أن يكون الحب هنا مثلما أريد وجاء الموت وهل نموت الآن..؟؟ ولماذا لا ينتهي العذاب..؟؟ أيختفي الحب ويبدأ غضب الأصدقاء..؟؟ عبد. ليث. ليلى. حامد. سعاد. وصديقات البر حمدية وسعدية التي ابتلت شفاههن مرات ومرات بماء الغدير ولا أدري لماذا كانت دموع حمدية تنزل دون أن تدري بهن سعدية. ربما كانت تتمرمر تتوسل بمشاعر عدنان الخفية التي احتضنته المدينة بمصارعة التاريخ وإطفاء نار جدا قوية فيها. متى يعود. دموع ودماء غدير وسذاجة حمدية وأيام تمر (والدولار) والشمس هي الشمس وحسن وسمير وكم من أصدقائهم لا نعرفهم جاءوا وتركوا بغداد (الدولار) لماذا تركتم بغداد..؟؟ لماذا..؟؟ وألف لماذا..؟؟ هل بغداد الموت..؟؟ هل بعت بغداد بثمن (.....) هل نسيتم (هنا بغداد)..؟؟ إذاعة صوت الجماهير وكل أجزاء وخلايا بغداد... حسن وسمير. هربنا من الخوف ولسنا خائفين بل هربنا من الفقر ولسنا فقراء صعودا يجب أن تتعلما لغة (الدولار) لغة الأعداء لغة المأكولات ولغة الوقاحة لغة الجمال لغة النساء التي تغفوا مثلما كنا نتمنى أن نصحا وهي تخادعنا تهامسنا تطيل نومة اليقظة المنتظمة الفارغة. نضحك ويعتبر الضحك أعظم وأصعب لغة في هذا الوقت.... أحداث بغداد لا تحصى ولا تعد وجمالها لا جمال بعده وحبها لا حب بعده. قاتل وليس قاتلا. مجنون ولست مجنونا وجائع فعلا جائع لا أريد أن أخسر كل أصدقائي.
جاءوا إلى خزائن الريف. (الدولار) في خزائن الريف ومحمود يستطيع أن يشتم كل شيء إلا (الدولار) وحقيبته الفولاذية. حقيبة الحزن التي انزلقت من القمة نحو السفح حتى مستوى السطح بلا موعد أقدار سيئة تحطمت هنا مثلما تحطمت هناك عندما لملم أشياءه أدوات حلاقة. نعله. ثيابه الداخلية وهويته مع (دولاراته) الكثيرة في حقيبته الفولاذية وهم السفر خارج الوطن في طريق جنوب أو شمال المدينة سقطت الحقيبة مع انفجار العبوة انفجر الخوف والإغماء انفجرت (الهمر) ومات الكلب الذي يلهث وأصوات (U. S. A) حيث البسوا رؤوس كل الناس الموجودين هنا أكياس وقيدوا أيديهم بقيود حديثة بحيث كلما أراد الإفلات من القيد كلما ضك عليه القيد أكثر ولا يمكن للقيد أن يتراخى رغم قوة أصابع محمود التي تعودت على مسك (الحقيبة الدولارية) بقوة إلا أنها سقطت وافترقت الأصابع عن الحقيبة فراغ ابدي بل اختلاس علني واعتقاله في سجن (أبو غريب ـ بوكا ـ البكارة ـ السليمانية) ولم يربح محمود في رأسه إلا الكيس وصرخات (stop _ no _ yes _ go _ come) أسلاك شائكة ومصدات كونكريتية وهوس محمود (طار الدولار _ الحقيبة الدولار).
صعد (الدولار) الذي اكتفنته بحضني ولم يكتفني هذا (الدولار) قط أكثر من هذه القحبة التي تجامع الجنود الأمريكان التي رأفت بي وسألتني عن اسمي وعن المقاومة (ملعون خاسئ ذليل المحتل) وبشيء من الامتعاض تقمص بل تنفس رذاذ أسمال سحر وأذيال اليأس. فقد تكون الأيام التي فرت وتركتنا نتصارع مع الأيام القادمة هي الأهون رغم كل ما بها من أمراض وجوع وحتى التعري أهون من هذا الكيس الذي في رأسي ولا أدري أين أنا وأين (الدولار) بل أين القدر..
