حسن مطلگ.. الفتى الذي صدم التاريخ بالجغرافية..
وعبث بأنظمة الانقلابات العسكرية!
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
سألت
ابن صديق لي، تجاوز الثلاثين من عمره، حاصل على شهادة البكالوريوس في العلوم
السياسية، فضلاً عن كونه من أسرة تهتم بالأدب والصحافة والسياسة، قلت له: أتعرف
حسن مطلگ؟
فقال لي: لا، أهو نائب في البرلمان؟
لم أجبه، لكني التمست له العذر، لصغر سنه، خاصة وأن إعدام حسن
مطلگ جاء في السنة ذاتها التي ولد فيها هذا الشاب!
وقلت في سري "لأجرب مع شخص أكبر منه".. وهكذا توجهت بسؤالي إلى أحد
المعارف الذين تجاوزوا الخمسين من العمر، وهو محامٍ، وله متابعات طيبة في الثقافة
والاعلام، وسألته السؤال نفسه، فأجابني بالنفي أيضاً.. ثم سألت شخصاً سياسياً
(محترفاً)، تجاوز الستين من عمره، عن حسن مطلگ، فقال باسترخاء وهدوء: أظنه
لاعب كرة سابق!
وسألت شخصين آخرين السؤال ذاته، ولم أحصل منهما على أفضل مما حصلت
عليه من قبلهما!
فأوقفت هذا الاستطلاع العقيم، والمؤلم.
ولا أخفي عليكم، فقد شعرت بالإحباط واليأس والندم على ما فعلت،
بعد أن تكشف امامي أمر لم أكن أريد معرفته والاصطدام بقسوته، واقصد به جهلنا، أو
عدم اكتراثنا بما نملك من كنوز ومنجزات ونجوم عراقية لامعة.. ولعل المصيبة الأعظم،
أن ملايين من العراقيين يعرفون شخصاً اسمه (جوجو…..!) ولا يعرفون البطل عبد الواحد
عزيز صاحب الميدالية العراقية الوحيدة في تاريخ الاولمبياد. ويعرفون سعدون الساعدي
- مع احترامي - ولا يعرفون (محمد خضير)، وهناك من يحفظ عبارات عديدة من اقوال
(الاستاذة) بنين الموسوي ولا يحفظ بيتاً من شعر الجواهري.. ناهيك من جهلنا بمآثر
شهداء العراق، الذين ضحوا بحياتهم من أجل ان تعيش الأجيال العراقية بكرامة وسلام..
إنه أمر مفجع حقاً، وإلا كيف أصدق أن خمسة أشخاص يمثلون خمسة أجيال عراقية، من
ثقافات وتخصصات ومستويات علمية مختلفة، يجهلون كلهم شخصاً مثل حسن مطلگ أو (لوركا
العراق)، كما كان يسميه الكثيرون، خصوصاً بعد النهاية المتشابهة لكلا الشاعرين! لا
يعرفون حسن مطلگ، الفتى الذي عبث بأوراق التاريخ، وغيّر شفرات الجغرافية، وأخلّ
بنظام الانقلابات العسكرية، وادخل بموهبته الإبداعية، كل العالم، في مغارة خرافية
أشبه بمغارة علي بابا، ثم مضى الى أبديته حاملاً معه كلمة السر التي بها وحدها
تفتح اقفال بوابة تلك المغارة العجيبة!
نعم، فأنا لا أصدق أن ثمة عراقيين لا يعرفون حسن مطلگ، وهو الشاعر الذي أدرك
بصميمية عراقيته، أن نظام صدام الذي أهان البلاد وأباد العباد، لن يرحل (بالعيني
وأغاتي) أبداً، إنما يمضي فقط بالمواجهة والدم لاغير، لذلك وقف بطول قامته وقال
للثوار: أنا معكم.. وهذا دمي زيتاً لبنادقكم...!
وأصدق القول، فقد مضى دمه ممتزجاً مع دم الثوار في الحركة الجسورة التي كادت
تقتلع نظام صدام، لولا وشاية أحدهم في الساعة الخامسة والعشرين، أي قبل الثورة
بيوم واحد!
