في الذكرى الحادية والثلاثون لإعدام حسن مطلك
ذكرى أليمة.. وقراءة في دابادا
إبراهيم الماس
بعد ظهيرةِ يومٍ من أيام صيف «1986»
جاء الراحل «إبراهيم حسن ناصر» إلى قريةِ «صبيح تحتاني»، كان معه في سيارته شاب
حليق و(أصفر كالمغول). كان مُبتسماً وفي سُحنتهِ خيطٌ من المرارة، قدّمهُ إبراهيم
بطريقته الدمثة والنقيّة: حسن مطلك!
صافحتُ صاحب «عرانيس» بحرارة، وكنتُ
مؤثّثاً بصورةٍ جميلة له عن طريق إبراهيم. كالعادة طلبتُ منهما الجلوس. لكن، كانت
الوجهة مرسومة: قمّةُ مكحول أوّلاً.
***
حسن ينظر إلى البيوت. يقول إن
القريّة تشبه "علبة الكبريت"!
سألني فيما بعد: كيف يمكن للمرء أن
يكتب روايةً بلا فعل ماضٍ؟ رواية لا تقول فيها كانتْ أو قالت!
تعمّقت صداقتي معه. صار يزورني وأزورهُ.
كنت أقضي الإجازة العسكريّة معه، كان يضع جدولاً للإجازة وفتح مكتبته لي، أأخذ
منها ما أشاء، ويختار لي أحياناً كُتباً حسب خبرته وذائقته. مثلاً أختار لي،
«البابا الأخضر»، «الغصن الذهبي»، «حي بن يقظان»، «الكتاب المُقدس»، «فن الرواية»،
«ذئب البوادي» و«الرسولة بشعرها الطويل». قرأ لي مقاطع من الرسولة، بطريقة "غير
المُعجب"!
***
أذكرُ أنّه قال: إبراهيم مبدع، «شواطئ
الدم شواطئ الملح» رواية (طازجة مثل الخبز الحارّ). لكنّه كان مُتألّماً من شطب
أشياء مهمّة منها، ويرى أن مَن نقّحها أساء إليها كثيراً، وأظن أنّه «باسم عبد
الحميد حمودي. "ولمست منه رغبةً في أن يراجعها هو بنفسه. في أحد الأيّام،
كنتُ في مدرسة المشاة في الموصل، جاءني إبراهيم ضاحكاً وهو يقول: حسن مطلك سيتزوّج
ويقول (تمّ بطحي اجتماعياً)! ولكن فيما بعد، كان كلّما ذُكِر زواج حسن يتألم!
***
استشهد «إبراهيم حسن ناصر» في الفاو
في عام 1987 بعد شهر من زواجه. أُعتقل حسن مطلك في قرية «صبيح تحتاني»، وكان مع
طلابه في المدرسة، لم يحاول الهرب. بعد ستة أشهر أُعدِم حسن مطلك في العام 1990.
مع مجموعة من قرية سُديرة بتهمة «محاولة قلب نظام الحكم» وفي نهاية نفس العام وقع
أبي في الأسر في "حرب الخليج".
في حادثة الاعتقال، كان أبي في
معسكره في «الفاو». دارت الشائعات أنه أُعتِقل أيضاً. جدي أحرق الكثيرَ من الكتب،
منها نسخة «دابادا» المُذيلة بإهداء حسن. دارت شائعة بأنَّ أبي قد أُعدم، وأن
على جدّي أن يراجع المُعسكر الذي يخدم فيه. لم يكن أحد يتجرأ أن يذهب ويسأل، كان
الوضع خطيراً والخوف والرعب قد سيطرا على قلوب العائلة. بعد شهرين عاد أبي. فهو لم
يكن يعلم بلقاءاتهم السرّيّة، كما لم يأتِ اسمه في الاعترافات. لم يجرؤ أبي أن
يذهب إلى العزاء لأنّه محط الأنظار، ولكن بعد فترة يقول أبي: رأيتُ «محسن الرملي»
مصادفةً في «سديرة» ووقفت. جاء إلي واتكأ على كتفي مشيحاً وجهه عنّي. قال (إذا
عندك كُتب لحسن رجّعهن)! وخنقتهُ العبرة. كان زعلان من موقفي، ولا أدري إن كان
حينها متأثراً برأي أطلقهُ أحد أقاربه! كنتُ حزيناً. كان الوضع لا يزال خطيراً عليّ.
وذهبتُ أقلّبُ الأفكار. وحين كُشِف المُندس في الاجتماعات السرّيّة، نزل الخبرُ
على قلبي كالثلج من النظام وشكوك أقارب حسن.