آب 2006
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*صالح حسن سلامة: كاتب عراقي، من قرية سديرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
القصة الفائزة بالجائزة الثالثة
ذكريات ضائعة
طارق حمد
أرض العرب الرحم الكبير الذي يضم نخبة من المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء وأصحاب الرأي السليم والعقول المدبرة التي تستند عليهم أعمدة الحياة. أرضنا تتفجر من أعماقها سيولاً من العلم والفكر المنير، على أرضي حضارات عريقة لا يمكن تجاهلها أو التمادي على عدم ذكرها. كانت وما زالت هي أرض الخير. لاسيما وقد زرعت على وجهها وطناً اسمه العراق. أنا لا اذكر العراق على تحديد عنصري وإنما أوطان العرب عامة والعراق خاصة. هذا الوطن وطن الخير الذي درس في أحشائه علماء وأدباء وتخرج على ظهره خيرة من أبناء هذا الجيل. هذا الوجه الوجيز أما الوجه الآخر للعملة التي لا تكشف وهو أنهم أرادوا أن يزيغوا الأبصار عن حقيقة فعلية وهي خيراته تتقدم القائمة والخطورة الكامنة في عقول أهل هذا البلد وترابط أهله بتعدده وطوائفه وقومياته وأعرافه المتعددة، إلا أنهم نجحوا في تمزيق اللوحة التي كانت تزهو في ظلمته السياسية العربية كانت السراج المنير الوحيد الذي ظل بنوره يمزق قطع الليل الطويل الداكن سعوا في كتم الوجه المشرق داخل رحم هذا ألام المكافحة. خططوا مسبقاً في طمس الحقيقة التي كانت تشكل حلقة من نار حول أعناقهم. فاندسوا بين ثنايا القلب الواحد فزرعوا بذرتهم وأسموها الصهيونية. وتبقى الصهيونية العالمية لها أساليبها وطرقها البارعة والذكية في توجيه أذنابه الصغار ومخلوقاتها الهجينة وتبقى هذه المخلوقات وعلى شكل ممتد دون مستوى الإنسان الشريف حتى لا تتاح له فرصة التراجع عن المستوى الأدنى الذي هو فيه. ويتم بدورهم تحريك تلك المخلوقات والأذناب الخبيثة باستعمار ليس البلد على حد سوء وإنما استعمار الإنسان نفسه من اجل الوصول إلى تدمير الفكر الإنساني الخلاق والمبدع والطامح إلى الأفضل وهذا الضجيج اللامفهوم والنزعات الجانبية المختلفة والكواليس المعتمة. وبعض الشعارات المستوردة والملفوفة بألوان الدين.. أما الوطن ما هو إلا كذبة من أصل حقيقة معتمة تاهت في دهاليز ومقابر أثرية لا وجود لها في عالمنا المشوه. والحقيقة لهؤلاء هم في الواقع وجه لعملة استعمارية وصهيونية خبيثة وإنهم مجرد دمى تحركهم خيوط لأصابع خفية مشبوهة. ولا يتعلق الأمر بالسياسية فقط وإنما قد تجاوز حد التدخل في العلاقات العاطفية وهدم الفكر الحقيقي لمفهوم الحب لاسيما إن الأمر تعلق في أطراف طائفية متعددة.......
هذا العالم تختلط مفاهيمه دائماً لأنه إذا كان الجهل سيدا بالتأكيد سيكون العالم مقيداً بالظلال والضياع. وعندما يكون النور أعمى يتخبط في وضح النهار، وعندما يتعلق الأمر بالشرف تتردى كل القيم والمفاهيم وربما تصل إلى حد الانحطاط، وعندما يكون الحكم طائفياً يكون الشرع كذبة اخترعها الإنسان ليغطي معظم أفعاله وأكاذيبه الكبرى، ليرتدي قناع الغش والخديعة. سئلت نفسي تكراراً لماذا عندما تضعف الحيلة فينا نجد منفذاً واحداً إلى بر الأمان وهو أن نجد مهرباً عبر الدين والفتوى!؟. لماذا لا نختار مبررات صحيحة وأفعال تنقذنا مما نحن فيه!؟. حينما تضع التساؤلات في أكوام من العلامات الاستفهامية فلا تسعفني الإجابة ولا أجد سوى أن أضع لساني الثرثار في فمي وأغلق عليه بأحكام، بل أحكم عليه بالسجن المؤبد وعدم الخوض