حسن مطلگ الولد الوسيم، والشاعر المرهف، والرسام الهادئ، والروائي المختلف،
الذي هزّ الوسط الروائي العربي بروايتين: الأولى اسمها (دابادا) وقد صدرت طبعتها
الأولى عن الدار العربية للموسوعات في بيروت سنة 1988، وهذا يعني ان حسن - الذي
اشتغل عليها خمس سنوات- قد بدأ الكتابة فيها وعمره عشرون سنة.
ولعل الشيء المهم هنا، أن الطبعة الثانية لهذه الرواية
قد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة سنة 2001، وهذه الهيئة لا
تطبع طبعات ثانية أو ثالثة لعمل أدبي ما لم يكن عملاً كبيراً، حقق نجاحات فنية
وتوزيعية مميزة، وأثار جدلاً واضحاً في الاوساط الثقافية.. كما طبعت الرواية طبعات
عديدة اخرى..
لقد عدّت رواية (دابادا) من أهم الروايات العراقية التي ظهرت في نهاية القرن
العشرين، باعتبارها " رواية مختلفة بكل المواصفات".
لقد قال جبرا إبراهيم جبرا عنها:" إنها رواية غير عادية، فهي جديدة
وكاتبها شاب جريء". وقال الروائي عبد الرحمن الربيعي:" لقد أحببت هذه
الرواية العصية، إنها رواية مختلفة، لا يمكن أن تذكرنا بأي عمل روائي آخر ولم
تتعكز على إنجاز روائي سابق.. إنها رواية وحيدة ومكتفية بما حملت". وقال
القاص محمود جنداري:"إن (دابادا) هي الكتابة بشروط الحياة". وقال الناقد
د.عبد الله إبراهيم:"إنها رواية تستفز القارئ وهي تتصدى لقضايا كبرى، إن هذه
الرواية ستثير إشكالات في مستوى القراءة ومستوى التأويل وستختلف الآراء
حولها". وقال الشاعر صلاح حسن:" إنها الرواية العراقية الوحيدة التي
ظهرت بهذه السمات المميزة.. إن (دابادا) هي حقاً رواية عراقية متميزة، وفيها من
التجديد ما لا يمكن إنكاره على الصعيدين البنائي والمضموني، حيث يمكّناها من
الوقوف إلى جانب الروايات العظيمة".
لقد فجر حسن مطلگ برأيي مخازن الرواية العراقية والعربية التقليدية بقنبلة
(دابادا)، فاذهل بها الوسط الثقافي، مما دفع القاص كريم شعلان الى ان يقول:
"أتمنى أن يقرأ الجميع (دابادا) رواية
الكاتب العالمي جداً حسن مطلگ ونافذته على فجر الرواية العربية". كما قال
الشاعر والقاص عبد الهادي سعدون:"إن رواية دابادا قد خلقت وأثرت في جيل كامل
من الأدباء الشباب".
إن ما فعلته رواية دابادا، بتميزها وتفردها وخصوصيتها، جعل حسن مطلگ يحلق
بأجنحة الحلم في فضاء العالمية، ويفكر بجائزة نوبل جدياً - كما دون ذلك في يومياته
التي تحدث عنها شقيقه القاص محسن الرملي- ولم لا، أليس الحلم مفتاح باب المستحيل؟
لكنّ صدام حسين الذي حرم - مؤكداً - العالم من منجزات هذا المبدع الكبير، قد
حرم - ربما - العراق أيضاً من جائزة نوبل!
وبحسبة بسيطة نستطيع معرفة فداحة الخسارة التي الحقها بنا صدام ونظامه الدموي،
إذا ما عرفنا أن حسن مطلگ استشهد وهو في التاسعة والعشرين من عمره، وقد أنجز في
هذا العمر القصير كماً واسعاً ومنوعاً من الجمال والابداع المميز الثر، فقد كتب في
تسع سنوات، روايتين مهمتين جداً، ومجموعة قصصية، ومجموعة شعرية جميلة بعنوان
الاقنعة- أنا وانت والبلاد- تضم 21 قصيدة، مع 10 تخطيطات من تخطيطاته الشخصية.
وكتاب العين إلى الداخل - وهو كتابة حرة، يوميات وقصائد) اضافة الى كتاب الحب..
ظَلالهن على الأرض، وهو كتابة حرة ومُذكرات- ناهيك من منجزه في الفن التشكيلي،
والخط العربي، ورسم الكاريكاتير، لاسيما وأنه أقام معارضه الفنية مبكراً،
وتحديداً، معرضه الشخصي الأول الذي اقامه سنة 1983 في جامعة الموصل ثم تبعه بمعرض
آخر تضمن ثلاثين لوحة رافقت قصيدة طويلة للشاعر سعيد الغانمي تحمل عنوان
"طائر الفينيق"، إضافة إلى تصميمه للعديد من أغلفة الكتب، منها غلاف
(النزلاء) وهي الرواية الأولى لـحميد المختار، ومعرض مشترك لرسوم الكاريكاتير مع
الفنان أكرم الياس سنة 1985.. وله أيضاً منحوتات واعمال نحتية مختلفة.. الم أقل
لكم ان حسن مطلگ كنز من المواهب الفذة؟
والسؤال الذي يجب أن نطلقه في هذا المقال هو: كم رواية استثنائية كان سينجزها
حسن مطلگ لو لم يعدمه صدام، وكم مجموعة شعرية، وقصصية سيتحف الدنيا بها، وكم
معرضاً تشكيلياً ونحتاً مميزاً، سيقدم لنا لو عاش الى يومنا هذا؟!
ولكن هل اكتفى حسن برواية دابادا الشهيرة؟
طبعاً لا، فقبل أن (يصحو) الوسط الثقافي من صدمة (دابادا)، حتى حطت روايته
الثانية (قوة الضحك في أُورا)، على ادراج المكتبات، لتشعل الساحة الثقافية بنار
الجدل والسؤال والبحث والدهشة، فهذه الرواية لا تقل أهمية عن روايته الأولى
(دابادا)، وقد جمعها شقيقه الدكتور محسن الرملي، من بين الأوراق التي تركها
الراحل، " وهي تؤكد مرة أخرى عمق وقيمة مشروع حسن مطلگ وأهميته كروائي متميز،
فمن بين الكثير مما تزخر به الرواية؛ نجد رؤية مختلفة عن السائد في تناول علاقة
الشرق والغرب، حيث يطرح حسن هذه العلاقة على أرضية البعدين الإنساني والحضاري،
موحداً بين الأزمنة، متخذاً من أرض عاصمة الآشوريين مكانا لحركة شخوصه، وقد كتبها
مدفوعاً بعذابه لما يحدث".
إن الشهرة السريعة والواسعة لحسن مطلگ في الأوساط الثقافية
العربية وحتى العالمية، بعد نشر رواية (دابادا)، انسحبت بالضرورة على جميع ما يخصه
من مكان وعائلة وعلاقة، ومواقع دراسية واصدقاء، حاله بذلك حال الطيب صالح، بعد نشر
روايته الشهيرة موسم الهجرة، حيث باتت قرية الطيب، (كرمكول) وبيته فيها بإقليم
مروي شمالي السودان، محجاً للسيّاح يقصدونها من مختلف بقاع العالم، والشيء نفسه
يقال عن السياب، إذ من سيعرف قرية (جيكور) لولا السياب الذي أضاءها بقناديل
قصائده، حتى جعل الإنگليز وغيرهم يرونها ساطعة في أطلس الجغرافية، وكذلك فعل حسن
مطلگ، إذ لولاه لما كان احد سيعرف مكان (السديرة) في العير او النفير ، بدليل أن
قضاء الشرقاط نفسه، الذي تتبع له قرية السديرة، لا يعرف لحد هذه اللحظة، أهو تابع
لمحافظة نينوى ام لمحافظة صلاح الدين!
لقد أعدم المجرمون حسن مطلگ قبل ثلاثين عاماً، واليوم نعدمه نحن بالنسيان
والاهمال..
وقد أحزنني أمر العراقيين حين يجهلون حسن مطلگ بينما العالم يعرفه، ولما
تغاضيت عن جهلهم، وقلت "ربما أنهم لم يقرؤوا الاعمال الروائية، أو لم يسمعوا
به شاعراً، ورساماً ونحاتاً، لم أتغاضَ عنهم وهم يعلمون بانه ارتقى (مرجوحة الأبطال)
عند اعواد المشانق، بسبب اشتراكه عام 1990 في ثورة 6 كانون المعروفة بحركة النقيب
سطم الجبوري، التي نالت شهرة كبيرة، وقد ألقي القبض عليه، وحكم بالإعدام شنقاً.
ولعل العامل الأبرز الذي دفعني للاعجاب بحسن مطلگ، هو وطنيته العالية، وكرهه
للنظام الدكتاتوري، وشجاعته الفائقة، التي لا يعرفها عنه هذا الجيل ، والجيل الذي
سبقه، والاجيال اللاحقة، إذ كيف لشاب مزدحم بكل هذه المواهب العالية، وهذا الجمال
والشعر والفن والأحلام الخضر، بدءاً من حلم جائزة نوبل الى حلم مشروعه الابداعي في
تأسيس الرواية العراقية الجديدة، والقصيدة البيضاء، وفي وسط كل هذه الزحمة
والانشغالات، يجد لديه الوقت الكافي ليفكر، ويقرر - وهو المدرس والمدني والشاعر
الرقيق- ثم ينفذ المشاركة مع ضباط في الجيش العراقي بانقلاب مسلح ومواجهة نارية
مباشرة لإسقاط النظام الفاشي، فأي فتى مجنون هذا؟
شجاعة حسن وجميع الشهداء الذين معه، يقابلها جحود وتناسٍ حكومي وشعبي مبالغ
فيه، عكس ما يحظى به الشهداء في امريكا، وأوروبا واليابان من تكريم وتقدير
واستذكار عال، ولا اكشف سراً لو قلت إني لم ارَ بعيني بلداً يحترم شهداءه، ويكرم
عوائلهم، ويقدس تضحيات ابطاله مثل تكريم إيران لشهدائها، والشيء نفسه رأيته لدى
الشعب المصري، من ناحية الفخر والتباهي وتقدير المبدعين، فحين تسأل أي مواطن
متعلماً كان او أمياً، عن أي أديب او فنان مصري، سواءً كان نجيب محفوظ أو شكوكو،
أو كان محمد عبد الوهاب او احمد عدوية أو حتى شعبان (شعبله)، فستسمع بحقهم كلاماً
منمقاً جميلاً، فيه مديح غير طبيعي، ومعرفة بكل مفردات حياة وعطاء هذا الفنان، مع
باقة عطرة من الالقاب والصفات الفخمة عكس (جماعتنا)، إذ حين تسأل المواطن عن فنان
أو شاعر عراقي، فسيرتدي حالاً نظارة بعدسة تكبير ليبحث لك عن اخطاء أو ما يظنها
اخطاء لذلك الفنان أو الشاعر العراقي..
أذكر مرة، سمعت استطلاعاً اذاعياً في أحد أيام العيد، سأل فيه المذيع إحدى
المواطنات العراقيات عن رأيها بصوت الفنانة (…….)؟
فقالت: والله يا عيني هاي المطربة ما تعجبني!
فقال لها المذيع: ليش؟
فقالت: لأن تارسه حلگها حمره!
فضحك المذيع وقال لها: شنو علاقة الصوت بالحمره حجية الله يخليچ، أريد رأيچ
بصوتها؟ فقالت: عوع.. تتعيقل هوايه...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الحقيقة) العراقية،
العدد 2334 بتاريخ 4/12/2022م
*فالح حسون الدراجي: شاعر وإعلامي
عراقي، رئيس تحرير صحيفة: الحقيقة.
اِشتقتُ إلى الحرية من أجل الذود عن الحرية
أغار على وطني