ستة شهور لم يتجرأ أحد أنْ يزور بيت جدي.
كان البيت مُراقباً. تمّ قبول أبي في دراسة الماجستير في القانون، لكن تمّ
استبعاده عند طلب المعلومات فيما بعد!
أبي لديه مجموعة قصصية «مملكة الحصى»
مُهملَة وغير منشورة. عدا قصّتين، واحدة منشورة في جريدة الزمان «مملكة الحصى»
والأخرى في مركز النور: «ما بعد المطر».
***
ملاحظة: التفاصيل شفهية عن أبي وهناك
تفاصيل كثيرة أخرى. ولكن رأيت أنّه من الأفضل ألّا أتطرّق إليها الآن؛ فهي لا تخدم
قراءتي لـدابادا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في دابادا
قرأتُ دابادا مرتين. ليس لأنّه صديق
أبي أو ابن البيئة الجغرافيّة ذاتها فحسب، بل لأنّها جيدة ومبتكرة.
العنوان «دابادا» يمثّل أصوات ما قبل
اللغة. هي الأصوات الموجودة في كلّ اللغات والتي ينطقها كلّ طفل في العالم.
والرواية من البداية، تراوغ لتفادي
الفعل الماضي في الروي كما هو واضح في: (قامت هاجر. يقول شاهين وهي أمّه)، بينما
الأصح لغوياً هو: قامت هاجر. قال وهي أمّه :(.. بحلول الخريف، حيث تجاهد
الأشجار للتخلّص من أوراقها الميّتة، قامت هاجر ثم اتجهت إلى المطبخ المُنفرد لكي
توقد ما تبقى من أحطابها وتعد أصباغاً من عروقِ الشوك لقربة اللبن. قامت هاجر.
يقول شاهين وهي أمّه. وفي كلّ خريف تتجدّد ذكرى ضياع الأب في البراري بسبب أرنب
مبقّع).
البراري هي الحياة. والأرنب هو القوت.
والصيّد مهنة الإنسان الأولى. والذئب هو الذي يجب أن نهزمه لكي نعيش في صراع الوجود.
لكن الأب خسر الصراع وترك الطفل شاهين يتيماً!
بطلا الرواية يعانيان من العزلة. شاهين الطفل، وعوّاد الرسام الشهواني؛
فهما (شاهين ـ عوّاد) شخصيّة واحدة: شخصيّة المؤلّف. كانت لديه محاولات في الرسم.
انعكس ذلك على طريقة وصفه للأشياء والشخصيّات؛ فالمؤلف يؤرّقه هاجس الكلمة والشيء
الّتي تدلُّ عليه. كلُّ كلمةٍ هي رمز وليست بالضرورة صورة كاملة في التعبير عن الشيء؛
فالأشياء حيّة وليست نهائيّة، والكلمة ميّتة. لكنها حين تدخل في فضاء الفن، تصبح
كائناً حيّاً حسب تعبير«بول فاليري». إذن الكلمة حيّة ومنقوصة في نفس الوقت، لذلك
نراه يلغي أل التعريف عن الكلمة ويعيدها بِكراً:
(لقد كفّت الأرض عن تجربةِ النشاط وأمست التلال والصخور والأشواك
والقُبَّرات مجرد تلال وصخور وأشواك وقبرات). وبعد ذلك يحاول إعادة تعريف الاسم
والفعل فنيّاً: (يسأل شاهين، ولكنّه وصلَ سنّ اليأس. الوادي وليس شاهين أبداً
أبداً. نقول الوادي ونعني الأنثى لأنّها منخفض. نعني الوادي وليس الأنثى أبداً.
وصلَ سنّ اليأس بعد هجران الضواري والأشباح.)
شاهين يشعر ويرى ولا يتكلّم، أو لا
يريد أن يتكلّم مثل الناس. ويبدو للوهلة الأولى أنّهُ أبله أو أخرس؛ فهو يرى
الأفعال مرسومةً في الهواء، مثل يديّ وفم «هاجر»، حين تناديه، أو مثل عينيّ حبيبته
عزيزة. فهو ينظرُ دائماً.
شاهين "لا يكلّم الناس ثلاث
ليال سويّا"ـ آية زكريا ـ وهو زمن الرواية كلّها. ولكن تأخذ هذه الفترة
الزمنيّة شكلَها الفنّي في فضاء الرواية وتصير عشرين عاما. ثم تصير الزمن كلّه حين
يرى اللوح المسماري المستخرَج من منحدر التلّ وقد أصبح مسنداً لباب حظيرة الأبقار.
يرى ويخاف من فعل الموت في الإنسان والحضارة: "ثمّة ما يخيف: ثقوب القوارض
في حروف قديمة وقد هوّتْ عظام الموتى بفعل السَّيل. مجرى مسحوق أصفر غير مثير
للبكتيريا".
(لا يعرف أن
يقول لهاجر، وهي أمّه: صباح الخير)، فهو طفل أو لا يريد أن يتكلم مثل الآخرين؛
لأنّه ـ حسب تعبير المؤلّف الذي هو خريج علم نفس ـ (في الحقيقة أن ما يُعد شخصيّاً
قد يعني الآخرين بالفضول أو بغير الفضول، لذلك لم يتمكن أحد من منع رغبته الثرثرة
باستثناء شاهين. هو شاهين).
***
الحوار الداخلي موزّع بين علم النفس
والأدب وهاجس الكتابة الابداعيّة. ويسحب طريقة تفكيره على شخصيّاتِه بمستوى عالٍ
من المجاز والاحالات بكلّ ما يحمله من ثقافة معرفيّة وفنيّة: "أنّ النارَ لا تقتصر في علب
الكبريت، بل تختزن في عيون صفراء لنمور تمشي بين الأكواخ ". هذه استعادة لقصيدةَ
الشاعر وليم بليك: النمر.
فهو يرى نارَ عيونِ الفهود التي تلمع
في سماوات الليل في عيني (شَرار)، وتسمية الكلب بهذا الاسم ذكيّة. هو يربي الجرو (شرار)
ويُكفّر عن ذنب ردمه للحفرة التي دخلت فيها الكلبة التي تعضّ الأطفال، ويتواصل معه
بلغة العيون كما يتواصل مع عيني عزيزة: "عينا عزيزة أيّ لون لهما؟ ليستا بعينين.
إنّما كائنين، حيوانين، مستقلين عنها. لم يعرف مقدارَ اتساعهما لأنّها تحجمهما حسب
الموقف وكيفما تشاء".
***
الرواية ظاهراتيّة في الإطار العام
وتتناول بوعي تام هذه النظرية؛ لذلك فهو ينظر إلى الظواهر من خارج اللغة؛ فصوت
النداء الذي يسقط بشكل قوس من فوق ويدخل النافذة يحيلنا إلى «جماليات المكان» عند
غاستون باشلار. تحديداً الى قصيدة ريلكه: "صوت العصفور اللولبيّ الذي يسقط
بشكل دائري". وكذلك الحال مع اللغة وأفعال البشر، وحتّى الأشكال، وهي تأخذ
منحى دائري/ تكراري. ومن ثم منحى صوفي إن صحّ التعبير. (الكلمات والحيوات والتاريخ
والكون يأخذ منحى دائري، الكواكب، عينا عزيزة، الكريات الزجاجيّة، عيون شرار،
دائرة كبيرة وهي الوجه وفيهما دائرتان صغيرتان هما العينان، الدمعة، انحناء سطوح
البيوت من النافذة، سبيروجيرا حركة الفم في الدهشة، النهود، دوائر شرائح
الباذنجان، الأحجار عند النهر، القباب.. إلخ.)
(الغرفة تصير
مضيئة مليئة بالباب. الغرفة هي الباب باب من الضوء). ما يسقط عليه الضوء موجود وما
يسمع موجود. أما أصوات الكلمات، فهي رموز بعيدة وغير نهائيّة. "سحر
النعوت النداءات المُبهمة/ العنزات الثلاث على التلّ) هسّو: تعني اذهبي: هؤ هؤ:
يقولها الرعاة للماشية وتعني: اشربي الماء."
كلّ صوت هو رمز متفق عليه للدلالة
على شيء أو حالة ما، حتّى لا يلتبس الأمر على نحو غامض وغير مدرك مثل حالة شاهين،
باعتبار أن اللغة أول قيد يقع فيه الانسان للتعبير عن نفسه، ومن هذه الأصوات صوت
الضحك. فهو يأخذ صوراً متعدّدة لكنه في الرواية يأخذ شكلاً آخر للحرمان؛
(فحين يأتي
الضحك من النافذة، تصير نافذة الضحك).
النافذة مكان للتلصّص، تعرضُ مشهداً
جنسيّا والمسمار والفتحات إيحاءات جنسيّة، وتكرار (ضوء ظل ضوء ظل) تشير إلى كيفيّة
رؤية المرء أثناء ممارسة الجنس أو الاستمناء وصولاً إلى صوت انطفاء المسمار في الماء:
(كش) وهذا أيضاً إيحاء جنسي صريح ثمّ رؤية العالم بوضوح بعد انطفاء الرغبة.
إذن فالضحك هنا هو مرارة الحرمان
والكبت الجنسي والخيبة من الوجود عند عوّاد وهو نفسه الضحك عند فرويد: "تلك
الظاهرة، وظيفتها إطلاق طاقة نفسيّة تم تعبئتها بشكل خاطئ أو بتوقعات كاذبة"
فهو (لا يضحك ضحكة حقيقيّة ولو لمرّة واحدة بعد خديعة الختّان) ويرى فرويد: أن
المرءَ حين يريد أن يحصل على اللذة فهو يرغب بشكل من الأشكال إلى تحقيق الموت. لكن
شاهين لا يرى ذلك في عيني عزيزة فهو يقول: (إن (كلمة) لذة أبعد ما تكون عن الوقائع
الشبيهة بالموت تقريبا أمام استدارة العدسة في حالة الاستفهام) لأنّه لم يتجاوز
الطفولة بعد. ولأنّه طفل فهو غير ناضجٍ لذلك (لا يشعر بألم المسمار). وهو لا يبتعد
عن عصا الطفولة، يدور حولها والطفولة هي رائحة السوس!
* **
"أبصر
دمعتين مشنوقتين بالأهداب كصورة العنب في الماء":
يسيرُ الشِعر في منطقةٍ وعرةٍ من اللغة،
فتارة نذهب مع شعور شاهين الفطري لكي نشم الروائح كما تشمّ الثعالبُ فرائسّها في
الوديان حيث (نبتَ الفطر في أكواب الآشوريين) وتارة أخرى نقف على حافّة الوادي حيث
يلتقي «عوّاد» الناضج بحبيبته عزيزة، أو يلتقي الطفل شاهين بحبيبته في نفس المكان.
لا فرق فهما واحد. و(عزيزة القطّان) البيضاء كالقطن إشارة لطهارتها؛ فهي، في الحقيقة،
تريد شاهين في عواد، تريد الطفل في عوّاد الفنّان الشهواني. وتحيلنا خطيئة عزيزة
إلى شخصيّة هيستر في «الحرف القرمزي». فهي الأخرى قد وقعت في الخطيئة ولكن في كوخ
التبن وليس مخزن القمح.
شجرة السدر عند الوادي هي الحياة.
وعوّاد وعزيزة هما «آدم وحوّاء» بصورة من الصور. الوادي يحمل دلالتين: الغريزة أو ما يقابله عند شوبنهاور
«الإرادة العمياء.» ودلالة زمنيّة وهي تقع على النقيض من الأولى.
في محاولة منه لتجسيد الخطيئة وسحبها
على الزمن كلّه كما يصوّر ذلك في هذا المشهد: "ثمّة أًيضا تلك الدروب
الرفيعة المرسومة بحوافر القطعانِ كحبالٍ عظيمة تشدّها السدرةُ إلى حيث جهات
الوادي فتذهب محاولات السيول عبثا في تعرية جذورها وفي تفاصيل مفزعة كأعناق ملويّة
يمتلأ الوادي بترسبات تفصح وهماً قديماً بالاتساع، كاشفةً أكذوبةَ الاتساع السحري
في زمن غابر. هل كان الوادي واسعا وعميقا بحق؟" ونسأل معه: (أسألها عوّاد آنذاك،
أن يلتصقا حتّى وقت متأخر من عمر الأرض وبين عظامهما المُتشابكة على التلّ تنبت
شوكة طرية حيث تبتل العاطفة برذاذ مطر الفجر).
لكن يجب أن نعرف أن هناك جانبان في
لقاء عزيزة: جانب روحي متمثّل بحبّها لـ شاهين الطفل وجانب غريزي وهو لقاؤها في
كوخ التبن مع عواد وإنّ عبور شاهين للضفة الأخرى في النهاية هو موت الطفولة فقط، وبقاء
عوّاد هو النضوج والغريزة وذلك يعني مزيداً من الكبت والحرمان والمرارة لتنتهي
الصورة هكذا: ضحك ضحك ضحك!
تتدفق أحداث الرواية بأسلوبٍ شِعريٍّ
حتّى الخاتمة التي تحيلنا إلى خاتمة «سدهارتا» لهرمان هسّه ولكن بصبغةٍ مُختلفة. صرخة (دابادا) عند النهر هي صرخة
«أوم» عند النهر في رواية «سدهارتا». قارب «العم عارف»، الذي يأخذ «شاهين» إلى
الضفة الأخرى من النهر باتجاه الجبل، يقابله عبّارة «سدهارتا» بين الحياة والموت.
النمل في صخرةٍ مُنتصف النهر هو النمل الذي يتغذى على جسد الإنسان حين يتفسّخ في القبر.
أي هنا ثلاث مراحل: حياة ـ تفسّخ ـ موت أبدي. وموت الروح يسبق موت الجسد. وإن لحظة
عبور النهر هي لحظة التفسّخ والضفة الأخرى تمثّل موت الطفولة وإن شخصيّة عارف هي
شخصيّة «سدهارتا» وتسمية صاحب المركب ب«عارف» تسمية أيضاً ذكيّة لأنّ «سدهارتا» هو
«بوذا».
***
دابادا رواية تتناول المحسوس أكثر من المفهوم، (يتفاعل بطريقة الحسّ مع العالم ولا يتفاعل بطرقة الفكر) فشخصيّة شاهين شخصية مركبة وغير مكتملة فهي تضخّم الجنونَ والطفولةَ والصمتَ في كلّ إنسانٍ، فهي جزء من شخصيّة عوّاد، فهما مثل شخصيتي «سانشو بانزا» و«دون كيخوت» ولكن بصبغة مُعاصرة. المُحارب هو البطل عند «ثيربانتس» أمّا عند حسن فأنّ الفنّان هو البطل.
دابادا تغرق في محلّيتها. لوهلةٍ تشعر أنّه لا يُمكن لأي قارئ أن يفهم كلّ المجازات إلّا إذا كان ابن البيئة نفسها. فهو يفصّح المجازاتِ الريفيّة الشائعة مرّةً ويسخر مرّة أخرى منها (الزغاريد تخرج من أنابيب البنادق، أما النساء فيطلقن الرصاص من أفواههن). لا يمكنني أن أحصرها جميعاً ولكن لنتناول بعضاً منها، مثلاً فهو يعدّد أشياءً ترد من بينها "والحمقى يتبارون في إمكانية اجتياز الوادي وغرز وَتَد مُؤشر في المقبرة." وهذا يحيلنا إلى حكاية من الموروث الشعبي؛ إذ تراهن اثنان مَن يستطيع أن يذهب إلى المقبرة ليلاً. لأنّ هناك اعتقاد بأن الجن تسكن في المقبرة ليلاً. وكان شرط الرهان أن يغرزَ المُراهنُ وتداً في المقبرة. ذهبَ ولكن لم يعد، وجدوه في الصباح وقد غَرزَ الوتدَ في دشداشته وحين أراد النهوض أعتقد أن الجنَ أمسكت به فمات من الخوف.
(ننثر الملح
في دوامات الريح) إذ كانت جداتنا يروين إنّ من ينثر ملحاً في دوامةِ الريح سوف
يطير فنصدّق ذلك.
" من شقوا عينيّ على الدنيا" ويعني:
منذ أن تفتّحت عيني في المهد. لكن المؤلّف يصدّق هذا المجاز كما هو ويذهب أبعد من
ذلك إذ يبني عليه من خياله، فنجد مثلاً أنّ حلّاب جاء إلى الحياة وكانت عيناه مُغلقتين.
(شقّت العجائز قبتي عينيه بسكين البصل فتحولتا إلى مجرد جرحين) مُستفيداً من الشبه
بين عيني الطفل في ساعاته الأولى وقشور البصل!
***
بالطبع لا يمكنني أن أمرّ على كلّ
أحداث ورموز الرواية. أعتقد أن حسن أقحم الجانب السياسي في العمل الفنّي، وأراد أن
يكتبَ بحرّيّة لذلك أتخذ المجاز وسيلةً لكي يعبّر عن رأيه، وذلك جعله يقع مرّاتٍ
كثيرة في فِخاخِ المجاز. وأرى إنّ إقحامه ذلك في الرواية أضعفها. حسن مبدع. لكنه
أحيانا مُتردد وحائر، وهذا تسبب في موته المُبكّر بهذه الطريقة. مع هذا تبقى
دابادا رواية جديدة وجريئة مكتوبة بالشِعر والمعرفة. لا أدري إنْ كانت الرواية
الجميلة تستحق أن تقرأ مرّتين ولكن دابادا تستحق ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إبراهيم الماس، شاعر ومترجم عراقي، من أعماله: (ما
قاله الأخرس)، (ليالي كويستان على العود) و(صيحة طائر الكو).
https://www.facebook.com/photo?fbid=2323298421139944&set=a.119765974826544