في ذات السياسات العربية المنحرفة. فهممت بجمع حقائبي المحشوة بملابسي المتواضعة وبعض من ذكرياتي الضائعة: صور وكتب لشعراء عرب وعراقيين وكتاب (بلد لم تشرق عليه الشمس بعد) وبعضاً من تراب الأئمة وأدعية أذكار قد اقتنيتها من مساجد الأئمة واضعاً كل أحزاني في تلك الحقيبة وأسبلت جفوني لقدر مجهول يقتادني نحو المجهول وذرفت دمعاً على فراق بغداد وفاطمة التي ظلت ممسكة يدي متوسلة أن لا أسافر، تصدعت الأفكار في رأسي وتجمد الدم في عروقي وتاهت تلك الروح الطليقة في جسدي الميت. كان ذهني بل روحي قد شدت نحو أرض السلام التي كانت تمزقني أوصالها وهي تتقطع وها أنا اترك عشي مثل طائر جاء وقت رحيله ليس الموسمي بل الدائمي دون عودة. صرخت فاطمة فسال فيضاً من الدمع على خدين ناعمين تأذي بقوة وتقول:ـ إلى أين السفر؟ أضافت سؤالاً إلى التساؤلات المتخمة في رأسي والمبهمة. غصت في عمق التساؤل باحثاً عن إجابة.. إجابة واحدة تنقذني.. تنقذها.. تنقذنا.. تنقذكم. تخشبت في مكاني وكأني في ميتم. تكاد لا تحملني قدماي فاقد كل لذة في هذه الحياة. ضائع في بحر الخوف سائراً على غير هدى انظر في عين فاطمة فأرى بغداد وهي تجرد من زينتها وحليها وكأنها عروساً قد فقدت زوجها المنتظر. حاولت فاطمة رفع بعض المعنويات المنهارة، تحاول أن تقف هي حتى استند أنا على ما تبقى من عزمها الضئيل تخاطبني بلغة التوسل قائلة:ـ اترك كل هذا العذاب وهذه الآلام وضع إصبعك على مكان الجرح النازف واترك الأمر برمته ولا ترحل. ألم تعاهدني على الرفض والبعد؟ ألم تكن أنت من يخاف الفراق؟ لماذا لا تبر بوعدك، بدل أن تتركني لليالي الهجر الطويلة؟ ألم يكفنا ما عنيناه من تعزية للوطن واضطهاد لنعيش الحسرة..؟؟ أتترك ليالي بغداد وحكاياتها الألف..؟ وتنسى جلسات الغزل في حب دجلة.. دموعك يا فاطمة جرت فمزقت قلبي وحنيناً لليالي بغداد قد أثقل كاهلي. وشوقاً إلى زيارة أئمتي قد فاض به القلب.. يا بغداد يا فاطمة ما كان البعد والفراق أحب إلي منكما ولكنهم اتهموني بتهمة لم اسمع بها من قبل ولم أعهدها قبل اليوم. قتل الإنسان فينا وجردونا من حقنا وحبنا ومن كل أخلاقنا طعنونا في الدين واتهمونا إرهابيين. لقد أشادوا بإذنابهم الهجينة أن يبعدوننا ويشردوننا وينفون الإنسان فينا. لقد جاءوا في ليلة عصيبة ليشيروا بأصابعهم المدمية بأنني مذنب منذ ولدتني أمي فذنبنا منذ أن تنفست هواء العراق، أنني مذنب منذ أن ارتشفت رشفة العسل والخمر الحلال من نهر دجلة. قالوا أن ذنبك هو أنك (سني)! وما دامت قد لصقت فيك هذه الميزة فقد حرمت عليك ليالي بغداد والمشي في شوارعها والقراءة تحت أضواء أبي نؤاس وقراءة أشعار السياب ولا يحق لك التغني في حب دجلة ولا الغزل في عشق فاطمة. اذهب فلن تكون لهذه الأرض ولا لفاطمة لأنها (شيعية) وإنها تقدس أهل البيت أكثر منك. أصبحت القضية كبيرة، فترك العرب قضية فلسطين واحتلال استعماري لنفوسهم أيضاً ودنس العدو ببساطيلهم أرضنا رغم أنوفهم فلم يحركوا ساكناً. والآن قضيتي هي الكبرى. أنا إرهابي عندما اعشق بلدي. وأنا إرهابي عندما اسكن بقرب الأئمة وأصحاب البيت وأنا (سني). أنا إرهابي عندما اعشق فاطمة وهي (شيعية).. لقد غيروا مفهومنا الحقيقي للحياة. لقد دنسوا أرضنا بأفكارهم المسمومة وأضافوا وأضاعوا لنا ديننا عندما لبسوا لباس الدين.. كل شيء في الدنيا قد تغير يا فاطمة فوفري دموعك واعلمي أنك وبغداد في داخلي، تسيران في دمي أينما ذهبت. تركت فاطمة عند مفرق الطريق حائرة باكية على الفراق الذي لا يعود وأدبرت مرغماً عن بغداد التي سأموت وأنا الهث على شواطئ الشوق لرؤيتها. إلى أين سأذهب؟ لا أعرف.. سأهرب بنفسي من أوجاعي وذكريات ضائعة. ذهبت فتاهت معالم الدنيا في مقلتي وبقت صور الأصدقاء ونحن صغاراً نلهو ونلعب في أضرحة الأئمة فيصرخ فينا المقيم هناك، نخرج حفاة الأقدام، نركض ولا نعرف ما يحاك لنا في المستقبل. كلهم في ذاكرتي، أقلب صورهم واحداً واحدا. أما أنت فقد تمزقت صورتك في مخيلتي وقد طغى عليها اللون الأحمر.. لون الدم، وراحت تفارقني صورتك الندية شيئا فشيئا. عصرت الذاكرة محاولاً الإمساك على طيفك ولكن دون جدوى. ضاعت كل المعاني واختلطت الأحاسيس داخل قلبي المتيبس بفعل الشوق. ولم اسمع غناء العصافير منذ أن غادرت بغداد وحتى تلك الآلة المنفردة الوحيدة التي تشبهني (الربابة) قد قطع وترها في قلبي فأهملت في ركن متروك في جسدي الذي لم يبق منه سوى تلك الجثة الهامدة. تلاشت كل الذكريات ولم يبق سوى تلك النخلة العراقية التي كانت تمتعنا بظلها وتغذينا بثمرها فإذا أردت أن تذكريني اذهبي إليها وستقلي تحت ظلالها ذكريات ضائعة. فكل صرخة غربة في هذا السكون القاتل اعتراف إدانة تبوح بها الأرض المثقلة بالأوزار والخطايا. حنين إلى دفء الحنين لحياة قديمة جفت الآن في داخلي.
وبالتالي فان الحياة لم تتغير وتبقى كما هي على الدوام سائرة، وكل ما تغير.. هو أنا. فأنا من تغرب في داخله، التغير معدوم في حياة جافة، لقد استوطن خراب الغربة في داخلي واتسع.. فلا أدري هل أصبحت العودة مسحتيلة..؟ لا يمكن أن يحدث هذا. ولا يمكن أن تكون تلك هي نهاية المطاف. ليست تلك هي المحطة الأخيرة التي فيها سأرتاح من حملي الثقيل. فما زالت في نفسي المحتضرة رعشة أمل متمسكة بحياة آفلة. إشراقة طموح مكابرة في عتمة ليل طويل، منفذ ذو زاوية ضيقة نحو وعي مستقبلي. وما زالت تخنقني حلقة مصلوبة على جدار الحق لم تصرخ بعد. ليس من المعقول أن تصبح الحياة قاتمة اللون وحازمة الحد. لابد من البحث عن المخفي وراء كل الاستنتاجات الخاسرة والكوابيس المعتمة، لابد أن هناك شيئا دافئا وصادقا لم تلمسه أصابع بغداد ولم وتوطئه أقدام فاطمة. هل يظل الشوق فينا إلى المستقبل قيد التنفيذ..؟؟ وهل أصبح حبنا مؤامرة لا تفهم جوانبه ولا نواياه..؟ ولكن اسأل بلهفة من أين سيأتي سيد الخلاص. فالماضي بدا يموت يوماً بعد آخر في داخلي والحاضر كتلة من الأفكار المبعثرة تناثرت وتشتت وبدا جمعها من المستحيل. أما المستقبل فحلم أصحو على مشارفه ليروي لي كذبة أزلية ينتج عنه كوابيس ظلماء اسمها الاحتلال وهاهي معتقداتنا وتقاليدنا تتسرب كما يتسرب الماء بين ذرات التراب. وتتركني ظمآن على الشواطئ. ويبقى الشوق والحنين مذاقه مر على طرف لساني، والاعتراف بالخطأ فضيلة. فأنا كتلة متحجرة تنتظر أن تدب بين أوصالها رسوم حياة بسيطة تساعدني على مواصلة التقدم نحو الأمام. وسأنتظر هبوب رياح الحقيقة.. لكي أكتب ما عجزت عن كتابته على ورقة الزمان ليخط حكم القلم جافه وشوق محترق يأكل بلا رحمة أحشائي، وحنين يحمله طائر النورس تحت ريشاته الملونة إلى بغداد وفاطمة وعسى أن يحين لحظة يكون لي لا مفر منها.. فالموت بين أحضان فاطمة دون حساب وعلى أرض بغداد الغالية دون عقاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طارق حمد: كاتب عراقي من قضاء الشرقاط، نجل الكاتب الراحل حمد صالح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق